إسلام ويب

تفسير سورة قريشللشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • امتن الله تعالى على قريش بأن جمعهم بعد أن كانوا متفرقين، وأمنهم بعد أن كانوا خائفين، وأطعمهم بعد أن كانوا فقراء جائعين، فكان الواجب عليهم تجاه هذه النعم العظيمة والمنن الكثيرة أن يشكروا الله تعالى حق شكره؛ ومن تمام الشكر وأوجبه تحقيق عبادة الخالق وحده، وصرف جميع أنواع الطاعات والقربات له لا لغيره.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لإيلاف قريش)

    قال الله سبحانه: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش:1]، فالذين جعلوها سورة واحدة قالوا: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ قريش:5]، (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش:1]، أي: لتأليف القرشيين ولجمع كلمتهم، فأنتم يا معشر قريش لما أتاكم أبرهة وأصحابه، أوشكتم وأشرفتم على الضياع وعلى الفرقة وعلى الهرب، كل شخص هرب في مكان، وأشرفت القبائل على التكالب عليكم، فلكي تجمع كلمتكم وتتفق وتأتلف أهلك الله عدوكم.

    فـ(لِإِيلافِ) أي: لتأليف قريش، وجمع كلمتهم جعلنا أصحاب الفيل كعصف مأكول، أي: هذا الذي صنعناه بأصحاب الفيل إنما هو لمنفعتكم يا معشر قريش، ولجمع كلمتكم، فهذا قول من ربط بين السورتين.

    الاختلاف في تفسير الآية

    قوله سبحانه: (لِإِيلافِ) من التأليف، والتأليف من معانيه الجمع والاجتماع، فـ(تأليف القلوب) أي: الجمع بين القلوب، (تأليف كتاب): أي جمع موضوعات الكتاب وضم الموضوعات إلى بعض، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ [النور:43] أي: ثم يجمع بينه، هذا هو وجه الربط، فقوله سبحانه: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ أي: لتأليف قريش، ولجمع كلمة قريش، ولتوحيد قريش. فهذا قول.

    القول الثاني: أن السورة مستقلة، فإذاً: ستحتاج إلى تأويل آخر، فيكون المعنى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ لتوحيد قريش، ولجمع كلمة قريش، ماذا صنعنا لتأليفهم ولتوحيد كلمتهم؟

    قال تعالى: إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ [قريش:2] أي: جعلناهم (يألفون) رحلة الشتاء والصيف، أي: يتعودون، تقول: ألِفتُ الشيء: إذا تعودت عليه، وهذا شيء مألوف، أي: شيء معتاد. هذا على التأويل الثاني.

    فقوله: (إِيلافِهِمْ) أي: تعودهم رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ [قريش:2] أي: جعلناهم يألفون ويسافرون مع بعضهم رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام، فأنت إذا سافرت مع الناس ازداد التآلف فيما بينكم، وأيضاً لهذا التآليف آمنهم الله من خوف وأطعمهم من جوع، فقد كانوا يسافرون ولا يعترضهم أحد من الناس، على ما سيأتي.

    الشاهد أن هنا تفسيراً آخر وهو أن: لتأليف قريش ولجمع كلمة هذه القبيلة جعلناهم يألفون رحلة الشتاء والصيف، وسهّلنا عليهم رحلة الشتاء والصيف.

    وقول ثالث: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ فيه تقدير محذوف، وهو: اعجبوا لتعود قريش على رحلتي الشتاء والصيف، وبعدهم عن طريق الإيمان وعن طريق الله سبحانه وتعالى.

    إذاً: هناك ثلاثة أقوال مشهورة في تفسير قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ .

    مناقب وفضائل قريش

    في قبيلة قريش كما قال النبي صلى الله عليه وسلم جملة مناقب وفضائل:

    منها: ما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، قبيلة كنانة اصطفاها الله من أولاد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)، فقريش من نسل إبراهيم صلى الله عليه وسلم، لأن قبيلة قريش من كنانة، وقبيلة كنانة من ولد إسماعيل، وإسماعيل هو ابن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم، فعلى ذلك كل قرشي يرجع نسبه إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

    هذا الحديث: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) فيه أن كل هاشمي قرشي، وليس كل قرشي هاشمياً.

    ومن مناقبها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش)، أي: من شروط إمام المسلمين الذي هو الإمام الأعظم الذي يحكم بلاد المسلمين كلها؛ من شروطه أن يكون قرشياً؛ لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش).

    وفي الحديث زيادات: (لا ينازعهم أحد إلا أكبه الله على وجهه)، وهذه من أقوى الاعتراضات التي كانت تدمِّر جماعة التكفير والهجرة، فـشكري مصطفى الذي شُنِق كان يقول: إنه إمام المسلمين، كان يقول حتى في المحاكمات: أنا شكري مصطفى إمام المسلمين، فكان الإخوة الذين بصرهم الله من الذين التحقوا بجماعتهم وأراد الله لهم الابتعاد عنها يحتجون عليه بهذا الحديث، أنت لست قرشياً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الأئمة من قريش)، فبأي وجه حق تستحق الإمامة.

    وإن قال قائل: لماذا الأئمة من قريش؟ نقول: هذه إرادة الله، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فللقرشيين مواصفات..

    طبعاً الأئمة من قريش وبني هاشم من قريش، وأي هاشمي يصلح أن يكون إماماً، وأي قرشي يصلح أن يكون إماماً، فإذا قال قائل: لماذا هذا؟ فنقول: إن الله سبحانه وتعالى أراد ذلك.. فضّل قوماً على قوم.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس تبع لقريش في الخير والشر، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم).

    وفي رواية ثالثة: (الأئمة من قريش.. ما أقاموا الدين)، وفي بعض الروايات: (إذا استرحموا رحموا، وإذا عاهدوا وفوا، وإذا حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) وصحح بعض أهل العلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (للقرشي قوة رجلين من غير قريش)، ومن العلماء من حمله على الجماع.

    وفي نسائهم فضل، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير نساءٍ ركبن الإبل، صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغر، وأرعاه على زوج في ذات يده)، والحديث ثابت في الصحيح.

    فهذه مناقب لقبيلة قريش، والله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس، ويفعل الله ما يشاء، ويحكم الله سبحانه وتعالى بما يريد، والله فضل بعض الناس على بعض.

    فمن شروط الإمام الأعظم الذي يحكم المسلمين عامة، أن يكون قرشياً فتصور الإمامة للمسلمين ليس كتصورها الآن، ليس في الإسلام أن كل دولة يكون لها رئيس أو ملك، بل الذي في الإسلام هكذا، في الإسلام أن للمسلمين كلهم إماماً واحداً، وهذا الإمام له شروط مبسوطة في كتب الفقه، وهذا الإمام يرسل أمراءه على البلدان، أميراً على مصر، أميراً على اليمن، أميراً على الحجاز، أميراً على المغرب، أما الآن فغيروا حتى اسم الإمام إلى الرئيس في نظام الجمهوريات التي ظهرت.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إيلافهم رحلة الشتاء...)

    قال الله سبحانه: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ [قريش:1-2]، (إِيلافِهِمْ) أي: تعودهم، كانت رحلة إلى اليمن شتاءً ورحلة إلى الشام صيفاً، لبرد الشام الشديد.

    وفي قوله: (رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) في معرض الامتنان، يدخل ضمناً الحث على الأسفار لطلب الرزق، لأن الله امتن عليهم أنه عوّدهم على رحلة الشتاء وعلى رحلة الصيف، فلما امتن الله عليهم بهذا الامتنان أفاد أن هذا عمل محمود، والأسفار لكسب الأرزاق عمل مشروع في كتاب الله، قال الله سبحانه: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20].

    وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى [آل عمران:156]، فقوله: (ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ) يفيد جواز السعي للتجارة، وقال تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، فالضرب في الأرض والسفر للبحث عن الرزق سبيل مسلوك سلكه من كان قبلنا، وأقره شرعنا، ما دام التماس الرزق من الحلال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت...)

    فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4].

    قلنا: إن الله سبحانه وتعالى يذكر الناس بنعمه، ثم بعد أن يذكرهم بنعمه يطلب منهم طاعته سبحانه وتعالى، فمثلاً --ولله المثل الأعلى- أنا فعلت لك كذا وكذا فبناءً عليه عليك أن تفعل كذا وكذا، فالله سبحانه أنعم على قريش بنعم: أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، فمن ثم طلب منهم أن يعبدوا رب هذا البيت.

    والأدلة على ذلك كثيرة في كتاب الله، قال تعالى: يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، فلهذا الاصطفاء فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144]، أي: خذ ما آتيتك بقوة.

    وقال تعالى: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42]، ثم يأتي التكليف: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43].

    وقال تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:1-4]، كل هذه نعم، فعلى ذلك فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8].

    وقال تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى:6-8]، لذلك فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:9-11].

    كذلك في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي ذكر فيه الثلاثة: الأبرص والأعمى والأقرع، لما أتاهم الملك وقال لأحدهم: كأني بك فقيراً فأغناك الله، وأقرع فرزقك الله شعراً جميلاً، هل من شاة أتبلغ بها في سفري، فيذكر العبد الناس بنعم الله عليهم ثم يطلب منهم التكاليف، وهذا واضح.

    فلذلك قال سبحانه: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [قريش:3]، الذي هو البيت الحرام، وجاءت فيه جملة فضائل، والله تعالى هو رب الأرض ورب البيوت كلها، لكن نسبة البيت إلى الله هنا نسبة تشريف، وتخصيصه بالذكر لتشريفه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذي أطعمهم من جوع...)

    قال تعالى: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4].

    فنعمة الأمن نعمة يجب أن يُشكر عليها الرب سبحانه وتعالى، فمثلاً: أنت تنام في بيتك آمناً مطمئناً، وغيرك يكون نائماً ويتوقع أي يوم أن ينزل به بلاء، يتوقع أي عدو يغير عليه في الليل، يتوقع أن يهجم عليه الكفار كاليهود في بلادهم.

    فنعمة الأمن تحتاج إلى شكر، وقل المتفطنون لذلك، قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [المائدة:11]، أي: هو الذي منعهم عنكم سبحانه وتعالى.

    قال تعالى: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4]، كيف آمنهم من خوف؟ كانت القرى حول مكة يغار عليها، وتسلب أموالها، وتسبى ذراريها، وتنتهك حرمات نسائها، أما مكة فكان الرجل يلتقي بقاتل أبيه فيها ولا يعترضه بسوء، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا [العنكبوت:67] فكان المشرك يأتي إلى مكة، ويقابل من قتل أباه في الطريق فلا يعترضه بسوء؛ لأنه داخل الحرم.

    وكان أهل مكة أيضاً إذا سافروا وعرف الناس أن هؤلاء من مكة وقروهم غاية التوقير واحترموهم غاية الاحترام، وخاف أحدهم أن يمس هؤلاء بسوء، وخاصة لما حدثت حادثة الفيل وجاءت طيرٌ أبابيل دمرت أبرهة بعد أن أذل أبرهة العرب.

    فإن أبرهة لما قدم من اليمن، فكانت كل منطقة يمر بها ينزل بها العذاب، وينتقم من أهلها أشد الانتقام، فلما جاء أبرهة وحل به ما حل على مشارف مكة، عندها وقّر العرب أهل مكة غاية التوقير، ووقّر العرب حرمات مكة غاية التوقير بعد ذلك؛ لأنهم قالوا: هذا أبرهة ملك صُنع به الذي صنع، فدل هذا على حرمة هذه البلدة وعلى حرمة أهلها، فهذا سبب توقير الناس للقرشيين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756235704