إسلام ويب

تفسير سورة البقرة [196-199]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله)

    قال تبارك وتعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) يعني: أدوهما بحقوقهما، والإتمام هنا بمعنى: الفعل نفسه، أتموا يعني: أدوا. وتوجد قراءة غريبة وهي: (وأتموا الحج والعمرةُ لله)، فمن قرأها ذهب إلى عدم وجوب العمرة، فقال: إنما الأمر متوجه إلى الحج؛ لكن القراءة المعروفة: (( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ )) وقد استدل بها بعض العلماء على وجوب الحج والعمرة. إذاً: (أتموا) من الإتمام، وذلك بتأديتهما تامتين بجميع مناسكهما المشروعة، لوجه الله تبارك وتعالى، أو يكون المقصود: (( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ )) يعني: أن الإنسان إذا شرع في الحج أو العمرة ولو تطوعاً يجب عليه إتمامه، ولا يقطع الأداء كما قال تبارك تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]، فمن شرع في عبادة لزمه إتمامها، إذا كانت عبادة واجبة، أما أعمال التطوع لا يلزمه إتمامها إلا الحج والعمرة لهذه الآية: (( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ )). وهذه الآية اختلف العلماء فيها هل هي دليل على فرضية الحج أم لا، فمن قال: إنها دليل على فرضية الحج فإنه يفسر (أتموا) بمعنى: أدوا الحج والعمرة لله، فتكون مثل قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]. وفريق آخر قالوا: هذه الآية ليست دليلاً على فرضية الحج، فإنها نزلت سنة خمس من الهجرة، والحج فرض بقوله تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] وذلك في سنة تسع من الهجرة، وأجاب عن هذه الآية بأنها لا علاقة لها بموضوع الفرضية، وإنما هي توجب إتمامهما بعد الشروع فيهما فقط، ولا علاقة لها بفرضية الحج. قال الراغب : (أتموا) خطاب لمن خرج حاجاً أو معتمراً، فأمر ألا يصرف وجهه حتى يتمهما، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى، واحتج به في وجوب إتمام كل عبادة دخل الإنسان فيها متنفلاً، وأنه متى أبطلها وجب قضاؤها، وقيل: إنه خطاب لهم ولمن لم يتلبس بالعبادة، وذكر لفظ الإتمام تنبيه على توفية حقها وإتمام شرائطها كقوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله، واحتج به على وجوب العمرة، وإنما قال في الحج والعمرة: (لله) ولم يقل ذلك في الصلاة والزكاة، من أجل أنهم كانوا يتقربون ببعض أفعال الحج والعمرة إلى أصنامهم، فخصهما بالذكر لله تعالى، حثاً على الإخلاص فيهما.

    معنى قوله تعالى: (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي)

    قوله تعالى: (( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ )) أي: إن حبستم عن إتمام الحج والعمرة فما استيسر من الهدي، وهناك خلاف مشتهر بين العلماء في الإحصار، هل الإحصار يكون بالعدو فقط؟ ذهب بعض العلماء إلى أن الإحصار لا يكون إلا بالعدو، واستدلوا بقوله تبارك وتعالى بعد ذلك: فَإِذَا أَمِنتُمْ ، فلا يقال لمن مرض: فإذا أمنتم، وإنما يقال ذلك لمن حبسه العدو. وفريق آخر من العلماء قالوا: إن الإحصار يشمل الإحصار بالعدو، ويشمل الإحصار بالمرض أو بالسلطان الظالم أو بأي سبب من الأسباب التي يحصر بها الإنسان. وقوله: (فما استيسر) أي: فاذبحوا أو فانحروا الواجب عليكم أو أهدوا ما استيسر من الهدي، والهدْي أو الهديّ جمع هدية، وهو: ما أهدي إلى مكة من النعم لينحر تقرباً إلى الله تعالى. والهدي يجب على من أحصر ما لم يشترط، فإذا اشترط الإنسان عند الإحرام فلا يجب عليه إذا أحصر أن يذبح هدياً؛ لأنه ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج، وأنا شاكية -أي: مريضة- فقال: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني)، فإذا أراد الإنسان أن يحرم بالحج أو العمرة، ويخشى أنه قد يحبسه حابس من سلطان ظالم أو عدو أو مرض أو غير ذلك من الأعراض، ويريد ألا يكون عليه هدي إذا أحصر؛ فيشترط عند الأحرام بأن يقول مثلاً: لبيك اللهم بعمرة، ومحلي من الأرض حيث تحبسني أي: محلي حيث حبستني. يعني: أنا أحرم لكن بشرط: إن حبست وأحصرت فأنا محل ولست محرماً، وهذا يسمى الاشتراط في الإحرام.

    معنى قوله تعالى: (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله)

    قوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ يعني: الموضع الذي يحل فيه نحر الهدي، والمقصود به موضع الإحصار، وهذا أقرب إلى يسر الإسلام من أن يقال: إن المحل هو أن يواعد رجلاً في الحرم ليذبحه له في موعد معين، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما حصره وأصحابه كفار قريش عن الدخول في الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم بالحديبية، ولم يبعثوا بالهدي إلى الحرم. قوله تعالى: (( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ )) يقول السيوطي : أدوهما بحقوقهما. وهناك أقوال كثيرة في تفسيرها: القول الأول: (الإتمام) المقصود به: الأمر بالأداء كما قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124] يعني: أداهن، ومنه أيضاً قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]. القول الثاني في تفسير (وأتموا) يعني: إتمامهما بعد الشروع فيهما، فمن أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه، ولا يفسخه. القول الثالث: إتمامهما: أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وهذا قول علي رضي الله تعالى عنه وقال سفيان الثوري : إتمامهما أن تفرد كل واحد منهما بسفره، يعني: اجعل سفرة واحدة للحج، وسفرة واحدة للعمرة، وهذا دليل لمن فضل الإفراد على التمتع والقران، فإنهم استدلوا بهذا التفسير فقالوا: (( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ )) يعني: أن تحرم بهما من دويرة أهلك، يعني: تنشئ سفراً مستقلاً لكل نسك، وقالوا: إن التمتع فيه جمع نسكين في سفر واحد، وذهبوا إلى أنه يجب على المتمتع الذبح ليجبر النقص في عبادته؛ لأنه لم يسافر لكل نسك، بل أدى الحج والعمرة في سفرة واحدة، فإنه يؤدي العمرة في أشهر الحج ثم يبقى في مكة متمتعاً حتى يوم التروية، فيهل بالحج، ففي سفرة واحدة أدى العمرة والحج وتمتع ووفر على نفسه مشقة سفر ثان، قالوا: يجب عليه الدم في حالة التمتع حتى يجبر هذا النقص الذي نشأ عن عدم سفرة أخرى، وموضوع المفاضلة بين أنواع الحج بحث طويل، وليس هو مقصود كلامنا الآن. القول الرابع في معنى قوله تعالى: (( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ )): قال سفيان الثوري : إتمامهما أن تخرج قاصداً لهما، لا لتجارة ولا لغير ذلك، يعني: أن تجرد النية لإرادة الحج والعمرة، وهذا لا يعني تحريم التجارة في الحج أو زيارة الأقارب أو صلة رحم أو غير ذلك، لكن قال: إتمامهما أن تكون قاصداً الحج أو العمرة فقط. القول الخامس: (( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ )) يعني: أدوهما كاملتين ظاهراً وباطناً. يقول السيوطي : (( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ )) أدوهما بحقوقهما، (فإن أحصرتم) أي: منعتم عن إتمامهما بعدو (فما استيسر) يعني: ما تيسر (من الهدي) عليكم، يعني: عليكم أن تذبحوا ما تيسر أو تهدوا ما تيسر، وأقل ما يجزئ شيء شاة. وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ أي: لا تتحللوا حتى يبلغ الهدي المذكور محله، يعني: حيث يحل ذبحه، وهو مكان الإحصار، بدلالة فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما أحصر في الحديبية نحر في نفس الموضع، فيذبح المحصر في موضع الإحصار بنية التحلل، ويفرق اللحم على مساكين ذلك الموضع، ثم يحلق، وبه يحصل التحلل.

    معنى قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية ..)

    قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ أذى كقمل أو صداع أو أي علة مرضية أدت إلى أن يحلق رأسه وهو محرم، ومعروف أن قص الشعر أو حلقه في أثناء الإحرام من محظورات الإحرام، وفي الأثر المعروف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: من ترك شيئاً من نسكه أو نسيه فليهرق دماً. فَفِدْيَةٌ يعني: فعليه فدية؛ لأنه حلق مِنْ صِيَامٍ يعني: ثلاثة أيام أَوْ صَدَقَةٍ ثلاثة آصع من غالب قوت البلد على ستة مساكين أَوْ نُسُكٍ أي: ذبح شاة، و(أو) للتخيير، فيختار شيء من هذه الثلاث، وألحق به من حلق لغير عذر؛ لأنه أولى بالكفارة، وكذا من استمتع بغير الحلق كالطيب واللبس والدهن لعذر، فمن تعاطى من هذه الأشياء المحظورة في الإحرام فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك. وقوله تعالى: (( فَمَنْ تَمَتَّعَ )) أي: استمتع (( بِالْعُمْرَةِ )) أي: بسبب فراغه منها تمتع بمحظورات الإحرام، ويكون الإنسان متمتعاً بأن يؤدي عمرة في أشهر الحج، وهي من أول شوال، فمن أدى العمرة يمكث في الحرم ولا يخرج إلى مسافة قصر، واختلف العلماء إذا خرج مسافراً من مكة ثم عاد مُهلاً بالحج، والراجح أنه مفرد لا متمتع؛ لأنه سافر سفرتين للعمرة وللحج، فمن أدى -مثلاً- عمرة في شوال، ثم رجع إلى مصر، ثم أحرم بالحج من مصر وذهب ليؤدي الحج فهل هذا متمتع؟ لا ليس متمتعاً، وبعض العلماء يقولون: إنه لا ينقض تمتعه إلا إذا عاد إلى الميقات الذي أتى منه أو أي ميقات من المواقيت المعروفة أو إذا سافر مسافة قصر، وهذا أقرب الأقوال، وهو مذهب الإمام أحمد ، فإذا خرج من مكة دون مسافة السفر وعاد مهلاً بالحج فلا زال متمتعاً. قال الراغب : لا يجب الدم أو بدله في التمتع إلا بأربعة شرائط: الأول: إيقاع العمرة في أشهر الحج، والتحلل منها في أشهر الحج. الثاني: أن يتمم بالحج من سنته، يعني: إذا أدى العمرة، ثم بقي في مكة حتى حج السنة القادمة، فهل هذا متمتع؟ لا، فلابد أن يؤدي العمرة في أشهر الحج. الثالث: ألا يرجع إلى الميقات لإنشاء الحج. الرابع: ألا يكون من حاضري المسجد الحرام؛ لأن أهل مكة ليس لهم تمتع، فلو أن رجلاً يعيش في مكة أدى العمرة في أشهر الحج، ثم أهل بالحج في يوم التروية، فهل هو متمتع؟ لا، فأهل مكة ليس لهم تمتع. وقوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ أي: بسبب فراغه من العمرة بمحظورات الإحرام إِلَى الْحَجِّ أي: إلى الإحرام به بأن يكون أحرم بها في أشهره (( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ )) وهو شاة يذبحها بعد الإحرام به، ولا بد أن يذبح في يوم النحر؛ لقوله تعالى: (( حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ )) والمحل نوعان: محل زماني، ومحل مكاني. المحل المكاني: هو الحرم، سواء في منى أو في مكة، فالحرم كله منحر يذبح فيه. المحل الزماني: هو: يوم النحر، فهذا هو المحل الزماني الذي يحل فيه ذبح الأنعام، أما الذبح قبل ذلك فهذا -والله تعالى أعلم- لا يصح.

    معنى قوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ...)

    قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي: من لم يجد الهدي، لفقد الهدي أو فقد ثمنها فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يعني: عليه صيام ثلاثة أيام في الحج. واختلفوا في صيام هذه الأيام الثلاثة، فبعضهم قال: في أشهر الحج، وبعضهم قال: بعد الإحرام بالحج، وأقرب الأقوال -والله تعالى أعلم- أنه يكون السادس والسابع والثامن من ذي الحجة، ولا يكون في التاسع (يوم عرفة) حتى لا يضعف عن الدعاء. وبعض العلماء قالوا: يحرم بالحج، ثم يصوم وهو محرم. وقام الدليل على جواز صيام أيام التشريق الثلاثة التي هي: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وهي بعد يوم العيد، وصوم أيام التشريق منهي عنه لغير المحرم الذي لم يجد الهدي. إذاً: يجوز صوم الثلاثة الأيام يوم ستة وسبعة وثمانية من ذي الحجة، ولا يجوز صومها أيام التشريق على أصح قولي الشافعي ، قاله السيوطي ، وقد تقدم أن هناك دليلاً يدل على جواز صيامها. وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ أي: إلى وطنكم مكة أو غيرها، وقيل: إذا فرغتم من أعمال الحج، وفيه التفات عن الغيبة تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ، هذا تأكيد لما قبله. ذَلِكَ أي: الحكم المذكور، وهو الصيام على من تمتع: لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يعني: بأن لم يكونوا على دون مرحلتين من الحرم عند الشافعي ، فإن كان فلا دم عليه ولا صيام وإن تمتع. وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: فيما يأمركم به وينهاكم عنه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات ..)

    قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] يعني: وقت الحج أشهر معلومات، وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، ومذهب الإمام مالك أن كل ذي الحجة داخل في أشهر الحج؛ لأن أقل الجمع ثلاثة، والآية تقول: (( الْحَجُّ أَشْهُرٌ )) يعني: ثلاثة وليس اثنين. ومن العلماء من قال: لا، فالآية (فمن فرض فيهن) تدل أنه يجوز أن ينوي الإنسان فيها بالحج، وهل يجوز أن يحج إنسان في اليوم العاشر من ذي الحجة؟ لا، فاليوم العاشر هو يوم العيد، فأصح المذاهب في هذا هو قول من قال: أشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وتسع من ذي الحجة؛ لأن اليوم التاسع يجوز بدء الحج منه، فالله يقول: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ، (فيهن): ظرف لفعل الحج، وهذا لا يكون إلا من بداية شوال حتى اليوم التاسع من ذي الحجة. (( فَمَنْ فَرَضَ )) أي: على نفسه، (( فِيهِنَّ الْحَجَّ )) بالإحرام به، فَلا رَفَثَ يعني: لا جماع فيه، وَلا فُسُوقَ يعني: لا معاصي، وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ يعني: لا خصام في الحج، وفي هذه القراءة: (فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ في الحج)، وفي قراءة: (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالٌ في الحج)، والمراد النهي. وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197]، فيجازيكم به. ونزل في أهل اليمن وكانوا يحجون بلا زاد، فيكونون كلاً على الناس، ويزعمون أنهم متوكلون، ويأكلون من الصدقات وَتَزَوَّدُوا يعني: ما يبلغكم لسفركم، فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى قيل: التقوى هنا ما يتقى به سؤال الناس، أي: المال الذي يقيك أن تسأل الناس. وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ يعني: يا ذوي العقول.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم)

    قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا [البقرة:198] يعني: في أن تبتغوا، أي: تطلبوا. فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] بالتجارة في الحج، نزل رداً لكراهتهم ذلك، فبعض الناس كانوا يتحرجون من التجارة في الحج، فنزلت هذه الآية لإباحة ذلك، (( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ )) وهذه الصيغة تفيد الإباحة. فَإِذَا أَفَضْتُمْ أي: دفعتم مِنْ عَرَفَاتٍ بعد الوقوف بها، فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بعد المبيت بمزدلفة للتلبية والتهليل والدعاء، وقيل: المشعر الحرام هو جبل في آخر المزدلفة يقال له: قزح، وأغلب الناس لا يقفون هذه الوقفة، وهذه غير وقفة عرفات، ووقفة عرفات كل الناس يهتمون بها، أما وقفة المزدلفة فيندر من يهتم بها من الحجاج، وهي وقفة تكون بعد صلاة الفجر، فيصلي الحاج الفجر مبكراً جداً بقدر المستطاع ثم يستقبل القبلة، ويظل واقفاً يدعو حتى إذا أسفر جداً -يعني: ينتشر الضوء وتكاد الشمس أن تطلع- يتجه إلى منى لرمي جمرة العقبة الكبرى، فهذه الوقفة من المواضع المباركة في الحج، ولكن أكثر الناس يغفل عنها، وفي الحديث: (أنه صلى الله عليه وسلم وقف في المشعر يذكر الله ويدعو حتى أسفر جداً) رواه مسلم . وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ لمعالم دينه ومناسك حجه، والكاف هنا للتعليل، يعني: لأنه هداكم، وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ يعني: من قبل هداه، لَمِنَ الضَّالِّينَ يعني: عن هذه الشرائع.

    1.   

    معنى قوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)

    قال تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] ثم أفيضوا يا قريش، وهو عام لجميع من حج (( مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ )) يعني: من عرفة، بأن تقفوا بها معهم، وكانوا يقفون بالمزدلفة ترفعاً عن الوقوف معهم، و(ثم) للترتيب في الذكر وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ [البقرة:199] يعني: من ذنوبكم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199] أي: غفور للمؤمنين رحيم بهم. والإفاضة هنا: ليست من المزدلفة، بل من عرفات مع أن سياق الكلام ظاهره أن الإفاضة من المزدلفة، على أن (ثم) للترتيب، فسياق الآيات: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:198-199]. فالأصل أن المعنى: أفيضوا من مزدلفة، لكن الأقرب أن (أفيضوا) هنا أي: من عرفات، و(ثم) هنا ليست للتراخي، بل هي للتفاوت بين الإفاضة من عرفات والإفاضة من المزدلفة. فالأمر في قوله: (أفيضوا) إما أنه موجه إلى بعض الناس، أو أنه موجه إلى قريش بالذات؛ لأن قريشاً كانوا يترفعون على الناس ويتكبرون عليهم في الجاهلية، ويقولون: نحن أهل حرم الله، ونحن أولى بالكعبة. فيترفعون عنهم أن يخرجوا مع الناس إلى عرفات اعتداداً بحرمة الحرم، وكانوا يسمون الحمس. يقول القاسمي : في الخطاب وجهان: أحدهما: أنه لقريش، وذلك لما كانوا عليه من الترفع على الناس والتعالي عليهم، وتعظمهم أن يساووهم في الموقف، وكانوا يقولون: نحن أهل الله، وقطان حرمه -أي: سكان حرمه- فلا نخرج منه، فيقفون في المزدلفة وسائر الناس بعرفات، وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ أي: من عرفات، يعني: أنتم وسائر الناس سواء. إذاً: (ثم) هنا ليست لترتيب الأفعال، ولكن للتفاوت بين الإفاضتين. القول الثاني: أن قوله: (( ثُمَّ أَفِيضُوا )) أمر لجميع الناس أن يفيضوا من حيث أفاض الناس، والمقصود الناس هنا: إبراهيم عليه السلام، باعتبار أن إبراهيم عليه السلام يمثل المجتمع، وهذا على سبيل المدح لـإبراهيم عليه السلام؛ لأن الواحد قد يسمى باسم الجماعة تنبيهاً على أنه يقوم مقامهم في الحكم، يقول الشاعر: وليس على الله بمستبعد أن يجمع العالم في واحد وقال الله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا [النحل:120] فأطلق على إبراهيم أمة؛ ولذلك قالوا: إن الناس هنا: (( مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ )) إبراهيم عليه السلام، يعني: من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام. فإن قيل: (ثم) تستلزم تراخي الشيء عن نفسه سواء عطف على مجموع الشرط والجزاء أو الجزاء فقط. فالجواب: أن كلمة (ثم) ليست للتراخي، بل لذكر التفاوت بين الإفاضتين، أي: الإفاضة من عرفات والإفاضة من مزدلفة، واختلاف الحكم بينهما، فأحدهما صواب والأخرى خطأ، فالإفاضة من عرفات صواب، والإفاضة من مزدلفة خطأ على النحو الذي كانت تفعله قريش. قال: التفتازاني : لما كان المقصود من قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ المعنى التعريضي كان المعنى لا تفيضوا من مزدلفة؛ ولكن أفيضوا من عرفة من حيث أفاض الناس، والمقصود من كلمة (ثم): التفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن إحداهما صواب والأخرى خطأ. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ يعني: عما سلف من المعاصي إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وكثيراً ما يأمر الله سبحانه وتعالى في نهاية العبادات بالاستغفار وبذكره، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من الصلاة استغفر ربه ثلاثاً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755980423