إسلام ويب

تفسير سورة البروجللشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله سبحانه قصة الذين حفروا للمؤمنين الأخاديد، وأضرموا فيها النيران، ثم ألقوا من يثبت على دينه فيها، مبيناً أن سبب النقمة من الكفار على المسلمين في كل عصر وحين هو إيمانهم بالله العزيز الحميد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات البروج.....)

    باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الله. وبعد:

    قال تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1] يقسم الله سبحانه وتعالى بالسماء ذات البروج. أي: التي لها بروج، و(البروج) من العلماء من قال: إنها الكواكب والنجوم، وشاهد ذلك من التنزيل قوله تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ [الحجر:16] ، فمن العلماء من قال: البروج: النجوم الكبار أو الكواكب. ومنهم من قال: (البروج): مطالع الشمس والقمر.

    قال تعالى: وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ [البروج:2].

    اليوم الموعود على رأي جمهور المفسرين هو يوم القيامة.

    بيان جواب القسم في قوله تعالى: (والسماء ذات البروج)

    من العلماء من قال: جواب القسم هو قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ [البروج:4] وكلمة (قُتِلَ) في كتاب الله في عموم الآيات إلا شيء مستثنى بدليل كلمة قُتِلَ معناها: لعن، قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات:10]..، قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس:17]..، قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ [البروج:4] إلى غير ذلك، فمن العلماء من قال: إن جواب القسم في قوله تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ، هو قوله تعالى:قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ أي: أن الله يقسم أن أصحاب الأخدود ملعونون.

    ومن العلماء من قال: إن جواب القسم متأخر شيئاً ما، وهو إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12] أي: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ .. إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ، وثم أقوال أخر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وشاهد ومشهود)

    قال تعالى: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [البروج:3] ، أما (الشاهد) له معنيان:

    الأول: قد يطلق على الحاضر.

    الثاني: يطلق على الناظر أو الرائي.

    تقول مثلاً: شهدت موسم الحج، أي: حضرت موسم الحج. فمن معاني الشهادة: الحضور، ومن معانيها: الرؤية، شهدت كذا وكذا، أي: رأيت كذا وكذا.

    فمن العلماء من قال: المراد بـ(الشاهد): الحاضر، فأقسم الله بالشاهد.

    ما هو الشاهد على تأويل الشاهد بالحاضر؟

    للعلماء في ذلك أقوال:

    أحدها: أن (الشاهد): كل الخلائق، والمشهود: يوم القيامة، فالمعنى على هذا التأويل: أن الله يقسم بالناس أو بالخلائق التي ستشهد موقف الحساب، (فالشاهد) أي: الحاضر وهم الخلائق، و(المشهود): هو يوم القيامة.

    القول الثاني: أن (الشاهد): هم الذين يصلون الجمع، يعني: هم الحضور الذين يحضرون صلاة الجمع، و(المشهود): هو يوم الجمعة.

    الثالث: أن (الشاهد): هم الحجيج الذين يشهدون عرفات، فـ(المشهود): هو عرفات.

    الرابع: أن (الشاهد): هم الحجيج، والمشهود: يوم النحر.

    هذه بعض الأقوال في تفسير (الشاهد) بمعنى: الحاضر.

    والقول الثاني في تفسير (الشاهد): بمعنى: الرائي والناظر، أو بمعنى أوسع شيئاً ما: (الشاهد): الذي تقوم به الشهادة، وتثبت به الدعاوى، فمن العلماء من قال: إن (الشاهد) أي: الشاهد على الخلائق والذي تقوم به الدعاوى، فـ(الشاهد) هو الله، و(المشهود): هو التوحيد، واستدل لهذا القول بقول الله سبحانه وتعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19].

    والقول الثاني: أن الشاهد: هو محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود: الخلائق أيضاً مشهود عليهم، والذي يشهد للقول الثاني قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41].

    الثالث: أن (الشاهد): هم الأنبياء عموماً، والمشهود عليهم: أممهم.

    الرابع: أن (الشاهد): أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتشهد على سائر الأمم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في الأرض)، أو (يدعى نوح يوم القيامة، فيقال: يا نوح! هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقول قومه: ما جاءنا من نذير، فيقال لنوح: من يشهد لك يا نوح؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته) .

    هذه بعض الأقوال في تفسير (الشاهد) و(المشهود)، واختار قوم من أهل العلم العموم، فقالوا: كل ما يصلح أن يطلق عليه شاهد فهو شاهد، وكل ما يصلح أن يطلق عليه مشهود فهو مشهود، وهذا اختيار ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، فعلى ذلك: يدخل في لفظ (الشاهد) الحجيج الذين يشهدون الحج، والمصلون الذين يشهدون الجمع، والمصلون الذين يشهدون الأعياد، ويدخل في لفظ (الشاهد) الشاهد الذي تثبت به الدعاوى، وعموم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا المسلك يسلكه ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في مواطن متعددة، فتجده دائماً يجنح إلى القول بالعموم، كما تقدم في تفسير قوله تعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا [النازعات:1] ، فللعلماء في تفسير: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا [النازعات:1] أقوال:

    منها: أنها الملائكة، ومنها: أنها البقر الوحشي، ومنها: أنها القسي التي تنزع منها السهام.. إلى غير ذلك من الأقوال، فكان ابن جرير الطبري دائماً يجنح إلى اختيار القول العام الذي تندرج تحته كل هذه الأقوال.

    فقوله تعالى: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [البروج:3]: أقسم الله سبحانه وتعالى بثلاثة أشياء: بالسماء ذات البروج، وباليوم الموعود، وبالشاهد والمشهود، وإذا أقسم الله سبحانه وتعالى بشيء دل هذا القسم على أهمية، المقسم به، فاليوم الموعود له أهمية وصلوات الجمعة والأعياد والحج لها أهمية، وكذلك كل ما ذكر تحت قول وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [البروج:3] فله أهمية، فلا تجد في كتاب الله أن الله يقسم بشيء حقير، إنما يقسم بالسماء والطارق، ويقسم بالشمس وضحاها، ويقسم بالليل إذا يغشى، وبالضحى... إلى غير ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قتل أصحاب الأخدود...)

    قال الله سبحانه: قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ [البروج:4] (قُتِلَ) أي: لعن.

    (أَصْحَابُ الأُخْدُودِ): أطلق عليهم أصحاب الأخدود؛ لأنهم هم الذين حفروه، فهم القتلة الظلمة، وليس المقصود: المقتولين، فـ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ، لعن الذين خدوا الأخدود. و(الأخدود): شق في الأرض، فلعن الله سبحانه وتعالى من شق هذه الشقوق في الأرض، وأضرم فيها النيران، وألقى فيها المؤمنين.

    قال تعالى: النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ [البروج:5] لماذا وصفت النار بأنها ذات الوقود؟

    من العلماء بل جمهورهم من قال: وصفت النار بذات الوقود؛ لبيان عظمها وشدة هولها، فكانوا قد أججوا حطباً وأوقدوا نيراناً عظيمة، فوصفت بأنها ذات الوقود لهذا.

    قال تعالى: إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ [البروج:6] يعني: الذين خدوا الأخاديد جلسوا بجوارها، فليس معنى (عَلَيْهَا) فوقها، وقد قدمنا أن حروف الجر في الكتاب العزيز تتناوب: (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا)، أي: على جوانبها. (قُعُودٌ)، أي: حضور يشاهدون أهل الإيمان وهم يعذبون.

    إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ، فـ عَلَيْهَا : ليس معناها كما في قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران:75]، يعني: قائماً بالمطالبة.

    قال تعالى: وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج:7] أي: حضور يشاهدون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما نقموا منهم...)

    قال تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، كانت الجريمة التي بسببها ألقي أهل الإيمان في النار أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد.

    قد يقول قائل: إن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] فيكف تسلط أهل الكفر على هؤلاء المؤمنين وقذفوهم في النار؟

    فالجواب: لأهل العلم أجوبة على ذلك: منها: أن المراد بالسبيل المنفي في قوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] السبيل إلى القلوب بالحجج، فلا يستطيع الكافر أن يصل بحجته إلى قلب مؤمن أبداً، بل كما قال الله سبحانه وتعالى: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [الشورى:16] أما السبيل على الأبدان فقد نيل من بعض المرسلين عليهم الصلاة والسلام، بل قتل بعضهم، قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21] فأفادت الآية أن هناك أنبياء قتلوا بغير حق، وأيد ذلك قوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [النساء:155] فدلت الآيات على أن هناك أنبياء قتلوا، وأن هناك من يأمر بالقسط من الناس قتل وشرد وطرد وأخرج.

    إذاً: السبيل المنفي هو: سبيل الوصول بالحجج إلى قلوب المؤمنين، فدائماً حجة الكفار داحضة واهية.

    يقول الله سبحانه وتعالى: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ). أي: سبب انتقام أهل الكفر من المؤمنين ليس لذنب صنعوه إنما هو الإيمان بالله العزيز الحميد.

    (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)، ورد في هذا الباب حديث أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى وهم مشابه لسياق الآيات في سورة البروج، لكن هل هو المراد بالآيات الكريمة أو هو فعل وحدث مستقل تم في ظروف أخر؟

    الجواب: من العلماء من نزل الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث صهيب رضي الله عنه الذي فيه: (كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إن كبرت فابعث لي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه السحر، فكان هذا الغلام إذا ذهب إلى الساحر مر في طريقه براهب، فجلس يستمع إلى الراهب فأعجبه كلامه، فكان الغلام يتخلف عند الراهب كثيراً فيؤذيه أهله ويؤذيه الساحر، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا سألك أهلك: لمَ تأخرت؟ فقل: حبسني الساحر، وإذا سألك الساحر فقل: حبسني أهلي، فمضى على هذا الحال مدة، وذات يوم مرّ هذا الغلام على دابة عظيمة قد حبست الناس ومنعتهم من المرور، فقال: اليوم أعلم أأمر الساحر أحب إلى الله سبحانه وتعالى أم أمر الراهب، فأخذ حجراً وقال: اللهم إن كنت تعلم أن أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة واجعل الناس يمرون، فرمى الدابة فماتت، فمر الناس، فعلم أن أمر الراهب أحب إلى الله عز وجل من أمر الساحر، فازداد تعلقه بالراهب، وكان يداوي الأمراض، فيبرئ الأكمه والأبرص والأعمى بإذن الله، فسمع به جليس للملك كان قد كبر فعمي، فأرسل إليه فجاءه، فقال: إني سمعت أنك تبرئ الأسقام وها أنا قد عميت، فقال: إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله لك فشفاك، فآمن بالله، فدعا الله عز وجل فشفاه، فذهب هذا الرجل إلى الملك، وذهب الغلام إلى الراهب، فقال الراهب للغلام: أنت الآن أفضل مني وإنك ستبتلى، فإذا ابتليت فلا تدل عليّ، فذهب جليس الملك إلى الملك، فإذا به قد رد إليه بصره، فقال الملك: من رد إليك بصرك؟ قال: الله. قال: أو لك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فما زال يضربه ويقرره حتى اعترف له أن الذي فعل به هذا هو الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتشفي العمي، قال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله سبحانه وتعالى: قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فما زال يضربه ويؤذيه حتى دل على الراهب، فجيئ بالراهب، فقيل له: إما أن ترجع عن دينك وإلا قتلت، فثبت -أي: ثبته الله سبحانه وتعالى- فجيئ بالمنشار فوضع على مفرق رأسه ثم نشر فشق نصفين، ثم جيء بجليس الملك فقيل: إما أن ترجع عن دينك وإلا قتلت، فثبته الله، فنشر بالمنشار نصفين، ثم جيء إلى الغلام، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى أن يرجع عن دينه، فأمر به الملك أن يؤخذ ويرسل إلى أعلى قمة جبل ويلقى من فوقها، فذهبوا به، فاعتصم بالله وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فهلكوا جميعاً، وجاء الغلام يمشي إلى الملك، فقال: ماذا فعل بك؟ قال: أنجاني الله سبحانه وتعالى، فأرسله مع قوم آخرين، وقال: احملوه معكم في قرقور -أي: قارب صغير- وتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فألقوه في البحر، ففعلوا فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فلعبت بهم الأمواج فأغرقتهم وأنجاه الله وجاء يمشي، وقال: قد كفانيهم الله بما شاء..) الحديث، وفي الأخير: (أن الغلام قال للملك: إنك لست بقاتلي إلا أن تفعل ما آمرك به؛ فتجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع نخل، وتستخرج سهماً من كنانتي، وتقول: باسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلب الغلام، وأخرج سهماً من كنانته وقال: باسم الله رب الغلام، فجاء السهم في صدغه فمات، وآمن الناس كلهم أجمعون، قالوا: آمنا برب الغلام.. آمنا برب الغلام، فقيل للملك: قد وقع ما كنت تحذر، فأمر بالأخاديد فخدت، فشقت الشقوق في الأرض، وأضرمت فيها النيران، وبدأ بقذف كل من آمن فيها، وكان من هؤلاء -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم- المرأة التي كانت ترضع طفلاً صغيراً لها، فأشفقت على طفلها بعد أن نظرت إليه نظرة الوداع، فخشيت على طفلها فقال لها ولدها: يا أماه! لا تقاعسي فإنك على الحق، فتقدمت وألقيت في النار) هل هذا هو الوارد في سورة البروج، أم هذه واقعة أخرى؟

    من العلماء من نزلها على سورة البروج، وهي بها لائقة.

    ومنهم من قال: تعددت أحوال أهل الإجرام.

    ومن العلماء من قال: إن أصحاب الأخدود في بلاد نجران التي على الحدود بين اليمن والسعودية، والله سبحانه وتعالى أعلم.

    قال تعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ [البروج:4] أي: لعن هؤلاء الذين خدوا الأخاديد للناس أياً كانوا ومن كانوا.

    النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:5-8] فهذا ليس جرماً ينتقم من الشخص من أجله، كما قال القائل:

    لا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

    قال تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، فعلى ذلك: قد يبتلى شخص فيسجن ويقول: ليس عليَّ ذنب، فقل: وما ذنب أصحاب الأخدود؟ وما ذنب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما قال الكفار أو كما حكى الله مقالتهم، وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]؟

    ما ذنب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إذا قال له قومه: اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ [العنكبوت:24]؟

    ما ذنب لوط وقد قال الله سبحانه وتعالى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل:56]؟

    فليس لهؤلاء جميعاً ذنب إلا الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

    قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، (العزيز): منيع الجناب، عظيم السلطان الذي لا يغالب.

    الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [البروج:9].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين...)

    قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [البروج:10] هنا يقف الحسن البصري قفة فيقول رحمه الله: (سبحانك ربنا ما أحلمك وما أرحمك! قوم بطشوا بعبادك المؤمنين، وخدوا لهم الأخاديد، وأضرموا فيها النيران وقذفوهم فيها، وتفتح لهم باب التوبة.

    إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا دليل على أنهم لو تابوا لقبلت توبتهم، فعلى ذلك: من زلت قدمه في مسألة، فلا ينبغي أن تهدر جميع حسناته بجانب هذه المسألة التي زلت فيها قدمه إن فتح له باب التوبة، فهؤلاء قتلوا الناس وحرقوهم وجلسوا على شفير النيران يتفرجون عليهم، ومع ذلك إن تابوا تاب الله عليهم، وفي عدة آيات من كتاب الله كلما ذكرت كبيرة من الكبائر أو جريمة من الجرائم أتبعت بفتح باب التوبة؛ قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ [الفرقان:68-70] قتل، زنى، أشرك، لكن إذا تاب تاب الله سبحانه وتعالى عليه. قل ذلك لمضيع الصلاة ومتبع الشهوات حتى يتوب، فإن تاب قبلت توبته، وهذه قاعدة أصيلة من قواعد ديننا الحنيف السمح، وهذا من رحمة الله ربنا بنا، كما قال الله سبحانه وتعالى: (يا عبادي! إنكم تخطئون في الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم)، وفي الحديث: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)، وفي الحديث: (إن إبليس قال لربه سبحانه: وعزتك! لا أبرح أغوي العباد ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله: وعزتي! لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني).

    وهكذا فكل من أذنب فليعلم أن باب التوبة مفتوح للتائبين، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] فلا ينبغي أبداً أن يقنط أحد من رحمة الله سبحانه وتعالى.

    قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ، (فتنوا). أصل الفتنة: الاختبار بالنار، ثم أطلق لفظ الفتنة على كل ما يئول إلى مكروه وسوء، كما قال الشاعر:

    لئن فتنتي لهي بالأمس أفتنت.. سعيداً فأصبح قد قلى كل مسلم

    وألقى مصابيح القراءة واشترى.. وصال الغواني بالكتاب المتيم.

    فالفتنة في الأصل: الاختبار بالنار، ثم أطلقت الفتنة على كل ما يئول إلى مكروه أو سوء.

    وتطلق الفتنة على الشرك، وتطلق على الصرف والإضلال فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ [الصافات:161-162] أي: بمذلين، إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [الصافات:163].

    أقوال العلماء عند تكرار العذاب في الآية

    قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10] ما هو وجه قوله (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ)، واتباعه بقوله: (وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)؟

    من أهل العلم من قال: هما عذابان:

    عذاب جهنم للكفر، وعذاب إضافي وهو: عذاب الحريق مقابل تحريقهم لأهل الإيمان، كما قال الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [النحل:88] فهم فعلوا شيئين: كفروا، وصدوا عن سبيل الله، زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88]، فعذاب على الكفر، وعذاب للصد عن سبيل الله.

    وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:12-13] فأثقال للكفر، وأثقال مع أثقالهم للإغواء والإضلال.

    فمن العلماء من قال: هما عذابان: عذاب جهنم للكفر، وعذاب الحريق نتيجة تحريق المؤمنين.

    ومن أهل العلم من قال: إن المراد بعذاب جهنم الأولي في قوله تعالى: (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ): الزمهرير.

    قال تعالى: (عَذَابُ الْحَرِيقِ)، الذي هو التعذيب بالنار، فعليه هم يعذبون عذابا بالزمهرير الذي هو البرد الشديد، ثم يتبع الزمهرير بالحريق الذي هو النار، كما قال سبحانه: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص:57].

    (حميم): انتهى حره وبلغ الدرجة العليا من الحر، و(غساق): بلغ المنتهى في البرودة.

    ومن أهل العلم من سلك مسلكاً آخر، فقال: لهم عذاب جهنم في الآخرة، ولهم عذاب الحريق في الدنيا، قال: فإن النار التي أضرموها وألقوا فيها أهل الإيمان تطاير عليهم شررها فأحرقهم.

    فعلى هذا القول الأخير، يرد التعكير على قول من قال: من الكتاب أو المؤلفين أن كل قوم مجرمين ذكرت عقوبتهم الدنيوية في كتاب الله إلا أصحاب الأخدود فلم تذكر لهم عقوبة في الدنيا، وادخر لهم العذاب في الآخرة، فثم قول يثبت -وهو قول من أقوال العلماء وليس مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم- أن الذين خدوا الأخاديد للناس أحرقوا بشررها في الدنيا؛ لهذه الآية، والله سبحانه وتعالى أعلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات..)

    قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [البروج:11] في كتاب الله كثيراً ما يؤتى بحال أهل الإيمان بعد حال الكفار، ولهذا -كما أسلفنا- سمي القرآن مثاني، فمن العلماء من قال: سمي القرآن مثاني؛ لأنه يأتي بحال ويأتي بالحال المقابلة لها، يأتي بحال أهل النيران ثم يأتي بحال أهل الجنان أو ينعكس الأمر، فيأتي بصور من العذاب وصور مقابلة لها، حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ص:57-58]، فالله سبحانه وتعالى: قال: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10] ثم قال في المقابل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وقد قدمنا أن التقييد بعمل الصالحات فيه رد على الصوفية من وجوه، منها:

    أن الصوفية يقولون: إن المجانين أعلى درجة من غير المجانين.

    ولكن عند جمهور أهل السنة: أن المؤمن الذي يعمل الصالحات أعلى درجة من المجنون؛ لأن المجنون لم يعمل صالحات، فعلى ذلك الذين يتبركون بلعاب المجانين، ويقولون: إن فيه بركة، وأن الله يضع سره في أضعف خلقه -والله أعلم بهذا كله- كل هذا مناقض لقواعد أهل السنة.

    فأهل السنة عندهم: أن المؤمن العامل الصالح أفضل من المجنون، فمن الأقوال فيه: أنه يختبر في عرصات يوم القيامة، فالله أعلم هل ينجح في الاختبار أو لا ينجح، وهو وإن دخل الجنان فهو في درجة الله أعلم بها، لكن قال الله رب العزة: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72].

    وفي الآية أيضاً في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، رد على الصوفية ورد على المرجئة، فالمرجئة يقولون: لا يلزم مع الشهادتين عمل، ومن نطق بهما فهو على إيمان كإيمان جبرائيل وميكائيل، وهذا قول الغلاة منهم، والآية فيها رد عليهم؛ لأن فيها البشارة للمؤمنين الذين عملوا الصالحات، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ .

    يقول الله سبحانه: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12] وهذه الآية في معناها جملة آيات وعدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكما هو معلوم أن الله سبحانه وتعالى واسع المغفرة كما قال سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم:32] وكما قال عن نفسه: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107] في عدة آيات فكذلك وصف سبحانه وتعالى نفسه بأنه شديد العقاب، ووصف بطشه بأنه شديد، فعلى ذلك: يلزم المؤمن أن يكون دائماً بين حالتي الخوف والرجاء، خوف من الله سبحانه وتعالى أن يصيبه ببعض ذنوبه، وطمع في رحمة الله سبحانه وتعالى، وفي هذا الباب حديث -وإن كان فيه بعض الكلام؛ لأن من العلماء من حسنه- وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد شاباً من الأنصار يحتضر، فقال له: (كيف أنت؟ قال: يا رسول الله! أرجو وأخاف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اجتمع مثل هذان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجوه وأمنه من الذي يخاف) فهاتان الحالتان ينبغي بل يلزم أن تصاحب المؤمن دائماً -أي: حالة الخوف، والرجاء- لأن ذلك هو حال الأنبياء عليهم الصلوات والسلام، قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].

    قال تعالى: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيد من أهل العلم من قال: يبدئ العذاب ويعيده، أي: أنه سيبدئ العذاب على الكافرين ويعيده عليهم، واستدل قائل هذا القول بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري ومسلم: (ما من عبد يؤتيه الله عز وجل إبلاً فلا يؤد زكاتها؛ إلا فتح لها يوم القيامة بقاعٍ قرقر، فتمر عليه أثمن ما كانت وأعظم ما كانت، تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها، كل ما مر عليه أخراها أعيد عليه أولاها) فقال: يبدئ ويعيد، يبدئ العذاب ويكرره عليهم.

    ومنهم من قال: يُبْدِئُ أي: يبدئ الخلق، كما قال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ [الروم:27] أي: في الآية على هذا التأويل الأخير إثبات للبعث، واختار عدد من أهل العلم التعميم وأنه يبدئ العذاب ويعيده، حتى أن منهم من قال: يبدئ رحمته ويعيدها أيضاً، فيرجع بالتوبة على التائبين، وهكذا..

    قال تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [البروج:14]، أما (الْغَفُورُ) فمعروف، أما (الْوَدُودُ) فمن العلماء من قال: معناها: الحبيب.

    قال تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:15] (ذُو الْعَرْشِ)، هل المجيد صفة للعرش أم هي صفة لله سبحانه وتعالى؟ قولان لأهل العلم: أما (المجيد) التي في آخر السورة، (بل هو قرآن مجيد)، فمن العلماء من فسر المجيد بالكريم لما ربط بين الآيتين إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة:77] وقوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ [البروج:21]، فقال: (المجيد) هو: (الكريم).

    قال تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ [البروج:17]، من العلماء من قال: (هل) بمعنى: (قد)، ومنهم من قال: هي استفهام، لكن المراد من هذا الاستفهام: لفت نظر النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد منه: التنبيه، هل أتاك حديث الجنود وما حل بهم؟

    فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ [البروج:18]، نعم. قد جاءك هذا الحديث ولكن الذين كفروا في تكذيب مستمر، فالمعنى: أنه قد أتاك حديث الجنود يا محمد وما حل بهم، وقد بلغ قومك حديث الجنود وما حل بهم، ولكنهم في إباء وعناد، والله سبحانه وتعالى قال في آية أخرى: (وَإِنَّكُمْ) أي: يا معشر قريش لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات:137-138] يعني: أنتم تمرون بمدائن قوم لوط، وبمدائن ثمود، (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ مُصْبِحِينَ) في صباحكم وأنتم مسافرون، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ، وكما قال سبحانه: (وَإِنَّهُمَا) أي: مدائن قوم لوط ومدائن قوم ثمود، وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ أي: لبطريق مُبِينٍ [الحجر:79] أي: واضح للمارة، فالله سبحانه وتعالى يقول: قد أتاك حديث الجنود وما حل بهم يا محمد، وبلغ قومك حديث الجنود والذي حل بفرعون وثمود، ولكن: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ [البروج:19]، أي: دائماً في تكذيب وعناد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والله من ورائهم محيط) وبيان منهج أهل السنة في الأسماء والصفات

    قال تعالى: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20]، هل تمر كلمة (محيط) على ظاهرها لعدم الوقوع في شيء مما يخل بالأسماء والصفات، أو يلتمس لها بعض التأويل؟

    منهج أهل السنة في الأسماء والصفات باختصار: أننا نثبت لله ما أثبته لنفسه، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه سبحانه وتعالى، ونثبت لله ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وننفي عنه ما نفاه عنه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا أثبتنا شيئاً لله تنفى المماثلة والمشابهة، لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] هذا بإيجاز واختصار شديد كالمضمن في قولنا: لا إله إلا الله، فـ(لا إله) نفي الآلهة، (إلا الله) إثبات الألوهية لله سبحانه وتعالى.

    (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) نفي المماثلة وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] إثبات السمع والبصر لله سبحانه وتعالى.

    أما قوله تعالى: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20] من العلماء من التمس لها بعض التأويل، فقال: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ أي: أن الله سبحانه وتعالى مهلكهم، واستدل قائل هذا القول بقول الله سبحانه تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف:42] أي: أهلك ثمره، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [الكهف:42]، واستدل أيضاً بقول الله سبحانه وتعالى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [يونس:22]، فمن العلماء من قال: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20]، أي: أن الله سبحانه وتعالى مهلكهم، ومنهم من قال: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ أي: محصٍ لأعمالهم ومجازيهم عليها.

    قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ [البروج:21] أي: كريم.

    قال تعالى: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:22]، من أهل العلم من قال: أي: مثبت في اللوح المحفوظ عند الله سبحانه وتعالى.

    ومنهم من قال قولاً لا أعلم عليه دليلاً ألا وهو: أنه مثبت في جبهة إسرافيل، ولا أعلم لهذا القول سنداً لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكلمة (مَحْفُوظٍ) من أهل العلم من قال: (مَحْفُوظٍ) أي: مثبت، ومنهم من قال: مَحْفُوظٍ من أن تمتد له أيدي العابثين، كما قال سبحانه: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، فمن أهل العلم من فسر (الباطل) بالشيطان.

    1.   

    الأسئلة

    حكم إقامة جماعة ثانية في مسجد له إمام راتب

    السؤال: ما حكم إقامة جماعة الثانية في المسجد الذي له إمام راتب؟

    الجواب: الجماعة الثانية في المسجد الذي له إمام راتب جائزة إذا لم يتعمد مقيمها التخلف لإحداث فتنة، أما إذا أتى رجل متأخراً عن الجماعة الأولى ومعه فئة أخرى من الناس، جاز لهم أن يصلوا صلاة في جماعة، وهذا أفضل وأحب.

    أما الدليل على فضله واستحبابه فمنه:

    أولاً: عموم الأحاديث التي وردت في فضل صلاة الجماعة.

    وثانيا:ً خصوص حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي جاء متخلفاً، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يتصدق على هذا؟ من يتجر على هذا؟).

    أما حجة المانعين، فمن حججهم:

    أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى يوماً إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا، فذهب وصلى بأهل بيته، وليس في هذا ما يمنع، فما الذي أدرانا أن هناك ناس في المسجد لم يكونوا قد صلوا، والنبي عليه الصلاة والسلام ترك الصلاة معهم، فليس فيه مانع.

    وكذلك من حججهم: بعض أفعال الصحابة، والإجابة على هذا أن المرفوع يقدم على الموقوف، والله سبحانه وتعالى أعلم، فكفى بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يتصدق على هذا؟).

    أما الأشياء التي يثيرها البعض ويقولون: إن هذا كان مفترضاً وكان هذا متنفلاً، وإمامة المفترض للمتنفل جائزة إذ هو أفضل منه... إلى غير هذه الأشياء، فإنها لم تكن هذه على عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نقلت مقولة عن الإمام الشافعي رحمه الله في معرض المنع وفهمت على غير وجهها، فكان السؤال الموجه للشافعي فيها عن قوم يتعمدون التأخر لإنشاء جماعة، فرأى الكراهية، فكانت الفتوى مقترنة بسؤال وجه الشافعي رحمه الله تعالى إلا إذا كان عموم المذهب الشافعي على شيء آخر فالله أعلم، لكن هذه الفتوى اطلعنا عليها في بعض كتب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فتعكر النقل عن الشافعي، فقد يقلل النقل المنقول عن الشافعي في الكراهية، وإنما هو مختصر بأقل من عموم الفتوى، والله أعلم.

    حكم صلاة المسافرين في جماعة ثانية بعد انتهاء الأولى

    السؤال: هل يجوز للمسافرين إذا أتوا بعد فراغ الجماعة أن يصلوا في جماعة ثانية؟

    الجواب: نعم جائز.

    حكم التلفظ بالنية

    السؤال: هل التلفظ بالنية بدعة، وتبطل الصلاة؟

    الجواب: أما بطلان الصلاة فلا أعلم دليلاً على بطلانها، أما التلفظ بالنية فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي للبدعة أقرب.

    عدم الالتفات إلى وساوس الشيطان أثناء العبادة

    السؤال: إني أعمل العمل ويجئ الشيطان لي في وسط الطريق ويقول: افعلي كذا وكذا من أجل أن يقال عليك: كذا وكذا، وأنا كثير الاستعاذة، وهذا أمر يجعلني أتمنى الموت إن كان خيراً لي وأخاف أن أظل على هذه الحالة فيختم لي بسوء الخاتمة.

    الجواب: لا تلتفتي للشيطان ما دمت قد بدأت العمل لله، فأكمليه لله، ولا تلتفتي إلى وساوس الشيطان.

    فمثلاً: دخلت المسجد تصلي ركعتين وفي نيتك من الأصل أن تصلي ركعتين طويلتين تتأنى فيهما وتبتهل فيهما إلى ربك سبحانه وتعالى، فمضيت على هذه الحالة فدخل رجل، فشرح صدرك وسررت بدخول هذا ورؤيته لك على هذه الحال، فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (تلك عاجل بشرى المؤمن) كما في صحيح مسلم. يعني: من المبشرات. أنك ترى هذا الذي دخل عليك أنت لم تنوِ الرياء ولم يتسرب إليك الرياء، إنما دخل عليك وأنت على هذه الحال فأتم عملك لله، وأنت مثاب ومأجور وهذه من المبشرات، فإذا عملت عملاً، وانتابك الشيطان ليفسد عليك العمل فتعوذ بالله فقط وامضِ في عملك ولا تلتفت إليه.

    حال حديث: (أنا بريء من كل مسلم يعيش بين أظهر المشركين)

    السؤال: ما صحة حديث: (أنا بريء من كل مسلم يعيش بين أظهر المشركين

    الجواب: حديث (أنا بريء من المسلم يعيش بين ظهراني المشركين) لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحديث مرسل، أرسله قيس بن أبي حازم، رجح المرسل الإمام البخاري، وأبو حاتم الرازي، والإمام الدارقطني، وغيرهما من الأئمة، فالصواب في حديث: (أنا بريء من مسلم يعيش بين ظهراني المشركين، لا تتراءى نارهما) أنه مرسل، والمرسل من قسم الضعيف.

    أما معناه فمن العلماء من قال: هو في الديات، أي: لا أؤدي عنه دية إذا قتل، ومنهم من قال: هي براءة عامة مما يصيبك، فمثلاً: أنت تعيش في بلاد المشركين، وقد قال لك الرسول صلى الله عليه وسلم: هاجر إلى المدينة، وأنت اخترت البقاء في بلاد المشركين، فإذا أصابك شيء فلا يلزم الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء تجاهك.

    ثم قال الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [الأنفال:72] يعني: إذا كان هناك رجل يعيش في وسط المشركين واستنصرك وقال لك: تعال انصرني فأنا مظلوم فعليك النصر إلا على قوم بينك وبينهم ميثاق.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755963764