إسلام ويب

رسالة خاصةللشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • المعصية هي الخطر الذي يتهدد العبد السائر إلىالله، فلعله يكون من أهل الحق والإحسان فينقلب في طريق المعاصي وينغمس فيها بألوانٍ وأشكال فتنـزل عليه المصائب وتحلُّ عليه البوائق ويزوره كل مكروه وما ذلك إلا جزءٌ من العقوبة ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)).

    1.   

    رسالة عاجلة إلى أهل المعاصي

    إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه، بعثه الله تعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فأدى الرسالة، وبلغ الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه، فجزاه الله عنَّا خير ما جزى نبياً عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون.

    أما بعــد:

    فيا أيها الأحبة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم إني أعتذر إليكم عن الحديث في هذه الليلة، ليلة الثالث من رمضان، من هذا العام (1413هـ)، إذ إنني سوف أحاضر أخاً لي أعلمه موجوداً بينكم، بلغني عنه ما لا يحسن ولا يسوغ، ورأيت أن العتاب بين الأحباب يزيد المودة، ويعمم الألفة، ويزيل الوحشة من القلوب، أما أنتم فلستم بالغرباء عنه، ولا هو أيضاً بالغريب عنكم، فهو منكم وأنتم منه، والحديث على كل حال خاص بيني وبينه وليس للنشر.

    أخي الكريم: يا من تجلس بين هذه الجموع، وتستمع إلى هذه الكلمات، وتظن نفسك مستوراً، لقد حدثوني عنك، وأرجو أن يكون ما بلغني عنك غير حقٍ.

    الولوغ في المعصية

    حدثوني أنك والغ في المعصية، حتى صارت المعصية جزءاً من حياتك وشخصيتك وتكوينك، وأنه لو عرف الناس حقيقة أمرك لاجتنبوك وباعدوك، وهجروك وقلوك، وأنك قد أفلحت في تزيين ظاهرك بعض التزيين، أما باطنك فتركته تلعب فيه المعاصي والآثام.

    أصحيح ما بلغني عنك؛ أن المعصية تخايلك حتى وأنت واقف بين يدي الله تعالى في صلاتك؟

    فذهنك شريد، وعقلك بعيد، كلما بحثت عن ذهنك وجدته على شفير زلة، أو على مشارف هاوية، أو قريباً من معصية، أو متأملاً أو متفرجاً.

    أصحيح أن المرأة أصبحت صورةً دائمة بين ناظريك، وصوتاً هامساً يرن في أذنيك، ورسماً مطبوعاً في خيالك لا يفارقك؟

    وإذا صدق الوشاة الذين حدثوني، فأنت تعدُّ ساعات النهار في هذا الشهر الكريم عدَّاً، وتتمنى مضيها وتزجيها بكل سبيل، ساعةً في نوم، وساعةً في شغل، وساعةً في تشاغل، كل ذلك ليقبل عليك الليل، فتنطلق من إسارك وتعمل ما يمليه عليك الهوى.

    إذاً: لقد أصبحت المعصية إدماناً يجري في دمك، ويتخلل في عروقك، ويأكل معك ويشرب، وينام على فراشك ويستيقظ.

    أو حقاً أنك تدير قرص الهاتف تبحث عن فريسةٍ مغفلة سهلة الاصطياد، وتتحمل في سبيل ذلك ألوان الإهانات؟

    فحيناً تسمع صوتاً يلعنك، وحيناً يلعن والديك، وحيناً يصفك بأبشع الأوصاف، وحيناً يطلق عليك مُرَّ الدعوات، وأنت تتحمل ذلك كله في سبيلٍ هدف غير نبيل، وعملٍ غير شريف.

    أو حقاً أنك لا تدع امرأةً تمر بك إلا حدقت فيها بنظرك، وأمعنت فيها ببصرك، حتى يتوارى عنك سوادها ويغرب عنك خيالها، ثم تتبع ذلك بالحسرات والزفرات؟

    فإنك إن أرسلت طرفك رائداً     لقلبك يوماً أتعبتك المناظر

    رأيت الذي لا كله أنت قادر     عليه ولا عن بعضه أنت صابر

    أو حقاً أن أذنك تطرب لصوت فاجر يبثه مذياع، أو يرسله شريط الكاسيت؟

    رويدك لا تغضب

    أخي، هل غضبت حين صارحتك على الملأ، وتحدثت عن حالك في مجلسٍ حافلٍ من الناس، رويدك لا تغضب، فإن فضيحة الآخرة أهول وأطول، وأعظم وأطم: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21] إن امرءاً ربما قدر الله عليه شيئاً من تسرب أخباره، وانتشار أحواله، وتحدث الناس فيما حصل منه، لعله أن يرعوي وينـزجر، إن رادع الإيمان في قلبه لم يفعل فعله، وخوف الله تعالى لم يمنعه عن المعصية، فربما خاف من عقاب المخلوقين، وربما خشي أن يكون عرضه كلأً مباحاً، وحديثاً متداولاً مشاعاً، فردعه ذلك فارعوى وانـزجر.

    ما قلت لك إلا القليل

    ثم إني ما قلت لك مما أخبروني عنك شخصياً إلا أقل القليل، نعم، ولقد أخبروني عنك أنك كنت تبحث بالأمس عما يطفئ الشهوة، ويهدئ لهيبها، أما اليوم فقد انقلبت الآية، واختلف الأمر، فأنت تبحث عن ما يؤجج الشهوة، ويثيرها ويحركها، وينفر مختبئها، ويخرج كامنها، لقد شربت الكأس الأول من المعصية، أو من الشهوة، على لذةٍ ووجدت شيئاً من طعمها، أما الكأس الثانية فهي عادة لا طعم فيها ولا سرور معها، ولكنها أمرٌ أصبح جزءاً من حياتك، وعادةً يصعب عليك أن تتركها.

    إذا كان صحيحاً ما بلغنا أنك في النهار تترقب الليل، أفلا تترقبه للصلاة والقيام، كما يفعل الصالحون؟

    وإذا كنت تترقب الليل أفلا فكرت قليلاً في النهار الذي يتلوه، حينما تذهب اللذة وتبقى الحسرة؟

    إن أهنى عيشةٍ قضيتها     ذهبت لذتها والإثم حل

    وإن اغتفرنا لك -وهيهات هيهات- زمان الصبا، وعمر المراهقة، وفترة الطيش والجهل وغرور الشباب، فكيف ترى يغتفر لك الأمر وهو خطبٌ جلل، وهاأنت قد تجاوزت سن المراهقة، بل وتزوجت وأنجبت ورأيت طفلاً ترجو أن ينشأ نشأةً صالحة، وتحب له الخير، ويسرك أن يكون على أحسن حال، وهاأنت تعيش في بيتك، وتحت سقفك مع زوجةٍ ترجو لها الصلاح، وتحب لها الخير، ولا ترضى أن يظهر منها أنملة، ولا أن يسمع منها همس صوت، ولا يسرك أن يتحدث عن عرضها قريب ولا بعيد.

    أصحيح أنك ترى الخاشعين والباكين والراكعين والساجدين، وأهل الطواف وأهل الاعتكاف، ثم تنظر في قلبك وتتحسس في وجدانك، فلا تجده إلا قاسياً غليظاً كما عُهد؟!

    أيصح عنك أنك صاحب أخبارٍ وأسفار ومغامراتٍ ومقامرات؟!

    أما هجس في قلبك يوماً أن تسقط الطائرة وأنت فيها؟!

    أو تنقلب السيارة وأنت داخلها؟

    أو أن يؤذيك الصداع فيصارحك الطبيب أنها بداية جلطة في المخ أو في القلب؟!

    أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ [النحل:45-48] قال ابن عباس وقتادة: [[في أسفارهم فيصيبهم بالبلاء وهم مسافرون، في جوهم أو بحرهم أو برهم. وقال أيضاً: يأخذهم في منامهم]].

    يا راقد الليل مسروراً بأوله          إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

    وكم من فتىً أمسى وأصبح سالما     وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري

    وقال الضحاك وابن جريج ومقاتل: [[أي يأخذهم في ليلهم ونهارهم، فإن الليل والنهار مطايا، يسلمك الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل]].

    يسر المرء ما ذهب الليالي     وكان ذهابهن له ذهابا<

    التوبة قبل الندم

    ثم إنني أذكرك -أيها الأخ الكريم- وأنت لا زلت عندي بالمحل الأرفع، غير أني أرجو أن يتوب الله عليك، وأن يفتح الله قلبك وأن تراجع نفسك، وأن تجد في هذا الشهر الكريم وأنت تستقبل أيامه وساعاته، فرصةً ثمينة بأن تحدث لله تعالى توبة، فإنه لا يُدرى لعله أن يفجعك الموت قبل نهاية الشهر، أو قبل نهاية العام! وربما -ولا أريد أن أكون صريحاً معك أكثر فأكثر- كان بعض أقاربك الذين يحبونك، ويحبون لك الخير، ويعرفونك ويجالسونك، وأنت تحادثهم وتبثهم مشكلاتك، ربما كان أحدهم رأى فيك رؤيا وشاهد فيك ما ينبئ عن قربِ أجلك، ودنو موتك وأن أيامك معدودة! أفلا تبادر الموت بتوبة نصوح، إن هذا هو الحري بك والجدير.

    1.   

    من آثار الذنوب والمعاصي

    أيها الأخ الكريم: إنني أذكر أننا التقينا يوماً من الأيام، فحدثتني أنت عينك ونفسك، عما تعاني من الكرب، والهم والغم والألم، ولو صدقتك لقلت لك: هذه ثمرات الذنوب، أفلا تتوب؟!

    ولقد نصحتك بالرجوع إلى كتب أهل العلم، وقراءة ذلك الكتاب النفيس الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي للإمام الفذ ابن قيم الجوزية، فاعتذرت مني بكثرة الشواغل والصوارف والعوائق، وأنا أرى أن هذه المشاغل ما صرفتك عن لذاتك وشهواتك، ولا منعتك من أسفارك وأعمالك، ولا حالت بينك وبين من تحبُ وتعشق، ولكنك اثَّاقلت إلى الأرض، ورضيت بالحياة الدنيا عن الآخرة، وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.

    إنني أجد نفسي مضطراً أن أقيم الحجة عليك الآن، في خمس دقائقَ أو قريبٍ من ذلك، وقد أعيتني فيك الحيلة، واعتذرت مني بشتى المعاذير، فها أنا أنقل لك بعض ثمرات المعاصي، فتحسسها في قلبك، واقرأها في دفتر حياتك، وتأملها فيما أصابك مما مضى وما حضر، وانظر عظيم نعمة الله عليك، حيث أمهلك ولم يعاجلك بالعقوبة: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:7].

    حرمان العلم

    أول ذلك: حرمان العلم.

    فإن العلم نورٌ من الله تعالى يقذفه في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور.

    شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي     فأرشدني إلى ترك المعاصي

    وأخبرني بأن العلم نورٌ     ونور الله لا يؤتاه عاصي

    أفلا تذكر أنك كنت تحفظ من كتاب الله أجزاءً، فأين تلك الأجزاء؟! أفلا تذكر أنك في طفولتك كنت المقدم بين زملائك، الممدوح من أساتذتك، وكان يظن أنك ستكون وتكون.. فها أنت أصبحت رماداً بعد أن كنت ناراً!

    أرى ناراً قد انقلبت رماداً          سوى ظل مريض من دخان

    ولكن لا زال الباب مفتوحاً، والاستدراك ممكناً.

    حرمان الرزق

    الثاني: حرمان الرزق.

    قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير [الشورى:30] نعم! أنا أذكر أنك حادثتني عن ديونٍ قد ركبتك، وشغلت ذمتك، وعن غرماء طالما طرقوا بابك، وأذكر -أيضاً- أنك حادثتني عن نقصٍ في رزقك، وشظفٍ في عيشك، وكدرٍ في حياتك، فها أنت تسمع نداء نبيٍ من أنبياء الله نوح عليه الصلاة والسلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:10-14] إن أردت الرزق، أو أردت المال أو أردت ربح التجارة فعليك بالطاعة، وإن أحببت الصحة في بدنك فعليك بالطاعة، وإن أردت الأولاد والذرية فعليك بالطاعة: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12].

    الوحشة وفقدان لذة العبادة

    ثالثها: الوحشة التي تجدها في قلبك بينك وبين الله عز وجل، وفقدان لذة العبادة، التي لا تعدلها لذةً في الدنيا، ولا تقاربها، ولا يشعر بذلك إلا من كان في قلبه بعضُ الحياة.

    لقد دعوتك إلى قراءة القرآن، ولكنك اعتذرت مني بأنك ما إن تفتح المصحف حتى تهجم عليك الهواجس، وترِدُ عليك الواردات، وتشعر بثقلٍ في قلبك، ورغبةٍِ في الراحة أو النوم، وأنك تستثقل قراءة القرآن، فهذا جزاءُ من هجر القرآن، وأعرض عنه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124].

    الوحشة بينك وبين الناس

    الرابع: الوحشة بينك وبين الناس، فإنك عصيت الله عز وجل فجعل الله تعالى عقوبة ذلك وسماً في علاقتك بزوجك، فهي ليست لك كما تحب، وليست لك كما كانت بعد الزواج، حينما كنت صالحاً مستقيماً، وكنت تقوم معها بعض الليل، وتقرأ معها بعض القرآن، وتشترك معها في قراءة الورد صباحاً ومساءً، أما اليوم فالله المستعان!

    فما الناس بالناس الذين عرفتهم     وما البيت بالبيت الذي كنت أعرف

    أما الخيام فإنها كخيامهم     وأرى نساء الحي غير نسائها

    فأنت قد هجرت ذلك كله، وابتعدت عنه، حتى إن أمرتْكَ زَوْجَتُك بالقيام لصلاة الفجر، أو المسارعة إلى الصلاة، وجدت في ذلك ثقلاً، وغضبت عليها، وأرغيت وأزبدت، فأين أنت بالأمس؟!

    أين ذلك الشاب الذي كان يبحث عن فتاةٍ أول شروطها أن تكون متدينة؟!

    إنها الوحشة بينك وبين الناس من أثر المعصية، ولقد قال بعض السلف: إني لأعصي الله تعالى فأرى ذلك في خلق امرأتي ودابتي. وما تجده أيضاً فيمن تعاملهم ويعاملونك من المشكلات والمشاكسات، وتباين وجهات النظر، والقيل والقال، وتغير في الأحوال، إن ذلك كله بعض ثمار المعاصي، والأمر أكبر من ذلك إذا لم تسارع إلى الله تعالى بالتوبة والإنابة.

    تعسير الأمور عليك

    أما الخامسة: فهاأنت ترى أن كثيراً من أمورك تعسرت، فأنت لا تطرق باباً إلا وجدته موصداً في وجهك، ولا أريد أن أضع النقاط على الحروف، ولكن الخبر وتفصيله عندك، كيف وجدت نفسك يوم أن كنت تدرس، وقد أوصدت في وجهك الأبواب، ثم في الوظيفة، ثم في التجارة، ثم في المعاملات الكثيرة التي كنت تديرها مع الناس.

    المعصية الأولى واحدة واليوم بلا عدد

    أما السادسة: فإن المعصية الأولى كانت واحدة، أما اليوم فهي بلا عدد، وأراك ما زلت تطلب المزيد، أو تسعى فيها، إن المعصية تزرع أمثالها، وإذا رأيت على إنسانٍ ذنباً، فاعلم أن عنده إخوانه، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا [يونس:27] فالسيئة تجر السيئة، والحسنة تسبب الحسنة، والإنسان ينضم مع إلفه وشريكه ونظيره، وإن الحسنات والقربات وقراءة القرآن والصلوات والخيرات، لم تجد عندك صدراً رحباً، ولا قلباً واسعاً؛ لأنها وجدت المكان مشغولاً في غير ما يناسبها وما يلائمها، فابتعدت عنك وذهبت إلى من سواك، أما المعاصي فإنها وجدت نظيرها وشريكها.

    ضعف القلب

    أما السابعة وهي أخطرها: فضعف القلب في إرادة الخير، وقوة الإرادة في المعصية، إلى أن ينسلخ القلب بالكلية، وهذا من أعظم الأشياء خطورةً، قال ابن القيم رحمه الله:

    والله ما أخشى الذنوب وإنها     لعلى سبيل العفو والغفران

    لكنما أخشى انسلاخ القلب     من تحكيم هذا الوحي والقرآن

    نعم تلك المعاصي والذنوب أضعفت قلبك فأصبحت لا تنشط للخيرات، إن قلنا لك: أنفق في سبيل الله؛ مددت يدك وأنت ثقيل، فأخرجت ريالاً أو عشرة، ولكنك في المعاصي تخرج الآلاف المؤلفة، لا تحسبها ولا تعدها، وإن قلنا لك: هلم إلى الصلاة، قلت: اليوم أنا مزكوم، وأشعر بثقل في جسدي، وأشعر بحرارةٍ في رجلي، أما إن كنت واقفاً على معصيةٍ أو مستمعاً إلى أغنية، أو مشاهداً لحرام؛ فإنك تقف الساعات الطوال، وتتحرك جوارحك كلها، فالعينان تنظران، ويداك تتحركان، وجسمك يتقدم ويتأخر، وكل جزءٍ من جوارحك مشدود، وأعصابك مهزوزة، فيا ترى ما الذي يجعلك تسرع إلى المعصية وتبطئ بالطاعة؟

    إنه قسوة القلب ومرضه، وإذا لم تسارع بالعلاج لدى الطبيب فيخشى أن يكون الأمر موتاً، فإن القلوب تموت، بل تعدم، قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37] أفترى -أخي- أن قلبك مفقود؟!

    إن هذه المضغة موجودةٌ ولا شك؛ ولكن ما في داخلها من مراقبة الله والاعتبار والاتعاظ ربما غطى عليه الغبار، وربما غلبت عليه الشهوات، فالبدار البدار، فإن الأمر أعجل من ذلك.

    استصغار الذنوب

    أما الثامنة: فما أعظمها! فلقد علمتك بالأمس وأنت ترتكب الذنب الصغير، فتأتي وقد اسود وجهك، وقلصت شفتاك، ودمعت عيناك، وأنت تقول: فعلت وفعلت، فإذا تأملناه وجدناه ذنباً، نعم؛ ولكنه صغير، وربما خرجت منه بتوبةٍ واستغفرت منه، أما الآن وما أدراك ما الآن! فإن قلبك لم يعد يستقبح المعاصي، بل أصبحت عادة، وأصبحت نوعاً من الأنس الذي تهش إليه نفسك، وتشرئب إليه طباعك، وتفرح به وتأنس، فإذا فارقته شعرت بالغربة.

    لقد سترك الله تعالى وأنت تأبى إلا أن تجاهر أمام الناس، وهذا مرتبةٌ خطيرة: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8]

    يقضى على المرء في أيام محنته     حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن

    أين القلب الذي كان يتحدث بالأمس عن الضالين بحسرة لا تعدلها حسرة؟

    وعطف عليهم وحرص على هدايتهم، وتشوق إلى إخراجهم من الظلمات إلى النور؟!

    فها أنت قد أدركتك السُنَّة، ومضت عليك الآية، فأصبحت أحوج ما تكون إلى من يأخذ بيدك من هذه المناطق، ويخرجك من هذه الضلالات، وينقذك مما أنت فيه.

    الهوان على الله

    أما التاسعة: أفلا ترى أن وقوعك في هذه الذنوب وولوغك فيها، ربما أدى إلى هوانك على الله عز وجل، وسقوطك من عينه! لقد هنَّا على الله إن عصيناه، كما قال بعض السلف: هانوا على الله فعصوه، ولو عزُّوا عليه لعصمهم من المعصية، قال الله تعالى: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18] قال الإمام عبد الله بن المبارك:

    رأيت الذنوب تميت القلوب     وقد يورث الذل إدمانها

    وترك الذنوب حياة القلوب     وخير لنفسك عصيانها

    وهل أفسد الدين إلا الملوك     وأحبار سوءٍ ورهبانها

    وقال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر:10] لقد هنت على الله؛ فهُنت على خلقه، فكم لقيت من الأذى والإهانات، وعدم الاعتبار، وأنت تتحمل ذلك كله، أما تذكر يوم كنت داعيةً بالأمسِ أو شبه داعية، أو طويلبَ علمٍ، فقد كان يؤذيك مسح النسيم، ويجرح قلبك الكلام الخشن، أما اليوم فقد تكسرت النصال على النصال، وما أدري أي خطبٍ دهاك، فأنت جبار في الجاهلية خوارٌ في الإسلام!

    يوم كنت داعية كنت لا تتحمل في سبيل ذلك الأذى، أما اليوم فتحملت الكثير دون مقابل، إنها الذلة، قال صلى الله عليه وسلم: {وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري} وقال الحسن البصري رحمه الله: [[إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، إلا أن ذل المعصية في وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه]].

    فساد العقل

    العاشرة: فساد العقل وإطفاء نوره، كما قال بعض السلف: ما عصى الله أحدٌ حتى يصيب عقله، ومن ذلك قول الكافرين كما حكى الله عنهم: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10] أين العقول؟!

    نعم إنها عقولٌ قد أنتجت في الدنيا، وبرعت واخترعت، لكنها غافلة عن الآخرة: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].

    ولعلي أكون مصيباً عندما أكذب خبر الذين حدثوني أنك تعاقر الخمر، وتتعاطى الدخان، وربما تهم بالمخدرات، وقد تركها العقلاء حتى في الجاهلية، وابتعدوا عنها، إذ كيف يشرب الإنسانُ ما يزيل عقله ويذهب بلبه، ويجعله في جملة المجانيين والصبيان؟!

    الخوف من أن يطبع على قلبك

    أما الحادية عشرة فهي: الخوف عليك أن يطبع على قلبك، فتكون من الغافلين، قال الله تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] إن المعصية مع المعصية توجب سواد القلب، فما زال القلب في بياضٍ حتى يطبع عليه بالمعاصي، فإذا عصى العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء، ثم أخرى، ثم أخرى، حتى يكون القلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه!

    أخي الكريم: تحسس قلبك، أفتراه وصل إلى هذه المرحلة؟

    وأسأل الله ألا يكون الأمر كذلك، فإني لك محذِِّر، وعليك مشفق، وأرجو الله تعالى أن يريني منك ما تقر به عينك.

    لعلك تحرم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم

    أما الثانية عشرة فهي: أنني أخشى عليك أن تحرم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعوة الملائكة الكرام الكاتبين عند رب العالمين، وغيرهم الذين يدعون للتائبين، ويدعون للمؤمنين: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غافر:7] أفتراك اليوم وأنت تستقبل الشهر منظوماً في عداد التائبين؟!

    أم تراك من ضمن المؤمنين، أم تراك قد خسرت الأمرين فلم تظفر بهذه الدعوة الكريمة التي هي مضنةُ الإجابة؟!

    احذر أن تدخل في لعنة الله ورسوله

    أما الثالثة عشرة: فهي أعظم من ذلك! أخشى أن تدخل في لعنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد لعن العاصين صلى الله عليه وسلم، لعن آكل الربا وأنت أموالك في البنك الربوي، ولعن شارب الخمر وأخشى عليك منها لأن أصحابك من أهلها، ولعن المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، ولعن السارق، ولعن ولعن....

    ذهاب الحياء

    أما الرابعة عشرة: فذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب، وأصلُ كل خير، وذهابُ الحياء ذهابُ الخير، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {الحياء من الإيمان} وقال: {الحياء لا يأتي إلا بخير} فمن استحيا من الله تعالى لم يعصه، ثم استحيا من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستح من معصية الله تعالى؛ لم يستح من عقوبته يوم يلقاه.

    احذر من أن ينساك الله كما نسيته

    وأخيراً: فإني أخشى أن ينساك الله تعالى كما نسيته، وأن يخلي بينك وبين نفسك. ونفسك ضعيفة أمارةٌ بالسوء، والشيطان أمامك ووراءك وبين يديك، وخلفك، قال: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17]؛ ولكن بقي أمامك طريقٌ واحد وهو الفوق، فإن الشيطان ما قال: ومن فوقهم لأن فوقك الله رب العالمين، يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] وقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].

    فيا أخي الكريم: اسمع داعي الله يقول لك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18-19] نعم، لقد تراجع سيرك إلى الله تعالى والدار الآخرة، وانغمست في الدنيا، وغرقت في الشهوات، وضعت في لججها وبحورها، ولكني أرى فيك بقيةً من خير، وأثراً من حياء، فلعل الله أن يستدركك في ذلك

    فاشدد يديك بحبل الله معتصماً     فإنه الركن إن خانتك أركان

    فاصدق الله تعالى، وامدد يديك إليه، وتمرغ وأنت ساجدٌ لوجهه، وهُلَّ دموع الخوف والندم، عسى الله تعالى أن يعيد قلبك حياً كما كان.

    أيها الأخ الكريم: هذا ما عندي لك، وقد محضتك النصيحة، وإني -والله- أدعو الله تعالى في سجودي أن يرحمك برحمته، ويخرجك من هذه الورطات والهلكات، التي لا مخلص منها إلا بحول الله تعالى وتوفيقه، فأعن إخوانك على نفسك بكثرة السجود، وأسأل الله تعالى أن يتولاني وإياك.

    ثم أيها الإخوة لعلكم تتساءلون: ما الذي يدعوني إلى أن أخاطب هذا الأخ؟

    إنني لا أعرفه ولكنني أعرف أن من بينكم من يكون كذلك، فليتحسس كلٌّ واحدٍ منكم جاره، فلعله هو المخاطب، فإن لم يكن فلينظر بين ثوبيه فربما كان المخاطب بين ثوبيه.

    اللهم اهدنا ولا تضلنا، اللهم اهدنا ولا تضلنا، اللهم اهدنا ولا تضلنا، اللهم أعنا ولا تعن علينا، اللهم انصرنا على من بغى علينا، اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755903497