إسلام ويب

شرح حديث الافتراق [2]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القول بأن من السلفية ترك التمذهب ليس بصحيح، كما أنه يقال: ليس من السلفية لزوم التمذهب، ولكن التمذهب ترتيب علمي لا جدل حوله، فحين يصبح تقليداً لمعين أو لطائفة أو مذهب من أجل الانتصار له فلا شك أنه غلط، أما حين يكون التقليد مبني على الأخذ بالتراتيب العلمية للأئمة فعندها يكون التمذهب جائزاً.

    1.   

    المذهبية

    هنا بعض المسائل التي أحب أن أؤكد عليها تبعاً للمقدمة التي سبق بيانها، وأبرزها مسألةُ المذهبية.

    أقول أولاً: هذا الكلام لا يقصد به التثريب على أحد، فقد تكلم في هذه المسألة بعض الشيوخ الفضلاء، وفي بعض الأحايين يتكلم بهذا أئمة في هذا العصر كالإمام الألباني رحمه الله ، وهو ممن يشار إليهم، بل إنه يعتبر من أئمة السلفيين، فلا يطعن فيه إلا جاهل.

    ولا يلزم أيضاً أن هذا الكلام الآتي سيكون كلاماً للشيخ الألباني رحمه الله ، لكن بعض هذه الاستدلالات تأخذ من الشيخ رحمه الله أو بعض من يقابله من المذهبيين الذين يبالغون في تصحيح المذهبيات وتغليط الشيخ في طريقته.

    الشيخ رحمه الله لم يأخذ مذهباً فقهياً كما هو معروف، وإنما التزم أنه يستدل بحسب ما يظهر له من الكتاب والسنة ولا يخرج عن الإجماع.. وهذا المنهج للشيخ وأمثاله يُعد منهجاً سلفياً شرعياً صحيحاً درج عليه الأكابر من الأئمة، بل هو فضيلةٌ من فضائله رحمه الله: أنه وصل إلى هذا المقام في هذه الأمة في عصره هذا؛ لما عنده رحمه الله من سعة العلم والأصول والتفقه وما إلى ذلك، فهو رحمه الله وإن كان عارفاً بالحديث إلا أنه إمام في الفقه، ولا يجوز أن يؤخر مقامه عن الفقه؛ لكونه لم ينتسب إلى مذهب من المذاهب الأربعة.

    لكن السؤال في تقرير بعض اللوازم من هذه الطريقة: هل هذه طريقةٌ لازمة لآحاد طلبة العلم، أو حتى لعلماء المسلمين في هذا العصر؟

    وأشدُ من ذلك: هل يصح أن يقال عن مجرد انتساب من ينتسب إلى مذهب من المذاهب -الحنبلي أو الشافعي أو المالكي أو الحنفي- أنه انتساب بدعي مخالفٌ للسلفية؟ هذا هو القدر الذي يقصد إلى مراجعته.

    أحياناً مثل هذه المسائل من المهم أن تضبط بالإجماعات وبالاطراد، فإن الاطراد إذا درج لا يمكن أن يكون غلطاً.

    الانتساب إلى المذاهب الأربعة المعروفة: الشافعية... إلخ، والتي استقرت عند المسلمين ابتدأ من القرن الرابع، بمعنى: أن جماهير علماء المسلمين حتى السلفيين منهم -أي: من عقيدتهم ومنهجهم سلفيٌ محض- كانوا إما حنابلة أو شافعية أو مالكية أو حنفية.

    قد يقول قائل: وجد في تلك القرون بعضُ العلماء الذين كانوا يعتبرون طريقة أهل الحديث.. فما الجواب؟

    يقال: ليس المقصود هنا أن نقول أن الانتساب للمذاهب هو الشرعي أو هو المقصود، فإن بقاء طائفة من العلماء في كل القرون السابقة متمسكة بالاستقلال والاستدلال بالأثر، وعدم الاتصال بمذهبٍ ما، أمر لا ينكر، إذا كان القائم به أهلاً له، لكن قد حصل التوارد في الانتساب للمذاهب، وبالقطع الضروري والعلم الضروري أن المتمذهبين أكثر من غير المتمذهبين ولا شك؛ فإن علماء الأمصار أكثرهم متمذهبون.

    وهنا سؤال: إذا افترضنا أنه وجد اطراد في ترك المذهبيات بعد القرون الفاضلة، أو في القرن الرابع وما بعده، فهل أنكر أحد من العلماء السلفيين المعتبرين التمذهب كمجرد انتساب وانتحال؟

    الجواب: هذا ليس له شيوع أبداً.

    إذاً: تحصل من هذا أن ثمة إقراراً عاماً على مبدأ الانتحال.

    وأما الذي يفصل فيه فهو أن التمذهب يراد به أحد وجهين:

    التمذهب المذموم

    الوجه الأول: إما أن يكون تقليداً لمعينٍ أو لطائفة، تقليداً للشافعي أو للشافعية، تقليداً لـأحمد أو للحنبلية، أي: يأتي المجتهد بعد أبي يعلى ليعتبر أقوال أبي يعلى وأقوال أحمد ولا يخرج عنها ويكون مقصوده ومراده الانتصار للمذهب والاتّباع له، فمن كان هذا غرضه وهذا مقصوده فلا شك أنه على مجهد ليس محقق؛ لأن المقصود: الانتصار للحق، والحق ليس محصوراً في الحنابلة أو غيرهم.

    قد يقول قائل: هذا موجود عند الفقهاء وبكثرة.

    نقول: نعم، موجود وبكثرة وبكثرة، وأقول عشر مرات: وبكثرة.. لكن هل هذا يقر؟ لا. لا يُقر.

    إذاً: إذا ما فُسر التمذهب: بأنه التقليد والاتباع والانتصار فهذا لا شك أنه لا يجوز، وهو حرام بالأدلة الشرعية، وبإجماع أئمة السلف الذين نصوا على تحريم اعتبار أقوال الرجال وترك الأدلة.

    التمذهب الجائز

    الوجه الثاني: وهو المقصود بالتمذهب عند المحققين، وهو الأخذ بالتراتيب العلمية للأئمة.

    وإذا قيل: إن ثمة متعصبين من أتباع الفقهاء الأربعة، قيل: ثمة أقوام عندهم اعتدال وليسوا من أهل التعصب.

    وإذا قيل: إذا كانوا ليسوا منتصرين لأقوال الأئمة الأربعة، أو هذا -كـابن تيمية مثلاً- ليس منتصراً لمذهب الحنابلة، إذاً ما معنى أنه حنبلي؟

    نقول: هذه تراتيب علمية.

    إذاً: إما أن يُفسر التمذهب بالتقليد والانتصار والاتباع، فهذا مؤاخذ بإجماع السلف وبالكتاب والسنة، وإما أن يُفسر التمذهب بأنه تراتيب علمية فهذا سائغ، ولا يجوز أن يقال: من استعمله فقد خرج عن السلفية، وإلا يلزم من ينتصر لأقوال عالم -كمن ينتصر لطريقة الشيخ الألباني من تلاميذه- باطراد ما لزم من انتصر للشافعي ومالك .

    وإن قال: لا، أريد منهج الشيخ بشكلٍ عام، وأما الاتباع لآحاد المسائل فيعتبر بالأدلة. فإنه يقال: وهذا هو الذي أراده المحققون من أصحاب الأئمة، وهو ما نسميه التراتيب العلمية.

    المقصود بالتمذهب من باب التراتيب العلمية

    من المعلوم أن الفقه ليس كمسائل أصول الدين، فمسائل أصول الدين مضبوطة بالكتاب والسنة والإجماع فقط -ولابد من الإجماع- أما مسائل الفقه فثمة الأصول الثلاثة لمعرفتها، ولكن هناك قدرٌ واسع من أوجه الاستدلال، أي: إن صريح الكتاب وصريح السنة والإجماع، لا جدل حولها، ونحن لا نجد اختلافاً بين الأئمة في صريح أو إجماع، إلا أحياناً، يكون فواتاً، أي: لم يبلغ، وهذه مسألة أخرى.

    لكن هناك ما يسمى عند الأصوليين بالأدلة المختلف فيها، كالقياس، وأقوال الصحابة، والاستصحاب، والاستحسان.. إلى آخر هذه الأدلة، وسوف نضرب مثلاً باثنين من هذه الأدلة، وهما: القياس، وأقوال الصحابة.

    ما موقف أئمة السلف -بما فيهم الأئمة الأربعة- من القياس وقول الصحابي؟

    النتيجة الضرورية هي: إن تقديرهم لهذين الدليلين ليس تقديراً واحداً، أي: أن استعمال الإمام أحمد للقياس ليس كاستعمال أبي حنيفة أو حتى كاستعمال الشافعي ، واعتبار الشافعي أو أبي حنيفة لأقوال الصحابة ليس كاعتبار أحمد وأئمة الحديث.

    وباختصار: إنه عند مراجعة النظم الفقهي عند السلف نجد أنهم ينقسمون إلى أقسام، فمنهم: فقهاء غلب عليهم الفقه ولم يعرفوا بعلم الحديث والرواية، أي: ليسوا من أربابها المعروفين، وإن كانوا ينسبون إلى أهل الحديث في أصولهم، كـأبي حنيفة ؛ فإنه لم يكن محدثاً، ولم يكن عارفاً بكثير من السنن؛ لأسبابٍ اقتضاها مقامه في الكوفة، ولكنه إمام في الفقه، حتى إن الشافعي يقول: "الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه" ، وقد أثنى عليه مالك وغيره.

    ومنهم: محدثون انشغلوا بعلم الحديث والرواية ولم يشتغلوا بكثيرٍ من الفقه، ليس عجزاً، وإنما لأن الرواية شغلتهم عن الفقه، كما أن أبا حنيفة شغله الفقه عن الرواية.

    وهذا له مثالات: كبعض الأئمة الذين اشتدوا في تتبع الطرق والبحث في العلل وما إلى ذلك كـيحيى بن معين وابن المديني ، وإن كان هذا لا يعني أن ابن معين ليس فقيهاً.. فهو فقيه، لكنه اشتغل بعلم الرواية وغلب عليه علم الرواية عن الدراية.

    ومنهم: فقهاء غلب عليهم الفقه ولكنهم معروفون بقدر من الحديث، وهؤلاء من يمكن أن يسمون "المحدثون من الفقهاء" أو "محدثو الفقهاء" ومن أخص مثالات محدثي الفقهاء: الإمام الشافعي ، فإن مقامه في الفقه أبلغ من مقامه في الحديث، وهذا لا يختلف فيه.

    والعكس: وهو القسم الرابع، فقهاء المحدثين، وهذا له أعيانٌ كثيرون، من أخصهم الإمام أحمد والبخاري رحمهما الله.

    وهذا لا يعني أن الطبقة الأولى لا علم لهم بالحديث، ولا يعني أن المحدثين كـابن معين ليس فقيهاً، إنما يعني: أن ثمة تفاوتاً في طبقات هذا العلم.

    وقد تقدم أنه من المتحقق ضرورةً أن ثمة فرقاً بين الأئمة في تقدير الاستدلال: بالقياس وبقول الصحابي.

    فالإمام أحمد يقدم قول الصحابي على القياس.

    وهناك من الأئمة من قال: يصار قبل قول الصحابي إلى القياس.

    وهناك من قال: يصار إلى عمل أهل المدينة قبل هذين.

    فهذه التراتيب تراتيب مختلفة، فإذا ما جاء علماء من بعد الأئمة، ونظروا في أصول أحمد فوجدوا أنه يرتب الأدلة بهذا الشكل: الإجماع والكتاب والسنة ثم قول الصحابي، ووجدت طائفة أن أبا حنيفة يقول: ثم القياس، ووجدوا مالكاً يقول: ثم عمل أهل المدينة، والإمام أحمد لا يعتبر الاستدلال بعمل أهل المدينة بنفس درجة مالك ، ولا يعتبر القياس كـأبي حنيفة ، وأبو حنيفة لا يعتبر قول الصحابي كـأحمد .. فإذا تخير العالم بعد هؤلاء تراتيب علمية له ليطردها في مسائله الفقهية، فإذا تكلم في مسألة في الطهارة، أو الصلاة، أو الحج، أو الديات، أو الجنائز، أو القضاء، أو الشهادات والهبة.. إلخ، يكون له منهج مطرد: أن القياس يقدم على قول آحاد الصحابة، أو أن قول الصحابي يقدم على القياس.. فإن هذا هو الذي يعطي الأقوال الفقهية اطراداً.

    ولذلك من يبطل المذهبية في هذا العصر ويقول: الكتاب والسنة والإجماع، نقول له: لم تكن التراتيب المذهبية من أجل مسألة الكتاب والسنة والإجماع؛ لأن هذه مسألة متفق عليها، لكن السؤال: إذا جئت بعد الكتاب والسنة والإجماع -أي: بعد ظواهر الكتاب والسنة والإجماع- فإنك تجد مسائل كثيرة مبنية على أقوال الصحابة، ومسائل مبنية على القياس.. إلخ، فبماذا سوف تأخذ؟

    إذاً: المراد بالتمذهب هو هذا الوجه: الترتيب العلمي.

    إذاً: ليس من الممنوع أن العالم يقول: أنا أقدم طريقة الإمام أحمد أو منهجه الفقهي على منهج الشافعي ، أو يقول: أنا حنبلي. على هذا الاعتبار، فإن هذا غير مخالف للسلفية، بل هو انتصار لقول من أقوال السلف، كما أنه لو ظهر لفقيه أن الإمام أحمد أصاب في مسألة واحدة من مسائل الفقه فانتصر له، فإنه لا يعتبر مخطئاً؛ فكذلك إذا ما نظر في تراتيب الأئمة في العراق، في الحجاز، في الكوفة، في بغداد... إلخ، وظهر له من تراتيب الأئمة جملة من التراتيب، لما بعد الأصول المنضبطة -وهي الكتاب والسنة والإجماع- فقدم تراتيب الشافعي على أحمد ، فهذا معنى أنه شافعي، لكن إذا ما زاد وبدأ ينتصر لآحاد أقوال الشافعي ، ويهجر السنن فهذا على ضلال، لكن يبقى أصل التراتيب لا بأس به.

    هذا هو المقصود بالتمذهب السائغ ولا نقول المشروع.

    خطأ بعض أهل السنة في مسألة التمذهب

    وبهذا: يظهر أن القول بأن من السلفية ترك التمذهب ليس بصحيح، كما أنه يقال: ليس من السلفية لزوم التمذهب، ولكن التمذهب ترتيب علمي لا جدل حوله، لكن إذا زاد عن القدر الترتيبي والترجيحي السابق كان غلطاً، كما أن هذا قد يقع عند غير المتمذهبين بالمذاهب الأربعة.

    ولكون هذه النظرة استقرت عند بعض المعاصرين، حيث بدءوا يعتبرون في استدلالاتهم الفقهية الكتاب والسنة والإجماع فقط، ومن هنا تفرع عندهم -أحياناً- القول بأن هذه المسألة -وهي مسألة فقهية متنازع فيها- سنة سلفية.. ومن السلفية كذا. وترتب على هذا أن لم يفعل ذلك -عندهم- فهو متمذهب.. متعصب.. مقلد.. مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. ويلزم من هذا أن ينطبق هذا الكلام على إمام هذه المقالة من المجتهدين الأوائل، اللهمَ إلا إذا كان المعاصر أو الطالب المتأخر يقلد هذا تقليداً محضاً وهو يرى أن الدليل بخلافه، فهذا مقام آخر لا جدل حوله.

    القصد: أن بعض الشيوخ الفضلاء وطلبة العلم من السلفيين المعاصرين، لما رفضوا التمذهب بدءوا يصيرون في استدلالهم إلى الكتاب والسنة والإجماع، وبالطبع ضاق عليهم الاستدلال في مسائل الفقه؛ لأنه ليس كل مسألة فقهية عليها دليل صريح أو حتى ظاهر من الكتاب والسنة، فضلاً عن الإجماع، مما أدى إلى حاجتهم إلى قياس، أو أقوال الصحابة... إلخ، ولهذا تغلب عليهم الطريقة التي يقدمها ابن حزم رحمه الله ، وتقديمه إياها فرع عن مذهب سابق لـداود بن علي ، وهي مسألة البراءة الأصلية واستصحاب الأصل؛ ولذلك نجد أنهم يرجعون كثيراً من المسائل التي لا دليل عليها من الكتاب والسنة، والإجماع إلى البراءة الأصلية، فإن كانت عادات قيل: الأصل الحل، وإن كانت عبادات قيل: الأصل براءة الذمة.

    وهذه الطريقة التي يستعملها ابن حزم أقل ما يقال فيها: أنها مذهبية؛ لأنها إما أنها مذهبية من ابن حزم ، وابن حزم ليس أشرف من الشافعي ومالك وأحمد ، وإما أنها مذهبية من داود بن علي ، وداود بن علي وإن عاصر الإمام أحمد إلا أنه ليس أجل من الأئمة الأربعة، بل جميع الأئمة الأربعة أجل فقهاً من داود بن علي رحمه الله.

    فلابد لطالب العلم -ولا سيما السلفي- أن يعتبر مثل هذه الإدراكات: أن عند ابن حزم أثراً ظاهرياً، وهو إنما نقل عن داود بن علي أصولاً عامة في الاستدلال، ثم قام بشرحها، وأحياناً قد يكون تجاوز في شرحها، فليس بالضرورة أن يكون شرحه قد صرح به داود بن علي .

    وهو -أي: ابن حزم - إمام، قد أجمع المتأخرون على إمامته، ولم يطعن فيه إلا متكلف ومتعصب من المذهبيين، وكتابه المحلى لا يستغني عنه طالب العلم أبداً، لكن على طالب العلم أن يترفق في قراءة كلام الإمام ابن حزم رحمه الله ؛ لأنه يأخذ عقل القارئ -ولا سيما عقل المبتدئ- إلى لزومات يرى أنها من صريح السنن وهي ليست كذلك، ويمكن أن يقال: إن المبتدئ لا يبتدئ بكتب ابن حزم ، وإنما يقصد إليها بعد تعديه لمرحلة الابتداء.

    الشيخ محمد بن عبد الوهاب والمذهبية

    إذاً: التمذهب الذي ليس على تعصبٍ وانتصار مطلق ليس غلطاً، بل هو أمر سائغ ليس بمشروع، ولا يجوز أن ينقسم السلفيون إلى قسمين: هؤلاء مذهبيون وهؤلاء ليسوا بمذهبيين، حتى قيل عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: إنه سلفيٌ العقيدة ليس سلفي المنهج.

    وهذا القول غير صحيح؛ لأنه ما كان حنبلياً متعصباً.

    قد يقول قائل: إنا سبرنا أقواله فلم نجد له خروجاً عن المذهب الحنبلي أو عن روايات أحمد .

    فيقال: الكلام عن المذهب الحنبلي موضوع طويل، وقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إني تأملت المسائل فلم يظهر مسألةٌ فيها رجحان من الكتاب والسنة إلا ولـأحمد فيها رواية في الجملة" . فقد يظهر للباحث أن الراجح أو ما يراه راجحاً، أنه خلاف المذهب الحنبلي، لكن عندما يعود إلى روايات الإمام أحمد أو ما ذكره الأصحاب من رواياته كصاحب الفروع أو الإنصاف، في الغالب -لا نقول: دائماً في الفروضات الجدلية- أن الإمام أحمد رحمه الله يكون له رواية.

    فالشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لم يخرج عن روايات أحمد ، إلا أنه قال كلمة تبين أنه ليس متعصباً، وإنما متمذهب على التراتيب العلمية فقط.

    من المعلوم أن أجل كتابين عند الحنابلة المتأخرين في ضبط المذهب الحنبلي هما الإقناع والمنتهى، فما اتفق عليه صاحب الإقناع والمنتهى يقول المتأخرون عنه مباشرة: هذا مذهب الإمام أحمد ، ولهذا تفاصيل ليست مهمة عندنا الآن.

    لكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقول: "أكثر ما في الإقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد ونصه" .. فهل هذا القول يصدر عن متعصب؟

    فالقصد: أن طلبة العلم من السلفيين لا ينبغي أن يختلفوا على مثل هذه المسائل، وأن يكون فيها خفضٌ ورفعٌ ليس على هديٍ سالف، بل لابد من ضبط الأمور، وكل من خرج عن هدي صاحب الرسالة البين، قيل: خرج عن السنة والجماعة.

    هذه المقدمة بتوابعها كان لابد منها، وينبغي أن يجري فيها نقاشٌ معتدل ومتحرر ومنصف ومنضبط.

    عدم الإنكار على المتمذهبين وغير المتمذهبين

    كما أنه يراعى الشيخ الألباني وطريقته ينبغي أن يراعى مئات من الأئمة درجوا على التمذهب، وفي المقابل لا ضرر ولا ضرار، أي: لا يزاد ويغلط الشيخ رحمه الله بأنه خرج عن المذاهب الأربعة كما يقوله بعض المتمذهبين؛ حيث يقولون: إن من أخطائه أنه لم ينتسب إلى واحد من المذاهب الأربعة.. ومن قال: إنه يجب على المسلم أن ينتسب إلى واحد من المذاهب الأربعة؟! بل إن من المسائل المختلف فيها: هل يلزم العوام هذا الانتساب أو لا يلزمهم، فضلاً عن الأكابر كالشيخ رحمه الله ؟! بل إن من فضائله أنه قرر الدلائل وقرر ما اعتقده وذهب إليه في مسائل الفقه من ظاهر السنة والكتاب..إلخ.

    ومما يقرب هذه المسألة للفهم: أن هناك أصولاً أو كلمات -وهذا يرجع بنا إلى مسألة تحصيل مذهب السلف بطريق الفهم- سلفية، إما قالها أئمة سلفيون قدماء، أو قالها أئمة محققون في السنة كـابن تيمية رحمه الله ، لكنها تحتاج إلى فقه، وأضرب لذلك مثلاً شائعاً:

    يقول ابن تيمية رحمه الله: "ما انعقد سببُ فعله زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم لم يفعله، ففعله بعده من البدع والمحدثات.." فهذه كلمة قالها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وذكرها الشاطبي أيضاً في تقريره لمسألة السنة والبدعة.

    فماذا نقول عن هذه الكلمة؟ هل هي صحيحة أو خطأ؟

    كمقدمات في المسائل المجملة المحتملة الصادرة من أرباب العلم المعتبرين: نقول: صحيحة، وهذه ليست قضية مشكلة، لكن المشكل هو فقهها.

    فهذه كلمةٌ صحيحة من شيخ الإسلام ابن تيمية ، لكن يأتي أحياناً بعض الترتيب لها عند بعض الشيوخ، وأحياناً يرون أن هذا الترتيب لزومي.

    مثلاً: وضع مكان للنساء في المساجد، يقولون: لقد انعقد سببه زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد كان النساء يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يصلين اليوم، ولا سيما في بعض الأمصار، كما في حديث عائشة رضي الله عنها في البخاري وغيره: (كان نساء المسلمات يشهدنّ صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) .

    فهل جعل النبي صلى الله عليه وسلم مكاناً مختصاً بهن؟ أو هل وضع جريداً من النخل أو رواقاً ساتراً؟

    الجواب: لا. لم يضع شيئاً.

    فقالوا: إن سبب الفتنة بالنساء موجود في الرجال، سواء كانوا صحابة أو غير صحابة، وإن كان الصحابة -لا شك- أزكى وأطهر وأبعد عن الفتنة وعن النظر إلى النساء، لكن أيضاً كان يحضر الصلاة أحياناً حُدثاء عهد، وأعراب، وكان يحضر الصلاة من هم من أهل النفاق، والمرأة في الإسلام -حتى في زمن الصحابة- مأمورة بالحجاب، وهو لم يقل لها: لا تتحجبي أمام الورعين من الصحابة.

    المهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، فيأتي بعض الفقهاء اليوم ممن يأخذ كلام شيخ الإسلام رحمه الله بترتيب لزومي، فيقول على قاعدة شيخ الإسلام : إن وضع مكان في هذا العصر للنساء بدعة. ويأتي بمثل هذه التراتيب المتكلف فيها.. وهذا ليس بصحيح.

    أنا أقول: الإمام ابن تيمية رحمه الله الذي قال هذه الكلمة له مسائل في الفتاوى أذكر جملةً منها:

    حكم استخدام السبحة للتسبيح، لقد انعقد سبب التسبيح في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، لكنه كان يسبح بأصابعه أو بأنامله، وكان من الممكن أن تستعمل مثل هذه الأدوات، كالأحجار أو الخرز أو غيرها، ومع ذلك لم يفعل صلى الله عليه وسلم ذلك، فعلى هذه القاعدة أن التسبيح بالسبحة بدعة، ومع ذلك عندما سئل الإمام ابن تيمية عن مسألة التسبيح بالسبحة، قال: "إن التسبيح بها إذا لم يكن على قصد الرياء أو هجران ما جاءت به السنة من الأصابع والأنامل، فالتسبيح بها حسن" . فهو لم يقل: جائز، بل قال: حسن، بشرط ألا يكون رياءً ولا يكون هجراناً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: أين كلامه السابق، وتطبيق هذه القاعدة؟

    لا يمكن أن يكون شيخ الإسلام متناقضاً في تقريره.

    وأشد من هذا: حكم تلقين الميت في قبره: هذه المسألة من المسائل التي أغلقها الشارع إغلاقاً شديداً، فهي مبنية على قاعدة سد الذرائع، وهي كذلك ليس له أصل، وزيادة على ذلك هي مسألة مخالفة للعقل؛ لأن الملكين حين يقولان للميت: من ربُك؟ وما دينُك؟ هل القضية قضية أنه يسمع أحداً فيقلده؟ لا. قد يكون هذا الميت يقول هذه الكلمة وفصيحاً فيها، لكنه إذا لم يكن مؤمناً حقاً يعاي عنها في مقام الابتلاء والفتنة.

    إذاً: التلقين مخالف حتى لمبادئ العقل، ومقاصد الشارع من الافتتان الذي يقع في القبر، ومع ذلك لما سُئِلَ ابن تيمية عنها قال: "وهذه المسألة فيها للفقهاء ثلاثة أقوال: منهم من استحبها، ومنهم من أجازها، ومنهم من نهى عنها إما نهي تنزيه أو نهي تحريم. قال: وقد كان واثلة بن الأسقع يرخص في هذا، قال: والصحيح أنها جائزة، وإذا قيل فالنهي عنها فهي مكروهة وليست بمحرمة". ثم قال: "ومع هذا فإنه ينبغي ترك ذلك، وليس هذا من السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم " .

    إذاً: هو أبعد المسألة عن البدع والتحريم، فقد قال: إنها جائزةٌ، ثم رجع وقال: وإذا نهي عنها فهذا نهي كراهة، وإن كانت مع ذلك ليست من السنة، ولا ينبغي أن يصار إليها...إلخ، وكان من المفترض على القاعدة السابقة: أن يقول: هذا بدعة أو من المحدثات.

    وهناك أمثلة أخرى لـشيخ الإسلام في هذا لا يتسع المقام لذكرها.

    والقصد من هذا أن جملته السابقة لما قال: "ما انعقد سببه...". هي جملة مجملة ينبغي أن تنزل تنزيلاً مناسباً للنصوص، أما أن تجعل كقاعدة -إن صح التعبير- رياضية مطردة، وتُبدَّع كثير من الأقوال والأفعال على هذه الطريقة.. فهذا فيه تكلف، فإن شيخ الإسلام قد خالف هذا الافتراض أو هذا الفهم في كلامه نفسه، ولا يمكن أن يكون متناقضاً في تقريره للأصول والتفريع عليها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756231533