إسلام ويب

تفسير سورة الصف [5-14]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني...)

    يقول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5]. ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى)) يعني: واذكر لمن يؤذيك من المنافقين ما صنعت بالذين آذوا موسى عليه السلام. وهنا نذكر بعض الفوائد في التفسير تعيننا على فهم هذه الآيات، منها: قال الله حكاية عن موسى: ((وإذا قال موسى لقومه)) بينما قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الصف:6]، ولم يقل عيسى: يا قوم! والعلة في ذلك أن عيسى بن مريم عليه السلام ليس له في بني إسرائيل نسب من جهة أبيه؛ لأنه لا أب له، وأما موسى فأبوه وأمه من بني إسرائيل. (لم تؤذونني) أي: لم توصلون إلي الأذى بالمخالفة والعصيان لما آمركم به؟ و(قد) هنا على سبيل التحقيق، (تعلمون) أي: وأنتم تعلمون علم اليقين صدقي بما جئتكم به من الرسالة؛ لما شاهدتم من الآيات البينات، ومقتضى علمكم بذلك تعظيمي وطاعتي؛ فمن عرف الله وعظمته عظم رسوله، لأن تعظيم رسوله من تعظيمه. قال ابن كثير : وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر، يعني: لست بدعاً من الرسل، ولست أول رسول يؤذى، بل سبقك موسى عليه السلام، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رحمة الله على موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، وفيه نهي للمؤمنين أن يوصلوا له صلوات الله وسلامه عليه أي أذى كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]. وهنا أنبه على شيء مما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام وهو كثرة الجدال في بعض الأمور فأحياناً بعض الناس يروق لهم فتح بعض الموضوعات وقتلها بحثاً، ويكثر الجدال والسؤال فيها، ونحن لا نقول فيها بخلاف الحق، ولكن يكفي فيها التنبيه، والإنسان لا يخوض أكثر من هذا، فمثلاً مسألة مصير أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام وأنهما في النار، هذه المسألة دليلها واضح، وهما كلمتان وينتهي الموضوع، وأما كثرة الكلام فيها فقد كرهه بعض العلماء؛ لما فيه من إيذاء رسول الله عليه الصلاة والسلام. ولا نقول فيها كما يقول الصوفية : إنهما قد أُحييا له فآمنا به ثم ماتا، فإن هذا من خرافات الصوفية، ولكننا نقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله رجل، أين أبي؟ قال: (إن أبي وأباك في النار) وقوله: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي) فالإنسان يكفيه هذا، ولا يخوض ولا يكثر الكلام؛ حتى لا يؤذي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

    بعض صور إيذاء اليهود لعنهم الله للأنبياء والمؤمنين

    قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا موسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا)) هذا مظهر من مظاهر أذية اليهود -لعنهم الله- للأنبياء، حتى وصل الأمر إلى حد القتل، فقتلوا بعض الأنبياء، وآذوا موسى عليه السلام الذي يتشدقون بأنه نبيهم، وأنهم يعظمونه ويحبونه إلى آخره، وقد لقي موسى عليه السلام منهم الأمرين. فالشر كامن في بني إسرايل كمون اللؤم في الذئب، وقد قيل: من التعذيب تهذيب الذيب، فإذا وجدت ذئباً مثلاً فلا تحاول أن تهذبه أو تعدل من أخلاقه، لأنه لا يتعدل، ولا يقبل التعديل أبداً، وهذا مما نستفيده من قصص القرآن الكريم في شأن اليهود لعنهم الله، فالعنصر الجيني والعنصر الوراثي وأخلاقهم واحدة في كل حين، وفيهم نفس اللؤم، ونفس الغدر، ونقض العهود، وكراهية الخير للناس، والحسد؛ فكل هذه الأشياء صفات راسخة فيهم غير قابلة للتغيير، فلا أمل في إصلاحهم، واليهود ليسوا كأي عدو، فيا سوء من ابتلي بعداوة اليهود؛ فإنه قد ابتلي بشيء عظيم جداً. فالمهم أن هذه إحدى صور الإيذاء كما هي واضحة في الآية: ((لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ))، وكذلك ما يفعله اليهود اليوم من أذية المسلمين ويتفننون في ذلك، فقد قامت بعض مصانعهم بكتابة لفظ الجلالة على الأحذية والنعال قبحهم الله، وما أكثر ما يفعلونه استفزازاً مما تتزلزل له الجبال، وترتجف له القلوب، وتندك له الأرض والجبال، ففي بعض المناطق دخل بعض جنودهم المجرمين في أماكن الخلاء، واستنجوا بصفحات من القرآن الكريم، فهذه طباعهم: أذية الله، وأذية الرسل، وحتى موسى ما سلم منهم، وهم يتشدقون بأن موسى هو نبيهم المعظم، وكذلك كثير من أنبيائهم ما سلموا منهم، فافتروا كذباً عليهم، ولا أمل في تغيرهم؛ بدليل أن صفاتهم هي نفسها في كل الأيام لم تتغير. وقد عاتب الله الذين عاصروا منهم النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة على أشياء فعلها أجدادهم لكنه نسبها إليهم كما قال تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا [البقرة:72]، لأنها أصيلة في طباعهم، وقد يمكن أن تكون الجينات أو الخريطة الوراثية لليهود مختصة ببعض الصفات الإجرامية، وبالذات التخصص في أذية الله، وأذية رسوله، وأذية المؤمنين. وبسبب نزول قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى)) معروف، وهو ما جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن موسى عليه السلام كان حيياً ستيراً، لا يرى من جلده شيء، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يتستر موسى هذا التستر إلا من عيب في جلده: إما برص، وإما أدرة، وإما آفة، فأراد الله عز وجل أن يبرئه مما قالوا، فخلا يوماً وحده، فخلع ثيابه على حجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه -أي: جرى الحجر بالثوب- فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يضربه ويقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله عز وجل، وبرأه الله مما يقولون). فإيذاؤهم له هنا إيذاء شخصي، فإن أذية بني إسرائيل للأنبياء متنوعة وكثيرة وعديدة، فمن ضمن هذه الأذية أذيتهم له في شخصه، وذلك بأن اتهموه أن فيه عيباً جسدياً في الخلقة، وسبب النزول هذا صحيح في آية الأحزاب، لكنه لا يصح هنا في آية الصف: ((يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ))؛ لأن قول موسى عليه السلام: ((وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)) يشير إلى أن الإيذاء في جانب الرسالة لا في جانبه الشخصي؛ بدليل قوله تعالى بعدها مباشرة: ((فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)). يعني: فلما زاغو بما آذوا به موسى، فيكون إيذاء قومه له هنا إيذاء زيغ وضلال، وقد آذوه كثيراً في ذلك كما بينه الله تبارك وتعالى في قوله عنهم: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55]، وكذلك قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:93]. وطباع اليهود -كما قلنا مراراً- غير قابلة للعلاج؛ لأنها مترسخة فيهم إلا من يشاء الله سبحانه وتعالى هدايته منهم؛ ولذلك تجد الذين يسلمون من اليهود قليلين جداً كالكبريت الأحمر، في حين نجد النصارى يدخلون الإسلام بالآلاف، وكذلك غيرهم من أهل الملل الأخرى، أما اليهود فهذا شيء نادر؛ وذلك لشدة قسوة قلوبهم. وقصص اليهود وحكاياتهم لا تنتهي من كثرتها، فتجدهم يتحايلون على بعض الأشياء في شريعتهم، فالنساء اليهوديات في كثير من البلاد خصوصاً في منطقة بروكلين في أمريكا وهذه المنطقة اليهود فيها أقوى من اليهود في فلسطين المحتلة، فتجد أن النساء كلهن يلبسن باروكة من نوع واحد، وذلك لأنهن يحلقن رءوسهن بناء على شيء معين في شريعتهم -والله أعلم- يلزم النساء بالحلق، فيتحيلن عليه بأن يعملن شعرهن بهذه الطريقة، ثم يلبسن فوقه باروكة، وهو أيضاً نوع من التبرج، وقصصهم في ذلك تطول جداً.

    خسة اليهود وغدرهم

    فاليهود فيهم اللؤم والغدر والخسة والنذالة ونقض العهود، والناس يرون أخلاقهم عياناً الآن، ولا يبعد أن الغربيين جمعوهم في فلسطين كي يتخلصوا من شرهم، ومع ذلك لم يتخلصوا منهم، وقد خطب إبراهام لنكولن رئيس أمريكا السابق خطبة شديدة حذر فيها من اليهود، وقال: إن أمريكا في يوم من الأيام سوف يستعبدها اليهود إن تركتموهم ولم تلتفتوا إليهم. وهذا هتلر أُثر عنه أنه قال: قتلت نصف اليهود، وتركت النصف الثاني؛ لتعرف البشرية لماذا قتلت النصف الأول. لقد ابتلينا بعدو من نوع خاص، وهو من أصعب الأعداء؛ للؤمه وغدره وخسته، وما يحصل الآن مع الفلسطينيين يكشف هذه الخسة وهذه النذالة. يقول الله لهم بعد ما رفع فوقهم الطور: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا [البقرة:93] وانظر إلى الرد: قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:93]. فأخذ الميثاق عليهم، ورفع الطور فوقهم، وقوله لهم: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) هذا كله يساوي قول موسى عليه السلام: (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)؛ لأن (قد) هنا للتحقيق كقوله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144]، ومع ذلك يؤذونه بقولهم: (سمعنا وعصينا). وقد كانوا يخاطبون نبيهم باسمه: يا موسى! كذا وكذا، وقالوا له أيضاً: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، فقد آذوا سيدنا موسى عليه السلام إيذاء عجيباًً، وآذوه عندما أشربوا في قلوبهم حب العجل وعبادته بكفرهم، قال الله عنهم: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا موسى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153]، وهذه مواساة للرسول صلى الله عليه وسلم، أي: لست أنت أول من يؤذى، فهذا نبيهم قد أوذي منهم. إذاً: الإيذاء المنصوص عليه هنا في سورة الصف: ((يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ))، هو في خصوص الرسالة، ولا مانع من أنهم آذوه بأنواع من الإيذاء في شخصه، كما في آية الأحزاب، وعاقبهم على إيذائه بما أرسل به إليهم لغيظ قلوبهم.

    نوع الأذية اليهودية لموسى المشار إليها في سورة الصف

    يقول الإمام المفسر أبو السعود في تفسير هذه الآية: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)): هذا كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال، و(إذ) منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين، أي: واذكر هؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى لبني إسرائيل: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [المائدة:21]، فلم يمتثلوا أمره، وعصوه أشد عصيان حيث قالوا: يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة:22] إلى قوله: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، وأصروا على ذلك، وآذوه عليه الصلاة والسلام كل الأذية، هذا هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم، ويرتضيه الذوق السليم. وأما ما قيل بصدد بيان أسباب الأذية من أنهم كانوا يؤذونه بأنواع الأذى: من انتقاصه، وعيبه في نفسه، وعصيانه فيما تعود عليهم منافعه، وعبادتهم البقر، وطلبهم رؤية الله جهرة، فمما لا تعلق له بالمقام. فقوله: ((لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)) هو الذي حدا ببعض المفسرين -كما ترون- إلى القول بأن الأذية هنا أذية موسى بخصوص الرسالة، فخلاصة الكلام أن المقام يعين نوع الأذية ويخصصها، والقرينة إحدى مخصصات العام، إلا أن أخذها عامة أعظم في في المواساة وأولى؛ وقوفاً مع عموم اللفظ الكريم، وسواء قلنا بالعموم في أنواع الأذية، أو الإيذاء في الرسالة خاصة فكل ذلك يفيد مواساة النبي عليه الصلاة والسلام بما وقع لموسى عليه السلام من اليهود.

    معنى قوله تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم)

    قوله: (فَلَمَّا زَاغُوا) يعني: مالوا عن الحق مع علمهم به؛ وذلك لفرط الهوى، وحب الدنيا. ((أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)) أي: عن طريق الهدى، وحجبهم عن نور الكمال؛ لفرط انحرافهم نحو الغي والضلال. ونلاحظ هنا أن محل الزيغ ومحل الهداية إنما هو القلب؛ لذلك قال تعالى: ((أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ))، فإن القلب إذا زاغ زاغ البدن، فالقلب ملك البدن، لذلك فأصل الزيغ يكون فيه. والهداية أيضاً تكون للقلب بدليل قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، ولذلك جاء في دعاء المؤمنين: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8]. فجمع بين الأمرين: الزيغ والهداية (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) يعني: أمالها عن الحق؛ جزاء لما ارتكبوه كما قال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10]، وقوله أيضا:ً وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الأنعام:25]، وقال تعالى: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ [الأعراف:101]. ويشهد لهذا التفسير قياس العكس، وبيان ذلك: أن الله تعالى قال في حق هؤلاء اليهود: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، وقياس العكس: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل...)

    يقول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصف:6] ذكرنا قبل أن الله تعالى حكى عن عيسى قوله: (وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل)، في حين حكى عن موسى قوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ)، وذلك أن عيسى عليه السلام ليس له في بني إسرائيل نسب من جهة أبيه، وإن كان هو من بني إسرائيل من جهة أمه؛ لأن أمه من نسل هارون كما في قوله تعالى: (يَا أُخْتَ هَارُونَ)، بخلاف موسى عليه السلام، فإن له نسباً فيهم. قوله: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) أي: التي أنزلت على موسى، وذلك مما يدعو إلى تصديقه عليه السلام.

    البشارة ببعثة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب الماضية

    قوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) صلى الله عليه وسلم، وهناك قراءة أخرى وهي: ( من بعديَ اسمه ) . (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي: بالدلالات التي آتاه الله إياها حججاً على نبوته (قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي: سحر بيِّن. يقول ابن كثير : فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، فقد أقام في ملأ بني إسرائيل مذكراً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة. إن كلمة الإنجيل معناها البشارة، يعني: أنه الذي يبشر بمحمد عليه الصلاة والسلام، فالبشارة التي نطق بها عيسى والتي بشر بها حتى وهو في المهد هي المقاصد الرئيسية لرسالة المسيح، فقد بشر بالنبي الآتي للعالمين وهو محمد عليه الصلاة والسلام ، فكلمة الإنجيل لها ارتباط بالبشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والإشارة في قوله: ((قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)) إلى ما جاء به، وتسميته سحراً مبالغة، يريد عليه السلام أن ديني هو التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر، فقوله: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ)، هذا فيما تقدم وقوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) عليه الصلاة والسلام هذا فيما سيأتي. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: ذكر موسى ولم يذكر معه البشرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عيسى فذكرها معه، مما يدل بمفهومه على أنه لم يبشر به إلا عيسى عليه السلام، وهذه الطريقة في الاستنباط مبنية على الاحتجاج بمفهوم اللقب، ومفهوم اللقب لا عمل عليه عند الأصوليين، وقد بشر به صلى الله عليه وسلم جميع الأنبياء، ومنهم موسى وإبراهيم عليهما السلام، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم) يعني قوله: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129] وهو محمد عليه الصلاة والسلام. فجميع الأنبياء -بمن فيهم موسى- بشروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومما يشير إلى أن موسى أيضاً قد بشر به قول المسيح في هذه الآية: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ)، وما بين يديه هي التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، وكذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ [الأعراف:157]. وقوله في سورة الفتح: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [الفتح:29] فهذا وصف الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة في التوراة، وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ [الفتح:29] وهذا يدل أيضاً على أنهم وصفوا في الإنجيل. وجاء النص في حق جميع الأنبياء في آية آل عمران: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه. وجاء أيضاً مصداق ذلك في قصة النجاشي لما سمع من جعفر عليه السلام سورة مريم فقال: أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى عليه السلام، وقال أيضاً: والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي التي رأ) أي: حينما رأت أم النبي عليه الصلاة والسلام نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام. وهنا خُص عيسى بالنص على البشرى به عليه الصلاة والسلام، لأن عيسى آخر أنبياء بني إسرائيل فهو ناقل تلك البشرى لقومه عمن قبله، وقال أيضاً: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [آل عمران:50]، ومن قبله ناقل عمن قبله، وهكذا حتى صرح بها عيسى عليه السلام وأداها إلى قومه؛ لأن أهم نبي من الأنبياء يشهد لمحمد بالرسالة، ويبشر به هو الذي ليس بينه وبينه نبي، فلابد أن يذكر لهم ذلك قبل أن يغادر الدنيا؛ ففيما مضى كان كل نبي يبلغ البشارة لمن بعده، وكان بين عيسى وموسى أنبياء كثيرون من بني إسرائيل، فكل نبي يحملها إلى من بعده، إلى أن أتى المسيح عليه السلام فصار ذلك في حقه أوكد، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى الناس بعيسى؛ ليس بيني وبينه نبي). فعيسى خاتم أنبياء بني إسرائيل، ونبينا خاتم الأنبياء على الإطلاق عليه الصلاة والسلام. وقوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) جاء في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر أسمائه: (أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، وأنا العاقب). وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه أحمد، وذكر باسمه محمد في أكثر من موضع من القرآن الكريم كما في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وسورة آل عمران، وذكر بصفات عديدة كقول الله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]. وهذا الموضوع -أعني: البشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من الموضوعات التي تستحق أن تفرد، وقد أفرد كثيرون في شتى العصور هذا الموضوع بالدراسة المستفيضة، وجرياً منا على سنن الاختصار سنحاول أن نجمل الإشارة إلى بعض هذه البحوث.

    الفرق بين محمد وأحمد من حيث اللغة

    قال الإمام ابن القيم في (جلاء الأفهام في التفرقة بين محمد وأحمد عليه الصلاة والسلام): إن محمداً هو المحمود حمداً بعد حمد، فهو دال على كثرة حمد الحامدين له، وذلك يستلزم كثرة موجبات الحمد فيه. أي: كثرة الصفات التي تجعل الناس يحمدونه عليها. أما أحمد فهو أفعل تفضيل من الحمد، فيدل على أن الحمد الذي يستحقه أفضل مما يستحقه غيره، فمحمد فيه زيادة حمد في الكمية، وأحمد فيه زيادة حمد في الكيفية، فيُحمد أكثر حمد، وأفضل حمد حمده البشر. وهذا هو الوجه الأول في الفرق بين محمد وأحمد. ومن العجيب أن مدح الرسول عليه السلام وحمده لم يقتصر على المسلمين والمؤمنين به، بل تجد بعض المنصفين من الكفار يثنون على النبي صلى الله عليه وسلم ثناء عجيباً، فهنا يتبادر سؤال وهو: لماذا لم يسلم هذا الشخص؟ وقد قرأنا مدحاً كثيراً للنبي صلى الله عليه وسلم من بعض المستشرقين وغيرهم من الكفار، ومنهم أديب ألماني له قصائد عجيبة في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك هناك رجل روسي له مقالات رائعة في حمد النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك ابن المهاتما غاندي الذي انتهى به الأمر إلى الإسلام، وقد أثنى على الرسول عليه الصلاة والسلام ثناء عجيباً، وهو من الهند. ومنهم أيضاً صاحب كتاب (دعوة إلى الإسلام)، وهذا الكاتب عندما أقرأ كتابه هذا لا أتصوره إلا مثل شيوخ المسلمين: بعمامة، ولحية وغير ذلك، فهو يتكلم بإعجاب وانبهار غير عاديين عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك عن المسلمين! فإذا كان الكفار قد أثنوا هذا الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بالمؤمنين!! والرسول صلى الله عليه وسلم له اختصاص بصفة الحمد، فاسمه أحمد ومحمد، وأمته أمة الحمد، وهو حامل لواء الحمد يوم القيامة، وافتتح كتابه بالحمد، وآخر دعوة لأهل الجنة في الجنة هي الحمد: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10]. والحمد أعم من الشكر، ويعتقد بعض الناس أن الحمد لله بمعنى شكر الله، وهذا غير صحيح؛ فالشكر نوع من أنواع الحمد، فالحمد يشمل الثناء على الله بما هو أهله من المدح والثناء. الوجه الثاني في الفرق بين محمد وأحمد: أن محمداً هو المحمود حمداً متكرراً، وأحمد هو الذي حمده لربه أفضل من حمد الحامدين غيره، فدل أحد الاسمين -وهو محمد- على كونه محموداً، ودل الاسم الثاني -وهو أحمد- على كونه أحمد الحامدين لربه، وهذا هو القياس، فإن أفعل التفضيل والتعجب عند جماعة البصريين لا يبنيان إلا من (فَعل) الفاعل لا من (فُعِل) المفعول؛ ذهاباً إلى أنهما إنما يصاغان من الفعل اللازم لا المتعدي. ونازعهم آخرون، فجوزوا بناءهما من الفعل الواقع على المفعول؛ لقول العرب: ما أشغله بالشيء! قال ابن مالك في ألفيته: فصغهما من ذي ثلاث صرفا قابل فضل تم غير ذي انتفاء وغير ذي وصف يضاهي أشهلا وغير سالك سبيل فُعلا ثم قال ابن القيم : والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم سُمي محمداً وأحمد؛ لأنه يحمد أكثر مما يحمد غيره، وأفضل مما يحمد غيره، فالاسمان واقعان على المفعول، وهذا هو المختار، وذلك أبلغ في مدحه، وأتم معنى، ولو أريد به اسم الفاعل لقلنا: الحماد، وهو كثير الحمد، كما قلنا: محمد وهو المحمود كثيراً، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر الخلق حمداً لربه، فلو كان اسمه باعتبار الفاعل لكان الأولى أن يسمى حماداً، كما أن اسم أمته الحمادون. وأيضاً: فإن الاسمين إنما اشتقا من أخلاقه وخصاله المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى محمداً وأحمد عليه الصلاة والسلام. فهو الذي يحمده أهل الدنيا وأهل الآخرة، ويحمده أهل السماوات والأرض، فلكثرة فضائله التي تفوت عد العادين سمي باسمين من أسماء الحمد يقتضيان التفضيل والزيادة في القدر والصفة.

    التوراة تبشر بالنبي الأمي

    سنقف هنا وقفة مع الإشارة التي ذكرها عيسى عليه السلام في هذه السورة: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصف:6]. إن ظاهرة عامة، وحدثاً خطيراً كنبوة رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، وبعثته إلى الناس كافة تترتب عليها آثار عظيمة؛ لأن دعوته تتضمن دعوة كل الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له وفقاً لما يوحيه في رسالته الخاتمة إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فمثل هذا الأمر الخطير لا بد أن تسبقه إرهاصات ومقدمات ومبشرات تهيئ البشرية لاستقبال هذا الحدث الجلل، وتوجد في قلوبهم استعداداً كاملاً لتقبل هذه الحقيقة، يقول الله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:156-157].

    هرقل يقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم

    إن هناك ظاهرة هامة جديرة بالتسجيل، يدركها الدارسون للنصوص التاريخية التي تتحدث عن فترة ما قبل البعثة المحمدية الشريفة، وهي: أن الناس الذين كان لهم صلة بكتاب سماوي كانوا يرتقبون ظهور نبي على وشك أن يبعث، بل إن بعض علمائهم قد بادر إلى إعلان إسلامه بمجرد اجتماعه برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا هرقل لما سمع أبا سفيان وقد سأله أسئلة معينة عن صفات الرسول عليه الصلاة والسلام ودعوته قال في نهاية الحديث: (إن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه) رواه البخاري . إن هرقل لم يفهم رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام التي أرسلها له، والتي فيها: (أسلم تسلم) فقد وعده بالسلامة، وهو يقول هنا: ( فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ) وكأنه يقول: أخاف إن ذهبت إليه مؤمناً به أن تقتلني النصارى، فلم يفقه معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أسلم تسلم)، فكان ينبغي أن يضحي بالملك ولا يبالي، وأما ضمان السلامة فقد ضمنها له، لكنه لم يفقه هذا الوعد، والله تعالى أعلم .

    إسلام سلمان والجارود بن أبي العلاء ناجم عن البشارات

    ومن ذلك ما ثبت بإسناد حسن أن سلمان الفارسي رضي الله عنه تنقل بين علماء النصارى حتى دله آخرهم على قرب مبعث نبي في بلاد العرب، فكان ذلك سبب مجيئه إلى المدينه وسكناه فيها، وذلك في قصة طويلة معروفة. وكذلك المقوقس ملك القبط، لما كتب إليه الرسول عليه السلام داعياً إياه للإسلام، رد عليه المقوقس بقوله: أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك. وجاء الجارود بن العلاء -وكان من علماء النصارى في قومه- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان مما قال: والله! لقد جئت بالحق، ونطقت بالصدق، والذي بعثك بالحق نبياً! لقد وجدت وصفك في الإنجيل، وذكر بك ابن البتول عليه السلام. يعني: المسيح، وأسلم الجارود ، ومعه قومه.

    أم المؤمنين صفية تذكر عن أبيها وعمها معرفة الرسول المبشر به

    ومن ذلك أيضاً قصة ذكرتها أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها عن أبيها وعمها، وكان أبوها وعمها يهوديين، قالت صفية رضي الله تعالى عنها: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر مغلسين -أي: في وقت الغلس، وهو الظلمة التي تكون بعد طلوع الفجر- فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما، فما التفت إلي أحد منهما، فسمعت عمي يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: أتثبته وتعرفه؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت أبداً)، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ولكن هذا هو جحود اليهود ونكرانهم.

    إسلام عبد الله بن سلام بسبب معرفة صفات النبي المذكورة في كتبهم

    ومن ذلك أيضاً قصة إسلام عبد الله بن سلام ، وقد كان من علماء اليهود وأحبارهم، قال رضي الله عنه: لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له -يعني: ننتظره- فكنت مسراً لذلك صامتاً عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: خيبك الله! والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادماً ما زدت! فقلت لها: أي عمة! هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، وبعث بما بعث به، فقالت: فذاك إذن، قال: ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا.

    إسلام النجاشي بسبب البشارات

    ومن ذلك أيضاً ما وقع من النجاشي ملك الحبشة حين هاجر إليه بعض الصحابة، وأرسلت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد لحث النجاشي على طردهم، فلما قرأ عليه جفعر بن أبي طالب سورة مريم قال النجاشي: فأنا أشهد أنه رسول الله، والذي بشر به عيسى بن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه.

    تبشير اليهود بمحمد هو سبب مبادرة الأنصار إلى الإسلام

    وكذلك اشتهر حديث اليهود للأوس والخزرج عن خروج نبي، وكان ذلك من جملة العوامل التي هيأتهم للإيمان، وجعلتهم مستعدين لتقبل الرسالة. فعن سلمة بن سلامة رضي الله عنه قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، فخرج علينا يوماً من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، فوقف على مجلس بني عبد الأشهل، قال سلمة : وأنا يومئذ أحدث من فيه سناً، علي برد مضطجعاً فيها بفناء أهلي، فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، فقال ذلك لقوم أهل شرك وأصحاب أوثان لا يرون أن بعثاً كائناً بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان! ترى هذا كائناً: أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون فيها بعملهم؟! قال: نعم، والذي يحلف به! لوَدَّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه، ثم يدخلونه إياه، فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غداً، قالوا له: ويحك! وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن في الجنوب، قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إلي، -أي: إلى سلمة بن سلامة - وأنا من أحدثهم سناً، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، -يعني: إذا كبر هذا الغلام وقارب الموت يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد بعث- قال سلمة : فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به! أي: لما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام كفر به ذلك اليهودي بغياً وحسداً. إن اليهود ينظرون إلى العرب الذي هم من نسل إسماعيل على أنهم أولاد الجارية سارة ، أما هم فأولاد الحرة هاجر ؛ ولذا ينظرون إلى العرب نظرة الازدراء والاحتقار، وكذلك ينظرون إلى العرب على أنهم أناس أميون، وأما هم فأهل كتاب، وشعب الله المختار، فهذه النظرة تجعلهم يظنون ألن يبعث الله نبياً من هؤلاء: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةَُ [القصص:68]، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.

    ذكر بشارة من الإنجيل

    وجاء في إنجيل يوحنا أن اليهود من أورشليم -وهو الاسم القديم للقدس- أرسلوا كهنة ليسألوا المعمدان الذي هو يحيى أو يوحنا المعمدان، حين ذاع خبر نبوته، فذهب إليه هؤلاء الكهنة وقالوا: المسيح أنت؟ فقال: لست أنا المسيح، فسألوه: إذن ماذا؟ إيلياء أنت؟ فقال: لست أنا، فقالوا: النبي أنت؟ فأجاب: لا. فيظهر لنا من الكلام أنهم سألوه: أأنت النبي؟ واللام هنا للعهد، أي: أن هناك نبياً سيأتي وهو وغير المسيح وغير إيليا، النبي أنت؟ فأجاب: لا، والمقصود أنهم سألوه، أأنت النبي المعهود الذي أخبر به موسى؟ فعلم من ذلك أن هذا النبي كان منتظراً مثل المسيح وإيلياء، وكان مشهوراً، بحيث لا يحتاج إلى ذكر اسمه، بل كانت الإشارة إليه بمجردها كافية. ومع وقوع التحريف في كتب القوم إلا أنها بقيت تحوي كثيراً من البشارات ببعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كانت كتبهم فيما مضى تحوي بشارات صريحة تحمل اسم محمد أو أحمد أو ما يقاربهما. وللإمام الشوكاني رسالة صغيرة حققها الدكتور إبراهيم هلال ، ذكر فيها أنه نقل عن توراة كانت موجودة ومشهورة جداً عند رجل من أحبار اليهود في اليمن، فنقل منها نصوصاً فيها لفظ محمد وأحمد بهذه الصراحة، أي: أن هذا كان موجوداً في عهد الإمام الشوكاني. وحتى التوراة والأناجيل التي في أيديهم الآن مع التحريف الذي وقع فيها مازالت تحوي عبارات من البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

    البشارة بالفارقليط

    كانت كتب النصارى فيما مضى تحوي بشارات صريحة تحمل اسم محمد أو أحمد عليه الصلاة والسلام أو ما يقاربهما، وذلك يعلم بالتأمل في النقول التي نقلها بعض علماء المسلمين من الأناجيل في عصرهم كما نطقها المسيح عليه السلام تماماً: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)، فما كان من القوم إلا أنهم ترجموا الاسم العلم -أحمد- وحولوه إلى صفة؛ والأصل أن الاسم العلم عندما يترجم من لغة إلى أخرى يبقى النطق به كما هو، فمثلاً رجل اسمه (كريم) فإذا نقلته إلى الإنجليزية فإنك تكتبها (كريم)، ولكنهم حولوها إلى صفة، وهذا هو الذي حصل مع كلمة (أحمد) التي هي أفعل التفضيل من الحمد، وهو لفظ (فارقليط). وهذا التحريف عندهم هواية، فأول شيء فعلوه لكي يضلوا الناس عمدوا إلى كلمة (أحمد) فحولوها عند الترجمة إلى (فارقليط) فعاملوها كصفة، ثم ترقوا إلى أبعد من ذلك فمارسوا هوايتهم القديمة في التحريف اللفظي، فحولوا كلمة (فارقليط) التي تعني من الناحية اللغوية البحتة: الأمجد والأشهر والمستحق للمديح، إلى المحامي، أو الوصيف، أو الشفيع، ولن أسرد الفروق بينها وبين (فارقليط)؛ لأنها لا تعني ذلك في اللغة القديمة. فهذا: عبد الأحد داود وهو من أكابر علماء النصارى، وكان عالماً مفخماً جداً، وقد هداه الله سبحانه وتعالى إلى الإسلام، وله كتابان: كتاب (الإسلام والتوحيد)، وكتاب (محمد في الكتاب المقدس). يقول معلقاً على هذه الجزئية: والجهل يؤدي إلى ارتكاب أخطاء عديدة، وللقرون المتطاولة كان الأوروبيون واللاتينيون الجهلة يكتبون اسم محمد على أنه (مامومد) فهل من عجب أن يكون أحد الرهبان النصارى والنساخين قد كتب الاسم الصحيح في صيغة خاطئة وهي فارقليط، وتعني: الشهير أو الجدير بالحمد، ولكن الصيغة المحرفة لا تعني شيئاً إلا العار لأولئك الذين جعلوها تحمل معنى المعزي أو المحامي منذ مدة ثمانية عشر قرناً. فالكلمة اليونانية التي ترادف المعزي ليست (فارقليط)، وإنما هي: (فاركلون) وأما الفارقليط فمعناها بالضبط أحمد، وهذا ما قرره البروفسور عبد الأحد داود وكان من كبار علماء النصارى الكاثوليك المتبحرين، وكان أيضاً على دراية مباشرة باللغات القديمة التي احتفضت بها الأناجيل المقدسة عند النصارى، إضافة إلى إلمامه بالعلوم الإسلامية، الأمر الذي أداه في النهاية إلى أن أسلم، وصنف كتباً في دحض عقيدة النصارى. وممن برع جداً في هذا الباب الأستاذ أحمد ديدات حفظه الله وشفاه، وهو يعاني الآن من شلل كامل، ولا يتعامل مع الناس إلا بعينه فقط، وهذا الرجل له باع كبير في توضيح هذه الحقائق. وقد بلغ من وضوح الإشارة إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في إنجيل يوحنا حداً دفع أحد علماء الإنجليز وهو آدم جونز إلى تأليف كتاب سماه: نشأة الديانة المسيحية، زعم فيه أن في الأناجيل أشياء مأخوذة من الديانة الإسلامية، وأن الأناجيل مملوءة بالأفكار الإسلامية! وذكر أمثلة على ذلك مثل لفظة: (فارقليط) وهذا الإنجليزي طوعت له نفسه أن يقول: إن هذه الكلمة دخلت في الإنجيل بعد القرآن، والمسلمون يقولون: إنها كانت في الإنجيل الأصلي طبقاً للآية الكريمة الواردة في القرآن. وقد ذكر هذا العالم الإنجليزي حجة ناصعة على هذه الدعوى، فقال: إن المسيحيين لا يمكنهم أن ينكروا أن لفظة: (فارقليط) معناها محمد صراحة! وقد كان الأولى به أن يقول: إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة، بدلاً من افتراض وهمي لا يقبله عقل، بل هو محض تخمين. وجاء أيضاً في جريدة (المؤيد) تحت عنوان: لا يعدم الإسلام منصفاً، وقد نقله القاسمي في التفسير فقال: وقال أحد رواد مدرسة اللغات التركية: إن محمداً هو مؤسس الدين الإسلامي، واسم محمد جاء من مادة حمد، ومن غريب الاتفاق أن نصارى العرب كانوا يستعملون اسماً من نفس المادة يقرب في المعنى من محمد وهو أحمد لتسمية الفارقليط به، ومعنى أحمد: صاحب الحمد، وهذا ما دعا علماء الدين الإسلامي أن يثبتوا أن كتب المسيحيين قد بشرت بمجيء النبي محمد، وقد أشار القرآن بنفسه إلى هذا بقوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ). وقيل عندهم: إن هذه الآية تشير إشارة خاصة إلى عبارة إنجيل يوحنا، حيث وعد المسيح تلامذته ببعثة صاحب هذا الاسم.

    البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم في إنجيل برنابا

    أما إنجيل برنابا ففيه العبارات الصريحة المتكررة، بل الفصول الصافية التي يذكر فيها اسم محمد عليه الصلاة والسلام في عرضها ذكراً صريحاً، ويقول: إنه رسول الله، وقد نقل عن رحالة إنجليزي أنه رأى في دار الكتب البابوية في الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحميري قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها يقول المسيح: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ). وقد بدل رهبان النصارى لفظة (الفارقليط) في المطبوعات الأخيرة بالمعزي، وقال بعضهم: لا عجب من هذه التحريفات المتجددة، لتجدد الطبعات، فإنها فرية القوم في كتبهم. ومن البشارات التي ما زالت موجودة إلى الآن في الإنجيل حتى بعد تحريفه ما جاء في آخر أبواب إنجيل يوحنا، ونصها: إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط ليثبت معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله؛ لأنه ليس يراه ولا يعرفه، وأنتم تعرفونه؛ لأنه مقيم عندكم، وهو ثابت فيكم، والفارقليط الذي يرسله الأب باسمي، وهو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلته لكم، والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون. وفي الباب الثالث عشر من إنجيل يوحنا : لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء ذاك فهو يوبخ العالم على الخطية، وعلى الجرم، وعلى حكم، أما على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي، وأما على الجرم فلأني منطلق إلى الأب ولستم ترونني بعد، وأما على الحكم فإن آراكون هذه قد زيل، وإن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن، وإذا جاء روح الحق ذلك فهو يعلمكم جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع -يعني: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]- ويخبركم بما سيأتي، وهو يمجدني؛ لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم.

    إسلام المايورقي بسبب البشارات

    فنتجاوز عن شرح هذه الوصية بالتفصيل، ونذكر بقصة إسلام عالم من أكبر علماء النصارى في القرن التاسع الهجري، كان يعيش في الأندلس، وهو من جزيرة مايورقا، وهي جزيرة في جنوب إيطاليا، وهي ومن أجمل الأماكن في العالم، واشتهر بالترجمان أبي محمد عبد الله بن عبد الله الترجمان المايورقي، توفي سنة (832) من الهجرة. وقد ذكر هو قصة إسلامه في كتاب له يسمى: (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) وقد ذكر قصة طويلة يقول فيها: إنه لازم أحد القساوسة الكبار، ثم قال: فلازمته على ما ذكرت من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين، ثم أصابه مرض يوماً من الدهر فتخلف عن حضور مجلس أقرانه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قول الله عز وجل على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل: إنه يأتي من بعدي نبي اسمه الفارقليط، فبحثوا في تعيين هذا النبي من هو من الأنبياء؟ وقال كل واحد منهم بحسب علمه وفهمه، فعظم بينهم في ذلك مقالهم -أي: اختلفوا اختلافاً كبيراً- وكثر جدالهم، ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة في تلك المسألة. فأتيت مسكن الشيخ صاحب الدرس المذكور، فقال لي: ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ فأخبرته باختلاف القوم في اسم الفارقليط، وأن فلاناً قد أجاب بكذا، وأجاب فلان بكذا، وسردت له أجوبتهم، فقال لي: وبماذا أجبت أنت؟ فقلت: بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل، فقال لي: ما قصرت وقربت، وفلان أخطأ، وكاد فلان أن يقارب، ولكن الحق خلاف هذا كله؛ لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلا القليل. يقول إنثل : فبادرت إلى قدميه أقبلهما وقلت له: يا سيدي! قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيد، ولي في خدمتك عشر سنين حصلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها، فلعل من جليل إحسانكم أن تمنوا علي بمعرفة هذا الاسم، فبكى الشيخ، وقال لي: يا ولدي! والله إنك لتعز عليّ كثيراً من أجل خدمتك لي، وانقطاعك إلي، إن في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف أن يظهر ذلك عليك فتقتلك عامة النصارى في الحين، فقلت له: يا سيدي! والله العظيم، وحق الإنجيل ومن جاء به! لا أتكلم بشيء مما تسره إلي إلا عن أمرك. فقال لي: يا ولدي! إني سألتك في أول قدومك علي عن بلدك، وهل هو قريب من المسلمين؟ وهل يغزونكم أو تغزونهم؟ لأختبر ما عندك من المنافرة للإسلام. يعني: مدى حساسيتك للمسلمين، هل تكره المسلمين أم لا؟ فاعلم يا ولدي! أن (الفارقليط) هو اسم من أسماء نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال عليه السلام، وأخبر أنه سينزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل، قلت له: يا سيدي! وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟ فقال لي: يا ولدي! لو أنّ النصارى أقاموا على دين عيسى الأول لكانوا على دين الله؛ لأن عيسى وجميع الأنبياء دينهم دين الله، ولكن بدلوا وكفروا. فقلت له: يا سيدي! وكيف الخلاص من هذا الأمر؟ فقال: يا ولدي! بالدخول في دين الإسلام. قلت له: هل ينجو الداخل فيه؟ قال لي: نعم ينجو في الدنيا والآخرة! فقلت: يا سيدي! إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم، فإذا علمت فضل دين الإسلام فما يمنعك منه؟ فقال لي: يا ولدي! إن الله تعالى لم يطلعني على حقيقة ما أخبرتك به من فضل الإسلام وشرف نبي الإسلام إلا بعد كبر سني، ووهن جسمي، ولا عذر لنا فيه بل هو حجة الله علينا قائمة، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى من رفعة الجاه والعلم والشرف، وكثرة عرض الدنيا، ولو أني ظهر علي شيء من الميل إلى دين الإسلام لقتلتني العامة في أسرع وقت، وهب أني نجوت منهم، وخلصت إلى المسلمين فأقول لهم: إني جئتكم مسلماً، فسيقولون لي: قد نفعت نفسك بنفسك في الدخول في دين الحق، فلا تمن علينا بدخولك في دين خلصت به نفسك من عذاب الله، فأبقى بينهم شيخاً كبيراً فقيراً ابن تسعين سنة لا أفقه لسانهم، ولا يعرفون حقي، فأموت بينهم جوعاً، وأنا -والحمد لله- على دين عيسى، وعلى ما جاء به يعلم الله ذلك مني! فقلت له: يا سيدي! أفتدلني أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل في دينهم؟ فقال لي: إن كنت عاقلاً طالباً للنجاة فبادر إلى ذلك، تحصل لك الدنيا والآخرة، ولكن يا ولدي! هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن، فاكتمه غاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك، ولا أقدر على نفعك، ولا ينفعك أن تنقل ذلك عني فإني أجحدك، وقولي مصدق عليك، وقولك غير مصدق علي، فأنا بريء من ذلك إن فهت بشيء من هذا، فقلت: يا سيدي! أعوذ بالله من سريان الوهم لهذا، وعاهدته بما يرضيه... إلى آخر القصة، وهي طويلة.

    متخصص في الآداب اليونانية يفسر الفارقليط بأحمد

    وقد وقع نقاش بين الأستاذ عبد الوهاب النجار صاحب كتاب (قصص الأنبياء)، ودكتور يدعى كارلو مينو حول معنى كلمة أحمد، (الفارقليط) يقول الأستاذ عبد الوهاب : ثم قلت له وأنا أعلم أنه حاصل على شهادة الدكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة: ما معنى الفارقليط؟ فأجاب بقوله: إن القُسس يقولون: إن هذه الكلمة معناها المعزي. فقلت: إني أسأل الدكتور كارلو مينو الحاصل على الدكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة، ولست أسأل قسيساً! فقال: إن معناها الذي له حمد كثير، فقلت: هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من حَمِد؟ فقال: نعم. فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسمائه أحمد! فقال: يا أخي! أنت تحفظ كثيراً، واكتفى بهذا.

    بشارات من كتب المجوس

    فهذا الموضوع من الموضوعات المهمة والشيقة، حتى أن كتب البراهمة في الهند يوجد فيها بشارات في غاية الصراحة، ويوجد عندي صور منها، وهي مكتوبة باللغة السانسكريتية القديمة، وهي لغة البراهمة، وهي تذكر كلمة أحمد في غاية الوضوح، ويقول بعض الباحثين: إن أصل الديانة البرهمية -على التحريف الذي دخل عليها- هي الملة الإبراهيمية. وقد قرأت فيها أشياء في غاية العجب، ففيها وصف عجيب لغزوة بدر بأعداد الصحابة، وأعداد جيش الكفار، وأرجو فيما بعد أن تحصل فرصة نتكلم فيها بالتفصيل، لكن أنقل بواسطة العقاد بعض النصوص الموجودة في كتب البراهمة، حيث يقول: إن اسم الرسول العربي أحمد مكتوب بلفظه العربي في السماديدا من كتب البراهمة، وقد ورد في الفقرة السادسة، والفقرة الثامنة من الجزء الثاني ونصها: إن أحمد تلقى الشريعة من ربه، وهي مملوءة بالحكمة، وقد قذفت منه النور كما يقذف من الشمس. وفي كتب زرادشت التي اشتهرت باسم كتب المجوسية، استخرج منها نبوءة عن رسول يوصف بأنه رحمة للعالمين، ويتصدى له عدو يسمى بالفارسية القديمة أبا لهب ، ويدعو إلى إله واحد لم يكن له كفواً أحد، وليس له أول ولا آخر، ولا ضريع ولا قريع، ولا صاحب، ولا أب، ولا أم، ولا صاحبة، ولا ولد، ولا ابن، ولا مسكن، ولا جسد، ولا فتح، ولا لون، ولا رائحة. وفيها: إن أمة زرادشت حين ينبذون دينهم يتضعضعون، وينهض رجل في بلاد العرب يهزم أتباعه فارس، ويخضع الفرس المتكبرين، فبعد عبادة النار في هياكلهم يولون وجههم نحو كعبة إبراهيم التي تطهرت من الأصنام، فيومئذ يصبحون وهم أتباع للنبي رحمة العالمين، وسادة لفارس وغيرها من الأماكن المقدسة للزرادتشيين ومن جاورهم، وإن نبيهم ليكون فصيحاً يتحدث بالمعجزات .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله...)

    يقول تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الصف:7]. أي: لا أحد أظلم ولا أشد عدواناً ممن يدعى إلى الإسلام الظاهر حقيقته، المسعد له في الدارين، فيستبدل إجابته بافتراء الكذب واختلاقه على الله، وذلك قوله عن كلامه تعالى: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [المائدة:110] وقوله عن رسوله صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر. وهذه الآية إما مستأنفة لتحقيق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون طليعة للآيات بعدها، وإما متممة لما قبلها. يعني: أن هذه الآية إما متعلقة بما سبق، فتكون متممة للكلام عن المسيح والتكذيب المذكور في قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) فعلق الله على ذلك بقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ) يعني: يدعوه المسيح إلى الإسلام، وقرئت: (وهو يدّعي إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين). وإما أنها استئناف لكلام جديد، وهي طليعة لما يأتي من قوله: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [الصف:8] إلى آخره. قال: وهذه الآية إما مستأنفة لتحقيق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون طليعة للآيات بعدها، وإما متممة لما قبلها لتقبيح ما بهت به الإسرائيليون عيسى عليه السلام، مع الإشارة بعمومها إلى ذم كل من كان على شاكلتهم، ولا يقال: (الإسلام) يؤيد الأول من القولين، فالإسلام دين محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن جميع الأنبياء دعوا إلى دين واحد وهو الإسلام؛ فالإسلام هو عنوان الملة الحنيفية، فالمراد به هنا معناه اللغوي، وقد جاء ذلك في آيات شتى. قوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بما أنزل من الحق.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم...)

    يقول تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8] وفي قراءة أخرى: (والله مُتِمٌ نوره) بالتنوين، فهي تعمل كالفعل. قال ابن جرير : أي: يريد هؤلاء القائلون لمحمد صلى الله عليه وسلم هذا ساحر؛ ليبطلوا الحق الذي جاء به بقولهم، والله معلن الحق، ومظهر دينه، وناصر رسوله على من عاداه، فذلك إتمام نوره. إذاً: فقوله تعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله) يعني: دين الله، استعارة حيث شبه حالهم في اجتهادهم في إبطال الحق بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه؛ تهكماً وسخرية بهم، كما يقول الناس: هو يريد أن يغطي عين الشمس. واللام هنا فيها كلام كثير، لكن أشهر ما قيل: إنها مزيدة للتأكيد، أي: تأكيد معنى الإرادة؛ لما في لام العلة من الإشعار بالإرادة والقصد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق...)

    يقول تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الصف:9]. أي: على كل دين سواه، وذلك عند نزول عيسى بن مريم، وحين تصير الملة واحدة فلا يكون دين غير الإسلام. وقال الزمخشري : أي: ليعليه على جميع الأديان المخالفة له، ولعمري! لقد فعل، فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور لدين الإسلام. وهذه حقيقة في كثير من بلاد العالم، فالمسلمون هم ثاني ديانة مثلاً في أمريكا بعد النصرانية، وثاني ديانة في بريطانيا، وثاني ديانة في فرنسا، وهي في الحقيقة أول ديانة؛ لأن النصارى في الغرب لم يعودوا نصارى أساساً، بل هم كافرون بالنصرانية في الغالب، فالأعم الأغلب أنهم لا دين لهم. وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ يعني: ما فيه من محض التوحيد، وإبطال الشرك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم... وبشر المؤمنين)

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف:10-13]. ولما قال الصحابة: لو عهدنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به أبداً، دلهم الله على ذلك، وجعله بمنزلة التجارة؛ لمكان ربحهم فيه، ونزلت هذه الآيات. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ [الصف:10] وفي قراءة: (تنجِّيكم) مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:10-11]. يَغْفِرْ لَكُمْ هذا جواب قوله: (تجاهدون)، أي: فإن تجاهدوا يغفر لكم. وأصل معناها معنى الأمر، أي: آمنوا بالله وجاهدوا يغفر لكم ذنوبكم. يقول تعالى: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: إيماناً يقينياً لا يشوبه أدنى شك وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:11] يعني: إن كنتم من أهل العلم، أو: إن كنتم تعلمون أنه خير. والشرط هنا ليس على حقيقته، بل هو من باب قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278]، فالمقصود بالشرط هنا التنبيه على المعنى الذي يقتضى الامتثال، وإلهاب الحمية بالطاعة، كما تقول لمن تأمره بالانتصاف من عدوه: إن كنت حراً فانتصف، تريد أن تثير منه حمية الانتصاف لا غير. وقوله: (يغفر لكم ذنوبكم) هذا جواب الأمر المدلول عليه بلفظ الخبر كما تقدم. (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي: مساكن إقامة لا ظعن فيها. ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي: النجاء العظيم من نكال الآخرة وأهوالها. وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف:13] أي: عاجل، وهو فتح مكة. وهذا يدل على أن السورة نزلت قبل فتح مكة بقليل، وكان القصد منها تشجيع المؤمنين على قتال محاربيهم، والثبات أمامهم، والتحذير من الزيغ عن ذلك، والتحريض في السخاء ببذل الأنفس والأموال في سبيل الحق؛ لإعلاء شأنه وإزهاق الباطل. والمعنى: ويؤتكم أخرى تحبونها، أي: ولكم إلى هذه النعمة المذكورة نعمة أخرى عاجلة محبوبة وهي: ((نصر من الله)) لكم على أعدائكم ((وفتح قريب)) يعجله لكم. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي: بنصره تعالى لهم وفتحه في الدنيا، وبالجنة في الآخرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ...)

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14]. وفي قراءة أخرى: (كونوا أنصاراً لله). أي: دوموا على ما أنتم عليه، وانصروا دين الله مثل نصرة الحواريين إذ قال لهم عيسى: (مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) أي: من يتوجه معي إلى نصرة الله. ((قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ)) أي: ننصر دينه وما أمر به، وندعو إليه، ونضحي لأجله بحياتنا. ((فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: بعيسى عليه السلام، ونهضت تدعو إلى ما بعث به وتنصر دعوته. (( وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ )) يعني: برسالته، وبالحق الذي معه، قيل: هم اليهود الذين جحدوا نبوته ورموه وأمه بالعظائم. وقيل: كفرت طائفة من أتباعه الذين غلوا فيه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، واقترفوا الشرك، وافترقوا في ذلك شيعاً: فمن قائل إنه ثالث ثلاثة، وهؤلاء قال تعالى فيهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] وهؤلاء هم الكاثوليك الذين يعتقدون بالثالوث، وأن كل إله له الهوية الخاصة به. ومن قائل إنه ابن الله: وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]. ومن قائل إنه هو الله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]. وكانت أول كلمة نطق بها المسيح في المهد: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30] وكذلك: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [آل عمران:51]، وقال تعالى عنه: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]. فانظر إلى دعوة الإيمان كيف فرقتهم مع أنهم من قبيلة واحدة، وهي بنو إسرائيل؛ لكن على أساس الموالاة في الله والبراء من الكفار انقسموا. فقوله: (( فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ ))، فهذه هي المعاداة في الله لأقرب الأقربين. (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا) أي: بعيسى (عَلَى عَدُوِّهِمْ) من اليهود والرومان الوثنيين (( فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ))، أي: غالبين عليهم بالبراهين الواضحة، والحجج الظاهرة، والسلطة القاهرة. وفيه بشارة للمؤمنين بالتأييد الرباني لهم إذا كانوا متناصرين على الحق، مستمرين عليه، غير متفرقين ولا متخاذلين عنه، كما وقع لسلفهم، فإذا اتفقوا ملكوا، وإذا تفرقوا هلكوا . يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ)، إلى آخره، هذا أمر للمسلمين أن يكونوا أنصاراً لله كما كان الحواريون، لكن لم يبين هنا هل كان المؤمنون الذين خوطبوا بهذه الآية أنصاراً لله أم لا؟ والجواب: نعم، كانوا كذلك، وقد بين الله ذلك في سورة الحشر في قوله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحشر:8]. كذلك قال عز وجل: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة:100]. وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29]، فقوله: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) معناه: أنهم ينصرون الله ورسوله . وقال تعالى: وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29]. فسماهم أنصاراً، وبين نصرتهم سواء كانوا من المهاجرين أو الأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وقال الرازي : قال أصحاب عيسى: (نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ)، ولم يقل أصحاب محمد ذلك، فما هي الحكمة في ذلك؟ والجواب: أن خطاب عيسى عليه السلام كان بطريق السؤال، فلابد من الجواب، فأجابوا بذلك، ولم يقولوا ذلك ابتداء. وأما خطاب محمد صلى الله عليه وسلم فهو بطريق الإلزام ، فالجواب غير لازم، بل اللازم هو امتثال هذا الأمر وهو قوله تعالى: (كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ)، وامتثال ذلك يكون بالفعل، والقرآن أثبت أنهم قد نصروا الله، قال تعالى: (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) إلى آخره. إذاً: فأصحاب المسيح سئلوا سؤالاً لا جواب له إلا هذا ما داموا مؤمنين، فالسؤال: (مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) والجواب: (نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ) وأما الصحابة فأمروا بأن يكونوا أنصار الله، فكانوا كذلك فعلاً وامتثالاً، ولم يحتاجوا إلى أن يردوا نفس الرد، ونختم الكلام بقول الشاعر: سيأخذ ثأر الله أنصار دينه ولله أوس آخرون وخزرج وهذا قول لبعض الشعراء ختم به إحدى قصائده التي أشار فيها إلى أن جميع المؤمنين في كل زمان مطالبون أن يمتثلوا هذا الأمر : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14]. فالشاعر يقول في القصيدة: وخلوا ولاة السوء منكم وغيهم فأحرِ بهم أن يغرقوا حيث لحجوا لعل لهم في منطوي الغيب ثائراً سيسموا لكم والصبح في الليل مولج بمجر تضيق الأرض عن زفراته له زجل ينفي الوحوش وهزمج على حين لا عذرى لمعتذركم ولا لكمُ من حجة الله مخرجُ فيأخذ ثأر الله أنصار دينه ولله أوس آخرون وخزرج والله أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756187427