أما بعــد:
فقد روى الإمام مسلم-رحمه الله- في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} ومعنى يأرز: أي يحن ويرجع، والمقصود بالمسجدين: مسجد مكة ومسجد المدينة.
وروى مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء}.
وروى الإمام أحمد رحمه الله في المسند بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ، فطوبى يومئذ للغرباء إذا فسد الناس، والذي نفس محمد بيده إن الإسلام ليأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها}.
وروى الإمام أحمد أيضاً في مسنده بسند حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده: {طوبى للغرباء، قيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: أناس صالحون في أهل سوء كثير؛ من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم} وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عدد كبير من أصحابه رضي الله عنهم أنه أشار إلى غربة الإسلام، حتى قال بعض العلماء: إنه حديث متواتر يقطع بثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة الذين رووا هذا المعنى عبد الله بن عمر، وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسعد بن أبي وقاص وسهل بن سعد الساعدي وسلمان الفارسي وأبو سعيد الخدري وأبو موسى الأشعري وابن عباس، وأبو الدرداء وأبو أمامة وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك وبلال بن مرداس الفزاري وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن التابعين.
فهو حديث متواتر ثابت ثبوتاً قطعياً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فإن الحديث والكلام في معنى هذا الحديث وفي دلالته أمر مهم لكل مسلم، لأنه إذا تبين لك صحة هذا الحديث، وثبوته ثبوتاً قطعياً بقي عليك أن تعرف ما معنى الحديث.
غربة الأمة المحمدية بين أمم الأرض الكثيرة الكافرة، فإن هذه الأمة قليل بالقياس إلى غيرها من أمم الكفر، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما أنه عليه الصلاة والسلام قال: {إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثم قال: ثلث أهل الجنة، ثم قال: شطر أهل الجنة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ما أنتم في أهل الكفر إلا كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أوكالشامة في جنب البعير، أو كالرقمة في ذراع الدابة} إنهم قليل وقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] كما قال الله عز وجل.
فالمسلمون بين الكفار غرباء، وهذه هي الدرجة الأولى من درجات الغربة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم.
بل قال بعضهم: إن غربة أهل السنة بين المسلمين أشد وأعظم من غربة المسلمين بين أمم الأرض من الكافرين، وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث قال عليه الصلاة والسلام: {إن اليهود افترقوا في دينهم على إحدى وسبعين ملة، وإن النصارى افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة} يعني الأهواء، يقول صلى الله عليه وسلم: {وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه} والكَلَب هو: داء يصيب الإنسان من عض الكلب المصاب، فيسري الداء في عروقه حتى يموت.
{وإنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه؛ لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله} إذاً فـأهل السنة هم الفرقة الناجية من بين ثلاث وسبعين فرقة، وهذا دليل على شدة غربتهم، وقلتهم بين الضالين والمنحرفين، فهذه هي المرتبة الثانية من مراتب الغربة التي أخبر بها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فهذه ثلاث درجات من درجات الغربة، الأولى: غربة المسلمين بين الكفار.
الثانية: غربة أهل السنة بين المسلمين.
الثالثة: غربة الطائفة المنصورة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر بين أهل السنة.
أولاً: أنه كان دينًا وحيداً بين الأديان السماوية التي حرفها أهلها، وبين الأديان البشرية التي اخترعها الناس من عند أنفسهم.
وتعني ثانياً: أن أتباع الإسلام كانوا في بدايتهم عدداً قليلا، حتى كان الواحد منهم يقول: لقد أمسيت وإني ثلث الإسلام، وإني ربع الإسلام، وإني خمس الإسلام، وإني سدس الإسلام، أي أنه لم يكن في وقته إلا خمسة، أو ستة أو أقل من ذلك أو أكثر من المتمسكين بهذا الدين، فاتبأعه كانوا قليلاً.
أيضاً المعنى الثالث من معاني غربة الإسلام الأولى: أن كثيراً من الناس كانوا يجهلون أحكام الدين وشرائعه وعقائده، فكان غريباً بينهم، والذي يعرفه منه قليل، بل أقل من القليل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: { وسيعود غريباً} يحتمل أحد معنيين ذكرهما شيخ الإسلام ابن تيمية في الجزء الثامن عشر من الفتاوى.
المعنى الأول: أن تكون هذه إشارة إلى ما يقع في آخر الزمان بعد عيسى -عليه السلام- حين تأتي الريح الطيبة فتقبض أرواح المؤمنين فلا يوجد في الأرض من يقول: (الله الله) فقبل هذه الريح يوجد مؤمنون ولكنهم قليل، ثم تأتي الريح فتقبض أرواحهم بقدرة الله عز وجل فلا يبقى إلا الشيخ الكبير والعجوز يقولون: لا إله إلا الله أدركنا آباءنا يقولونها فنحن نقولها، وهم مع ذلك لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولا نسك! كما صح ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة ورواه ابن ماجه وغيره بسند صحيح.
أما المعنى الثاني: الذي يحتمله قوله - صلى الله عليه وسلم-: { وسيعود غريباً } أن يكون هذا إشارة إلى ما سيقع في الأمة من ضعف الدين، وانحلال ربقته في كثير من البلدان بعد عصور النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيكون هذا إشارة إلى ما وقع من النقص من تلك الأزمنة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فما هو الخير الكثير الطيب الذي وعدوا به في الدنيا؟
لقد وعدوا في الدنيا بسعادة القلب وسروره وطمأنينته بالإيمان، ووعدوا بأن يقيض الله لهم من يعينهم حتى من أعدائهم كما حصل للمسلمين حين هاجروا إلى الحبشة، ووعدوا أن يزيغ الله قلوب الناس لهم فيطيعونهم كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم حين بايعه الأنصار في رجب، ثم استقبلوه في مدينتهم، ووعدوا بشيء كثير من الخير الطيب في الدنيا، فضلاً عما يجدونه في قبورهم من النعيم، فضلاً عما يلقونه يوم القيامة من الرضوان والجنة والنظر إلى وجه الله الكريم، وهذا كله داخل في قوله: (فطوبى).
وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الشام وأن فيه طائفة منصورة إلى قيام الساعة، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: {وهم بـالشام} وقال في الحديث الصحيح الآخر: {إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم} وقال في حديث آخر حين سئل: أين هم يا رسول الله؟ قال: {بـبيت المقدس وأكناف بيت المقدس} فهو دليل على أن الله عز وجل يُوجِد في الشام قوماً صالحين يحمون الدين، وقد يستغرب بعضكم هذا ونحن نعرف ما نعرف من الفساد في بلاد الشام اليوم، فأقول: إن علم الله عز وجل لا يمكن أن يحيط العباد بشيء منه إلا ما أطلعهم عليه، وقد أخبرهم بعزة المسلمين في الشام.
ولعل ما ترونه اليوم من تجمع اليهود في فلسطين وسطوتهم وعتوهم يكون تمهيداً لما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الملاحم بينهم وبين المسلمين في تلك البلاد، ومن عزة الإسلام في تلك الأرض.
كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن اليمن وقال في الحديث الصحيح: {إني لأجد نَفَس ربكم من قبل اليمن} أي تنفيسه عن المؤمنين وفرجه عنهم كما فسره بذلك ابن قتيبة وابن تيمية رحمهما الله فهذه بعض المواقع التي لا يزال يوجد فيها من يقوم بأمر الدين ويرفع رايته، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، ويصلحون ما أفسد الناس، ويثبتون على الإسلام حتى يلقون الله عز وجل غير مبالين بخلاف المخالفين، ولا نواء المناوئين، ولا خذلان المخذلين، والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر