إسلام ويب

نور على نورللشيخ : عبد الله الجلالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • نور الإيمان هو النور الحقيقي، فإذا رزق الإنسان هذا النور فإنه يعيش في حياة سعيدة هنيئة، وإذا حرمه فإنه يعيش عيشة ضنكاً، ولن يعطى العبد هذا النور إلا إذا التزم بأوامر الله عز وجل، واجتنب نواهيه، ومن كان كذلك فإن الله عز وجل يجازيه الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، فيجعل له نوراً يستضيء به في الدنيا، ويستضيء به في الآخرة وهو يمر على ظلمات الصراط. وأما الكافر فإنه إذا عمل حسنه يجازى بها في الدنيا في مطعمه ومشربه، ولكنه يعيش في ظلام دامس في قلبه وعقيدته وفي آخرته. فعلى الإنسان أن يبحث عن نور الإيمان، وأن يسأل ربه أن يرزقه إياه، فإن الله عز وجل هو الذي يهدي لنوره من يشاء.

    1.   

    تلخيص ما تصمنه النصف الأول من سورة النور

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    أيها الإخوة! ما زال الحديث في سورة النور، ووقفنا في المقطع الأول من هذه السورة والذي ينتهي بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [النور:34]، وقد ذكرنا أن النصف الأول من هذه السورة ابتداءً من قوله تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا [النور:1] إلى هذه الآية كله يتكلم عن أمر واحد وهو: كيف نحفظ أخلاقنا وأخلاق المسلمين من الفساد؟ وكيف نحارب الزنا والفواحش؟ وما هي السبل التي تضمن لنا محاربة الفاحشة التي تفسد الأمة، وتفسد المجتمع، وتسقطه من عين الله عز وجل، فكان في مقدمة هذه الآيات قوله تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [النور:1]، فكانت تلفت النظر، وختمت هذه الآيات بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [النور:34].

    إذاً: ما في أول هذه الآيات وما في آخرها يدل على أهمية عظيمة لما تحتويه هذه الآيات العظيمة، لا سيما في مثل هذا العصر الذي فاض فيه المال، وكثر فيه الفساد، وانتشرت وسائل التقنية الحديثة التي استعمل كثير منها في معصية الله، وساعدت على وجود الفاحشة، وبالرغم من هذا كله فإن الله عز وجل يؤدب ويربي الأمة ألا يقربوا الفواحش، وألا يدنوا من مواطن الفساد والزنا الذي هو أعظم فاحشة بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى. لذلك يأمر الله تعالى في هذه الآيات بجلد الزاني.

    ولا يرتدع الناس في فاحشة الزنا إلا إذا كانت لها عقوبة، ومن هنا شرع حد القذف، وشرع الاستئذان، كما قال تعالى: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]، وفي هذا حماية البيوت من الدخول بدون استئذان.

    وهكذا لا يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل بشهوة، وعلى كل واحد منهما أن يغض بصره، وأن يحصن فرجه؛ حتى لا تكون هذه الفاحشة.

    وكذلك قال عز وجل: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32]، أي: زوجوا كل من لم يتزوج؛ لأن الزواج فيه حصانة، وفيه حماية للأمة الإسلامية من مثل هذه الفواحش؛ ولذلك المجتمع الذي يعرض عن الزواج وتعنس فيه البنات وتكبر أسنانهن دون أن يتزوجن، ويصبح فيه الشباب عزاباً يكون مجتمعاً ينتشر فيه الفساد، وتنتشر فيه الفاحشة.

    والمجتمع الذي يحارب الزواج أو الذي يحارب تعدد الزوجات بدافع المحافظة على المرأة وحماية حقوقها مجتمع يتعرض للفتن، ويتعرض للفواحش كلها، ولذلك ركز الله تعالى على هذه الأمور الخمسة في سورة النور في نصفها الأول؛ من أجل أن يؤدب الناس، وأن يعلمهم كيف يتخلصون من فاحشة الزنا التي تختلط فيها الأنساب، وتفسد فيها البيوت، وتسقط الأمة من عين الله سبحانه وتعالى.

    إذاً: لما ذكر تلك الأمور الخمسة التي تضمن عدم وقوع الفاحشة ختم الآيات التي تختص بهذا الموضع بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ [النور:34] يشير بذلك إلى الآيات السابقة، والواو هنا واو القسم، واللام لام القسم، أي: أقسم الله عز وجل بأنه أنزل آيات بينات، أي: واضحات الدلالة على مراد الله عز وجل حينما أراد أن يعلم الناس كيف يكافحون الجريمة، وكيف يكافحون الفاحشة.

    واسمحوا لي أن أبين لكم أن الجريمة في مفهوم العصر لا تعني إلا ما يضر بالناس، أما ما يضر بالدين فإنها لا تسمى في مفهوم العصر جريمة، وإنما تسمى ذنباً، ولذلك تجدون مكافحة الجريمة تنفصل عن مكافحة المعصية لله عز وجل، أما الجريمة في مفهوم الشرع الإسلامي فمعناها: اقتراف كل ما حرم الله عز وجل، ولذلك سمى الله تعالى الكافرين مجرمين، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29]، مع أنهم لا يضرون إلا بأنفسهم.

    ثم ختم الله عز وجل هذه الآيات بقوله: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ) أيها الناس! أيها المسلمون! (آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ) أي: آيات شرعية نزلت من عند الله واضحة الدلالة على مراد الله عز وجل من هذه الأمة، (وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) المثل هو القول السائر، أي: وأنزل الله عز وجل أموراً كافية لردع البشرية وإيقافها عند حدودها، (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)، أي: هذه الآيات السابقة هي موعظة، لكن الموعظة لا يستفيد منها إلا المتقون، والمتقون هم الذين يمتثلون أوامر الله سبحانه وتعالى ويجتنبون نواهيه، أما غير المتقين فهم الذين لا يبالون بالحلال والحرام والفواحش، وإنما يريدون أن يشبعوا رغباتهم مما حرم الله، إضافة إلى ما أباح الله، ولا يتوقفون عند حد من الحدود، فهؤلاء ليسوا بمتقين؛ لأنهم لا يخشون الله، ولا يراقبونه، ولا يمتثلون أوامر الله، ولا يجتنبون نواهيه، وهؤلاء لا يستفيدون من هذه الموعظة، ولا يستفيد منها إلا المتقون، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً من المتقين الذين يتعظون بأوامر الله عز وجل ويمتثلونها، ويجتنبون نواهيه.

    1.   

    تفسير آية: (الله نور السماوات والأرض)

    صلة قوله عز وجل: (الله نور السماوات والأرض...) بالآيات التي قبلها والمقصود بالنور فيها

    ثم قال الله بعد ذلك: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور:35]، ما صلة هذه الآية بالآيات السابقة؟

    هذه الآية ستجدونها تتحدث عن نور الإيمان؛ لأن أكثر علماء المسلمين يقولون إن معنى قوله: (مَثَلُ نُورِهِ): نور الإيمان، وليس المراد به نور الله عز وجل الذي هو اسم من أسمائه وصفة من صفاته؛ لأن النور اسم من أسماء الله عز وجل وهو يتضمن صفة من صفاته.

    إذاً: نحن نتأكد هنا أن المراد بالنور ليس نور الله عز وجل الذي هو اسم من أسمائه، فإن من أسماء الله عز وجل النور، ومن صفاته النور، كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت نور السماوات والأرض)، وقوله: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ..)، وقوله: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره).

    وهناك نور آخر مخلوق، وهو نور الإيمان الذي يضعه الله عز وجل في قلب المؤمن؛ ولذلك شبهة هنا، ولو كان المراد بالنور اسماً من أسماء الله ما كان يجوز تشبيهه؛ لأن أسماء الله عز وجل وصفاته لا يجوز أن تشبه بمخلوق من المخلوقين أبداً.

    إذاً: صلة هذه الآية: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور:35] بالآيات السابقة أن تلك الأوامر السابقة والنواهي التي مرت في في نصف السورة الأول هي نور الله عز وجل في قلب المؤمن، أي: إذا أراد الله عز وجل لإنسان السعادة وضع في قلبه هذا النور، فأصبحت تلك المحرمات التي سبق ذكرها من دخول البيوت، ومن النظر إلى الحرام، ومن الشهوة الحرام إلى غير ذلك بعيدة عنه؛ لأن هذه كلها إنما تكون في قلوب ضعف أو فقد فيها النور.

    لكن هذه القلوب التي نورها الله بنور الإيمان ترفض تلك الأمور كلها ولو كانت تناسب وتوافق شهوة الإنسان بطبيعته البشرية؛ فالإنسان بطبيعته البشرية يميل إلى الشهوة، لكن النور إذا دخل في القلب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (انفسح وانشرح، قالوا: وما علامة هذا النور يا رسول الله؟! قال: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله)، فهذه هي علامة النور.

    إذاً: هذه الآية ترتبط بما سبق من تلك الأوامر السابقة في النصف الأول من سورة النور التي لا يوفق لها إلا من ملأ الله عز وجل قلبه بنور الإيمان.

    فقوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور:35]، أي: منورها، وفي قراءة سبعية: (الله نوَّر السماوات والأرض)، وهذا يؤيد أن المقصود به: النور الحسي لا النور المعنوي، أو النور الحسي والمعنوي، لكن المراد به: النور الذي ليس صفة من صفات الله، وليس اسماً من أسماء الله عز وجل.

    وقوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: هو الذي نورها، ووضع فيها الشمس والقمر والكواكب، ووضع فيها النور المعنوي أيضاً، والنور المعنوي هو نور الإيمان الذي أشعله الله تعالى في قلوب المؤمنين، كما قال صلى الله عليه وسلم لما ذكر القلوب: (قلب فيه مثل السراج يزهر)، أي: فيه نور كالسراج دائماً وأبداً.

    وفائدة هذا النور: أن الإنسان إذا أراد أن يفعل شيئاً يكتشف بهذا النور أهذه طاعة أم معصية، وإذا أراد أن يفعل الطاعة بهذا النور يكتشف أهذه طاعة ترضي الله أم أنها مبتدعة في دين الله تعالى.

    إذاً: هذا هو فائدة النور، ولذلك هناك قلوب مظلمة، نسأل الله العافية والسلامة، والدليل على ظلام هذه القلوب: أنها تفعل ما تريد من معاصي الله، وتأكل ما تريد من أموال الناس، ولا تميز بين الحلال والحرام، حتى الربا لا تعرف أنه ربا، ولربما تعرف أنه ربا، لكن الله تعالى طمس على هذا القلب فأصبح القلب مظلماً.

    إذاً: النور هنا المراد به نور الإيمان، وبهذا عرفنا صلة هذه الآية بما سبق من الآيات، وأنه لا يوفق إلا من نور الله قلبه، أما من أظلم قلبه فإنه لا يبالي بأوامر الله سبحانه وتعالى، ويؤدي به ذلك إلى أن يقترف ما يشاء مما حرم الله، ويترك ما يشاء مما أوجب الله، كما قال الله عز وجل في سورة الأنعام: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ [الأنعام:113] تستقر القلوب عليه وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:113]؛ لأن القلب قد أظلم، وكما سيأتينا -إن شاء الله- في صفات الكافرين أنه لما أظلمت قلوبهم نسو الله وغفلوا عن الدار الآخرة، ونسوا الموت، ولم يؤمنوا بالجنة ولا بالنار، ولم يؤمنوا بكل ما أ خبر الله عز وجل عنه، وهذه هي صفات من أظلمت قلوبهم.

    أما من نور الله قلبه فإنه وإن فعل معصية من معاصي الله تعالى، إلا أنك تجد أن هذا النور يكشف له الأمور الخفية، أو الأمور التي لربما يقع فيها الإنسان في حين غفلة.

    معنى قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة..)

    قال عز وجل: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [النور:35]، أي: صفة نوره الذي وضعه في قلب عبده المؤمن كَمِشْكَاةٍ [النور:35]، وكما قلت: التشبيه لا يكون في أسماء الله تعالى ولا صفاته، وإنما يدل ذلك على أن النور هنا نور الإيمان، ونور الإيمان مخلوق لله عز وجل يجوز تشبيهه.

    وقوله: مَثَلُ نُورِهِ [النور:35]، أي: مثل نور الله عز وجل، وقيل: إن الضمير يعود إلى القلب، أي: مثل نور القلب، وإن كان لم يرد ذكر للقلب، لكن يدرك ذلك بالاستقراء من هذه الآية.

    وقوله: (كَمِشْكَاةٍ)، المشكاة أصلها الكوة الغير نافذة في الجدار، أي: فتحة في الجدار لكنها غير مفتوحة من الوراء؛ لأن الكوة إذا وضع فيها السراج تعكس الضوء إلى الأمام، بخلاف الكوة المفتوحة من الخلف فإنها تسمى نافذة، أما هذه الكوة فهي غير نافذة، فالنافذة تضيع نور السراج، لكن الكوة المقفلة من الخلف ليست نافذة ترد نور السراج إلى الأمام، ولذلك شبه الله نور الإيمان بنور سراج وضع في كوة.

    وقوله: (فِيهَا)، أي: في الكوة، (مِصْبَاحٌ)، أي: سراج، (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ)، أي: زيادة على أن الكوة تدفعه إلى الأمام وضع على هذا السراج زجاجة؛ لأن الزجاجة بطبيعتها تصفي الضوء وتقوي النور، والزجاجة هي: جسم شفاف معروف.

    وقوله: الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [النور:35]، يعني: زجاجة لماعة، والكوكب هو: النجم اللامع في السماء، ودري من الدرء، وهو: الدفع، أي: كأنه كوكب يدفع الأضواء إلى الأمام، أي: أن هذا السراج في الكوة وضعت عليه زجاجة، والزجاجة صافية، حتى أصبحت هذه الزجاجة كأنها كوكب دري، أي: لماع في الأفق.

    المقصود بالشجرة المباركة

    وقوله: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ [النور:35]، أي: ضوء السراج فيه زيت الزيتون، وزيت الزيتون معروف أنه إذا وضع في السراج تكون الإضاءة أقوى، وأيضاً: هذه الزيتونة ليست كسائر الزيتون، بل هي زيتونة كما أخبر الله عز وجل: زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ [النور:35]، والشجر إما أن يكون غربياً وإما أن يكون شرقياً، ويندر أن يكون هناك شجرة ليست غربية ولا شرقية، والشجرة الشرقية هي: التي تصيبها الشمس عند الشروق، لكن عند الغروب يحجب عنها ضوء الشمس؛ لأن الشمس بطبيعتها إذا أصابت شجرة الزيتون تعطيها قوة أقوى من الشجرة العادية، فإذا كانت تصيبها الشمس في وقت الشروق، أو في وقت الغروب فقط يكون زيتها أقل لمعاناً، لكن عندما تكون لا شرقية ولا غربية فهي شرقية غربية، أي: إذا طلعت الشمس في وقت الشروق تصيب هذه الشجرة، وإذا غربت تصيب هذه الشجرة، وتصبح هذه الشجرة جيدة جداً، وهكذا سائر الأشجار عندما تتعرض للشمس في وقت الشروق والغروب.

    إذاً هي شرقية غربية، وعلى هذا يكون الزيت صافياً، ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى هذا الزيت أنه لماع، فإذا وضع في السراج أصبح أشد لمعاناً، وقبل أن يوضع في السراج هو يلمع كأنه قد أوقدت فيه النار.

    وقوله: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ)، الشجرة المباركة هي شجرة الزيتون؛ ووصفها أنها مباركة؛ لأن كل ما فيها يستفاد منه، ولا يرمى شيء من شجرة الزيتونة أبداً، حتى الرماد يجلى به الذهب، وتجلى به الجواهر.

    وقوله: (زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا) أي: زيت الزيتونة التي ليست غربية ولا شرقية، (يُضِيءُ) من شدة لمعانه، (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) أي: فكيف إذا مسته النار؟!

    قال عز وجل: (نُورٌ عَلَى نُورٍ)، أي: نور السراج مع نور الكوة الغير نافذ في الجدار، مع نور الزجاجة، مع نور الزيتونة التي ليست شرقية ولا غربية، فهذه أنوار اجتمعت فأصبح كل واحد منها يقوي الآخر، ولذلك يقول الله تعالى: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ)، ومعنى ذلك أن هذا أقوى أنواع الأضواء التي عرفها الإنسان وقت نزول هذه الآية، وهكذا نور القلب إذا وضعه الله عز وجل فإنه يصبح كالسراج، ولذلك يميز المؤمن بين الحلال والحرام، وبين الضار والنافع، كما قال الله تعالى: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29].

    قوله: (يهدي الله لنوره من يشاء)

    وقوله سبحانه: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35]، هذا هو الدليل الثاني على أن المراد هنا بالنور هو نور الإيمان، وليس المقصود اسماً من أسماء الله عز وجل، يقول الله تعالى: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ) أي: نور الإيمان، (مَنْ يَشَاءُ)، فليست الهداية تدرك بالآباء والأجداد والأمجاد، وليست بالذكاء، فكم من الأذكياء من مات على ملة غير ملة الإسلام! وكم من أبناء الصالحين من مات على غير دين وعلى غير ملة! فهذا نوح يقول لابنه: ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ [هود:42]، فيقول: سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ [هود:43]، فما هداه الله وهو ابن نوح أول المرسلين عليهم الصلاة والسلام.

    وإبراهيم يموت أبوه على ملة الكفر، فمعنى ذلك أن الهداية من الله عز وجل، وليست أمراً يكتسب بالذكاء، ولا يورث من الآباء والأجداد والأمجاد.

    وقوله: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)، في هذه الآية أن الهداية بيد الله عز وجل، ولا وجه لأن يستدل بهذه الآية الجبرية، فالجبرية نعرف أنهم أصحاب مذهب فاسد؛ فهم يقولون: كيف أن الله عز وجل يقدر المعصية على الإنسان ويعذبه عليها؟

    ونقول: إن الله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لكن هنا يقول الله تعالى: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)، فالمشيئة لله عز وجل، لكن للإنسان مشيئة، ومشيئة الإنسان مرتبطة بمشيئة الله عز وجل، فمشيئة الإنسان ليست مستقلة، إنما هي مربوطة بمشيئة الله عز وجل، ولذلك أثبت الله للإنسان مشيئة، وأثبت المشيئة الأصل لله عز وجل.

    وهنا قال عز وجل: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)، وقال في آية أخرى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28]، فنجمع بين هذه الآيات التي فيها إثبات المشيئة لله عز وجل وإثبات المشيئة للمخلوق أن للمخلوق مشيئة لكن المشيئة الغالبة والنافذة هي مشيئة الله عز وجل، وأن مشيئة الإنسان خاضعة لمشيئة ولإرادة الله سبحانه وتعالى.

    إذاً: لا حجة للجبرية الذين يقولون: كيف يجبر الإنسان على أعماله ويعاقب عليها؟ فنقول: الله تعالى له الحكمة في ذلك؛ لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.

    يقول الله تعالى: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:35]، أي: أن هذه الآية مثل ضربه الله عز وجل للناس، فمن أراد أن يعرف الحق، وأن يبحث عن الإيمان وعن نور الإيمان، فهذا هو مثل ضربه الله تعالى، ونور الإيمان هو الذي يكشف للإنسان ما ينفعه وما يضره.

    كيفية الحصول على نور الإيمان

    وبعد ذلك قد يتساءل بعض الناس ويقول: إن هذا نور جيد، فكيف نحصل على هذا النور؟ وما دام نور الإيمان لا يؤخذ بالنسب، ولا يؤخذ بالوراثة، ولا يؤخذ بالقوة والشجاعة، ولا يدرك بالذكاء فأين نجد هذا الإيمان؟ ومن يستطيع أن يحصل على هذا الإيمان؟

    وكل واحد منا حتى الضالون يتمنون لو هداهم الله عز وجل، وكل واحد منا يتمنى أن تكون له ذرية تهتدي بهذا الهدى، فما هو الطريق؟ وما دام يهدي الله لنوره من يشاء فكيف نحصل على هذا النور في هذا القلب؟

    ذكر الله تعالى كيف نحصل عليه، ومن يريد هذا النور فهو موجود، ومكانه واضح، وهو المساجد، فإنها هي التي يولد فيها هذا النور، ويترعرع وينمو فيها هذا النور، ولذلك أجاب الله تعالى على هذا السؤال، وهذا يسميه علماء البلاغة: استفهاماً بيانياً، إذ ليس هنا استفهام، لكن الاستفهام يفرض نفسه، فقد يقول السائل: أين يوجد هذا الإيمان الذي هو كمشكاة فيها مصباح .. والمصباح في زجاجة .. والزجاجة كأنها كوكب دري .. إلى غير ذلك؟ هذا الإيمان القوي العظيم الذي يضيء للقلب طريق الحلال من الحرام، والنافع من الضار، وطريق الجنة من طريق النار، أين يوجد؟

    أجاب الله تعالى بأنه في المساجد، فابحثوا عنه في المساجد، ولا تبحثوا عنه في المسارح ولا أمام الأفلام، ولا في المواخير، ولا في دور القمار، ولا في دور السينما، ولا أمام المسلسلات والمحرمات، بل من أراد هذا الإيمان فليبحث عنه في المسجد؛ لأن المسجد هو التربة الصالحة النقية التي توضع فيها البذرة الصالحة، فتنبت الرجال الصالحين الذين تستفيد منهم الحياة.

    قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36].

    فليس موطن الإيمان غامضاً ولا خفياً، بل هو واضح، فالمساجد هي موقع هذا الإيمان، فرب نفسك في المسجد تجد أن الإيمان يملأ قلبك، ورب أولادك في المساجد في حلق العلم وحلق القرآن ومجالس الذكر، في الصلوات الخمس، ابتداءً من سن السابعة، وزد في سن العاشرة، واحذر أن يأتي سن البلوغ وأولادك بعيدون عن المساجد، وسوف تجد هذا النور ينمو في قلوب هؤلاء الأطفال، وفي قلوب هؤلاء الشباب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ..)

    وقوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) متعلقة بالآية السابقة، فإن الإيمان ينشأ في بيوت أذن الله أن ترفع، فقوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ) متعلق بقوله تعالى: (يُوقَد)، أي: يوقد من شجرة مباركة في بيوت أذن الله أن ترفع.

    سبب النشأة الصالحة في بيوت المؤمنين

    والبيوت هنا هي المساجد، وقال من قال من علماء المسلمين: المراد بها بيوت المؤمنين.

    ففي بيوت المؤمنين أيضاً يتربى الرجال الصالحون، والطفل ينشأ فيها بذرة صالحة لسببين:

    السبب الأول: التربة الصالحة، وهي الزوجة.

    السبب الثاني: المكان الصالح، وهو بيت المؤمن، أو بيوت الله عز وجل، وهي المساجد.

    والأقرب أن يكون المراد بها المساجد؛ لأن المساجد هي التي تربي لنا الرجال، فكم ربى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمة الإسلامية.

    إنه مسجد صغير مبني من جذوع النخل، مسقف بالجريد، لكنه أخرج لنا أكبر دولة عرفها التاريخ، امتدت حدودها من الصين شرقاً، إلى المحيط الأطلسي غرباً، وتربى هؤلاء الذين بنوا هذه الدولة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجيوش كانت تتدرب في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعلم كان المسلمون ينهلون منه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأطفال كانوا يتربون في ذلك المسجد، والرجال كانوا يترعرعون في هذا المسجد.

    إذاً: هذه المساجد التي كان لها ما كان في صدر الإسلام هي التي سوف توجد الرجال الذين سوف يخدمون الحياة، ويعيدون للأمة الإسلامية مجدها وعزتها وكرامتها في نفس هذه المساجد، ولذلك يقول الله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)، وقوله (أذن) معناها: أمر وأوجب ووصى، ولذلك استدل العلماء من قوله تعالى: (أذن) على وجوب بناء المساجد على المسلمين، فلو تركت المساجد ولم يساهم فيها المسلمون وتعطلت فإن جميع المسلمين يأثمون، وإذا قام بذلك من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن البقية، ويكون الأجر لمن ساهم في بناء بيوت الله، ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة) يعني: أن بيتاً صغيراً في الدنيا يساوي بيتاً في الجنة التي يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها).

    إذاً بناء المساجد أمر مطلوب يلزم المسلمين أن يقوموا به، وخيرهم من يبني مسجداً أو من يساهم في بناء مسجد، سواء كان بمال أو بجهد أو بكلمة على الأقل، أو بأي مساهمة من المساهمات؛ فإن هذه هي بيوت الله عز وجل في الأرض، فمن ساهم فيها فله الأجر عند الله عز وجل، ولذلك أنا أنصح كل من منَّ الله عليه بشيء من المال ألا يؤخر هذا المال ليكون وصية بعد الموت، وأن يبادر في حياته ليرى عمله وهو صحيح شحيح، يأمل الغنى ويخشى الفقر، ولا يمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قال: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان!

    وأنا أرى كثيراً من الناس عندهم أموال كثيرة والحمد لله، ويفكرون بالوصية بعد الموت، ولربما تكون هذه الوصية غير الوصية التي يستفيد منها المسلمون، كأضاحي وما أشبه ذلك، فأنا أنصح هؤلاء أن يقدموا لأنفسهم في هذه الحياة، فيبني أحدهم لنفسه مسجداً ليكون بيتاً له في الجنة، أو يساهم في بناء مسجد ولو بمبلغ قليل، والله عز وجل يضاعف لمن يشاء.

    أنواع رفعة بيوت الله عز وجل

    والله تعالى هنا أذن أن ترفع، والرفعة تشمل أمرين:

    الأمر الأول: الرفعة الحسية، وهي بناء المساجد، وليس المقصود بالرفعة رفع سقوف المساجد، بل معنى رفعها بناؤها، بأن توجد رفيعة عالية، وليست عالية السقف، وإنما عالية البناء، أي: أنها وجدت وأنشئت، وأقيمت واحترمت وأكرمت.

    الأمر الثاني: الرفعة المعنوية، والمراد بها الطهارة والنظافة، فبيوت الله عز وجل أولى بالطهارة والنظافة.

    وأيضاً الرفعة المعنوية بتعظيمها والمحافظة على الصلوات الخمس فيها، والمبادرة بعد الأذان إليها، وعمارتها بتلاوة القرآن وبالذكر والتسبيح والتهليل وحلق العلم إلى غير ذلك، ولذلك كان أحب عباد الله عز وجل أسبقهم إلى المساجد؛ لأن المساجد بيوت الله.

    ولذلك فإننا نعجب حينما يكون هناك أمر يستدعي أن يفهم المسلمون دينهم في مسجد من مساجد الله، وفي بيت من بيوت الله ثم يتخلف كثير من المسلمين عن هذا الأمر! ويتخلفون عن حلق الذكر التي يقول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟! قال: حلق الذكر)، أي: مجالس العلم، فعلى المسلمين أن يتسابقوا إليها.

    وهنا يقول الله تعالى: (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) والمراد بذكر اسمه سبحانه وتعالى: الصلوات الخمس، وتلاوة القرآن، والتسبيح والتهليل (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، والذي لا يستطيع تلاوة القرآن عليه أن يشغل لسانه بذكر الله، ويكثر من سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وإذا كان يجيد شيئاً من القرآن فلا يغفل عنه، ولا ننسى أن سورة (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن، وهذه نعمة عظيمة من نعم الله سبحانه وتعالى.

    المهم أن يشغل هذا الإنسان لسانه بذكر الله عز وجل؛ حتى لا ينشغل بمعصية الله.

    ومن رفعة بيوت الله عز وجل ألا تتخذ وسيلة للبيع والشراء، فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أننا إذا سمعنا من يبيع ويشتري في المساجد أن نقول: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأينا من ينشد فيها ضالة نقول: لا ردها الله عليك، ولا تنشد فيها أشعار، ولا يقال فيها إلا ما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولا يخاض فيها بشيء من أمور الحياة الدنيا، فكل ذلك يدخل في رفعة هذه المساجد، حتى قال بعض العلماء: النوم في المسجد يتنافى مع قول الله عز وجل: (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)، ولكن نستطيع أن نقول: لا بأس بالنوم في المسجد عند الحاجة كأن يكون معتكفاً، أو لابن السبيل، أو لمن لا أهل له ولا دار أو ما أشبه ذلك، فهذه المساجد لا مانع من النوم فيها، وذلك لا يتنافى مع رفعتها.

    المقصود بالتسبيح في قوله تعالى: (يسبح له فيها بالغدو والآصال)

    ثم قال تعالى: يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ [النور:36]، وفي قراءة سبعية: (يُسَبَحُ له فيها بالغدو والآصال)، والمراد بالتسبيح: الصلوات الخمس؛ فأكثر ما يستعمل التسبيح في الصلوات الخمس، ولا يمنع أن يدخل في ذلك بقية الأذكار: سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لكن كلمة (تسبيح) الأصل فيها هي الصلوات الخمس، ولذلك الله تعالى قال: (بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ)، والغدو هي: صلاة الفجر،

    والآصال أربع صلوات، فوضعت صلاة الفجر في كفة، والصلوات الأربع الأخرى في كفة أخرى! فليس هناك صلاة في الغدو إلا صلاة الفجر؛ لأن الغدو ما بين نصف الليل إلى الزوال، وليس فيه إلا صلاة واحدة وهي صلاة الفجر، فالغدو معناه: أول النهار، ويدخل فيه آخر الليل.

    أما الآصال فتدخل فيه الصلوات الأربع: الظهر؛ لأنها في الأصيل بعد زوال الشمس، والعصر كذلك، والمغرب والعشاء، فكل هذه في الآصال.

    إذاً: جعل الله عز وجل صلاة الفجر في كفة، والصلوات الأربع الأخرى في كفة أخرى؛ لأهمية صلاة الفجر.

    صلاة الفجر التي إن قصر الليل قال الناس: لا نستطيع أن نصلي الفجر؛ لأن الليل قصير، وإذا زاد الليل قالوا: الليل بارد يصعب علينا أن نصلي الفجر، وهكذا تضيع الحياة، والإنسان يتقلب في فراش النعمة وفي الرخاء، ويغفل عن القبر وما فيه من أهوال ومخاوف ومخاطر، ولربما لا يستيقظ لصلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس، نسأل الله السلامة والعافية! فيوشك أن يكون من الذين قال الله فيهم: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، وقال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، وهذا يوجد عند كثير من المسلمين الذين لا يقومون لصلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس، نسأل الله العافية والسلامة.

    عظم قدر صلاة الفجر

    إذاً صلاة الفجر أمرها عظيم؛ فقد جعلها الله عز وجل منفردة، وجعل الصلوات الأربع مجتمعة، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد الذين كانوا فيكم، فيسألهم الله عز وجل: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وفارقناهم وهم يصلون).

    وفي الحديث الآخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)، فإذا صليت الفجر في جماعة فكأنك صليت الليل كله تهجداً، ولذلك يعتبر من صلى الفجر في جماعة في ذمة الله، ولا أحد يستطيع أن يعتدي عليه؛ لأنه في حماية الله وفي حفظه، ولذلك يروى أن بعض الجبابرة كان يقتل في المسلمين، وإذا مثل أمامه مسلم قال: هل صليت الفجر في جماعة؟ قال: نعم، قال: أخلي سبيلك؛ لأنك في ذمة الله!

    ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر وصلاة العشاء: (هما أثقل الصلاة على المنافقين، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً)، أي: ولو زحفاً على الركب، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يمشي يأتي حبواً، فصلاة الفجر لابد أن نربي عليها أطفالنا منذ سن الطفولة؛ لأنها أعظم الصلوات الخمس؛ ولذلك قال الله تعالى: (بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ)، فجعل صلاة الفجر في كفة، والصلوات الأربع في كفة أخرى.

    دلالة قوله تعالى: (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال)

    وقوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ [النور:36-37] كلمة (رجال) تعطينا معنيين:

    المعنى الأول: أن صلاة الجماعة ليست واجبة على النساء، وقد يعطي الله عز وجل للمرأة إذا حافظت على الصلاة في جماعة أجر ما يأخذه الرجل الذي يصلي في المسجد، فتحصل على سبع وعشرين درجة؛ لأنها غير مطالبة بصلاة الجماعة، وصلاتها في بيتها خير لها، لكن خير لها أن تحضر مجالس الذكر إذا كان هناك مجالس ذكر في المسجد.

    المعنى الثاني: أنهم في مستوى الرجولة؛ لأن كلمة (رجل) ليس معناها الذكورة فقط، معناها: ذكر مستكمل كل أمور معاني الرجولة، ولذلك إذا أردت أن تثني على ولدك تقول له: أنت رجل، تريد: أنت اكتملت في معنى الرجولة، ولذلك لا تأتي كلمة رجل في القرآن إلا وتحمل معنى العظمة، فالرجال العظماء، كما قال الله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ رِجَاَلٌ) أي: رجال عظماء، تغلبوا بعقولهم على شهواتهم.

    وقوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23] أي: رجال عظماء، وكما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا [الأنبياء:7]، وهكذا دائماً كلمة (رجل) لها معنىً عظيم، وهو معنى اكتمال الرجولة، أي: أنهم رجال حقيقة ليسوا ذكوراً فقط، كما يوجد أنصاف ذكور وأرباع ذكور، لأن معنى الذكورية موجودة، لكن معاني الرجولة الأخرى فقدت عند كثير منهم، وإذا أردت أن تنظر إلى نموذجاً من هؤلاء الرجال فانظر إلى أشباه النساء من هؤلاء الذكور الذين هم بصورة رجال من الشباب الذين ينافسون المرأة على موضاتها وعلى شكلها، وحتى في صوتها، وربما في لباسها، وربما في شعرها .. إلى غير ذلك!

    فكلمة (رجال) أي: استكملوا معاني الرجولة؛ فأصبحوا رجالاً حقيقة يستحقون كلمة رجل أكثر من غيرهم.

    إذاً: هنا نعرف كيف يتربى الرجال حتى لا نغلط ولا نخطئ، فربما ينشغل الإنسان بماله، أو بوظيفته، أو بشهوته، أو بأي أمر من الأمور عن أطفاله وأولاده، فيتربى هؤلاء الأطفال في المقاهي، وأمام الأفلام، وأمام المحرمات، ولربما مع قرناء السوء والفاسدين والفسقة، فيبحث ذلك الأب حينما يفكر وحينما يعود إليه صوابه عن ذلك الطفل فإذا هو قد أصبح في سن الرجال وهو منفلت عن تعاليم الإسلام، فيبدأ يقسره قسراً على تعاليم الإسلام، فيعجز؛ لأنه عصى قول الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: (مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع)، يعني: ربوهم في المساجد وهم في سن التمييز، منذ السن الأولى المبكرة التي يتربى فيها الرجال، فيبدأ يندب حظه، ويندب نفسه، ويستشير فلاناً الفلاني: ما رأيك في ولدي؟!

    فنقول: ولدك أنت الذي ضيعته حينما كان في السن المناسبة للتربية، ولربما إذا قيل له: يا أخي! اتق الله في أولادك، يقول: لا أستطيع أن أحكم القبضة عليهم، والسبب أن هناك أسساً مبكرة تطالب فيها أيها الإنسان! فلم تقم بها كما أمرك الله عز وجل وكما أمرك الرسول صلى الله عليه وسلم، فالله يقول: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ رِجَاَلٌ) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع)، فأنت فوت الفرصة، ولذا لا تلم إلا نفسك إذا خرج لك أولاد منفلتون عن طاعة الله عز وجل.

    حال السلف رحمهم الله في إقام الصلاة وإيتاء الزكاة

    قال تعالى: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37]، رأى بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سلفَنا الصالح والمنادي يقول: حي على الصلاة! حي على الفلاح! وكان الباعة في الأسواق قد رفع أحدهم الميزان بيده يزن البضاعة، فلما سمع: الله أكبر، رمى بالميزان على الأرض، وأغلق دكانه وهرع إلى المسجد، فقال: (في هؤلاء نزل قوله تعالى: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37])، هؤلاء هم الرجال الذين يستحقون كلمة رجال، فلهم تجارة، ولهم بيع وشراء، ولهم متاجر، ولهم معارض، وعندهم أموال، ويستطيعون أن يشغلوها أربعاً وعشرين ساعة، لكن وقت العبادة لا يمكن أن يستعمل للبحث عن المال في الحياة الدنيا، وهكذا يكون الرجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.

    ولا تظنوا أيها الإخوة! أنهم رجال عاطلون؛ فإن الإسلام لا يعترف بالعاطل، وإنما يريد من هذا الإنسان أن تكون له مهنة، وأن تكون له وظيفة، وأن تكون له تجارة، وأن يعمر هذه الحياة، وأن يبحث عن المال الحلال من أجل أن يستفيد من هذا المال الحلال فيما يرضي الله عز وجل، ويستغني به عما حرم الله.

    إذاً: هذه التجارة موجودة، لكن التجارة في اليد ليست في القلب، أما القلب فإنه مليء بالتجارة التي لا تبور: البحث عن الجنة، وعن السعادة الخالدة، وعما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الله تعالى: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور:37]، أي: لهم تجارة، ولهم بيع، ولكن هذا البيع وهذه التجارة لا تلهيهم عن ذكر الله.

    وأما ما الفرق بين البيع وبين التجارة؟

    فيقولون: البيع هو الأخذ والعطاء مع سائر الناس، وأما التجارة فمعناها: استيراد.

    إذاً: هؤلاء مهما كانت مشاغلهم لا يمكن أن تصرفهم عن الله عز وجل وعن دينه، فلهم تجارة، ولهم دكاكين، ولهم محلات، وعندهم أسواق، وعندهم أموال مغرية وأرباح، لكن يعتبرون وقت الصلاة للصلاة، فأحدهم يجلس في دكانه يبيع ويشتري، فإذا سمع المنادي: حي على الصلاة حي على الفلاح يقفل دكانه، ولا داعي أن تقول له الحسبة أو الهيئة: أقفل دكانك؛ لأنه يسير بأمر الله سبحانه وتعالى.

    الدافع للرجال الصالحين إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة

    وقوله تعالى: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37]؛ لأنهم يعتبرون إقام الصلاة والإتيان بها مستقيمة، وإيتاء الزكاة هي ربح هذه التجارة، وهي أفضل ما يزاوله الإنسان، وهي تجارة هذا المال، فلهم تجارة، لكن هذه التجارة لا تشغلهم عن ذكر الله، ولا تشغلهم عن الزكاة التي هي حق معلوم فرضها الله عز وجل على هؤلاء الناس بقدر أموالهم.

    وأما ما هو الدافع لذلك؟

    فقال تعالى: يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37]، فيا إخوان! ذلك اليوم عظيم جداً؛ لأن الله تعالى سماه: يَوْمًا ثَقِيلًا [الإنسان:27]، وسماه: يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [الإنسان:10]، وقال عنه: يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7]، وقال: يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [الإنسان:17]، فلا تجد صفات أعظم من هذه الصفات في ذلك اليوم؛ حيث يتحول الطفل إلى شيخ كبير السن شعره أبيض من شدة المخاوف.

    هذا اليوم يقول الله عز وجل عنه: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]، إنه يوم واحد يساوي ألف سنة، لكن هذا اليوم العظيم يهونه الله عز وجل على المؤمن حتى يصبح كالصلاة المكتوبة، وتصوروا يا إخوان! المسلم يصل إلى مقره في الجنة في أقل من نصف نهار من أيام الدنيا، مع أن اليوم يساوي ألف سنة، لكنه في أقل من نصف نهار يصل إلى منزله في الجنة، والله عز وجل يقول: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24]، ليس في الآخرة قيلولة، وليس فيها حر ولا برد، وليس فيها ليل ولا نهار، لكن المراد: أنه بالنسبة لأيام الدنيا يكون ذلك في أقل من نصف نهار، يعني: قبل أن يأتي وقت القيلولة يكون ذلك الإنسان قد وصل إلى منزله في الجنة، ولذلك يقول الله تعالى: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37]، كيف تتقلب القلوب؟

    من شدة الخوف يقفز القلب من مكانه حتى يسد الحنجرة، ويقفز البصر من مكانه حتى يكون في أعلى الرأس؛ لأن الإنسان حينما يخاف يحصل له هذا الأمر، فإذا خاف الإنسان رفع بصره إلى السماء، فكأن البصر قفز إلى أعلى الوجه، وإذا خاف يرجف هذا القلب رجفاً شديداً، ومن شدة الارتجاف يصعد هذا القلب حتى يسد الحنجرة، ولذلك يقول الله تعالى: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ [غافر:18]، فحتى القلب يقفز عن مكانه، فيكظم الحنجرة، فلا يستطيع الإنسان أن يتنفس، وهذا اليوم العظيم يهونه الله تعالى على أولياء الله وعلى الصالحين من عباد الله، ولذلك يقول الله تعالى: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37].

    إذاً: هؤلاء اللاهون اللاعبون العابثون الذين ليس لهم هم إلا الدنيا والشهوات والمتاع، وربما الطعن في دين الله، هؤلاء في غفلة عن ذلك اليوم، وأما الذي يتذكر ذلك اليوم فهم الرجال الذين تربوا في المساجد، فلم تشغلهم الدنيا عن ذكر الله عز وجل والدار الآخرة، في وقت يلهو فيه ويلعب كثير من الناس، ويغفلون عن الموت فلا ينتبهون إلا حين يجلس ملك الموت عند رأس أحدهم.

    وهل المسلم يعبد الله طمعاً في الجنة وخوفاً من النار أم محبة في الله، كما يقول الصوفية؟ فغلاة الصوفية يقولون: نحن لا نخاف من النار ولا نريد الجنة! فماذا تريدون؟ قالوا: نعبد الله محبة لله، كما قالت رابعة العدوية : (عبدتك لا خوفاً من نارك ولا حباً في جنتك، وإنما محبة فيك)، وهذا كلام فاسد ليس بصحيح؛ فنحن نعبد الله محبة فيه وخوفاً من عذابه وطمعاً في جنته، ولذلك أفضل الرجال هنا يعبدون الله لماذا؟

    يقول الله: يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37].

    فليست عبادة الله كما يقول الصوفية: محبة لله فقط، وإنما تكون عبادة الله طمعاً في جنته وخوفاً من ناره، ولذلك لما مدح الله تعالى المرسلين وهم خيرة البشرية وصفوة الخلق قال الله تعالى عنهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90]، فإذا كان الأنبياء يدعون الله رغباً ورهباً فهل الصوفية فوق مستوى الأنبياء يدعون الله حباً له، وليس رغباً ولا رهباً؟!

    إذاً: هذه الآية ترد على من يقولون: عبدتك لا خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك. ونحن نقول: عبدناك يا رب محبة لك وطمعاً في جنتك وخوفاً من عذابك، وهذا هو المنهج الصحيح الذي يجب أن يسلكه المسلم في هذه الحياة؛ ولذلك مدح الله تعالى هؤلاء الرجال فقال: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37].

    جزاء الخائفين من الله عز وجل

    ثم وعدهم الله عز وجل بالجزاء الحسن فقال سبحانه وتعالى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا [النور:38]، فهم خافوا في هذه الدنيا فاطمأنوا في الحياة الآخرة، كما قال عمر بن عبد العزيز: إنه لا يأمن غداً إلا من خاف وحذر في هذا اليوم.

    فالذين يضحكون في هذه الدنيا ملء أفواههم، ولا يبالون بما يقترفون من سيئات وعظائم وذنوب، يفعل أحدهم الذنب وهو يضحك، نقول لهم: إن الذين خلع قلوبهم الخوف من الآخرة والرغبة الشديدة في الجنة، والخوف العظيم من النار، والخوف العظيم من الحساب، والخوف العظيم من مزلة الصراط، هذا الخوف في الدنيا الذي جعلهم يتجهون إلى الله عز وجل هو الذي يؤمنهم يوم القيامة، والله تعالى يقول: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النور:38]، أي: يجزيهم بالحسنات، ويزيدهم سبحانه وتعالى بأن يعطيهم درجاتٍ ما عملوها في الحياة الدنيا، وهذا من كرم الله سبحانه وتعالى، ولذلك هناك زيادة على العمل، فإذا نشر الكتاب يوم القيامة للمؤمن وجد فيه أعمالاً لم يعملها، فيقول: يا رب! ما عملت هذه الحسنات، ولا عملت هذه الحسنات، فيقول له: كنت تفعل كذا، وكنت تفعل كذا، أي: أن هذه كانت هي السبب في الحصول على هذه الدرجات العلا التي يعطيها الله عز وجل للمؤمن والمؤمنة في الحياة الآخرة.

    وقوله تعالى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا [النور:38] أي: يعاملهم بالحسنات، ويتجاوز عن السيئات ما داموا قد تابوا هنا، وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النور:38] أي: يعطيهم زيادة؛ ولذلك صح في الحديث: أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة قال الله عز وجل: (يا أهل الجنة! هل تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: يا ربنا! ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تخلصنا من النار؟! فيقول: بلى، أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً)، وهذا أعظم ما يأخذه الإنسان في الحياة الآخرة من الجزاء، ويعطيهم الله عز وجل زيادة، فيكشف سبحانه وتعالى الحجاب فينظرون إلى الله عز وجل كما ينظر الناس إلى القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته، وهذا أفضل نعيم يحصل عليه المؤمن والمؤمنة في الدار الآخرة، وهو النظر إلى وجه الله عز وجل، وهو معنى قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، والزيادة على الجنة هي النظر إلى وجه الله عز وجل في الجنة، وهذا هو أعظم وأفضل وألذ أنواع النعيم التي يراها والتي يأخذها الإنسان في الحياة الآخرة.

    إذاً: هنا يقول الله تعالى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النور:38]، أي: زيادة من عنده ليس من أعمالهم، وإنما هي حسنات ما عملوها؛ لأن الله تعالى كريم شكور حليم.

    وقوله عز وجل: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:38]، أي: يعطيه أكثر من حقه دون أن يحاسبه، وإذا حاسبه وفاه حسابه، وأعطاه الله عز وجل بمنه وكرمه أموراً لم يفعلها.

    1.   

    مثل أعمال الكافرين

    يقول الله تعالى بعد ذلك: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور:39] نعوذ بالله!

    جزاء الكفار على أعمالهم في الدنيا

    انظر إلى الفرق بين المؤمن الكافر: المؤمن عمله وقلبه كسراج مضيء دائماً؛ يرى الخير والشر، فيترك الشر ويفعل الخير، لكن إذا نظرت إلى قلب الكافر وإلى عمل الكافر وجدت أعماله على نوعين:

    أعمال ظاهرها الخير وباطنها الفساد، وأعمال أخرى ظاهرها وباطنها الفساد، فمن الأعمال التي ظاهرها الخير ما يفعله الكفار بما يسمونه بالإنسانية: من بذل المعروف، ومساعدة المحتاج، وقضاء حوائج الناس، وبناء جسور، ومدارس، ومستشفيات، وربما يبنون مساجد، وربما يتصدقون على فقير بدافع يسمونه بالإنسانية، وهذه حسنات، لكن ليس لها قيمة عند الله تعالى في الحياة الآخرة، لكن لها قيمة عند الله عز وجل في الحياة الدنيا؛ لأن الله تعالى لا يظلم مثقال ذرة.

    ولهذا يعطي الله هذا الكافر صحة في جسده، ومالاً كثيراً، وأولاداً، وأموراً كثيرة يعجلها له في الحياة الدنيا؛ لأنه ليس عنده نية طيبة، وليس عنده إيمان وإخلاص لله عز وجل، فينال هذا الجزاء في الحياة الآخرة، ولذلك يقول الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [هود:15]، أي: بعمله، نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ [هود:15]، وهذا هو الذي جعل كثيراً من الناس يتعجبون: لماذا فلان الكافر في صحة في جسده؟ ولماذا عنده مال؟ ولماذا عنده أولاد وسيارات ومساكن جميلة؟ ولماذا المؤمنون يعيشون فقراء؟ ولماذا بلاد الكفر تنتشر فيها المصانع ووسائل التقنية الحديثة وبلاد المسلمين متأخرة؟! وكل هذه الأشياء يتساءل عنها الإنسان في كثير من الأحيان، وربما ينحرف -والعياذ بالله- إذا رأى الكفار أقبلت عليهم الحياة الدنيا، وقد زويت عن كثير من المؤمنين.

    والسبب في ذلك هو ما ذكره الله عز وجل في قوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ [هود:15]، وهذا الواقع هو الذي جعل كثيراً من الكفار والمعاندين لدين الله ينحرفون، ويتمادون في ضلالهم؛ لأنهم يظنون أن الله تعالى ما أعطاهم هذه الدنيا إلا لأنه يحبهم، كما قال تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ [الفجر:15]، ولو كان فاجراً كافراً فإنه يقول: (رَبِّي أَكْرَمَنِ)، أنا عزيز على الله، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر:16] كَلَّا [الفجر:17]، أي: لا أكرم الأول ولا أهان الثاني؛ فهذه الدنيا ما لها قيمة عند الله عز وجل، ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، وإنما الذي حدث هو أن الله عز وجل يبتلي هؤلاء الناس، فيعجل جزاء الكافرين والعصاة والفسقة الذين لا يريدون الحياة الآخرة، يعجل لهم جزاءهم في الحياة الدنيا؛ ليدخرها للمؤمنين في الحياة الآخرة، وهذا هو معنى قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور:39].

    والسراب: أنك عندما تسير في وقت القيلولة في الصحراء تجد من بعد كأن أمامك ماءً، خصوصاً إذا عطش الإنسان، فإذا عطش الإنسان يرى كأن هناك ماءً على وجه الأرض، فيركض وراءه، وكلما دنا من هذا السراب ابتعد السراب؛ لأنه ليس ماءً، بل هو أمر خيالي ليس له حقيقة، وكلما دنا منه ابتعد عنه؛ حتى يهلك هذا الإنسان وهو يلحق هذا السراب.

    الكفر والبدعة تمحق الحسنات والأعمال الصالحة

    إذاً: هذا هو الكافر أو الفاسق الذي يقدم الحسنات، لكن بدون نية وبدون إرادة الحياة الآخرة، وبدون هدف رضا الله عز وجل، وربما يقدم حسنات في الظاهر، لكنها في الحقيقة ليست بحسنات، كما يفعل الصوفية والمبتدعة، نعوذ بالله من حالهم، فقد رأينا في بعض بلاد المسلمين من يسهر من العشاء إلى الفجر في عبادة، لكنها تذهب به إلى نار جهنم، فأحدهم يطوف حول قبر، ويتمسح به، ويتغنى في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: هذا هو الدين، ويرقص ويغني، وهذا الدين يعيشه مع الأسف الشديد كثير من المسلمين اليوم، وهذا هو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور:39]، وقال في آية أخرى: كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ [إبراهيم:18]، وقال الله عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ [هود:15]، وقال الله عز وجل: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:2-4].

    والعجيب أنها عاملة وناصبة تتعب في طاعة الله، لكن تصلى ناراً حامية يوم القيامة؛ لأن أصحاب هذه الطريق لا يسيرون على المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، ولو كانوا على بصيرة لنفعهم هذا العمل، أما هذا العمل إذا كان على غير المنهج الصحيح فإنه لا يقبل عند الله عز وجل، فلا يقبل عند الله من العمل إلا ما كان خالصاً لله وصواباً على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأي عمل ليس خالصاً لله، ولا يقوم على قاعدة الإيمان، وليس موافقاً للمنهج الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كسراب بقيعة، فليعمل من شاء ما يشاء أن يعمل فلن يزيده من الله عز وجل إلا بعداً.

    فكم من دموع تراق عند القبور والأضرحة! نسأل الله العافية، ونشكر الله على نعمة الهداية، ونسأل الله أن يتغمد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بواسع رحمته، فقد سلمت هذه البلاد بسبب دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، فوالله يا إخوان إن بلاد الحضارة لو جئت إليها لوجدت الدموع تسيل كأنها أنهار من عيون هؤلاء القوم من خشية الله، لكن على طريق غير صحيح، إما عند قبر ميت أو غيره، وتجد أحدهم قد ولى الكعبة ظهره، واتجه إلى صاحب القبر يسأله من دون الله عز وجل!

    وقوله تعالى: كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً [النور:39]، القيعة هي: الأرض الواسعة، والسراب هو شيء يشبه الماء، ولكن لا يمكن أن يشرب أحد من هذا السراب ماءً؛ لأن السراب لا حقيقة له، فيهلك ويركض وراء هذا السراب ويموت وينتهي، فأعمالهم كمن يركض وراء السراب، أي: أنهم يركضون وراء أعمال لا حقيقة لها، ثم يهلكون دونها يوم القيامة، ثم يوقفون على شفير جهنم، فلا تنفعهم تلك الأعمال وإن كان ظاهرها الصلاح ما دامت غير صحيحة، أي: ما دامت غير خالصة لله عز وجل فلا تنفع، وهذه أعمال المنافقين، وأظن العلمانيين من هذا النوع؛ فالعلمانيون يصلون ويصومون ويحجون ويعتمرون، وربما يسابقون الناس إلى المساجد، لكن يقولون: دين الإسلام لا يصلح للحياة كنظام، فنقول: أعمالكم كسراب بقيعة؛ لأنكم كفرتم بالله عز وجل، قال عز وجل: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]، وما دام أنكم تتهمون دين الله أنه لا يصلح للحياة، والله تعالى يقول: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، ويقول: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38].

    أعمال الكفار كالشراب أو كالظلمة في اللجة

    إذاً: أعمالكم أيها العلمانيون! كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.

    قال عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39]، أي: إذا جاء الظمآن إلى السراب لا يجده شيئاً، ويجد العمل الذي عمله على غير صواب وعلى غير منهج صحيح لا شيء، وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النور:39]، أي: وجد الله عز وجل عند عمله، فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [النور:39]، أي: ما نقصه الله عز وجل، لكن حسابه سيء، وأعماله سيئة، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39]، أي: لا يعجزه أمر من الأمور، فيحاسب الخلائق في لحظه واحدة، وهذا هو النوع الأول من الأعمال السيئة.

    النوع الثاني: قال عز وجل: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [النور:40]، والأعمال على نوعين: أعمال ظاهرها الصلاح تشبه السراب؛ لأن ظاهرها يختلف عن باطنها، والسراب له ظاهر وله باطن، فظاهره يشبه الماء، وباطنه لا حقيقة له، أما الأعمال الأخرى فهي فساد، ومعاص فوق معاص، وسيئات وراء سيئات، وكفر يجر وراءه آثاماً، ولذلك شبه الله تعالى أعمال الكافرين وهم يعملون السيئات تلو السيئات، والكفر بعد الكفر.. شبههم بإنسان غاص في قعر البحر، وكان البحر عميقاً، وكان هذا البحر العميق لجة، واللجة الماء الكثير، فكان فوقه موج، وفوق الموج موج آخر، والأمواج بطبيعتها تغطي ضوء الشمس، وتغطي النور؛ لأنها تضطرب بالماء، فتحصل حركة تخفي الضوء، وفوق الموج الثالث سحاب، فلو أن شخصاً غاص في البحر في مثل هذه الحال، وأراد أن ينظر إلى يديه فإنه لا يراها ولو رفع يده لينظر إليها من قعر البحر فإنه لا يراها من شدة الظلام.

    إذاً: أعمالهم كهذا الشكل، (كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ)، أي: عميق كثير الماء، (يَغْشَاهُ)، أي: يغطي هذا الإنسان موج، (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ)، يعني: فوق الموج الأول موج آخر، (مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ)، أي: من فوق الموج الثالث سحاب، والسحاب بطبيعتها تحجب ضوء الشمس، إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور:40]، ولو أراد أن ينظر إلى يده فإنه لن يراها.

    الهداية بيد الله عز وجل

    قال عز وجل: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، هذا هو السر في ذلك، فالذي لا يعطيه الله عز وجل نوراً كالنور الذي مر معنا في الآية السابقة: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور:35] وما دام الله تعالى حال بينه وبين هذا النور، فليس له نور.

    إذاً نقول: إن النور لا يكتسب بالآباء ولا بالأجداد ولا بالأمجاد، ولا بالنسب، ولا بالذكاء، ولا بالقوة والشجاعة، ولا بأي شيء آخر، ولكنه يأتي من عند الله عز وجل، فإذا منَّ الله على إنسان من الناس بأن منحه هذا النور اهتدى به وسار به في ظلمات هذه الحياة، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    الأسئلة

    لا تنافي بين الدراسة في المسجد والمدرسة

    السؤال: ذكرتم أن المساجد هي أماكن التربية الإسلامية الحقة: من حفظ للقرآن الكريم، وتدارس لآياته، وتدارس لأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكن يزعم بعض الناس أن إلحاق أبنائهم في حلق المساجد يزيد من أعبائهم التعليمية، ولا يستطيعون التوفيق بين العلم الذي يؤخذ من المساجد والعلم الذي يدرس في المدارس، فيتركون المساجد لهذا السبب، نأمل من فضيلتكم إيضاح هذا الأمر، وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: أولاً: المساجد هي قطب الحياة، ولا تقوم أمور الناس إلا بالمساجد، وهذا أمر مشاهد، ولذلك أبناء المساجد هم الذين تقر بهم العيون.

    أما كون المساجد تشغل الناس بحلق القرآن عن العلوم الأخرى فهذا غير صحيح، فالله تعالى يقول عن القرآن: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، فكل علوم الدنيا محشوة في القرآن، وعلى فرض غير ذلك فإن أعظم مادة يطالب بها الطالب في المدارس هي القرآن، لا سيما حينما يتدرب على القراءة الصحيحة من خلال قراءة القرآن وتلاوة القرآن.

    وحينما نقول ذلك لا نريد أن نضيع المدارس لتكون هناك حلق للقرآن، ولكن نريد أن نوفق بين هذا وهذا، فلا نؤيد أن يتفرغ الإنسان لحلق المساجد ليترك العلوم العصرية، والحصول على بعض المؤهلات، لكن نقول: حبذا لو كان التوفيق بين هذا وذاك، أو على الأقل شغل وقت الفراغ الذي يزيد عند هؤلاء الشباب، إضافة إلى أنه يكون هناك حلق بغير وقت الفراغ أيضاً، لكنها لا تقضي على العلوم العصرية.

    وعلى هذا نقول: إن الشباب عندهم فراغ، وعندهم وقت زائد عن الحاجة، وأرى أكثر الشباب لا يستغل الفرصة كلها والوقت كله في طلب العلم، ولا في الحصول على العلوم العصرية الأخرى التي يقول عنها الأخ السائل، فنقول: نطالبه في وقت الفراغ، فإن وقت الفراغ كثير عندنا، وأفضل ما يشغل فيه هذا الفراغ هو تعليم كتاب الله، وأكثر الطلبة البارزين كما علمنا من الواقع أنهم هم الذين يقضون زائد الوقت في حلق المساجد، وحلق القرآن.

    إصلاح المجتمع لا يقتصر فيه على المحاضرات فقط

    السؤال: إذا كان إصلاح المجتمع يقتصر على مثل هذه المحاضرات التي نفرح بها كثيراً، أو الدروس، أو ربما بعض المنابر وليست كلها، فهل هذا يكفي؟ لا سيما وأنتم تعلمون أنه لا يحضر مثل هذه المجالس إلا عدد محدود من الطيبين، وليسوا كلهم يقومون بالواجب الذي أنزله الله عليهم من الدعوة إلى الله، بينما المؤثرات السلبية أكثر وأكثر، فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم؟!

    الجواب: هذا كلام صحيح، فإن من أهم مقومات تربية أبناء المسلمين هي البيئة الصالحة، فلو ذهبنا بهذا الشاب ووضعنا جل وقته في المسجد مع وجود بيئة منحرفة فيها لهو ولعب كما يوجد في أيامنا الحاضرة، أو بيوت لاهية لاعبة عابثة كما يوجد في كثير من الأحيان في واقع الأمة الإسلامية، لكان كما يقول:

    متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

    ولكن ثقوا أيها الإخوة! أن البناء ينتج أكثر من الهدم، ولو كان البناء أقل؛ لأن الفطرة الموجودة في هؤلاء الناس هي فطرة الله عز وجل، فطرة الإيمان، وربما يكفي وقت قليل للمحافظة على هذه الفطرة، لكن بشرط أن يحال بين هذه الفطرة وبين المؤثرات الخارجية، المهم يا إخوتي! ما لا يدرك كله لا يترك كله، فنحن لا نستطيع أن نسيطر على البيئة كلها وعلى المجتمع كله، وإن كنا قد نستطيع أن نسيطر على بيوتنا؛ لأن الله تعالى استرعانا على البيوت وعلى الذرية، لكن إذا عجزنا عن هذا وهذا فالمساجد تقوم بالدور الذي يكافح الأخطاء التي توجد في المجتمع، أو توجد في البيت في كثير من الأحيان، لكن يفضل أن يكون البيت نظيفاً.

    سبب رخاء بلاد الكفار وحلول المصائب في بلاد المسلمين

    السؤال: هناك من إذا ذكِّر بأن المصائب التي تحل بالأمة الإسلامية أنها عقوبة من الله عز وجل، وابتلاء وامتحان، يقول: بأن الكفار في أوروبا وغيرها من بلاد الشرق تنتشر فيها الفواحش بأنواعها، ومع ذلك نجد بأنها تعيش في أمان، ولم تحل بها عقوبة من الله، فكيف نرد على أولئك القوم، وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: أولاً: هناك فرق بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الكافرة، فالمجتمعات الإسلامية التي رسم لها طريق من عند الله عز وجل والتزمت به، إذا انحرفت عنه تصاب بعقوبة الله عز وجل، ولذلك يقول الله عز وجل: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، ويقول: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41]، ويقول: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]، ويقول: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53]، وغير ذلك من الآيات، وكلها تدل على أن ما يحدث من الفساد في هذه الأرض ومن البلاء ومن المشاكل والمصائب، إنما هو بسبب ما كسبت أيدي الناس.

    أما ما أورده الأخ السائل في قوله: كيف يكون ذلك وبلاد الكفر تمطر ليلاً ونهاراً، وفيها غاية النعيم والمتاع والأجواء الطيبة، والمياة الجارية وهي على معصية الله؟ فالفرق واضح، فتلك أمة منهجها منحرف أصلاً، ولم تكن مستقيمة فانحرفت، والعقوبة تصيب من استقام فانحرف.

    والأمر الآخر: هو ما أشرت إليه في تفسير الآيات في قوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ [هود:15]، فما في بلاد الكفر من رخاء العيش، ومن المتاع، ومن الأنهار، ومن الأمطار المتواصلة، ومن الخضرة وخصوبة الأرض، ومن الصحة والعافية والترف والنعيم، كل ذلك لأن لهم حسنات عند الله عز وجل، وهذه الحسنات لا تكتب لهم في الآخرة؛ لأن الله تعالى لا يرحم في الآخرة كافراً، وإنما يكون الجزاء الحسن للمؤمنين.

    إذاً: الله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة، ولهم حسنات في الدنيا، والله تعالى غفر لمن سقى كلباً، فإذا فعلوا حسنات في هذه الحياة الدنيا كأن يجروا الترع والأنهار مثلاً، أو يبنوا الجسور والقناطر، أو يفتحوا المستشفيات والمدارس، أو يقدموا أي خدمة لخلق الله، فهذا عمل صالح، لكنه غير مقبول عند الله تعالى، فالله تعالى يعجل جزاءهم في الحياة الدنيا، ولذلك تأتيهم الحياة الدنيا أكثر مما تأتي المؤمنين، ولعل السر الواضح في ذلك هو ما قلت لكم.

    إذاً واقعهم هو معنى قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، أي: بعمله، (وَزِينَتَهَا) أي: لا يريد الآخرة، (نُوَفِّ) أي: نعطيهم الجزاء وافياً.. (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ)، يعني: يأخذون الحق كاملاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود:16]؛ لأنهم في الدنيا أخذوا نصيبهم، فليس لهم نصيب في الآخرة.

    إذاً: لا تعجب يا أخي! أن ترى بلاد الكفر بهذا الشكل كما أشار الأخ السائل؛ لأن سنة الله تعالى أن يعجل الجزاء للكافرين ويدخر الجزاء للمؤمنين، وربما يعجل الله عز وجل بعض الجزاء للمؤمنين، ويدخر لهم الجزاء في الآخرة، كما قال الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الأعراف:32]، أي: ويشاركهم فيها الكافرون، خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32].

    النظر في الطاعة إلى من هو أعلى للحاق به لا إلى المجتمعات الفاسدة

    السؤال: إذا تكلم بعض الغيورين على بعض الأمور التي يخشونها على هذه البلاد انبرى من انبرى لهم وقال: إن مجتمعنا بإعلامه ومستشفياته وبنوكه أفضل من غيره بكثير، أرجو من فضيلتكم توضيح ذلك، وهل يضرب المثل للشر بالشر؟

    الجواب: الحقيقة أن هذه مشكلة تتكرر كثيراً؛ فقوله: إن بلادنا بلاد الخير فيها كذا وكذا، وقوله: هل سافرت ورأيت كيف الفساد في الأرض؟ وكيف أن خانات الخمر مفتوحة علناً في رمضان؟ أما رأيت دور الفساد؟!

    فنقول: صحيح رأينا هذا، لكن هل ننظر إلى من هلك، أم ننظر إلى من نجا؟ نحن عندنا مقياس ثابت، فلا نريد إذا هبط العالم درجتين أن نهبط نحن درجة واحدة، بل نريد إذا هبط العالم درجتين أن نرتفع درجتين في هذه الدنيا، أما لو بدأنا نهبط وراء العالم، ويهبط العالم درجتين ونهبط درجة واحدة، وكلما هبط هبطنا أقل منه، فالهبوط ليس له نهاية.

    إذاً: صحيح أن بلاد الكفر أو حتى بعض بلاد المسلمين انتشر فيها الفساد أكثر مما يوجد في بعض البلاد الأخرى، لكن نحن عندنا مقياس ثابت، ومعيار صحيح لا يمكن أن ننطلق إلا منه، فنزن ما يحدث في أمور الناس، وفي واقع الناس بالمعيار الصحيح، ونرجع إلى النقطة الثابتة التي أمر الله عز وجل أن نثبت عليها، فما خالف هذا المعيار نعتبره منحرفاً ولو كان أقل انحرافاً من البلاد الأخرى.

    إذاً: هذه مقاييس مادية لا تصلح، وربما نركض وراء العالم ونكون خيراً منه قليلاً، أو خيراً منه كثيراً، ففي بلاد العالم نواد للعراة، فنقول: نحن أحسن منهم قليلاً، والآن زواج الذكر بالذكر أصبح رسمياً في بعض بلاد الكفر والعياذ بالله! ويعقد له رسمياً، ويعترف به القانون، والقوانين كلما هبط الإنسان هبطت القوانين معه، ولربما تهبط القوانين أكثر من هبوط الإنسان، فهل نسير وراء هذا الإنسان الهابط بهذا الشكل ونقول: نحن خير منه؟!

    فنقول: ننظر إلى سلفنا الصالح، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها، ومن ذلك المعيار نستطيع أن نعرف موقعنا في هذه الحياة.

    خطر النظر المحرم

    السؤال: ما هو الجمع بين قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21] الآية، وبين قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، فهل النظر خطوة من خطوات الشيطان أم ماذا، وفقكم الله؟

    الجواب: خطوات الشيطان خطوات خطيرة جداً تدخل الناس النار، ومنها وسائل، وربما يأتي الشيطان إلى الإنسان فيقول: هذه أمور يسيرة، فهي نظرة استغفر الله منها، وهي سيئة صغيرة، وأنت ما فعلت كبيرة، ثم نجد أن هذه الخطوة تتلوها خطوة وخطوة إلى آخره، كما يقول الشاعر:

    نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء

    إلى أن تكون الفاحشة، ولذلك يا إخوان! النظر من أخطر الأمور التي توقع في فاحشة الزنا والعياذ بالله! والدليل على ذلك أن الله تعالى وضع النظر بجوار الأمر بحفظ الفرج فقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30]، وقال: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31]، وصلة النظر بالفرج أن النظرة كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من أجل مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه).

    إذاً: أيها الأخ! لا تستغرب أن تكون النظرات من خطوات الشيطان، ودخول البيوت من خطوات الشيطان، والحديث عن الفاحشة من خطوات الشيطان، وكل هذه خطوات بعضها أعلى من بعض، وكلها خطوات للشيطان، والخطوة قد تكون صغيرة، وقد تكون كبيرة، فمعنى خطوة أي: تقرب إلى الأمر المطلوب، فالنظرة تقرب إلى الأمر المطلوب مما حرم الله، فهي خطوة من خطوات الشيطان، ولذلك فإن هناك علاقة وثيقة بين النظر وبين قوله تعالى: لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21].

    حكم الملابس القصيرة للفتيات الصغيرات

    السؤال: انتشر في الآونة الأخيرة لبس الملابس القصيرة للفتيات الصغيرات، لا سيما أننا نجد هذا في بيوت الناس الذين يقتدى بهم، فما توجيهكم لذلك؛ لأن كثيراً منهم يقول: هذه لا زالت صغيرة، وهو يربيها على ذلك، وفقكم الله؟

    الجواب: الصحيح أن الإسلام جاء لسد الذرائع، وجاء بالتربية منذ البداية، وسد أبواب الشر قبل أن يأتي الموعد المحدد لتوقع وقوع الشر، والطفلة الصغيرة قد تكون في سن لا يفكر فيها أحد من الناس، وربما يفكر فيها بعض الناس وإن كانت في سن صغيرة، لكن هب أنه لا يفكر فيها أحد فإن الشاعر يقول:

    وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه

    فإذا عودها أبوها وعودتها أمها على الملابس القصيرة فلربما لا نعرف النقطة التي نستطيع أن نميز بها بين الصغر والكبر، فيوم أو يومان أو سنة أو سنتان لا تكون فاصلاً بين الصغر والكبر، فما هو الفاصل؟

    الفاصل: أن يتربى الطفل على الحشمة وعلى الحياء منذ أيام طفولته، حتى إذا كبر يكون الحياء خلقاً من أخلاقه. والله أعلم.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756317905