أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.
لقائي معكم اليوم حول ملحوظة لاحظتها في حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث مشهور جداً يا إخواني! الحقيقة أن هذه الملحوظة حيرتني وأوقفتني فترة طويلة أمام الحديث أتفكر وأتدبر، الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً) ، الحديث مشهور جداً ومتفق عليه، ويحفظه تقريباً عامة المسلمين.
فيا ترى ما هو الذي حيرني في هذا الحديث؟ تعالوا كذا نفكر سوياً، فالإسلام صرح هائل وبناء عظيم ضخم، فيه عدد مهول من التشريعات والقوانين والأحكام، نظام حياة كامل، ودستور كامل ينظم معاملة المسلم مع ربه، ومعاملة المسلم مع أسرته وجيرانه وأقاربه وأصحابه، حتى مع أعدائه، بل مع كل الناس، الإسلام فيه تشريعات لا حصر لها، يتيه الإنسان في تدبر الكم الهائل من القوانين والأحكام في هذا الدين العظيم، هذا البناء الضخم هو الإسلام.
لكن من كل هذه التشريعات اختار الله عز وجل خمسة أمور فقط، جعلها أساساً لهذا البناء الضخم، قال: (بني الإسلام على خمس) ، كل شيء بعد هذا يبنى فوق هذه الخمس، ولو واحدة من هذه الخمس وقعت وقع البناء الضخم كله.
إلى الآن لا شيء محير، لكن المحير الآن أن يكون الحج هو أحد هذه الأعمدة التي يبنى فوقها الإسلام، لماذا الحج بالذات هو المحير؟ لأن الحج عبادة لا يكلف بها المسلم أو المسلمة إلا مرة واحدة في العمر، وفي حال الاستطاعة، يعني: الذي لا يستطيع لن يحج، وهناك ملايين من المسلمين على مر العصور لم يحجوا أصلاً؛ لعدم الاستطاعة، سواء كانت عدم استطاعة مالية أو صحية أو أمنية أو غيرها، وحتى الناس الذين حج كثير منهم يحج مرة واحدة في العمر، والإنسان يعيش ستين سنة أو سبعين سنة في المتوسط: (أعمار أمتي بين الستين والسبعين).
إذاً: الواحد في هذا العمر الطويل لا ينفق في هذه العبادة إلا أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، أو قل: شهراً أو شهرين، والآن نسمع عن الحج السريع والحج الفاخر والمريح، فإنك تؤدي فريضة الحج في أسبوع بالكثير، تنزل في فندق عشرة نجوم، فتكون أقرب للحرم من أهل مكة نفسها، لكن المهم أن الموضوع كله بالقياس إلى عمر الإنسان في الأرض بسيط جداً، سواء كان حجاً سريعاً أو حجاً بطيئاً.
فلماذا يختار الله عز وجل هذه العبادة العارضة في حياة المسلم ليجعلها أساساً لهذا الدين، وعموداً من أعمدة الإسلام، وليس مطلوباً منك هذه الفريضة إلا مرة واحدة في العمر وفي حال الاستطاعة! وإن لم تكن مستطيعاً فليس عليك شيء؟!
الأمر يا إخواني يحتاج إلى وقفة وتدبر، قلت: لا بد أن الحج يؤثر على حياة الإنسان بكاملها في الأرض، أي: هناك فوائد تتحقق في الحج وتغير من حياة المسلم الذي أدى هذه الفريضة، بحيث تكون هذه الزيارة العارضة لبيت الله الحرام سبباً في صلاح الفرد رجلاً كان أو امرأة، ومن ثم يستطيع تطبيق بقية شرائع الإسلام، ومن ثم أيضاً يصلح الحج؛ ليكون ركناً من الأركان التي يبنى عليها الإسلام قلت هذا الكلام، لكن واجهتني قضية أخرى، وهي:
إن كان هذا صحيحاً في حق الحاج والحاجة فما بال أولئك الذين لم يستطيعوا الحج لأي عذر وهم ليسوا بالقليل؟ ولماذا يجعل الله عز وجل الحج من أساسات الإسلام الرئيسية، وهناك طائفة كبيرة جداً من المؤمنين لم يقوموا به مع كونهم مؤمنين؟ ومع كونهم راغبين فيه ومشتاقين إليه؟ قلت: من المؤكد أن هناك فائدة ما تعود على عموم الأمة سواء كانوا من الحجاج الذين يحجون كل سنة، أو من الحجاج الذين يحجون مرة واحدة فقط في العمر، أو حتى من الناس الذين لم يحجوا أصلاً ولن يستطيعوا أن يحجوا.
من المؤكد أن الحج ليس للحجاج فقط، الحج يفيد الأمة كلها، ومن أجل هذا جعله الله ركناً أساسياً في بناء الإسلام، فيا ترى ما هي مقاصد الشريعة في موضوع الحج؟ بمعنى: ما هي الغاية من الحج؟ وما هي الفوائد المتحققة والآثار الناتجة عن الحج؟
تعالوا نبحث ونفهم لماذا الله سبحانه وتعالى اختار الحج؛ لكي يكون من أعمدة الإسلام؟
وجدت آية في كتاب الله عز وجل تقول: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:27-28].
الحج فيه كما قال الله عز وجل: ( منافع )، وكلمة منافع كلمة شاملة عامة، لا أعتقد أنها تقتصر على المنافع التجارية والمالية فقط، فبعض المفسرين والدعاة يقصرون كلمة المنافع على التجارة، فعندما تذهب لتحج يمكنك أن تقوم ببعض الفوائد التجارية، فتشتري من التجار هناك وتبيع، يعني: أمور التجارة بصفة عامة، لكن الحقيقة قصر المنافع على التجارة فقط فيه تحديد غير مقبول للنص، وفيه تجن شديد على هذه الكلمة العامة الشاملة، وبالذات في هذا الزمان الذي نعيش فيه، فرزق المسلمين هناك من البترول في يوم أو يومين يعادل تجارة الحج كلها، وبالذات لو أخذت في الاعتبار أن المنفعة الحقيقية في تجارة الأيام هي هذه، فإنها تعود للصين وهونغ كونغ واليابان ولا تعود لبلاد المسلمين.
إذاً: تعالوا نفكر في منافع الحج الرئيسية.
الحقيقة أنا أعتقد أن أهم منفعة في الحج هي أنه يذكر الأمة كلها ليس الحجاج فقط بيوم القيامة، فالشبه كبير جداً بين الحج وبين يوم القيامة، فالحج يمر بأكثر من موقف يذكر بيوم القيامة، فإن الحاج يعود فيحكي لكل الناس هذه المواقف، فيتذكر الناس جميعاً يوم القيامة، ولن تجد أحداً في الأمة كلها لا يعرف حاجاً أو أكثر حجوا وعادوا يحكون عن حجهم، وربنا سبحانه وتعالى ألقى محبة الحج في قلوب كل المسلمين، فتجد معظم المسلمين عندهم حرص شديد على أن يحجوا، وعندهم حرص شديد على أن يودعوا الحجاج وهم ذاهبون للحج، وعندهم حرص شديد على أن يستقبلوا الحجاج ويزوروهم ويسمعوا منهم، ويكون فعلاً موسم الحج موسم تذكير بمنافع الحج للأمة كلها وليس فقط للحجاج.
فمن أهم المنافع كما قلنا تذكير الأمة بيوم القيامة، قبل أن نقول: ما هو وجه الشبه بين الحج وبين يوم القيامة؟ لا بد أن نقول: إن معظم الفساد والمعاصي والضلال الذي يحصل في الأرض؛ يحصل لأن الناس نسوا أن هناك يوماً اسمه يوم القيامة، أو أن هناك يوماً اسمه يوم الحساب، سيحاسب فيه كل واحد على كل عمل عمله في الدنيا، منذ أول لحظة من لحظات التكليف إلى لحظة الموت، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [ص:26]، لماذا ما هو سبب الضلال؟ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص:26]، فنسيان يوم الحساب كارثة ومصيبة، ولو أن الناس تذكروه لحلوا كل مشاكل الأرض؛ لذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم من أول يوم نادى فيه بدعوته في مكة ذكر بهذا اليوم قال: (والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن على ما تعملون، وإنها لجنة أبداً، أو نار أبداً).
فبالله عليك لو كنت تتذكر يوم الحساب فعلاً هل سيصير حالك هو حالك المعهود، أم أنك ستعيد النظر في ألف موقف مر بك؟ فالحج صدمة صدمة كبيرة تفيق الأمة كلها بسببه، وتوقظها من النوم وتذكرها بالذي نسيته كثيراً، فلو أن واحداً تذكر أنه سيحاسب هل سيرتشي؟ هل سيظلم؟ هي سيسرق؟ هل سيختلس؟ هل سيعق والديه؟ هي سيتعدى على حقوق زوجته أو أولاده أو جيرانه أو أصحابه أو حتى الناس الذين لا يعرفهم؟ لا أعتقد أنه سيفعل ذلك إذا كان عنده يقين بيوم الحساب، فصلاح الأرض في تذكر يوم الحساب.
الحج تذكرة علنية واضحة صريحة قوية لكل المسلمين أن هناك يوماً سنرجع فيه إلى الله، وكأن الحج يقول: استيقظ يا مسلم! استيقظ يا مؤمن! لا توجد لحظة في حياتك إلا وهي تسجل: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29].
كيف يذكرنا الحج بيوم الحساب؟ سبحان الله! من أول يوم فكرت فيه أن تحج والحج يذكرك بيوم الحساب:
أولاً: كل مسلم يريد الحج يجمع النقود على النقود حتى يجمع نقود الحج، ويتحرى الحلال في كل ما يجمع، ثم يذهب يتفق على الحج فيدفع عشرة آلاف مثلاً، أو خمسة عشر ألفاً مثلاً، أو عشرين ألفاً أو أكثر، فالعملة كما ترون مستمرة في الزيادة، والموقف يتأزم.
فالحاج يدفع كل ذلك وهو راض سعيد، وينفق كل هذه النفقة في سبيل الله، وقد لا يستطيع جمع هذا المبلغ إلا بمشقة بالغة ينفقه وهو سعيد؛ لأنه سيؤدي فريضة الله سبحانه وتعالى، وسيهاجر إلى الله سبحانه وتعالى، وسيرجع إلى الله سبحانه وتعالى، وانتبه للكلمة التي يقولها الحاج من ساعة خروجه للحج إلى حين عودته، يقول: لبيك اللهم لبيك. أي: راجع إليك يا ربنا! ذاهب إليك يا ربنا!
وكذلك فإن الذي سيذهب للحج يبدأ في استرضاء كل الناس الذين يعرفهم، وكان بينه وبينهم خلاف أو نزاع، فيقول: يا ترى هل هناك أحد أخطأت في حقه فأعتذر له؟ يا ترى هل هناك حق عندي لأحد فأرجعه إلى أصحابه؟ يا ترى هل هناك ديون علي فأسددها قبل أن أحج؟
فالحاج يا إخواني! كأنه يستعد تماماً ليوم الحساب، يجمع زوجته وأولاده ويوصيهم ويذكرهم ويعلمهم، فيقول: وأنا لست موجوداً اعملوا كذا كذا، ولو حصل كذا اعملوا كذا، فيتصرف وكأنه لن يعود، وحين يذهب للحج يخرج الناس ليودعوه أفواجاً كبيرة، فيتذكر الناس جميعاً أن هناك يوماً سيخرج الناس لتوديعه لكن من غير عودة، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، فيتذكر الحاج أو الحاجة كل هذا الكلام، ويتذكر الذين يودعونه أيضاً هذا الكلام، بل إن ملابس الحج بالنسبة للرجال تذكر الناس جميعاً بيوم القيامة؛ فلباس الحج يكون فيه عري نسبي للرجال، فأنت تكشف كتفك في الحج؛ لكي يذكرك بالعري الكامل يوم القيامة؛ ولكي تتذكر الصورة التي ستكون عليها يوم الحساب.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً، قلت: يا رسول الله! النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال صلى الله عليه وسلم: يا
وبعد أن تذهب إلى الحج تعيش في جو أشبه ما يكون بيوم القيامة، فالحاج والحاجة يحسان بهذا الجو، والأمة كلها تحس معهم بهذا الجو، وينسى الناس كلهم الدنيا تماماً، فلا يوجد الآن إلا عبادة وطاعة واستغفار ودعاء ورجاء لله عز وجل، الناس جميعاً في الحج وقوف وفي زحام شديد، وكلهم واقفون في مكان واحد، وهكذا يحشر الناس في مكان واحد يوم القيامة، إذ ينادي عليهم المنادي: هلموا إلى ربكم -يا رب سلّم- فيقوم كل الناس لرب العالمين، قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا [طه:108]، فكل الناس وقوف في الحج وكل الناس وقوف يوم القيامة، قال تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24].
والناس في الحج في حر وعرق شديدين، وكذلك يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، جاء في البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم)، يا لطيف! يا رب سلم! والأمر لا يقتصر على ساعة أو ساعتين، بل إن الأمر شاق، والسفر طويل، كما أن الحج هو العبادة الوحيدة التي يتفرغ لها المسلم أياماً متتالية.
وكذلك يوم القيامة يوم طويل، قال تعالى: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [الإنسان:10]، ففي بعض التفسيرات أن اليوم القمطرير: هو اليوم الطويل.
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: مائة سنة، وقال كعب : بل ثلاثمائة سنة، وقال غيرهم: خمسون ألف سنة.
فالمهم والمؤكد أنه يوم طويل عسير يحتاج إلى استعداد واهتمام وترتيب.
وهناك أشياء أخرى كثيرة في الحج تذكرك بيوم القيامة، فالسعي بين الصفا والمروة يذكرك بالسعي يوم القيامة؛ قال تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج:43]، فالناس يوم القيامة يذهبون إلى آدم عليه السلام، ثم يذهبون إلى نوح عليه السلام، ثم يذهبون إلى إبراهيم عليه السلام، ثم يذهبون إلى موسى عليه السلام، ثم يذهبون إلى عيسى عليه السلام، ثم يذهبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنت حين تذهب وترجع في الصفا والمروة تتذكر يوم القيامة الذي ستذهب فيه وتعود إلى الأنبياء، وتسألهم أن يشفعوا لك في أن يحاسب الناس، إما إلى جنة وإما إلى نار، حتى زيارتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت ليست من مناسك الحج الرئيسية إلا أن كل الحجاج يزورون رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الزيارة تذكرك أيضاً بأن الله سبحانه وتعالى سيجمعك في يوم ما مع الحبيب صلى الله عليه وسلم، فتسلم عليه وعلى أصحابه، وتصلي في الروضة الشريفة وهي من رياض الجنة، جو رائع جميل يخرجك تماماً من الدنيا، ويجعلك تعيش في الآخرة.
كل حاج وحاجة يحكي عن الحج كل هذه المعاني، مهما تعب ومهما كان الحج عليه صعباً، يعود وهو يتمنى أن يعود للحج مرة أخرى، ويعود إلى البيت الحرام مرة أخرى، ويعود لعرفات مرة أخرى، كما أنه يتمنى أن يعود لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، وكل حاج أو حاجة ينقل كل هذه المعاني لكل من يعرف، والأمة كلها تعيش يوم القيامة كل سنة مرة، كما أن الأمة كلها ستعيش يوم القيامة الحقيقي بعد ذلك، فيا ترى لو أن الأمة تذكرت يوم القيامة بالصورة هذه، سيصير حالها بأي صورة؟ وسيصير وضعها بأي شكل؟
الآن بعدما رأينا العلاقة بين الحج ويوم القيامة نستطيع أن نفهم لماذا الله سبحانه وتعالى بدأ سورة الحج بالتذكير بيوم القيامة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2]، فالقرآن ليس فيه شيء عشوائي أبداً، كل كلمة فيه لها معنى، قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].
كنت أستغرب وأقول: لماذا الله سبحانه وتعالى يبدأ سورة الحج بالتذكير بيوم القيامة بدلاً من التذكير بأهمية الحج؟! لكن بعد الذي قلناه عرفنا أن الله شرع الحج لكي يذكرنا بيوم القيامة، وليس الغرض من الحج أنك تكل وتتعب فيه لا، قال تعالى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء:147]، لكن الغرض هو مصلحتك في الدنيا وفي الآخرة، فلو تذكرت يوم القيامة لصلح كل شيء في حياتك، وفوق ذلك آخرتك أيضاً ستصلح.
إذاً: هذه منفعة من منافع الحج، ومنافع الحج لا تحصى ولا تعد، وليس المجال في هذه المحاضرة يسمح لنا أن نحصي منافع الحج بكاملها، بل في الحقيقة نحتاج إلى محاضرات كثيرة حتى نتدبر معاني الحج.
المنفعة الثانية: ترسيخ فكرة الأمة الواحدة عند المسلمين، فالحج مؤتمر إسلامي عالمي مهيب، يلتقي فيه المسلمون من كل أقطار الأرض، وهذا يزرع في المسلمين شعور الأمة الواحدة، وهذا بلا شك من أعظم منافع الحج، وبالذات في هذه الأزمان التي رأينا فيها التفكك الشديد بين المسلمين، نسأل الله عز وجل أن يوحد صفوف المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
المنفعة الثالثة: المسلم بعد الحج يفتح صفحة جديدة تماماً مع الله عز وجل، فالحاج يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، مهما كان ارتكب من المعاصي قبل ذلك، وهذا يعطي أملاً كبيراً لكثير من عصاة الأمة، فإن كثيراً من المسلمين لا يلتزم بهذا الدين؛ من شدة إحباطه ويأسه لكثرة ذنوبه، تاريخه تاريخ طويل مع المعاصي.
فالحج يفتح صفحة جديدة للمسلمين، ولا شك أن هذا سيكون له انعكاس على الأمة الإسلامية بأسرها؛ لأنك في كل يوم وفي كل سنة ستكسب أفراداً جدداً يضافون إلى قوة وطاقة الأمة الإسلامية.
المنفعة الرابعة: الحج يربي الحجاج، ويربي الأمة كلها على اتباع أوامر الله عز وجل دونما جدل ولا اعتراض، فلا يشترط المؤمن معرفة الحكمة كي يتبع أمر الله عز وجل، لماذا الطواف؟ لماذا هو سبع مرات؟ لماذا تقبيل الحجر؟ لماذا الحلق؟ لماذا هيئة اللباس هكذا؟ لماذا الرمي بتسع وأربعين حصوة أو سبعين حصوة؟ فهذه تفاصيل قد لا تجد إجابة عن معظمها، المقصود فيها: أن تقول سمعنا وأطعنا، فالواجب عليك عندما تعود من الحج وكذلك بقية الأمة المؤمنة بالحج أن تتعلم أن تقول: سمعنا وأطعنا لكل أمر من أوامر الله سبحانه وتعالى، فإن قال لك: اترك الربا فقل: سمعاً وطاعة، وإن قال: اترك الرشوة فقل: سمعاً وطاعة، اترك الغيبة قل: سمعاً وطاعة، اترك الموالاة للكافر قل: سمعاً وطاعة، وهكذا مع كل أوامر الإسلام، ولو زرعت النقطة هذه في قلوب المسلمين فالحمد لله، هذه هي نجاة الدنيا ونجاة الآخرة.
المنفعة الخامسة: المساواة بين طوائف المسلمين المختلفة، معنى في منتهى الروعة: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، فالكل سواسية كأسنان المشط، الغني بجوار الفقير، والحاكم بجوار المحكوم، والكبير بجوار الصغير، والمصري بجوار الباكستاني وبجوار النيجيري وبجوار الشيشاني وبجوار الفلسطيني، لا قبيلة ولا عنصرية ولا اختلاف في الهيئة الخارجية ولا في المناسك ولا في المكان ولا في الزمان، الناس سواسية كأسنان المشط، معنى من أهم المعاني البنائية لأمة الإسلام.
المنفعة السادسة: التذكير بالحرب الدائمة مع الشيطان عند رمي الجمرات، فالحرب قديمة قدم خلق البشر، والحرب الباقية بقاء الدنيا: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، تذكير للمؤمنين بعدوهم القديم والأكبر، بعدوهم الذي يعد لهم كل يوم ألف عدة، ويغفل عنه كثير من المسلمين، فالحج تنبيه من هذه الغفلة وإيقاظ للأمة بكاملها، نسأل الله عز وجل أن ينصرنا عليه في كل الميادين.
المنفعة السابعة: الحج يرسخ كل معاني التضحية في قلوب الحجاج، فالتضحية بالمال، إذ إنه يجمع الأموال الكثيرة ليؤدي فريضة الله عز وجل، والتضحية بالوقت الطويل، والتضحية بالجهد، والتضحية بمتع الحياة المختلفة، ولن ينصر هذه الأمة إلا من تدرب على التضحية بكل معانيها، تضحية بكل شيء في سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل، والحج من أعظم المدارس في ذلك.
المنفعة الثامنة: التقشف، الحج تدريب على البعد عن ترف الدنيا ونعيمها في اللباس والسكن والأكل وغيره، فالناس الذين يبالغون في رفاهية الحج ويصرف فيه مبالغ طائلة، وينعم إلى أكبر درجة -هؤلاء لم يفقهوا هذا الدرس وهذه المنفعة، فالأمة المترفة لا يكتب لها نصر أبداً، هذه منفعة من أهم منافع الحياة.
المنفعة التاسعة: الحج يعلمنا لين الجانب وهدوء النفس وترك الجدال، قال تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، فلو أن الأمة تربت على أنها تكظم غيظها وتصلح ذات بينها، وتتجنب الجدال فهذا والله لسبيل واضح من سبل النصر والتمكين.
المنفعة العاشرة والأخيرة في هذه المحاضرة وليست الآخرة؛ لأنه من المستحيل لأي إنسان أن يحيط علماً بحكمة الله عز وجل، المنفعة العاشرة: هي التجارة، تبيع وتشتري وتستفيد وتفيد: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، وليس في هذا شيء طبعاً، ولكن ينصح ألا ينفق الحاج وقته الثمين في تجارة كثيرة، فوقت الحج في منتهى الأهمية، فليس من المرغوب فيه أن تضيع ساعات كثيرة في أشياء من الممكن أن تعملها في أي مكان آخر في الأرض غير مكة.
فتلك يا إخواني! عشرة كاملة. نسأل الله عز وجل أن ينفعنا وينفع الأمة جميعاً بها إن شاء الله.
نعود مرة أخرى للموضوع الذي كنا نتكلم فيه، وهو أن الله سبحانه وتعالى اختار الحج كركن أساسي من أركان الإسلام، ركن يبنى عليه الإسلام كله؛ وذلك لكل المنافع التي نحن قلناها منذ قليل، وهناك منافع أخرى كثيرة جداً، وكلما تدبرت آيات الله عز وجل وأحكامه، فإنك ستخرج بمعانٍ جديدة، فهو شرع محكم مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1].
أظن أننا فهمنا لماذا الله سبحانه وتعالى اختار الحج كركن أساسي من أركان الإسلام؛ لأنه لو تحقق الحج كما ينبغي لأقيمت كل شرائع الإسلام كما ينبغي، وهذا والله خير الدنيا والآخرة، فالحجاج يعيشون مع كل هذه المعاني، ثم ينقلونها إلى بقية الأمة.
إن الله عز وجل أراد من غير الحاج أن يعيش نفس المعاني التي يعيشها الحاج سبحان الله! ليس عن طريق السماع فقط، بل عن طريق الفعل أيضاً، فالله شرع لك أعمالاً تجعلك تعيش في نفس الجو، وهي أعمال تشبه الأعمال التي يعملها الحجاج، وفي نفس التوقيت الذي يحج فيه الحجاج.
أنا طبعاً لا أقصد أن تذهب إلى السويس أو الغردقة وتقول: لبيك اللهم لبيك، ولكن أقصد أعمال البر والطاعة، وهذا ليس كلامي، بل هو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام) يقصد االعشر الأولى من ذي الحجة، (قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟!) انتبه مع السؤال، فقد كان الجهاد عند الصحابة أعلى شيء (قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله) ، يا ألله! ثم استثنى صلى الله عليه وسلم فقال: (إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع بشيء من ذلك) .
فهذه الأيام العشر فرصة لكل المؤمنين في الأرض، فرصة لأولئك الذين لم يوفقوا للحج، فالله سبحانه يعلمنا ماذا نعمل فيها، ففي نفس الوقت الذي يحج فيه الحاج ويؤدي المناسك، كذلك وأنت في بلدك بعيد عن مكة مئات أو آلاف الأميال تحصّل من الأجر ما لا يتخيل، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم جعله أعلى من الجهاد، إلا أن تبذل النفس بكاملها والمال بكامله في سبيل الله.
فهذه الأيام العشر أعظم أيام في السنة، وهذه ليست للحجاج فقط، بل هي لعموم الأمة؛ لكي يعيشوا مع إخوانهم الحجاج نفس الجو الإيماني الرائع.
إذاً: نحن لا بد أن نستغل هذه الأيام أقصى استغلال، ولكي تحج تماماً انتبه أن تضيع منك دقيقة واحدة، استغل كل لحظة بحسنات، واعمل لنفسك ورد محاسبة في كل يوم، وحاسب نفسك وذكرها بيوم الحساب.
خذ عندك بعض الأعمال التي ممكن تعملها، وأتمنى أن تسجلهم معي بالورقة والقلم، وتعملوا الحاجات هذه من أول يوم في ذي الحجة إلى أن تنتهي هذه الأيام العشر على أحسن خير إن شاء الله:
أولاً: صيام التسع الأول من ذي الحجة، أما اليوم العاشر فهو يوم عيد الأضحى والصيام فيه محرم، فحاول أن تصوم التسع الأول من ذي الحجة، فإن فاتك صيامها فلا يفتك صيام يوم عرفة؛ لأن يوم عرفة هذا في منتهى الأهمية، إذ يكفر الله به ذنوب سنتين كاملتين، أي: سنة ماضية وسنة مستقبلة، كما روى ذلك مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه وأرضاه.
وإن من أعظم بركات الحج أن الله عز وجل يغفر ذنوب الحجاج جميعاً، وأكثر ما يعتق الله من الرقاب يعتقها في يوم عرفة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة)، فالحاج يكفر الله ذنوبه في عرفة، وغير الحجاج الصائمون في يوم عرفة يكفر الله ذنوبهم وهم في بلادهم على بعد مئات أو آلاف الأميال عن مكة، وهذه نعمة من الله عز وجل.
ثانياً: صلاة الجماعة بالنسبة للرجال في المسجد، والصلاة على أول وقتها بالنسبة للنساء، وهذا من الواجب أن يكون طوال السنة، لكن الشيطان يغلب المسلم أو المسلمة ويحرمه أو يحرمها الأجر الكثير لصلاة الجماعة أو للصلاة على أول وقتها، والله سبحانه وتعالى من رحمته بالمؤمنين جعل لهم مواسم يشتاق فيها المسلم للعبادة، ويتقوى عليها بحيث يتدرب على ما كان يصعب عليه في غير هذه الأوقات، كشهر رمضان، وكالعشر الأوائل من ذي الحجة، فهي فرصة ليس فقط لتحصيل كم هائل من الثواب، ولكن للتعود والتدرب على هذه الفضائل طوال السنة، وليس فقط طوال السنة، بل طيلة العمر إن شاء الله.
وقبل أن أترك هذه النقطة اعلم أن صلاة الفجر من أهم الصلوات التي يجب أن يحافظ عليها المؤمن الصادق والمؤمنة الصادقة، وهذه الأيام العشر فرصة لأن نتعلم كيف نحافظ عليها، وفضل صلاة الفجر عظيم جداً، ويكفي أن سنة الفجر خير من الدنيا وما فيها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بالكم بصلاة الفرض؟ والذي يريد تفصيلاً أكثر يرجع لمحاضرة: كيف تحافظ على صلاة الفجر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن صلاة الجماعة بصفة عامة: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح)، والحديث في البخاري ومسلم ، فماذا تريد أكثر من هذا؟
ألسنا نحسد الحجاج على وعد الله لهم بالجنة؟ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، هذا حديث رائع! لكن أنت لديك الفرصة وأنت في بلدك، فلا تتعلل بأنك لا تستطيع أن تحج، فإنك كلما ذهبت إلى المسجد أعد الله لك بيتاً في الجنة ذاهباً وعائداً (كلما غدا إلى المسجد أو راح).
ثالثاً: الإكثار من صلاة النافلة، فالحجاج لديهم فرصة ضخمة لتحصيل الأجر من الصلاة في البيت الحرام والصلاة في الحرم النبوي، لكن الله سبحانه وتعالى لم يحرمك من فرصة زيادة الحسنات عن طريق صلاة النافلة وأنت في بلدك، بل وأنت في بيتك، فعليك أن تشعر تماماً كأنك في الحج وأنت في هذه الأيام العشر، فالحاج لا يضيع أي وقت وهو في مكة؛ لأن كل صلاة يصليها بمائة ألف صلاة، أيضاً أنت لا تضيع وقتك وأنت في هذه الأيام وستجد حسنات كثيرة لا تتوقعها، مثال ذلك: قيام الليل، قيام الليل بالذات في هذه الأيام له أجر خاص ووضع خاص، كثير من المفسرين يذكرون أن الله عز وجل عندما أقسم قائلاً: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، يعني بها: هذه الليالي العشر من أول ذي الحجة، فقم وصل في الليل بقدر ما تستطيع، واسأل الله الذي أنت تريده.
ففي الصحيحين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)، فيا الله! تريد ماذا أكثر من هذا؟! الله سبحانه وتعالى هو الذي يتودد إليك، وهو الذي يطلب منك أن تذكر له حاجتك، أليس عندك مريض وتتمنى أن يعافى؟ أو عندك امتحان وتتمنى أن تنجح فيه؟ أو عندك مشكلة وتتمنى أن تحل؟ أو ترى ظالماً وتتمنى من الله أن يرده عن ظلمه؟ أو لك حق وتتمنى من الله أن يعيده إليك؟ أليس عندك شيء من هذه الأشياء؟! طيب. ألا تريد مالاً؟ ألا تريد صحةً؟ ألا تريد زوجةً؟ ألا تريد أولاداً؟ يقول الله لك: (من يسألني فأعطيه).
كذلك أليس عندك ذنب تتمنى أن يغفره الله لك؟ من منا ليس عنده ذنب؟ (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، ألسنا نحسد الحجاج؛ لأن الله يغفر لهم كل الذنوب؟ إذاً: فالله يعطيك هذه الفرصة كل ليلة، فهو يسألك ويقول لك: (من يستغفرني فأغفر له)، فأنت فقط استيقظ واستغفر الله وهو سيغفر لك من غير أن تدفع عشرين ألف جنيه أو أكثر وتذهب لتحج، وليس معنى هذا: أن الناس يتركون الحج، فالحج من أعظم العبادات في الإسلام، لكن أنا أقول لعموم المسلمين الذين لم ييسر الله لهم فرصة الحج لأي ظرف كان، إن الله أعطاكم بدائل عن الحج، فهناك أناس في وقت الحج يحصلون على أجور تقارب أجر الحج، بل والله ربما يكون أجره أعلى، وذلك إذا كانت النية خالصة تماماً لله، والاشتياق حقيقي للمغفرة وللعمل الصالح.
ثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رض الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بالمدينة أقواماً)، قال هذا الكلام وهو راجع من غزوة تبوك، (إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم)، يا سبحان الله! هم قاعدون في المدينة، لكنهم يأخذون أجر المجاهدين في سبيل الله، فتعجب الصحابة وقالوا: (يا رسول الله! وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر)، فأنت قد تتمنى أن تحج حجاً حقيقياً، وتكون مشتاقاً للحج، ومشتاقاً للمغفرة، فانتبه أن تضيع هذه الفرصة.
وليست النافلة فقط قيام الليل، بل بقدر ما تستطيع أد نوافل أخرى، كالسنن القبلية والبعدية لكل الصلوات.
واسمع هذا الحديث الرائع: عن أم حبيبة رضي الله عنها أم المؤمنين قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة).
تفسير هذا الحديث في رواية الترمذي عن أم حبيبة رضي الله عنها أنها: اثنتان قبل الصبح، وأربع قبل الظهر، واثنتان بعد الظهر، واثنتان بعد المغرب، واثنتان بعد العشاء. فهذه اثنتا عشرة ركعة.
وانظر إلى أزمة البيوت التي نحن نعيشها الآن، وفكّر معي لو أن أحد الملوك وعدك أنك لو فرغت له نصف ساعة يومياً فإنه سيعطيك بيتاً واسعاً على النيل، فيا ترى هل ستفرغ له نصف ساعة أم لا؟ فقد تقول سأفرغ له عشر ساعات أو عشرين ساعة أو أفرغ عمري كله.
كذلك الله سبحانه وتعالى -ولله المثل الأعلى- لو فرغت له نصف ساعة في اليوم لتأدية هذه النوافل فإنه سيبني لك بيتاً في الجنة ليس على النيل وإنما في الجنة، تريد ذلك أم لا تريد؟ فالمسألة هي مسألة إيمان، ومن كان عنده يقين في وعد ربه لن يفرط في ذلك.
إن النوافل كثيرة، ومن الممكن أن تقوم بها في هذه الأيام العشر، وهي تدريب لك لكي تستمر عليها طيلة العمر، فتعود على صلاة الضحى، وعلى سنة الوضوء، وعلى صلاة الحاجة، وصلاة الاستخارة، وصلاة التوبة، صلِّ صلوات لله تطوعاً، صلِّ عن الصلوات التي فاتتك في عمرك، واجعل هذه الأيام العشر هجرة كاملة إلى الله عز وجل.
رابعاً: ذكر الله عز وجل، فالذكر في هذه الأيام له وضع خاص جداً، فالله سبحانه وتعالى يقول: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203]، أي: في هذه الأيام.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28]، قال: هي أيام العشر.
فهذا أمر مباشر بذكر الله عز وجل، وكل أنواع الذكر محمودة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)، هؤلاء هم الذين سبقوا، وأنواع الذكر كثيرة: سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، لا إله إلا الله، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، لا حول ولا قوة إلا بالله، وأي ذكر آخر.
لكن في هذه الأيام هناك أنواع معينة من الذكر يستحسن أن تكثر منها في هذه الأيام بالذات، منها مثلاً: التهليل، والتكبير، والتحميد، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كما جاء في مسند أحمد والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما: (ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر -وهي الأيام العشر الأولى من ذي الحجة- فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد).
والتكبير بالذات له قيمة عالية جداً في هذه الأيام العشر، فقد كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما.
من الأذكار الهامة أيضاً في هذه الأيام أذكار الاستغفار، فأنت تشعر أن الجو العام في موسم الحج بصفة عامة سواء للحجاج الذين كتب الله لهم الحج في ذلك العام أو لأولئك المجتهدين في العبادة في الأيام العشر الأولى من ذي الحجة هو جو المغفرة والرحمة والتوبة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحجاج والعمار وفد الله إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم).
إذاً: فرصة في هذه الأيام أن نستغفر الله عز وجل، فالاستغفار سهل، والمهم أن تهتم به.
من صيغ الاستغفار المشهورة: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، فلو أنت شغلت نفسك بالاستغفار في طريق تمشيه طوله مائة متر فقط ستحصل على أكثر من مائة مرة استغفار، واعلم أن الله سبحانه وتعالى لما طلب منك أن تذكره طلب منك أن تذكره كثيراً بقدر ما تستطيع. قال تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، وقال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
إذاً: هذا الأمر الرابع الذي يجب علينا أن نعمله في الأيام العشر الأولى من ذي الحجة، وهو الذكر الكثير وبالذات التكبير والتحميد والتهليل والاستغفار.
خامساً: الدعاء. فالرسول صلى الله عليه وسلم رفع من قيمة الدعاء حتى قال كما جاء في سنن أبي داود والترمذي : عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (الدعاء هو العبادة)، سبحان الله، وإذا كان الحجاج عندهم فرص لدعاء لا يرد في مكة، كالدعاء في الطواف، وفي الركن اليماني، وفي السعي بين الصفا والمروة، ويوم عرفة، وعند الشرب من زمزم، وعند رمي الجمرات وبعد رمي الجمرات، مواطن كثيرة يقبل الله عز وجل الدعاء فيها من حجاج بيته، إذا كان كل هذه الفرص متاحة للحجاج، فالله عز وجل لم يحرم عموم الأمة من فرص إجابة الدعاء في غير مكة.
من ذلك: الدعاء في الثلث الأخير من الليل، وهناك فرصة تكون أقرب وأقرب من ذلك، وهي عند السجود في أي مكان في الأرض، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء).
وعلى العموم ادع الله سبحانه وتعالى في أي وقت وفي كل ظرف ومناسبة، فهذه الأيام العشر أيام عظيمة وشريفة، وسيكون الدعاء فيها إن شاء الله أكثر قبولاً من غيرها من الأيام، ففرصة كبيرة لعموم المسلمين.
سادساً: قراءة القرآن. نعمة كبيرة جداً أن يمنّ الله عز وجل عليك بأن تحب قراءة كلامه سبحانه وتعالى، فهي نعمة أكبر من أي نعمة أخرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ القرآن ولك بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف).
فما رأيكم أن نختم القرآن في الأيام العشر الأولى من ذي الحجة، أو لا نقول: الأيام العشر؛ لأن اليوم العاشر هو يوم العيد، إذاً: تختمه في التسع الأيام الأولى من ذي الحجة، هل هذا صعب؟ نعم صعب، لكن ليست مستحيلة، ألم تكن تريد أن تفرغ أسبوعين كاملين لكي تحج؟ فاعتبر نفسك أنك ستحج هذه السنة، وفرغ كل يوم ساعتين فقط لقراءة القرآن، فإنك ستستطيع أن تختم القرآن إن شاء الله في الأيام التسع الأوائل، وتخيل الكم الهائل من الحسنات التي ستحصل عليها في هذه الأيام، الحرف بعشر حسنات وهذا على الأقل، والله عز وجل يضاعف لمن يشاء، وهذه أيام مباركة عظيمة قد يضاعف الله عز وجل لك في الحسنات، فيصير الحرف بعشرين بثلاثين بمائة بسبعمائة أو أكثر، فهو الكريم سبحانه وتعالى.
إن القرآن فيه ثلاثمائة وواحد وعشرون ألف حرف، اضرب ذلك في عشر حسنات، فلو ختمت القرآن في هذه الأيام العشر فإنك ستحصل على أكثر من ثلاثة مليون حسنة، أليس هذا خير كالخير الموجود في الحج والعمرة، وفي غيرها من الأمور التي شرعها الله عز وجل، كل هذا تعمله وأنت في بلدك في بيتك.
نسأل الله عز وجل القبول لنا أجمعين.
سابعاً: الوحدة بين المسلمين، فإذا كان الحجاج ذاهبين ليتعرفوا على المسلمين من كل أقطار الأرض، فأنت عندك فرصة أن تقوي من أواصر الوحدة بين المسلمين في بلدك، وهذا غرض رئيسي من أغراض الحج الشعور بالأمة الواحدة، وصعب أن يكون هذا الإحساس موجوداً والخلافات مستديمة والشقاق مستمر بين أبناء القطر الواحد، فضلاً عن جميع الأقطار، أو بين أبناء المدينة الواحدة، وبين أبناء المسجد الواحد، فنحن نجد خلافاً بين أبناء المسجد الواحد أحياناً، بل أحياناً بين أبناء البيت الواحد، فاجعل الأيام العشر هذه فرصة؛ لكي توحد المسلمين في الدائرة التي تستطيع عليها، وعليك الواجبات التي سأقولها لك الآن تساعدك على ذلك وهي:
أولاً: بر الوالدين، فمهما كان بينك وبينهم اختلاف في الرأي أو وجهات النظر، فالأم والأب يقدمان على كل شيء إلا أن يأمراك بمعصية فهنا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
إذاً: لا بد في هذه الأيام العظيمة أن نبر بالوالدين عن طريق زيارات أو تلفونات أو قضاء الحاجات، أو إدخال السرور عليهما بكل طاقة وبكل جهد عندك، واذكر أنك كنت تريد أن تحج لكي تدخل الجنة أليس كذلك؟ كذلك الوالد والوالدة يدخلانك الجنة إن شاء الله.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف) ، يلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فعل هذه الفعل الشنيع ما هو هذا الفعل الشنيع؟ يقول: (من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة) ، وفي رواية: (فلم يدخلاه الجنة).
ثانياً: صلة الرحم، ألست تبحث عن رضا الله عز وجل؟ فاستمع إلى كلام الله عز وجل في الرحم، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه ذكر فيه أن الله عز وجل يخاطب الرحم فيقول: (أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟)، فأنت بوصلك للرحم تكون أهلاً لأن يصلك الله عز وجل، يا الله! فأي فضل هذا وأي منة، فلو قاطعوك أهلك بكل طرق القطع، فإن الذي يريد الوصل من الله عز وجل لا بد أن يضحي، وتذكر ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها) ، هذا هو الواصل فعلاً، وهذا الذي يصله الله عز وجل.
ثالثاً: الأصحاب والمعارف والجيران، فرصة أيضاً في هذه الأيام المباركة أن تزيد من المحبة في المجتمع المسلم، والله سيعطيك أكثر مما تتخيل، فقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله ناداه مناد بأن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً) قال الترمذي : هذا حديث حسن، فهذا بيت لك في الجنة؛ لأنك ذهبت لتزور واحداً من أصحابك أو معارفك، أو جيرانك، زيارة في الله من غير مصلحة ولا مال.
رابعاً: وهذه في منتهى الأهمية إصلاح ذات البين، فابحث في علاقاتك مع معارفك، وانظر من بينك وبينه نزاع، وحاول أن تحلها في هذه الأيام، اغفر له سامحه، افتح صدرك له، ابتسم في وجهه، وإنها لمشكلة خطيرة أن يكون الشقاق قائماً بين المسلمين، ففرصة في هذه الأيام الكريمة أن تذكر أن الله عز وجل يغفر الذنوب للمتصالحين، ويؤجل المغفرة لمن بينهما شقاق حتى يصطلحا، وهذا كلام في منتهى الخطورة، وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: (تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا) ، انظر إذاً من الذي استثناه الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: (إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا) ، فهذا كلام في منتهى الخطورة.
إذاً: علينا واجب مهم في هذه الأيام المباركة، وهو أن نوحد أواصر المسلمين عن طريق بر الوالدين وصلة الرحم والزيارات في الله، وإصلاح ذات البين.
ثامناً: الصدقات: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة:272].
فهذه الأيام أيام سعيدة، وفقراء المسلمين في أشد الحاجة إلى السعادة في هذه الأيام فأكثر من النفقة، ولا شك أن الأجر مضاعف في هذه الأيام عن غيرها، فالذي يذهب ليحج ينفق من ماله ليتم مناسك الحج، ويكون إنفاقه كبيراً جداً، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله، الدرهم بسبعمائة درهم)، فهذا أجر مهول، وأنت عندك نفس الفرصة هذه حتى وإن لم تذهب لتحج، الدرهم بسبعمائة درهم، والجنيه بسبعمائة جنيه، والألف جنيه بسبعمائة ألف جنيه في سبيل الله، فما هو رأيك لو أنك تأتي لنركز قليلاً في موضوع الإنفاق هذا؟ إن الحاج يصرف الآلاف المؤلفة لكي يحج، ألا تأتي لتتنافس معه، وعلى قدر طاقتك أنفق عشرة أو عشرين أو مائة ألف أو أكثر على قدر ما تستطيع: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
تاسعاً: التقشف. تعالوا لنعيش في هذه الأيام عيشة الحجاج البسيطة من غير تكلفة، ليس مهماً أكل ماذا ولا لبس ماذا ولا شكل ماذا، إنما المهم أن نكسب كل دقيقة في طاعة ربنا سبحانه وتعالى.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يريدك أن تعيش في جو الحج حتى من غير أن تذهب إلى مكة للحج، روى الإمام مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخلت العشر -الأيام العشرة الأولى من ذي الحجة- وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً).
وفي رواية أخرى عند مسلم أيضاً وغيره قال: (فلا يأخذن شعراً ولا يقلم ظفراً)، فيكون كالمحرم في هيئته وشكله، لا يحلق الشعر ولا يقلم الأظافر ولا يضع الطيب، فيعيش في هذه الفترة كالحجاج تماماً إلى أن يضحي في يوم العيد، يا سبحان الله! ألم أقل لكم: إن الحج ليس للحجاج فقط، إذاً: هذه كانت النقطة التاسعة من الأعمال التي يشرع لنا أن نعملها في أول أيام ذي الحجة.
النقطة العاشرة والأخيرة في هذه الوجبات: الأضحية، من أعظم القربات إلى الله عز وجل، وتجعلك تعيش تماماً في جو الحج والهدي والذبح، ويكفي أن أذكر لكم حديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث الأول: رواه ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله تعالى من هراقة دم، وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً)، فاقعد وراجع هذه الحديث، وانظر إلى أي حد هذا الخير والفضل والتسجيل الرائع لحسناتك في يوم العيد، وأنت تقلد الحجاج بذبح أضحيتك وأنت في بلدك.
الحديث الثاني: روى ابن ماجة أيضاً عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (قال أصحاب رسول الله: يا رسول الله! ما هذه الأضاحي؟) يسألون عن أضحيات يوم العيد، قال: (سنة أبيكم إبراهيم، قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟!) ما هو الأجر؟ ما هو الفضل؟ ما هو الثواب؟ قال: (بكل شعرة حسنة، قالوا: فالصوف يا رسول الله؟! قال: بكل عشرة من الصوف حسنة)، وسأتركك تعد الشعر الذي في فروة الخروف، لكي تعرف قدر الثواب الذي ستلقاه إن كنت قادراً على الذبح.
كان هذا هو الواجب العاشر في هذه الأيام المباركة، فتلك عشرة كاملة.
إذاً: نراجعهم جميعاً بسرعة، ونعمل لها ورد محاسبة، ونحاول تطبيقها بإذن الله، اعمل جدولاً كذا عشرة في عشرة، وحاول أن تأخذ الدرجة النهائية في هذه الأيام العظيمة عشرة واجبات في عشر أيام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا:
أولاً: صيام التسع الأوائل من ذي الحجة، وبالذات يوم عرفة.
ثانياً: صلاة الجماعة في المسجد للرجال، وبالذات صلاة الفجر، والصلاة على أول وقتها للنساء.
ثالثاً: الإكثار من صلاة النافلة قدر المستطاع، كقيام الليل والنوافل القبلية والبعدية، وصلاة الضحى، وغير ذلك.
رابعاً: الذكر بكل أنواعه، وبالذات التهليل والتكبير والتحميد والاستغفار.
خامساً: الدعاء بكل خير، سواء من خير الدنيا أو الآخرة.
سادساً: قراءة القرآن ومحاولة ختمة مرة في هذه الأيام التسع من أوائل ذي الحجة.
سابعاً: زيادة أواصر الوحدة الإسلامية عن طريق بر الوالدين، وصلة الرحم، والزيارة في الله، وإصلاح ذات البين.
ثامناً: الصدقة والإنفاق في سبيل الله على الفقراء، ولا تنسوا إخوانكم في فلسطين والعراق وغيرهما.
تاسعاً: التقشف وعدم الأخذ من الشعر أو الأظافر إن كنت ستذبح في العيد.
عاشراً والأخيرة: الذبح، ولك بكل شعرة حسنة إن شاء الله، هذا إن كنت قادراً على الذبح في العيد.
أعتقد بهذه الطريقة تستطيع أن تجد بديلاً مناسباً لأعمال الخير التي يمارسها الحجاج إن لم يكتب الله لك حجاً، لم أقترح أنا هذه الأمور، بل علمنا إياها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ ليثبت لنا فعلاً أن الحج ليس للحجاج فقط، بل ينعكس أثره على كامل الأمة الإسلامية.
وكلمة أخيرة إلى المخلصين من أبناء هذه الأمة، والذين لم يكتب لهم حج بعد: لا تحزن. فقد جعل الله عز وجل لك عوضاً من ذلك، لا تحزن إن لم تكن مستطيعاً، فالله عز وجل لا يكلف نفساً إلا وسعها، لا تحزن فقد يكتب الله عز وجل لك أجر الحجاج وزيادة بنيتك الصادقة وشوقك الحقيقي ولهفتك غير المصطنعة.
لكن إلى أن يكتب الله عز وجل لك حجاً لا تضيع وقتاً قد فتح الله عز وجل لك فيه أبواب الخير على مصراعيها: صيام، صلاة، ذكر، دعاء، قرآن، صدقة، أعمال الخير لا تنتهي، وأبواب الجنة لا تغلق في وجه طالبيها أبداً.
إخواني في الله! وأخواتي في الله! ليقم كل منا جبلاً لعرفات في قلبه، ويدعو الله عز وجل بما شاء وقت ما شاء، ليرجم كل منا الشيطان في كل لحظة من لحظات حياته، ليتخفف كل منا من دنياه، فما بقي من الدنيا أقل بكثير مما ذهب، ليصلح كل منا ذات بينه وليغفر لإخوانه، وليحب الخير لكل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
نسال الله عز وجل حجاً مبروراً لكل من كتب له حج، وعملاً صالحاً موفقاً متقبلاً لكل من يوفق لحج، ونسأله سبحانه وتعالى العزة والتمكين والرفعة لهذا الدين. كما نسأله الجنة لنا ولكم ولسائر المسلمين، آمين آمين.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]. جزاكم الله خيراً كثيراً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر