إسلام ويب

تفسير سورة الزلزلةللشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإيمان بالبعث والنشور أحد أركان الإيمان الستة التي يجب على كل مسلم أن يعرفها، وحقيقة البعث -كما بينته كثير من السور ومنها سورة الزلزلة- هو خروج الناس من قبورهم إلى عرصات القيامة ليروا أعمالهم التي عملوها في الحياة الدنيا، فمن عمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن عمل مثقال ذرة شراً يره.

    1.   

    اشتمال جزء عم على قضايا البعث والنشور

    باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

    وبعد:

    فيقول الله سبحانه وتعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:1-8].

    تقدم أن أكثر سور هذا الجزء المبارك الكريم -جزء عم- تتناول قضايا البعث والنشور الذي هو الخروج من القبور، كما تتناول الحساب والسؤال عن الأعمال، وقد بدئ ذلك بسورة النبأ، قال سبحانه: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبأ:1-5].

    ثم ثني بسورة النازعات، وفيها: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا [النازعات:1] إلى قوله تعالى: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات:13-14] أي: وجه الأرض كما تقدم.

    ثم في نفس السورة: فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى [النازعات:34-36].

    وفي سورة عبس كذلك: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عبس:33-35].

    وجاءت سورة التكوير كذلك: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير:1-3] إلى قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير:14].

    وجاءت أيضاً سورة الانفطار بعد ذلك: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار:1-5].

    فكل هذا يتعلق بالبعث، حتى سورة المطففين كذلك: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين:1] إلى قوله: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:4-6].

    وكذلك عقبت بسورة الانشقاق: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1] إلى قوله: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] أي: عامل عملاً فملاقٍ جزاء عملك، وهكذا سائر السور، فأغلب سور هذا الجزء تتناول قضايا البعث والنشور، وهذا يتفرع عنه أن سلامة العمل تكمن في سلامة المعتقد، فإذا كان الشخص يعتقد اعتقاداً صحيحاً أنه مبعوث ومسئول أمام الله عن أعماله فحينئذٍ يعمل عملاً صحيحاً؛ لأنه موقن أن سيلاقي جزاء هذا العمل، ولذلك قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ [المطففين:1-4] ألا يظن، أي: لو أيقنوا أنهم مبعوثون ليوم عظيم ما طففوا المكاييل ولا طففوا الموازين.

    والحاصل: أن أغلب سور هذا الجزء تناولت ركن الإيمان الذي هو الإيمان بالبعث وما يتعلق به من مقدمات وتوابع تتبع هذا اليوم.

    ففي هذه السورة كذلك جاء المسير على هذا المنوال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض..)

    قال تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1]، والزلزلة من الحركة الشديدة السريعة، والمراد بزلزالها هنا: الزلزال الأعظم، فالأرض تزلزل زلازلاً، ولكن المراد بالزلزال في هذه السورة الزلزال الأعظم والأكبر الذي يعم جميع الأرض، ويكون سبباً لتدمير كل ما عليها، وهو من أشراط الساعة العظمى.

    ومن هذا الباب أيضاً ما ورد في ذكر المسيح الدجال، فهناك دجاجلة كثيرون، لكن إذا أطلق الدجال فالمراد به الدجال الذي بين يدي الساعة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأخرجت الأرض..)

    وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا [الزلزلة:2] ، هنا يطرح سؤال: متى هذا الزلزال؟ هل هو قبل يوم القيامة، أو هو بعد يوم القيامة؟

    الخلاف في وقت وقوع الزلازل في الآخرة

    هناك قرائن في السورة الكريمة استدل بها على أن هذا الزلزال قبل يوم القيامة، وقرائن أخرى في نفس السورة استدل بها على أن هذا الزلزال في يوم القيامة بعد النفخ في الصور.

    أما القرائن التي استدل بها على أن هذا الزلزال قبل يوم القيامة، فقوله تعالى: وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا [الزلزلة:3] أي: ما الذي حدث للأرض، فهذا استغراب من الإنسان عما يحدث.

    وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: (تقيء الأرض أفلاذ أكبادها كأمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيأتي السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ويأتي القاتل، فيقول: في هذا قتلت، ويأتي قاطع الرحم، فيقول: في هذا قطعت رحمي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً) هل هذا قبل يوم القيامة؟ أو بعد النفخ في الصور؟ الظاهر من هذا أنه قبل يوم القيامة، فاستدل بهذا الحديث وبقول الإنسان: مالها؟ على أن الزلزلة المذكورة قبل يوم القيامة.

    وهناك أدلة أخرى تفيد أن هذه الزلزلة بعد النفخ في الصور، أي: يوم القيامة، قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2] وسياق هذه الآيات يشعر أنها قبل يوم القيامة.

    لكن ما ورد فيها من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو: (يقول الله سبحانه وتعالى لآدم يوم القيامة: يا آدم! فيقول: لبيك ربنا وسعديك -وفي رواية- والخير في يديك، والشر ليس إليك. فيقول الله له: يا آدم! أخرج بعث النار من ذريتك، فيقول: يا رب! وما بعث النار، فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذٍ يشيب الصغير، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2])، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث لأصحابه شق ذلك على أصحابه فقالوا: وأينا ذاك الرجل يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحداً، ألا ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبر الصحابة حمداً لله، ثم قال: ألا ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبر الصحابة حمداً لله، ثم قال: والذي نفسي بيده! إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

    وهذا الحديث يفيد أن الزلزلة المذكورة أيضاً بعد القيامة.

    ومن العلماء من حاول التوفيق بين القولين، وقال: إنها قريبة جداً من القيامة، فلقربها من القيامة كأنها هي القيامة، أو كأنها جزء من القيامة، فالإنسان إذا كان قريباً من الشيء يعبر عنه بأنه هو، كما قال تعالى في سورة النحل: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1] والأمر، ما أتى ولا حل فعلاً؛ لكنه لقرب مجيئه عبر عنه بلفظ: (أتى)، فللتلازم الشديد والتقارب الشديد بين الساعة وبين القيامة عبر عنها بهذه التعبيرات، فهي مع الساعة مباشرة.

    وقوله: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1] أي: زلزالها الأكبر، بأن حركت حركة شديدة فدمر كل شيء عليها، كما قال تعالى: إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا [الواقعة:4].

    معنى إخراج الأرض أثقالها

    قال تعالى: وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا [الزلزلة:2] ما هي هذه الأثقال؟ للعلماء فيها قولان:

    القول الأول: أن الأثقال هم الأموات الذين دفنوا فيها، فقد كانت الأرض لهم بعد موتهم كفاتاً، كما قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا [المرسلات:25] فكانت كفاتاً لهم تسترهم، فتخرج هذه الأثقال يوم القيامة، كما في الآية الأخرى: وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا [الانشقاق:3-4] أي: ألقت من الأموات وتخلت عنهم وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [الانشقاق:2] أي: سمعت لهم وأطاعت.

    القول الثاني: أن المراد بالأثقال الكنوز التي في بطنها، كالذهب والفضة وغير ذلك كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة ..) لكن قبل الساعة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحسر الفرات عن جبل من ذهب، فيأتي الناس يتقاتلون، فيقتل من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ويبقى واحد، ويظن كل رجل منهم أنه هو الواحد).

    فهذان هما القولان في تفسير الأثقال وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا [الزلزلة:2].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال الإنسان ما لها..)

    قال تعالى: وَقَالَ الإِنسَانُ [الزلزلة:3] (وقال) تعجب واستغراب، مَا لَهَا [الزلزلة:3] ما الذي حدث للأرض حتى تفعل هذه الأفعال.

    قال تعالى: وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا [الزلزلة:3] هل كل إنسان يقول ذلك؟ أم الإنسان الكافر فقط؟ فالمؤمن يعلم أن هذا هو أمر الله؟

    فمن العلماء من قال: إن الآية أفادت العموم، وكل إنسان يقول ذلك، لأن الله أطلق ولم يقيد، فكل إنسان يتعجب! ما الذي حدث؟ ومنهم من حمل الإنسان على الكافر، واستشهد بقوله سبحانه وتعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الروم:55-56].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يومئذ تحدث أخبارها..)

    قال الله سبحانه وتعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:4-5]:

    من العلماء من قال: إن الأرض تتكلم كلاماً حقيقياً مجيبة للإنسان على تساؤله، فعندما يقول الإنسان مستغرباً متعجباً: ما الذي حدث للأرض؟ فتجيبه قائلة: إن الله أوحى إليّ بذلك، وأمرني به، لأن ربك أوحى لها، فالمعنى: إذا سألها الإنسان عن سبب أفعالها التي فعلت، فإنها ستجيبه قائلة: إن الذي فُعِل بي إنما حدث بوحي الله إليّ... بلسان المقال.

    ومنهم من قال: إن الإجابة بلسان الحال، فيتساءل الإنسان: مالها؟ فلا يجد إلا إجابة، وهي: إن هذا الذي حدث إنما هو بأمر الله. وإن لم تتلفظ الأرض بهذا اللفظ.

    ومن أهل العلم من قال: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4] أي: تخبر عن كل شخص بما عمل على ظهرها، تأتي الأرض يوم القيامة وتشهد على كل عامل بعمله، يا رب! هذا الرجل مشى عليّ كي يذهب إلى المسجد ويصلي وسجد لك عليّ، يا رب! هذا العبد مشى عليّ كي يتصدق، مشى عليّ وخطا خطوات كي يشهد الجمعة والجماعة، ويحضر مجالس العلم، يا رب! ذاك العبد، مشى عليّ للشر والفساد، وسار على وجهي وطفق يهلك الحرث والنسل.

    فتحدث عن كل شخص بالذي عمل عليها، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12] أي: نكتب الآثار، من العلماء من قال: آثار الخطأ، قال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12].

    ويشهد لهذا المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة لما كانت ديارهم بعيدة عن المسجد وأرادوا أن يقتربوا من مسجد رسول الله ويشتروا بيوتاً بجوار المسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: (يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم) أي: الزموا البقاء في دياركم البعيدة، تكتب آثار خطاكم في موازينكم أو في صحفكم، فهذا وجه في تفسير قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4].

    ففيه أوجه:

    أحدها: أن الأرض تجيب إذا سألها الإنسان مالكِ؟ فتجيبه إما بلسان الحال أو بلسان المقال: أن هذا الذي حدث لي إنما هو بوحي الله إليّ.

    الوجه الثاني: أنها تخبر عن كل شخص بما عمل على ظهرها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يومئذ يصدر الناس ..)

    قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ [الزلزلة:6] (يصدر) أي: يرجع، ومنه قول الفتاتين: قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23] أي: حتى يرجع الرعاء من السقي، فقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ [الزلزلة:6] أي: يرجع الناس. ولكن من ماذا يرجعون؟

    فيه قولان للعلماء:

    أحدهما: يرجعون من موقف الحساب بعد أن حوسبوا، لكن هذا القول يحتاج إلى تقدير في الآية، فالمعنى: يومئذٍ يرجع الناس من موقف الحساب ليروا جزاء أعمالهم، فيكون قوله: لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6] أي: ليروا جزاء أعمالهم.

    فيرجع الناس من موقف الحساب، فمنهم الذي تلقى كتابه بيمينه، ومنهم الذي تلقاه بشماله من وراء ظهره عياذاً بالله، فيتلقون جزاء الأعمال، إما رجل يطير فرحاً، ويقول: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20] وآخر بائس متبائس اسود وجهه وازرقت عيناه، كما قال تعالى: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه:102]، يقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:25-29].

    فقوله: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا [الزلزلة:6] أي: أشتاتاً متفرقين من موقف الحساب، هذا راجع في هذا الاتجاه وهذا راجع في هذا الاتجاه.

    ويا له من موقف إذا أمعنت النظر فيه وتخيلته وتصورته، كلهم تلقوا الكتاب ورجعوا متفرقين، ثم بعد ذلك ينظمون في جماعات، كل جماعة مع أمثالها وأضرابها، كل أصحاب وجهة مع بعضهم، كما قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر:71]، وكما قال: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر:73] أي: جماعات جماعات، فيرجعون من موقف الحساب متفرقين، كل معه كتاب أعماله يرجع حتى يلاقي جزاء العمل وينتظم في سلك أمثاله وأشكاله، إن كانوا صالحين أو كانوا طالحين، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات:22] أي: وأمثالهم ونظراءهم، وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات:22-23].

    القول الثاني في قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا [الزلزلة:6] أي: يرجع الناس من قبورهم عندما ينفخ في الصور إلى موقف الحساب لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6] فكل شيء قد فعلوه أثبت في الزبر، وكل صغير وكبير قد سطر، فيرجعون من القبور إلى موقف الحساب كي يروا أعمالهم، وهنا يرجعون من القبور أيضاً متفرقين كما قال الله سبحانه وتعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:4] وعند خروجهم من القبور لأول وهلة يخرجون متفرقين كالفراش المبثوث الطائش، كل فراشة في اتجاه يركب بعضه بعضاً، وبعد مدة ينظم الركب ويكونون كالجراد المنتشر، فالجراد له وجهة محددة يسير في اتجاهها، أما الفراش الطائش فيركب بعضه بعضاً، والله أعلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة..)

    قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7] أي: فمن يعمل في دنياه مثقال ذرة من الخير يراها، وما هو ضابط الذرة؟

    من العلماء من قال: إن الذرة هي النملة الصغيرة الحمراء، ومنه قول الحسن البصري في بعض مقالاته في شأن الأبرار: البر هو الذي لا يؤذي الذر.

    فالشاهد: أن من العلماء من ضبط الذرة بأنها النملة الصغيرة الحمراء.

    فإن قال قائل: إن العلم الحديث وضح أن الذرة تنقسم إلى الكترون وبروتون، وكل هذا لا يرى بالعين المجردة، فلماذا فسرت الذرة بهذا التفسير الذي هو النملة؟

    فالإجابة أن الله خاطب الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصغر شيء في أعينهم وهو النملة الصغيرة الحمراء.

    والقول الثاني: إنها ذرة الغبار التي تكون في شعاع الشمس في الغرفة التي يدخلها ثقب، على ما قاله بعض العلماء، وكان هذا أصغر شيء يتخيله العرب، لكن أصغر منه أثبت أيضاً في كتاب الله: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ [يونس:61] فأثبت الذي هو أصغر من الذرة، فيندرج تحته ما اكتشف مؤخراً وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61].

    فقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة:7] حتى الذرة، ولذلك فقد روي عن أم المؤمنين عائشة أنها كانت إذا أتاها سائل لا تبخل عليه بالصدقة، ولو بتمرة، وتقول: سبحان الله! كم في التمرة من ذرات، والله يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة جارتها ولو فرس شاة) أي: لا تحقرن جارة الهدية أن تهديها إلى جارتها أو تقبلها من جارتها ولو كانت الهدية هذه حافر شاة أو رجل شاة، وإذا أهديتِ أيتها المسلمة أو إذا رغبتِ في الإهداء وليس عندك شيء فلا تستقلي الهدية أن تهديها، وإن كانت قليلة فبادري بإخراجها ولا تحتقريها، فكم فيها من ذرات.

    والوجه الثاني: إذا أهدت لك أيتها المسلمة أختكِ شيئاً فاقبليه، فالهدية في أصلها دليل على المحبة، ومن ثم حسَّ بعض العلماء حديث: (تهادوا تحابوا)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها.

    فالشاهد: أنه على العبد ألا يستقل أعمال البر ولا يستصغر أعمال الشر كذلك، فقد ترى العمل في عينيك يسيراً ولكنه عند الله كبير، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لما مر بالقبرين (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير -أي: في أنظاركم- بلى إنه كبير ) أي: عند الله سبحانه وتعالى.

    فقد تتكلم بكل بساطة في عرض مسلم وتظن أنك ما فعلت شيئاً وأنت قد أكلت لحماً ميتاً، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، وقد تقدم عن أنس بن مالك كما في البخاري (إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إنا كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) أي: من المهلكات.

    فالله يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8] هذا النص عام تندرج تحته كل أفعال البر وكل أفعال الشر، وقد استدل به الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر حديثاً في فضل الخيل، فسأله سائل: يا رسول الله! والحمر -أي: والحمير يا رسول الله ما القول فيها إذا احتبستها في سبيل الله- (فقال: ما أنزل عليّ فيها إلا هذه الآية الفاذة الجامعة فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8] ).

    فأفادت الآية أن كل شيء يفعله العبد مثبت، حتى خائنة الأعين مثبتة، اللفظ الذي يتلفظه العبد مثبت، حركة اليد مثبتة، قال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر:52-53]، وقال: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف:49] يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30]، فالأمر كما قال سبحانه: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6].

    قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:8]، لقد صحح بعض العلماء حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لـعائشة : (يا عائشة ، إياكِ ومحقرات الذنوب، فإنهن إذا اجتمعن على رجل يهلكنه -وفي رواية-: كقوم نزلوا ببطن وادٍ، فجمع هذا عوداً، وجمع هذا عوداً، حتى جمعوا حطباً كثيراً فأنضجوا لحمهم) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما قال الشاعر:

    لا تحقرن من الذنوب صغيرها إن الصغير غداً يعود كبيراً

    إن الصغير وإن تضاءل قدره عند الإله مسطر تسطيراً

    فجدير بكل عبد أن يحدث توبة لكل ذنب.

    والله الموفق.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756338194