إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [134]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من قواعد الشرع منع ما كان وسيلة وذريعة إلى محرم، خاصة ما كان وسيلة إلى الشرك، وذلك حماية لجناب التوحيد، ومن ذلك أنه منع المدح الذي قد يفضي إلى الغلو.

    1.   

    وجوب سد الطرق التي تؤدي إلى الشرك

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك].

    قوله: (باب: ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك) يريد بهذا أن يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما وضح عبادة الله إيضاحاً تاماً جاء بما يحمي هذه العبادة عن أن يدخلها شيء من النقص الذي ينقصها أو يكون وسيلة إلى شيء مما يذهب كمالها، هذا هو مقصوده.

    و(الحمى) هي: جوانب الشيء، والطرق التي يدخل منها إليه، فسد الرسول صلى الله عليه وسلم الطرق الباطلة، ومعنى هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضح عبادة الله إيضاحاً كاملاً، كما أنه وضح وسائل الشرك وبينها ونهى عنها وحذر منها، وهذا كثير جداً في سنته صلوات الله وسلامه عليه، وقد مر معنا أشياء من ذلك، فلما قال له الرجل: ما شاء الله وشئت، قال له صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده) ومعلوم أن له صلى الله عليه وسلم مشيئة، وأنه يتصرف بمشيئته، ومع هذا نفى ذلك، ونحو ذلك الحديث السابق الذي فيه أن رجلاً من الصحابة آذاه منافق فقال: قوموا بنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله) ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستطيع أن يأمر بقتله، ولو قال لأحد الصحابة: اقتله؛ لأسرع مبادراً إلى قتله، بل لتسابقوا إلى ذلك، ولكن أراد صلوات الله وسلامه عليه أن يمنع الوسائل التي يمكن أن يدخل معها إلى ما لا يجوز، ونحو ذلك أشياء كثيرة جداً بينت في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    حكم المدح

    قال الشارح رحمه الله: [حمايته صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص، وهذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم كقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) وتقدم].

    هذا منها، يعني: التمادح في الوجه وكون الإنسان يمدح آخر مقابلاً له نهى عنه صلوات الله وسلامه عليه.

    والإطراء معناه: تجاوز الحد الذي حده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو: المبالغة في المدح، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) وفي رواية: (لا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله إياها، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله)فحذر صلوات الله وسلامه عليه عن المدح الذي يدعو المادح إلى أن يتجاوز الحق.

    والمدح نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في وجه الممدوح، وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احثوا في وجوه المداحين التراب) يعني: إذا جاءك من يمدحك في وجهك فينبغي أن تحثو في وجهه تراباً، وتقول: هذا جزاؤك؛ لأن المدح فتنة، والنفس تحب أن تمدح، حتى إن كثيراً من النفوس إذا مدحت تستأنس بالمدح، وإن كان ما قيل ليس صدقاً، فتجده يقول: لعله صدق، وهو يعرف من نفسه أنه ليس كذلك!

    فيستأنس بهذا ويميل إليه، ثم فيما بعد يصبح يحب هذا، والذي لا يمدحه لا يعطيه حقه، كما لو كان الممدوح مسئولاً على أمر عام على المسلمين، فإذا مدح عمل الواجب عليه، وإذا لم يمدح ظلم هذا الذي لم يمدحه، ولم يعمل العمل الذي يجب عليه.

    والمفاسد التي تحدث بسبب المدح كثيرة جداً كالظلم، وترك الحق، وارتكاب الباطل، وكذلك حب النفس، بل عبادة النفس، والرسول صلوات الله وسلامه عليه طبيب القلوب، يعلم ماذا يكون أثر المدح، ولما مدح إنسان آخر في مجلسه، قال: (ويلك! قطعت عنق صاحبك، إن كنت مادحاً ولا محالة فقل: أحسبه كذا وكذا والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً) هكذا ينبغي أن يقول.

    أما أن يمدحه في وجهه فهذا -في الحقيقة- شأن المنافقين؛ فهم الذي يأتون يقولون في وجه الإنسان قولاً ثم إذا غابوا عنه قالوا خلافه، وقد عرف الناس أن الذي يمدحك حاضراً يذمك غائباً، ولو أن الناس امتثلوا ما أرشدهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم لسلموا من هذه الورطة، ومن هذه الفتنة والبلية.

    والمدح في الحقيقة مرض اجتماعي يجب أن يعالج بالوسائل التي تزيله أو تقلله، وعلاجه اتباع قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ينهى عن المدح، فإذا رأيت أخاك يمدحك فلا تقره على هذا، بل انصحه، وقل له: إن هذا ما ينبغي؛ لأن هذا فتنة لي ولك، فلا تمدحني، ولا تقل هذا القول. وإن كان المدح كذباً، فسوف يحاسب الله جل وعلا عليه يوم القيامة، وإذا أقررت ذلك فستحاسب كذلك، فيجب على المسلمين أن يتناصحوا فيما بينهم، وأن يتعاونوا على الحق، وألا يكونوا أعواناً للشيطان على الباطل.

    فالمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كل وسائل الباطل، فسدها ومنعها ومنها، الإطراء في المدح، فإذا تكلم الإنسان فيجب أن يتكلم بحق، وأن يتكلم بالشيء الواقع، وإذا كان الكلام في الحاضر قد يجر إلى فتنة فلا يجوز أن يتكلم به، بل يدرأ الفتنة؛ لأن النفوس ضعيفة في الحقيقة، وتميل إلى طلب المدح، وإلى طلب الرفعة، وقد سمي هذا بالشهوة الخفية، وقد جاء التحذير منها، والشهوة الخفية هي: حب الرئاسة والترفع على الناس، وهذه الشهوة الخفية كامنة في النفوس، فكل نفس فيها حب العلو وحب الرفعة، ولكنه كامن فيها، فإذا ترك سكن وقر، وإذا أثير ثار، فلا يجوز إثارته، بل يجب أن تهذب النفوس بالحق الذي جاء به الكتاب والسنة، ولن تتهذب النفوس إلا بهذا.

    زجر المادحين

    قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل)ونحو ذلك، ونهى عن التمادح وشدد القول فيه، كقوله لمن مدح إنساناً: (ويلك! قطعت عنق صاحبك...) الحديث أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه: أن رجلاً أثنى على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (قطعت عنق صاحبك، ثلاثاً).

    وقال: (إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة عن المقداد بن الأسود ].

    وقد امتثل المقداد بن الأسود رضي الله عنه هذا القول، فثبت أنه كان جالساً يوماً عند أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فسمع رجلاً يمدح أمير المؤمنين، فجثا المقداد على ركبتيه، وجعل يحثو التراب في وجهه ، فقال له أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: مالك؟ قال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفعل بالمداحين.

    فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يمتثلون ما أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلنا على أن المقصود به ظاهره، وليس كما قال بعض الشراح: إن معنى قوله: (احثوا وجوههم التراب) يعني: خيبوا طلبهم، فإذا جاءوا يمدحون ويطلبون شيئاً فلا تعطوهم شيئاً، ليس هذا هو المقصود، إنما المقصود هو ما فعله الصحابي رضوان الله عليه ، والرسول صلى الله عليه وسلم أفصح الناس قولاً، وأعلمهم علماً، وأنصحهم للأمة، فإذا قال قولاً فيجب أن يفهم كما قاله صلوات الله وسلامه عليه، ولا تطلب له غرائب المعاني، ولا يؤول، إلا أن يكون هناك نص آخر يعارضه؛ لأن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتعارض.

    1.   

    شرح حديث عبد الله بن الشخير: (انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله...)

    قال المصنف رحمه الله: [عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: (انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا فقال: السيد الله تبارك وتعالى، قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان)رواه أبو داود بسند جيد].

    يقول عبد الله بن الشخير رضي الله عنه: كنت في وفد بني عامر، وهو وفد من الوفود التي وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع من الهجرة، يعني: أن هذا وقع في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (فلما أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: أنت سيدنا. فقال صلى الله عليه وسلم: السيد الله، فقلنا: أنت أفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً -وفي رواية-: أنت سيدنا وابن سيدنا، فقال: السيد الله ، قالوا: أنت خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال: أيها الناس! قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، أنا رسول الله فقولوا: رسول الله)فهذا من الأحاديث التي أراد بها صلى الله عليه وسلم أن يسد الطرق التي يأتي منها الشيطان، وينقص بها عبادة المسلمين، وهذا منه.

    ولا شك أنه صلوات الله وسلامه عليه سيد ولد آدم كما جاء ذلك عنه صلوات الله وسلامه عليه، كما في حديث أبي هريرة الذي في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، أتدرون ما ذلك؟ قلنا: لا، إلا أن تخبرنا فقال: إذا كان يوم القيامة، وجمع الله جل وعلا الناس في صعيد واحد، ألهم الله جل وعلا الناس أن يطلبوا الشفاعة من الله جل وعلا حتى يفصل بينهم، فيذهبون إلى آدم ويطلبون منه ذلك، فيتأخر ويأبى، ثم يذهبون إلى نوح، فيتأخر ويأبى، ثم يذهبون إلى إبراهيم فيتأخر ويأبى، ثم يذهبون إلى موسى فيأبى، ثم يذهبون إلى عيسى فيأبى، ثم يأتون إليّ فأقول: نعم -يعني: أشفع لكم- فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأبقى قدر أسبوع ساجداً ثم يقول لي جل وعلا: ارفع رأسك، واسأل تعط، واشفع تشفع) فيشفع في أن يأتي الله جل وعلا ليفصل بين عباده، وهذا جاء تفسيره بأنه هو المقام المحمود الذي وعد الله جل وعلا أن يبعثه إياه قوله: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] أي: يحمده عليه الأولون والآخرون، حتى قوم نوح، فهو بذلك سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، والسيد في اللغة هو: الرئيس المقدم بالقوم، ولكن كره صلوات الله وسلامه عليه أن يكون هذا طريقاً للشيطان بأن يأتي إليهم ويقول: هو سيدكم، ثم يأتي إليهم ويقول: اسألوه الشفاعة، ثم يتدرج بهم ويقول: اسألوا الرسول وإن كان ميتاً، اسألوه أن يعطيكم كذا، ويشفع لكم بكذا، فيدخل بهم من هذا الباب إلى الشرك، ولهذا منع ذلك صلوات الله وسلامه عليه.

    وقوله صلى الله عليه وسلم: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم)يعني: قولوا لي كما تقولون لبعضكم بعضاً، وقد نهانا ربنا جل وعلا أن ندعوه باسمه، فلا تقول: محمد بن عبد الله، بل أمرنا أن نقول: رسول الله، نبي الله، كما قال جل وعلا: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] يعني: نحن ندعو بعضنا بعضاً بالأسماء، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الله جل وعلا أصحابه أن يدعوه بالنبوة وبالرسالة؛ لأن هذا هو أشرف ما أكرمه الله جل وعلا به، أن جعله نبياً رسولاً، والله جل وعلا أثنى عليه في مقامات الثناء التي أثنى عليه بها في كتابه بلفظ العبد؛ لأن أشرف وصف للإنسان أن يحقق عبودية ربه، والعبادة هي نهاية الذل ونهاية الخضوع للمعبود مع التعظيم والمحبة له، يقول جل وعلا في مقام التحدي: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]فجعله عبداً له، وقال في مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1]، وقال في مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19]، وقال في مقام التنزيل: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1] فهذه المقامات الأربع هي أشرف مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم، والله وصفه فيها بلفظ العبودية، لهذا قال: (أنا عبد الله)، وعيسى عليه السلام لما جاءت به أمه تحمله بعد الولادة، وهو من الذين تكلموا في المهد، فأول كلمة تكلمها وواجه الناس بها أنه قال: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30]، ولما جاءت أمه به تحمله اتهموها كما قال الله عنهم: قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [مريم:27]يعني: أمراً عظيماً جداً؛ كيف تأتين بالولد وليس لك زوج؟! ولهذا قالوا: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:28-29] يعني قالت: كلموه، فتعجبوا قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:29]فالتفت إليهم وقال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30] فأول كلمة قالها: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فالخلق لا يخرجون عن عبودية الله جل وعلا، بل أشرف حال للإنسان أن يحقق مقام عبودية الله جل وعلا، فقوله صلى الله عليه وسلم هنا: (السيد الله) يدلنا على أنه يطلق على الله أنه سيد، وقد اختلف الناس في هذا الإطلاق: فمنهم من منع،وقال: السيد لا يكون إلا من الجنس الذي يضاف إليه، يعني: يقال: سيد ربيعة، سيد تميم، فإذا كان رجل من ربيعة فلا يقال له: إنه سيد تميم، وإذا كان من تميم فلا يقال له: إنه سيد ربيعة، فيقولون: لا ينبغي أن نطلق هذا على الله جل وعلا، والصواب أنه إذا تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم وجب علينا أن نقوله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، وقد صح عن ابن عباس في قوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2]قال: الصمد هو: السيد الذي كمل في سؤدده، وكذلك قال غيره من السلف، وكذلك قال في قوله: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا [الأنعام:164] أي: إلهاً وسيداً، هكذا كان يقول ابن عباس ، ويكفينا قول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، ففيه أنه يجوز إطلاق سيد على الله جل وعلا، ومعنى السيد الذي كمل في جميع صفاته، ولا يجوز أن يطلق على المنافق أنه سيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا للمنافق: سيد، فإنه إن كان سيداً فقد أغضبتم ربكم تعالى).

    حكم إطلاق (السيد) على البشر

    قال الشارح رحمه الله: [قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد: اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر، فمنعه قوم، ونقل عن مالك ، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (يا سيدنا! قال: السيد الله تبارك وتعالى).

    وجوزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (قوموا إلى سيدكم)وهذا أصح من الحديث الأول.

    قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه، فلا يقال للتميمي: سيد كندة، ولا يقال للملك: سيد البشر، قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم، وفي هذا نظر، فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو في منزلة المالك، والمولى، والرب، لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق، انتهى.

    قلت: فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى قول الله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا [الأنعام:164] أي: إلهاً وسيداً ، وقال في قول الله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2]: إنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد، وقال أبو وائل : هو السيد الذي انتهى سؤدده .

    وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار : (قوموا إلى سيدكم)فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواجه سعداً به، فيكون في هذا المقام تفصيل. والله أعلم].

    قوله: (اختلف الناس في إطلاق لفظ السيد على البشر) وقد فصل في هذا، والصواب: أنه يجوز؛ لأن السيد بمعنى المقدم في القوم، وكذلك بمعنى الرئيس، وبمعنى المولى، وما أشبه ذلك، ولكن إذا أطلق على الله جل وعلا فهو بمعنى الرب المالك المتصرف، فهو غير ما يطلق على البشر، إلا أنه لا ينبغي إطلاقه على البشر في المواضع التي منها ألفاظ مشروعة، مثل التشهد في الصلاة، فكثير من الناس يقول: أشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالعبادات توقيفية يجب أن يوقف معها على النص الذي جاء، وأما إطلاقه في غير العبادة فهو جائز، ولا سيما وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، أتدرون ما ذلك؟) ثم ذكر حديث الشفاعة.

    فهذا صحيح ثابت عنه صلى الله عليه وسلم، وأما إطلاقه على الله جل وعلا فله معنى غير هذا، وقد بين الشارح أن معناه: المولى والمالك والمتصرف والرب الذي يربي خلقه بالنعم، وبما يصلح لهم، وما يصلحهم.

    1.   

    مسائل باب ما جاء في حماية النبي حمى التوحيد

    التحذير من الغلو

    قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل:

    الأولى: تحذير الناس من الغلو].

    الغلو هو: تجاوز الحد المشروع، أي: الزيادة على ما شرعه الله جل وعلا سواء كان في الأقوال أو في الأعمال.

    ومعلوم أن النقص الذي يدخل على الناس في دينهم يأتي إما من الزيادة في المشروع أو من النقص منه، وعدم القيام به، فيجب على العبد أن يترسم الشرع، ويتبع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر لابد منه في كل عبادة، فإذا لم تكن العبادة مشروعة فهي فاسدة مردودة على صاحبها، ولهذا يقول العلماء: أصل الإسلام ألا يعبد إلا الله، وألا يعبد الله جل وعلا إلا بما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هذا هو أصل الدين، وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، يعني: لا نتأله بقلوبنا حباً وخضوعاً وذلاً وتعظيماً إلا لله وحده، وتألهنا وعبادتنا لا تكون إلا بأمر الله الذي أمرنا به، فإذا جئنا بشيء غير مأمور فمعنى ذلك أننا ابتدعنا، ويكون عملنا مردوداً كما قال صلوات الله وسلامه عليه: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني: مردود على صاحبه غير مقبول، وغير معتد به، والله جل وعلا يقول في كتابه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:2-5] أخبر أنها تخشع وتنصب وتتعب وتكدح بالعمل، والنتيجة أنها تصلى ناراً حامية! والسبب: أنهم كانوا يتعبدون بالبدع، ويتعبدون بغير ما شرع الله جل وعلا؛ فكان جزاؤهم أنهم في النار، وكل من أراد أن يصل إلى الجنة من غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الباب يؤصد دونه، ويصد إلى النار، فلابد أن تكون العبادة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا نزيد فتكون غلواً، ولا نجفو وننقص فتكون معصية. والعبد يجب عليه أن يلتزم أمر الله جل وعلا، ويتبعه فإن هذا هو الذي جاءت به رسل الله من أولهم إلى آخرهم، ألا يعبد إلا الله، وأن يعبد بالشرع الذي جاءت به الرسل.

    على الإنسان ألا يرضى بالمدح

    [الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: أنت سيدنا].

    أي: لا ينبغي للإنسان أن يعظم نفسه، ولا أن يسترسل مع هوى نفسه ومع المادح الذي يمدحه، وإنما ينبغي له أن يتواضع لله، وأن يخاف أن يزيغ قلبه، وألا يسكت إذا أثني عليه ولا يسترسل مع ذلك؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وإذا تعدى الإنسان طور العبودية فإنه يخشى عليه أن يضل ويزيغ، فينبغي أن يكون الإنسان حذراً، وعادة أهل التقى أنهم يعودون على أنفسهم باللوم والازدراء من غير أن يقصروا، وإنما يرون أنفسهم أنهم ما قاموا بالواجب عليهم لله جل وعلا، فيزدرون أعمالهم ويتواضعون لله جل وعلا، أما إذا كان تصور الإنسان أنه فوق الناس، وأنه عظيم؛ فإن الشيطان يتخذه ولياً له -نسأل الله العافية- ويغره، والعجب بالعمل أو بالنفس طريق لإبطال العمل وإفساده والخروج عن العبودية لله جل وعلا، فإذا قوبل الإنسان بالمدح والثناء فينبغي أن ينهى المادح عن ذلك، ويقول: أنا أعلم بنفسي منك، ولا يسترسل مع من يمدحه، وغالباً أن الذي يمدحك في وجهك يذمك إذا غبت عن وجهه، ينبغي للإنسان أن يكون عوناً لأخيه على التقى وعلى البر، وألا يكون عوناً للشيطان عليه، والنفوس ضعيفة، وكل نفس تحب الترفع، وتحب أن يكون لها المقام الرفيع في نفوس الخلق، فلهذا لا ينبغي للإنسان أن يسترسل مع نفسه في مثل هذا.

    النهي عن الجائز إذا كان يؤدي إلى محرم

    [الثالثة: قوله: (لا يستجرينكم الشيطان)مع أنهم لم يقولوا إلا الحق]. معنى: (لا يستجرينكم الشيطان) أي: يتخذكم جرياً له يعني: مطاياً، يركبكم ويؤزكم إلى ما يريده ويأمر به، مع أنهم قالوا: (أنت سيدنا وابن سيدنا)وهو حق، فهو سيدنا صلوات الله وسلامه عليه، ولكن نهاهم عن ذلك خوفاً من أن يدخل عليهم الشيطان ويزيد في هذا الباب فيتعدوا إلى الغلو الذي فيه الهلكة، كما وقع لكثير من الناس كما سبق التنبيه على هذا.

    تواضع النبي صلى الله عليه وسلم

    [الرابعة: قوله: (ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي)].

    لا شك أن منزلته صلوات الله وسلامه عليه رفيعة، ولكن قصده صلوات الله وسلامه عليه بهذا أن يقولوا: نبي الله، رسول الله، فهذا أفضل ما يدعى به صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن النبوة والرسالة هما أعلى مقام يصل إليه الإنسان، فهو رسول لله جل وعلا كلفه ربه جل وعلا، بإبلاغ وحيه وشرعه، ودعوة خلقه إليه، وهذا هو الذي أراده صلوات الله وسلامه عليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755991405