إسلام ويب

المدحللشيخ : محمد المنجد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كثير من الناس اليوم يطلقون ألفاظ المديح والثناء ويكيلونها لكل أحد، حتى لو لم يكن أهلاً لها، بل ربما كان منافقاً أو كافراً والعياذ بالله. وهذه المسألة تؤدي إلى مخاطر على الشخص المادح والممدوح، سواء كان الخطر اجتماعياً أو في دين الشخص وعلاقته بربه عز وجل؛ لذا فقد جاء الشرع بضبط هذه المسألة ووضع الشروط الحاكمة لها دون إفراط أو تفريط.

    1.   

    ما يترتب على المدح من فساد

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

    فساد اجتماعي

    إخواني المسلمين: إحدى المشاكل الاجتماعية التي هي واقعة بكثرة في حياة المسلمين اليوم شيء مما يتعلق بعيوب اللسان، وهذا العيب وهذه الآفة تؤدي إلى مخاطر كثيرة، هذه الآفة: مسألة التمادح.

    كثير من الناس اليوم يطلقون ألفاظ المديح والثناء ويكيلونها لكل أحد حتى ولو لم يكن أهلاً لها، فتجد هذا يقول: فلان الفلاني كذا وكذا من ألفاظ المديح، وهذا الرجل من أفجر الناس ومن أفسق الناس، وقد يكون منافقاً أو كافراً والعياذ بالله.

    هذه المسألة أيها الإخوة! كيل الثناء والمدح لمن ليس له بأهل تؤدي إلى مخاطر كثيرة سواء على الصعيد الاجتماعي في قضايا الزواج مثلاً أو التعامل والوظائف، لأن الإنسان إذا مدح رجلاً فإنه يوثقه عند الآخرين، فقد يستخدمونه وهو ليس بأهل للاستخدام في هذا الجانب، وقد يؤدي إلى إفساد قلب الرجل ونيته؛ لأن كيل ألفاظ الثناء والمدح مما يخرب الإخلاص ويجرحه تجريحاً، ولذلك كان لا بد من إلقاء الضوء على هذه المسألة بحسب ما جاء في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه، وما ذكر العلماء في هذه القضية.

    فساد الشخص نفسه

    اعلموا رحمكم الله تعالى أنه قد ورد في الحديث الصحيح عن همام بن الحارث أن رجلاً جعل يمدح عثمان رضي الله عنه، فعمد المقداد -أحد الصحابة وكان جالساً في المجلس- فجثا على ركبتيه وكان رجلاً ضخماً فجعل المقداد الصحابي يحثو في وجه المادح الحصباء، الحصى الصغير مع التراب يحثوه في وجه المادح، فقال له عثمان : (ما شأنك؟ ماذا جرى لك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب) رواه مسلم .

    وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير قال: [مدحك أخاك في وجهه كإمرارك على حلقه موسي رهيصاً] . كأنك تمرر على حقله موسى شديداً وحاداً جداً.

    ومدح رجل ابن عمر رضي الله عنه في وجهه، فقال ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب، ثم أخذ ابن عمر التراب فرمى به في وجه المادح وقال: هذا في وجهك، هذا في وجهك، هذا في وجهك، ثلاث مرات) أخرجه أبو نعيم ، قال في الصحيحة : السند جيد.

    توضيح لكيفيةحثو التراب

    هذا الفعل أيها الإخوة -حثو التراب في وجوه المداحين- من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا بد عند تطبيق الأحاديث من مراعاة أحوال الحديث، فهذا لا يقول لك بأنه إذا جاءك رجل يمدحك الآن فإنك تأخذ التراب وترميه في وجهه مهما كان حاله، كلا يا أخي! فلا بد من مراعاة حال المادح فقد يكون جاهلاً لأحكام المدح وما يترتب عليها، ثم إن ابن عمر رضي الله عنه من فقهه أنه علَّم الرجل أولاً وقرأ عليه الحديث ثم حثا في وجهه التراب.

    ثم أنك إذا رأيت بأن حثو التراب في وجه هذا المادح قد يباعد فيما بينك وبينه، ويصده عن الإسلام، ويمنعه من التأثر فيك أو الاقتداء بك فإن من الحكمة في هذه الحال عدم استعمال هذا، ليس تعطيلاً للحديث وإنما حكمة في الدعوة إلى الله، وترفقاً بالجاهل.

    وكذلك يا أخي المسلم! فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذا الحديث: (احثوا في وجوه المداحين) وأتى بصيغة المبالغة (المداحين) وهم الذين يكثرون المدح ويستعملونه بكثرة فيجعلونه صنيعهم ودأبهم الدائب.

    قال ابن العربي رحمه الله: وصورة تطبيق هذا الحديث أن تأخذ كفاً من تراب وترمي به بين يديه، وليس في وجهه فتعمي به عينيه، كلا، وإنما ترميه أمامه، لماذا؟ فإنك تقول له: ما عسى أن يكون مقدار من خلق من هذا. لماذا قال عليه السلام التراب؟

    من الحكم أيها الإخوة: أنك تأخذ التراب وترميه أمامه وتقول له: أنا خلقت من هذا التراب، فهل أنا أهل لهذا المديح وما خلقت إلا من الطين؟ وأنت كذلك ما خلقت إلا من هذا التراب فاربأ بنفسك عن هذه الآفات التي تعرضك إلى ما لا يُحمد عقباه، وتعرف المادح قدرك وقدره.

    قال النووي رحمه الله: ومدح الإنسان قد يكون في غيبته وهو غير موجود، وفي وجهه، ففي الحالة الأولى إذا مُدح وهو غائب عن المجلس فإن هذا المدح لا يمنع منه إلا إذا دخل المدح في الكذب حتى ولو كان الممدوح غير موجود؛ لأنه يدخل في الكذب لا لكونه مدحاً.

    ويستحب كذلك أيها الإخوة: أن الإنسان إذا مدح ألا يبالغ حتى ولو كان الممدوح أهلاً لهذا المدح، كما سيمر معنا بعد قليل.

    1.   

    علل وآفات يسببها المدح للمدوح

    وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم خطورة المدح فقال: (إياكم والتمادح فإنه الذبح) فإنه في خطورته مثل الذبح، مدحك لأخيك في وجهه مثل أن تذبحه بالسكين. رواه ابن ماجة ، وهو في صحيح الجامع .

    وقال أيضاً: (ذبح الرجل أن تزكيه في وجهه) هذا قوله عليه السلام، وهو حديث مرسل تشهد له أحاديث أخرى، وهو في صحيح الجامع .

    هذا المدح أيها الإخوة يسبب عللاً كثيرة وآفات كبيرة في دين المادح والممدوح، فلذلك سماه عليه الصلاة والسلام ذبحاً لأنه يميت القلب ويخرج الممدوح عن دينه، وفيه ذبح للمدوح أيضاً من جهة أنه يغره بأحواله ويغريه بالعجب والكبر، ويرى نفسه أهلاً للمدحة لا سيما إذا كان من أبناء الدنيا، لذلك قال بعض السلف : لو أن إنساناً صنع إليك معروفاً وهو يحب المدح والثناء والظهور بين الناس فلا تمدحه على صنيعه، لا تمدحه ولكن ادع له أدعية، مثلما قال عليه الصلاة والسلام: (من صنع لأخيه معروفاً فقال له: جزاك الله خيراً فقد أجزل في العطاء، أو فقد أجزل في الثناء) .

    الدعاء له لا بأس به، أما لو شعرت بأن هذا الرجل الذي صنع لك معروفاً وهو يحب من وراء هذا المعروف أن تمدحه وتثني عليه في المجالس، وتذكر سيرته أمام الناس ففي هذه الحالة لا تمدحه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ناهياً عن الإطراء وهو الزيادة في المدح، قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى) ما قال عليه السلام لا تمدحوني، ولكن قال: ( لا تطروني ) والفرق أيها الإخوة! أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستحق المدح، ومع ذلك فقد أوصانا بعدم إطرائه، والإطراء هو المبالغة في المدح حتى يرفعه فوق قدره ومنزلته التي أنزله الله إياها.

    ولذلك قال بعض العلماء: ويحرم مجاوزة الحد في الإطراء في المدح وترد به الشهادة.

    كان قضاة المسلمين إذا جاء رجل معروف بالإطراء والزيادة في المدح، وعادته الثناء على الناس بما ليسوا له بأهل كانوا يردون شهادته ولا يقبلونها.

    وهذه الحالة أيها الإخوة! معروفة في الشعراء كثيراً، ولذلك قال بعضهم: لا تؤاخي شاعراً لأنه يمدحك بثمن ويهجوك مجاناً، يمدحك ويأخذ أجراً على هذا الشعر، ولكنه إذا أراد أن يهجوك هجاك مجاناً، ولذلك وقع من جراء التمادي في المدح في بعض أشعار السابقين واللاحقين أشياء لا يرضاها الله تعالى، فمن ذلك قول الشاعر ابن هانئ الأندلسي ، وهو يمدح المعز المعبدي مخاطباً له، وصل به الإطراء إلى درجة أنه قال له هذا البيت مخاطباً إياه:

    ما شئت لا ما شاءت الأقدار     فاحكم فأنت الواحد القهار

    هذه الصفات لمن أيها الإخوة؟ هذه الصفات لله عز وجل، هو الذي يشاء ومهما شاء البشر فمشيئته نافذة، وهو الذي يحكم وهو الواحد القهار، وصل الحال بهذا الشاعر لدرجة أن خرج عن الملة بإطلاق هذه الألفاظ على عبد من العبيد.

    وروى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه : عن أبي موسى قال: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يثني على رجل ويطريه في المدحة -يبالغ في المدح- فقال: أهلكتم، أو قطعتم ظهر الرجل) وترجم عليه البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الشهادات، قال معنوناً: باب ما يكره من الإطناب والمدح.

    وعن أبي بكرة رضي الله عنه: أن رجلاً ذُكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجلٌ خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك، ويحك، ويحك! قطعت عنق صاحبك يقول ذلك مراراً) . يقول له: ويحك قطعت عنق صاحبك (إن كان أحدكم مادحاً لا محالة -يقول عليه الصلاة والسلام موجهاً للأمة: إن كان أحدكم لا بد أن يمدح- فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك) .

    ليس فقط أن يقول المدح، وهذا لا يعني أن يستاهل في المدح حتى ولو قال: أحسبه كذا لا بد أن يكون مصلياً حتى تقول: أحسبه من أهل الصلاة، أما إن كان غير مصلٍ فلا يجوز أن تقول له من أهل الصلاة حتى لو قلت قبلها أحسبه، لأنه ليس من أهل الصلاة، فيقول عليه الصلاة والسلام: (إن كان يرى أنه كذلك، والله حسيبه، ولا يزكي على الله أحداً) لذلك إن رأى إنسان أن يمدح إنساناً لحاجة شرعية أو مصلحة شرعية فليقل في مدحه: أحسبه والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً أن الرجل هذا من أهل كذا.

    وبوب النووي رحمه الله تعالى على هذا الحديث باب: كراهة المدح في الوجه لمن خيف عليه مفسدة من إعجاب ونحوه وجوازه -يعني: بلا كراهة- لمن أُمن ذلك في حقه، وذلك لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته.

    شروط جواز المدح

    شرط جواز المدح ألا يكون فيه مجازفة، فإذا كان فيه زيادة عن حال الرجل ومجازفة فإنه عند ذلك لا يجوز مطلقاً.

    وكذلك أيها الإخوة من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه فإن الممدوح لا يأمن على نفسه العُجب، فربما ضيع العمل والزيادة من الخير اتكالاً على ما وصف به، لو أنك أخذت إنساناً ومدحته وقلت: أنت كذا وكذا.. أمام الناس أو بمفرده ماذا يحصل لهذا الرجل؟

    يحصل بسبب مدحك إياه بأنه قد وصل إلى منزلة عالية من الخير، وأنه عند الله في كذا وكذا، وأنه من أهل الجنة مثلا، هذا الشيء يدفعه إلى ترك العمل لأنه يشعر بأنه قد أمن على نفسه، وبأنه قد أصبح في المنزلة العالية، ولذلك قال العلماء: إن الرجل لا يعمل إلا إذا أحس بالتقصير، فأنت إذا مدحته مدحاً زائداً فإنك تزيل عنه التقصير من نفسه، تزيل عنه الإحساس بالتقصير فلذلك يتكاسل عن العمل ويتوانى، هذه أيها الإخوة من أضرار الإفراط في المدح.

    وأما من مدح إنساناً بما فيه وكان هذا الرجل من أهل الصلاح والتقوى، ولا يوجد عنده حب للظهور، أو لا يوجد عنده اغترار بالكلام الذي سيمدح به فإنه والحالة هذه لا يكره مدحه، ولكن هذا الأمر لعمر الله يحتاج إلى فراسة إيمانية لا تتوفر لكثير من الناس، لذلك كان الأحوط ألا تبالغ في المدح ولا تمدح إلا للضرورة الشرعية.

    ولذلك قال ابن حجر رحمه الله في الفتح : وقد ضبط العلماء المبالغة الجائزة من المبالغة الممنوعة، بأن الجائزة يصحبها شرط أو تقريب والممنوعة بخلافها.

    يعني: أنت أحياناً تضطر إلى المدح فماذا تقول في مدحك؟

    فلان إن شاء الله من أهل الخير ما دام متمسكاً بالدين، أو ما دام متبعاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الشرط أو التقريب ما دام متبعاً مهمٌ جداً لكي يكون المدح شرعياً وإلا كان إطلاق المدح: فلان من أهل الخير والصلاح هكذا تزكية ومدح بدون قيد أو شرط، هذا المدح يخشى أن يكون مما لا يرضي الله عز وجل، أو تقول: فلان نحسبه من كذا على سبيل التقريب، نحسبه من أهل كذا، هذه الصيغة لا بأس بها إذا احتاج الإنسان إليها.

    ما يسببه المدح للمادح

    وكذلك فإن المادح نفسه يتضرر من وراء هذا المدح، فيضطر للكذب في المدح، وقد يضطر للرياء، وقد يرتكب منهياً عظيماً من المنهيات وهو يمدح إنساناً فاسقاً أو ظالماً، وقد يطلق الكلام لا على سبيل التحقق يقول: فلان من أهل كذا، وفلان صفته كذا وهو ما تحقق ولا تأكد؛ خصوصاً أيها الإخوة أن بعض الأشياء التي يمدح بها بعض الناس لا سبيل إلى التأكد منها مطلقاً، لأنها قد تكون أشياء قلبية، كيف اطلعت على قلبه لتقول هذا الرجل من المخلصين وإيمانه كامل، وكذا وكذا؟ والإيمان محله القلب ويصدقه العمل، أنت تحكم بالعمل فقط ولم تطلع على قلبه؟ وتحكم لفلان من الناس بكمال الإيمان وهي مسألة الحكم بها مستحيل لأنها تحتاج على اطلاع على القلب، وهذا ليس إلا لله عز وجل.

    1.   

    عادة السلف وأهل العلم في المدح

    أيها الإخوة: بعض الناس قد يقول: فلان ورع، فلان تقي، فلان زاهد، هذا المدح ليس بصحيح، هذا بخلاف ما إذا قال: رأيت فلاناً يصلي، رأيت فلاناً يحج، رأيت فلاناً يزكي.

    لو طلب منك شهادة في فلان في مسألة زواج مثلاً، لا تقول: فلان ورع وتقي وعابد وزاهد وكامل الإيمان، ولكن تقول مثلاً: أنا رأيته يصلي، رأيته يدعو إلى الله على بصيرة، رأيت فيه علماً، فلا تطلق الألفاظ، تقول هذا الكلام مما يسهل الاطلاع عليه لأنه يسهل الاطلاع على فلان أنه من أهل الصلاة، يسهل الاطلاع على فلان أنه من أهل العلم وهكذا.

    وكذلك أيها الإخوة قال سفيان بن عيينة : إذا مدح الإنسان في وجهه ماذا يقول؟ (اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون) أخرجه البيهقي في الشعب .

    وتستنكر هذا المدح وتنكر على هذا الرجل هذا الكيل المتدفق في المدح لأنه مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلماؤنا من السلف رحمة الله تعالى عليهم كانوا لا يكيلون المدح جزافاً ولا يطلقونه إطلاقاً؛ بل إنك إذا رجعت إلى كتب الجرح والتعديل التي فيها تقييم لرجال الحديث؛ وجدت العلماء من السلف في هذا الجانب يدققون جداً، لا يقولون: فلان إمام عدل ثقة ثبت، ورع زاهد تقي عابد إلا إذا كان من أهل هذه المنزلة فعلاً، أما إذا كان فيه شيء آخر فإنهم يبينونه، فلذلك مثلاً يقول الذهبي رحمه الله في ترجمة إسماعيل بن سميع الكوفي : ثقة فيه بدعة، كونه ثقة ما منع الذهبي أن يقول: فيه بدعة، وكونه فيه بدعة ما منع الذهبي أن يقول عنه: ثقة وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الأعراف:85] قال عنه: ثقة فيه بدعة.

    وقال في ترجمة أبو سليمان داود المدني رحمه الله: ثقة مشهور له غرائب تستنكر، مع أنه ثقة مشهور لكن عنده غرائب تستنكر منه، ما منع الذهبي ثقة الرجل وشهرته أن يضيف هذه الإضافة: له غرائب تستنكر، لا بد من إنزال الناس منازلهم، وعدم إطلاق ألفاظ الثناء عليهم. مثال أخير: قال الذهبي رحمه الله في ترجمة طلق بن حبيب : من صلحاء التابعين إلا أنه يرى الإرجاء، وقال ابن حبان في نفس الرجل: كان عابداً مرجئاً، الإرجاء بدعة في الدين، وهو مذهب باطل إلا أنهم لما ترجموا لهذا الرجل قالوا: من صلحاء التابعين، هو صالح نعم، لكن عنده في فكره انحراف منهجي في قضية الإرجاء.

    ومن أعظم المصائب في قضية المدح: مدح المنافق والفاجر أو الكافر بقول سيد، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي يرويه أحمد وأبو داود عن بريدة وهو في صحيح الجامع : (لا تقولوا للمنافق سيدنا، فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم) .

    قال العلماء في شرح الحديث: إذا قلت للمنافق يا سيدنا أو يا سيدي، وهذا الرجل سيد فعلاً عنده عبيد وعنده أموال وعنده جاه ومنصب، فإن قلت له: يا سيدي وهو منافق فعلاً فقد أسخطت ربك، فكيف إذا كان هذا المنافق ليس بسيد أصلاً، بل هو من عامة الناس، وهو منافق، وأنت تقول له: يا سيد أو يا سيدي؟!

    ولذلك قال النووي رحمه الله معنوناً على هذا الحديث: باب النهي عن مخاطبة الفاسق والمبتدع ونحوهما بسيد ونحوه، قال الشارح في دليل الفالحين : ونحوهما -يعني: الفاسق والمبتدع- من الظلمة وأعوانهم، وبعض الناس اليوم عندما يخاطب الكفار يقول له بلهجته أو بلغته الأجنبية: نعم يا سيد، كما يقول بعض الطلبة للمدرس الكافر يقول له: يا سيد!

    هذا أيها الإخوة داخل في الحديث حتى ولو قالها بلغة الكافر، وهذه اللفظة شائعة على ألسنة كثير ممن يتعاملون مع الكفرة، لماذا هذا النهي وهذا التعظيم وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فقد أسخطتم ربكم) قال الشارح رحمه الله: لأن فيه تعظيماً لمن أهانه الله، الله عز وجل يهين منافقاً أو مبتدعاً أو فاجراً ويتوعده في كتابه بالنار والعذاب والإهانة في الدنيا والآخرة، وأنت أيها المسلم تأتي وترفع هذا الرجل إلى مرتبة السيادة، إنه لأمر عجيب فعلاً! وهذا الشيء مقيد بمن لا يكون على نفسه ضرر في أهله أو ماله فلا كراهة حينئذٍ، وقوله: (فقد أسخطتم ربكم) أي: عظمتم من خرج عن عبودية الله واتخذ له ضداً ونداً، وكذلك العصاة فإنهم اشتركوا مع المنافق في الخروج من حزب الرحمن والانتظام في إخوان الشيطان.

    هذا أيها الإخوة لا يجوز بحال، كثير من المسلمين اليوم يعظمون الفجار والفسقة والمبتدعين والمنافقين ويكيلون لهم ألفاظ الثناء والمدح بغير حساب.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم هذه الآفات، وإن يرزقنا وإياكم العدل في القول والعمل، وألا نبخس الناس أشياءهم، وصلى الله على نبينا محمد.

    أستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    نهي الشرع عن مدح الموت

    الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا هو عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أقام الله به الملة العوجاء، ودعا الناس إلى لا إله إلا الله وعلمهم ما ينفعهم في الدنيا والأخرى.

    أيها الإخوة: ومما يتعلق بالموضوع كذلك: ما تراه أيها المسلم أحياناً في نعي الجرائد، فإن كثيراً من الناس إذا ذهب ينشر نعياً عن ميت من أصحابه أو من أهله، تراه يقول مثلاً في مطلع النعي: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:27-28] أو يقول في لقب: انتقل إلى رحمة الله فلان، أو يقول: المغفور له فلان قد مات في كذا وكذا، أو يقول: الشهيد فلان، أو مات شهيداً ونحو ذلك، إلى آخر ذلكم من الآيات التي يصدر بها النعي، وإلى آخر ذلك من الألفاظ: المرحوم فلان.

    يا أخي المسلم ما يدريك بأنه مرحوم؟ ما يدريك لعله انتقل إلى غضب الله وعذابه بدلاً من أن ينتقل إلى رحمته؟ ما يدريك لعل نفسه أمارة بالسوء وليست نفساً مطمئنةً؟ كيف تحكم عليه؟ كيف تحكم عليه بهذه الأحكام فتقول هذا صاحب النفس المطمئنة: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:28-30] ما يدريك أنه قد دخل الجنة عندما مات؟ ما يدريك بأن الله قد غفر له أو لم يغفر له؟ ما يدريك بأنه شهيد؟ ربما كان غير شهيد.

    فلذلك أقرأ عليكم أيها الإخوة هذا الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله، والذي يوضح لك بجلاء خطأ ونكارة ما يفعله الناس اليوم في هذه الأمور.

    عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء الأنصارية -امرأة من الأنصار- قالت: لما هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة ، كانوا فقراء ليس عندهم مأوى ولا مكان يبيتون فيه، إخوانهم الأنصار كانوا يحرصون عليهم أشد الحرص، فتقول المرأة: اقتسموا المهاجرين قرعة، كل واحد من الأنصار قال: أنا أريد فلان أنا أريد فلان، والمهاجرين قلة في العدد أقل من الأنصار، فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟

    قسمها بالقرعة، يأتي برجل من المهاجرين، فيقرع بين الأنصار فيخرج هذا من نصيب فلان فيأخذه معه في بيته، ويسكنه ويكرمه ويطعمه، قالت هذه المرأة رضي الله عنها: فصار لنا عثمان بن مظعون المهاجري رضي الله تعالى عنه، وأنزلناه في أبياتنا، أكرمناه فوجع وجعه الذي توفي فيه، نزل به المرض والوجع الذي أدى به إلى الوفاة، فلما توفي غسل وكفن في أثوابه، تقول هذه المرأة التي أضافت هذا الرجل: ما علمت منه إلا كل خير، أي أنها ما رأته إلا عابداً مجاهداً في سبيل الله، تقول: رحمة الله عليك يا أبا السائب -وهي كنية عثمان بن مظعون - حتى هنا الكلام صحيح ودعاء بالرحمة له، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت: بأبي أنت يا رسول الله! فمن يكرمه الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين -أي: الموت- والله إني لأرجو له الخير) .

    انظروا إلى التصحيح والتعليل، المرأة قالت: شهادتي عليك لقد أكرمك الله، ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ( والله إني لأرجو له الخير ) فلو قلت مثلاً: أرجو أن يكون فلاناً من أهل الجنة، أرجو أن الله قد أكرمه، نسأل الله أن يغفر له ذنوبه، نسأل الله أن يبلغه عليين، إلى آخر ذلك من ألفاظ الدعاء للميت، فلا بأس، لكن إطلاق الحكم له بالجنة وإطلاق الحكم له بالمغفرة أو الشهادة هذا مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة ، لأن من عقيدتهم أنهم يقولون: لا يجوز الحكم لمعين بجنة أو نار إلا من حكم له الوحي، فإذا حكم الوحي لـأبي بكر أنه من أهل الجنة فنحن نقطع أنه من أهل الجنة، إذا حكم القرآن أن أبا لهب في النار قطعنا بأنه في النار، أما غير ذلك من الأشخاص لا نقطع لهم بجنة أو بنار إلا ما ورد في الوحي، بل نقول: إن فلاناً عمله من عمل أهل الجنة، وفلان عمله من عمل أهل النار، وهكذا.

    ثم قال عليه الصلاة والسلام مكملاً حديثه: (والله إني لأرجو له الخير، ووالله -انظروا أيها الإخوة إلى هذه العبارة- ما أدري وأنا رسول الله ماذا يفعل بي) . ولذلك تقول هذه المرأة: فما زكيت بعده أحداً أبداً.

    1.   

    كيفية الاعتدال في المدح

    نقطة أخيرة في هذا الموضوع: عندما نقول بالنهي عن المدح والتمادح والثناء فلا نعني أيها الإخوة بأي حال من الأحوال الجفاف في معاملة الناس، وعدم الثناء على من يستحق الخير، وأنه إذا ورد أمامنا ذكر عالم أو رجل من المخلصين ألا نقول له كلمة مدح أو ثناء البتة، كلا أيها الإخوة، ولا يعني ذلك أيضاً أننا في حال الدعوة إلى الله لا نترفق بالناس، ونستثير كوامن الخير في أنفسهم بالثناء على ما فيهم من الخير، أنت كداعية عندما تريد أن تدعو إلى الناس لا تذهب إلى الرجل وتقول في وجهه: افعل كذا وكذا بدون مقدمات تستثير بها عاطفته وتفتح قلبه، فمثلاً تقول للرجل: أحسب أنك من أهل الخير.. هلا فعلت كذا وكذا، أحسب أنك من أهل طاعة الله لم لا تفعل كذا؟ أو تقول مثلاً لرجل وهو يصلي: يا أخي أنت من أهل الصلاة والحمد لله، وفيك خير كبير، وفيك إيمان ما دمت أنك من أهل الصلاة، لماذا لا تكمل هذا الإيمان بالإقلاع عن المعصية الفلانية والفلانية؟ وقد قال الشاعر:

    ولم أر في عيوب الناس عيباً     كنقص القادرين على التمام

    هذا الأسلوب أيها الإخوة مطلوب، تشجيع طلبة العلم أثناء تعليمهم بقول المعلم للرجل: أحسنت مثلاً، والثناء عليه لا بأس بذلك، تشجيع الناس الذين يفعلون الخير بالكلمات الطيبة لا بأس بها، بشرط أن يؤمن بأنهم لن يأخذوا كلامك هذا ويفسد نياتهم ويتركون العمل، وذلك بأن تقتصد في المدح وتعطي كل رجل الألفاظ المناسبة لحاله بغير أن تخرجه عن الحد المشروع.

    ولذلك أيها الإخوة أبو سفيان المشرك لما أسلم رضي الله عنه، كيف أسلم؟

    من الأسباب التي دعته للإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنزله منزلة فيها إظهار لبعض قدره حتى يؤلف قلبه على الإسلام، فلذلك قال عليه السلام مخاطباً أهل مكة: (من دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن) لماذا قال هذه الجملة؟ قالها إعطاء لهذا الرجل شيئاً من المنزلة لعل الله أن يهديه، فأصاب أبو سفيان هذه المنزلة تأليفاً لقلبه، وهذا قدوة نقتدي بها أيها الإخوة في باب الدعوة إلى الله عز وجل.

    وفقنا الله وإياكم لمعرفته حق المعرفة، وعبادته حق العبادة، وأن نقوم بحقوق الله جل وعلا، وأن نقيم حدوده عز وجل في أعمالنا وجوارحنا وألسنتنا، ونسأله تعالى أن يقينا وإياكم آفات اللسان فإنها مهلكة.

    اللهم اجعلنا من الطائعين لك سراً وجهراً، ومن القائمين بحقوقك في الليل والنهار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755993661