إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. محمد المنجد
  5. الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية

الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيميةللشيخ : محمد المنجد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في هذا الدرس تحدث الشيخ عن الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية، وقد تطرق فيها إلى مواضيع عدة، منها: فضل معاذ رضي الله عنه، وإتباع السيئات بالحسنات، والحذر من موافقة أهل الكتاب، وأهمية ذكر الله. ثم عرج على رسالة أخرى اسمها: "قاعدة في المحبة" ذكر فيها أكثر من ثلاثين قاعدة في المحبة ومسائل أخرى مهمة.

    1.   

    فضل معاذ رضي الله عنه

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

    فموضوع الرسالة التي سنتحدث عنها هي: الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وسنمر على هذه الوصية، ثم بعد ذلك نعقبها بتلخيص قاعدة في المحبة في نحو عشرين قاعدة بمشيئة الله تعالى، مع عرض بقية النقاط.

    الوصية الصغرى اسم اُشتهرت به رسالة صغيرة لـشيخ الإسلام رحمه الله، وهي في الحقيقة شرح لحديث معاذ رضي الله عنه: ) اتق الله حيثما كنت ).

    وهذه الوصية أوصى بها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شخصاً طلب منه الوصية، فيكون الكلام عنها من باب التواصي بالحق والتواصي بالصبر الذي أُمرنا به، واشتملت على موضوعات مختصرة ذكرها رحمه الله تعالى، فمنها:

    فضل معاذ رضي الله تعالى عنه، وقضية إتباع السيئات بالحسنات، ومسألة الحذر من موافقة أهل الكتاب، وأهمية ذكر الله سبحانه وتعالى والإخلاص له، وعموماً فإن الرسالة تدور على التقوى ومعانيها.

    أما بالنسبة لهذه الرسالة فإن السبب في كتابتها؛ كان سؤالاً وجهه شخص اسمه القاسم بن يوسف بن محمد التوجيبي السبتي المغربي يقول في رسالته أو سؤاله لـشيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "يتفضل سيدنا الشيخ الفقيه الإمام الفاضل العالم بقية السلف وقدوة الخلف، المُبدع المفصح، أعلم من لقيت في بلاد المشرق والمغرب تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية أبقى الله علينا بركته، بأن يوصيني بما يكون فيه صلاح ديني ودنياي، ويرشدني إلى كتاب يكون عليه اعتمادي في علم الحديث، وكذلك في غيره من العلوم الشرعية، وينبهني على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات، ويبين لي أرجح المكاسب، كل ذلك على قصد الإيماء والاختصار والله تعالى يحفظه، والسلام الكريم عليه ورحمة الله وبركاته".

    فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه: الحمد لله رب العالمين، أما الوصية فما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها قال الله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] -فما هي أعظم وصية؟ تقوى الله- ووصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً لما بعثه إلى اليمن فقال: (يا معاذ ! اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) وهذا حديث صحيح.

    وكان معاذ رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة عليَّةٍ فإنه قال له: (يا معاذ والله إنني لأحبك) وكان صلى الله عليه وسلم يردفه وراءه كما جاء في الحديث الصحيح الذي يقول فيه معاذ رضي الله عنه: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، فقال: يا معاذ ! هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، فقلت: يا رسول الله! أفلا أبشر به الناس؟ فقال: لا تبشرهم فيتكلوا) أخرجه البخاري ، ثم أخبر به معاذ رضي الله عنه عند موته تأثماً من كتم العلم.

    وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه -أي: في معاذ -: (أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام) كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر -وفي رواية: أرأف أمتي بأمتي أبو بكر - وأشدهم في دين الله عمر ، وأشدهم حياءً عثمان ، وأقضاهم علي بن أبي طالب ، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا إن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ) وهذا الحديث أخرجه الترمذي وغيره وهو حسن بمجموع طرقه.

    وأخبر عليه الصلاة والسلام أن معاذاً رضي الله عنه يُحشر أمام العلماء برتوة، يتقدم العلماء كلهم يوم القيامة، معاذ بن جبل رضي الله عنه برمية حجر -مسافة- أمام والعلماء وراءه، وقد جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمر وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

    ومن فضله أنه صلى الله عليه وسلم بعثه مبلغاً عنه داعياً ومفقهاً ومفتياً وحاكماً -أي قاضياً- إلى أهل اليمن ، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ، أنه عليه الصلاة والسلام: (بعث معاذاً إلى اليمن ، قال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله..).

    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبهه بإبراهيم الخليل، ولكن هذا قد جاء في طرق موقوفة عن ابن مسعود رضي الله عنه، أي: ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أن معاذ بن جبل يُشبه إبراهيم الخليل من جهة، وإبراهيم كان إمام الناس، وكان ابن مسعود يقول: [إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين] تشبيهاً له بإبراهيم.

    فإذاً: معاذ موحد وإمام يأتم به الناس، وهذا هو وجه مشابهته للخليل إبراهيم عليه السلام.

    وكان معاذ رضي الله عنه يجلس ويتصدر في المسجد الجامع في دمشق ، وقد دخل عليه واحد من الناس فرآه براق الثنايا فتىً لم يكن كبيراً في السن عندما تصدر بالعلم الذي آتاه الله إياه.

    يريد ابن تيمية أن يُوصي الشخص الذي طلب منه الوصية، وأن ينقل له وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه.

    فوصاه بهذه الوصية، فعُلم أنها جامعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما وصى أعرابياً من الأعراب وإنما وصى معاذاً ، ولما وصى معاذاً معناها أنه انتقى له وصية تناسب حاله، فعُلم أنها جامعة، وهي كذلك لمن عقلها، مع أنها تفسير للوصية القرآنية، ووصية الله للبشرية: أن اتقوا الله.

    هذه الوصية جامعة -وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ - لأن العبد عليه حقان: حق لله عز وجل، وحق لعباده، فالحق الذي عليه لله قد يُخل به أحياناً والعبد يمكن أن يخل من عدة جهات:

    أولاً: إما بالإخلال وذلك بترك الواجبات، أو الإخلال بفعل المحرمات، إما أن يترك واجباً أو يفعل محرماً، هذا هو الإخلال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اتق الله حيثما كنت ) أي: لا تترك واجباً ولا تفعل محرماً، وهذه كلمة جامعة، وهذه هي التقوى.

    ثم إنه أوصاه بها في السر والعلانية.

    1.   

    إتباع السيئات الحسنات

    ثم قال له: -فإذا حصل الإخلال ماذا يفعل العبد؟ فجاء الجواب-: ) وأتبع السيئة الحسنة تمحها ).

    فإن المريض متى ما تناول شيئاً مضراً، فإن الطبيب يأمره بإصلاح هذا الضرر الحاصل من تناول الشيء المضر، والذنب للعبد كتناول الشيء المضر، فالكيّس الذي يتعاطى ما يصلح الضرر الذي تناوله، وكذلك لما قال له: ( أتبع السيئة الحسنة تمحها ) مثل الطبيب إذا جاءه واحد تناول شيئاً مضراً، فإنه ينصحه بأن يتناول شيئاً يصلح الضرر.

    والعبد إذا أذنب؛ فعليه أن يأتي من الحسنات ما يكفر الذنب ويزيل الضرر، وتنبه للحكمة البالغة في أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بذكر السيئة قبل الحسنة، قال: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) فبدأ بالسيئة؛ لأن المقصود هنا إزالة أثر السيئة لا مجرد فعل الحسنة، ولذلك بدأ بذكر السيئة، فصار قوله كما في بول الأعرابي: (صبوا عليه ذنوباً من ماء) هذه مثل أتبع السيئة بالحسنة فيذهب الماء دنس النجاسة وأثرها.

    وقد نبه شيخ الإسلام رحمه الله إلى مسألة وقال: ينبغي أن تكون الحسنات المعمولة -إذا عملت ذنباً- من جنس السيئة فإنه أبلغ في محو الذنوب. فإذا سافر شخص إلى بلد فسق وفجور وعمل معصية، فالحسنة المشابهة أن يذهب في عمرة، أو في سفر حج، أو في سفر جهاد، أو في سفر طلب علم، أو في سفر طاعة مثلاً. (من قال لصاحبه: تعال أقامرك؛ فليتصدق) أي: إذا عمل معصية تتعلق بالأموال، فالحسنة المشابهة التصدق، إذا قطع رحماً يصله، فالحسنة المكفرة من جنس السيئة ومن نفس الباب تكون أبلغ في التكفير والتطهير، وأبلغ في محو الذنوب.

    أسباب إزالة السيئات

    ثم نبه رحمه الله تعالى إلى أن السيئة عموماً تزال بأشياء، فلو قال لك أحد: أنا عملت سيئة، ما هي أسباب إزالة السيئات في الشريعة؟ وهذا الموضوع مهم أن يطرح وخصوصاً في هذه الأيام لكثرة السيئات، الآن نتيجة وجود المعاصي وأبواب الشر والشهوات، وهذه الأفلام وهذه الصحون وغيرها وقع الناس في المعاصي، فالشاهد فساد الأسواق والشوارع والمدارس والبنات والنساء، فصارت هناك معاصٍ كثيرة في المجتمع، فالمهم أن يطرح موضوع: كيف نطهر السيئة؟ لأن كثيراً من الناس لا يخلون من فعل المعصية، فمن ذا الذي يخلو من فعل المعصية في هذه الأيام، مع كثرة أبواب الشر والمعاصي التي فتحها اليهود وأعوانهم. فمهم جداً أن يركز على قضية كيف تكفر السيئة؟

    تكفر السيئة بأسباب:

    أولاً: التوبة.

    ثانيا: الاستغفار. فإن الله تعالى قد يغفر لهذا الشخص بإجابة دعائه عندما يقول: اللهم اغفر لي، وإن لم يتب التوبة بشروطها المعروفة، وإذا اجتمعت التوبة مع الاستغفار؛ كان أكمل.

    ثالثاً: الأعمال الصالحة المكفرة. ثم إن هذه المكفرات قد تكون مقدرة وقد تكون غير مقدرة. المكفرات المقدرة: تدور أجناسها في الشريعة على أربعة أشياء:

    الأول: الذبح.

    الثاني: العتق.

    الثالث: الصدقة.

    الرابع: الصيام.

    لو نظرنا إلى المكفرات، فمثلاً: إذا حلف شخص فعليه كفارة يمين، شخص جامع في نهار رمضان، أو ظاهر من زوجته، أو عمل محظوراً من محظورات الإحرام مثلاً: صاد في الحرم.

    المكفرات إذا نظرنا إليها في الشريعة إما أن تكون مقدرة أو غير مقدرة، وإذا نظرنا إلى الأشياء المقدرة، نجد أنها تدور على أربعة أشياء: الذبح والعتق والصدقة والصيام.

    كما جاء في مرتكب بعض محظورات الحج والمجامع في رمضان، والتارك لبعض واجبات الحج ونحو ذلك.

    أما الكفارات المطلقة غير المقدرة، فإنه قد أشير إليها في حديث حذيفة لـعمر رضي الله عنهما، قال له من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده، يكفرها: الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إذاً أبواب الخير عموماً، وقد دل القرآن والسنة على أن التكفير يكون بالصلوات الخمس، كما في الحديث: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر).

    وكذلك من فعل كذا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، ونحو ذلك جاءت أعمال صالحة مطلقة، أي: أعمال صالحة عموماً التي يفعلها يُغفر له، فإذاً: من المكفرات الأعمال الصالحة عموماً.

    1.   

    الحذر من موافقة أهل الكتاب

    ثم يقول منبهاً على زمان كأنه زماننا، ولكن نحن أسوأ بزمانه بكثير بالتأكيد، يقول: ( واعلم أن العناية بهذا من أشد ما بالإنسان الحاجة إليه، فإن الإنسان من حين يبلغ خصوصاً في هذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية ) الفترة هي التي ما جاء فيها رسول، وقد جاء رسولنا على حين فترة من الرسل، أي: انقطاع من الرسل. يقول: ( فإن الإنسان من حين يبلغ خصوصاً في هذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه ).

    فتشبه الجاهلية بسيادة الشر وعلو الشر وباختفاء آثار دعوة الرسل، وقلة العلم،و فشو الجهل، وفشو المعاصي، فجاهليتنا تشبه الجاهلية الأولى من وجوه كثيرة.

    ( التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه) إذاً: هذه العناية بقضية تكفير السيئات خصوصاً عند الإنسان إذا بلغ في أزمنة الجاهلية التي نحن الآن واقعون فيها قال: ( فإن الإنسان الذي ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطخ من أمور الجاهلية بأشياء، فكيف بغير هذا؟).

    فلو نشأ واحد في القرون الثلاثة الأولى، أو نشأ بين أهل علم ودين فمن الممكن جداً أن يتلطخ بذنوب، فكيف إذا نشأ الشخص في أوقات جاهلية، مثل زماننا.

    يقول: زمانه ومن باب أولى زماننا الذي نحن فيه الآن، حيث يتلطخ زيادة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر أن الناس يتلطخون بالأشياء التي يفعلها اليهود والنصارى بالذات، ولذلك قال في الحديث الصحيح: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) مثل ريش السهم في تواليها وانتظامها وموازاتها لبعضها حذو القذة بالقذة في تتاليها وتوازيها وتماثلها (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن) من غيرهم؟ هؤلاء الذين أعني، فهذا الحديث يبين أن التشبه سيسري، فقد قال: لتتبعن، فالخطاب للمسلمين، فأثبت أن التشبه سيسري في الأمة، وأنه سيسري إلى أصحاب الدين أيضاً، كما قال غير واحد من السلف ، فإن كثيراً من أحوال اليهود قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى العلم، مثل كتم العلم، والتلبيس، يشترون به ثمناً قليلاً، يبيع لك فتوى، أو يصدر فتوى توافق هوى شخص، فإن بعض أهل العلم سيتشبهون باليهود والنصارى.

    (وكثيراً من أحوال النصارى قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى الدين) كما يوصل ذلك من فهم دين الإسلام، فـالصوفية منتسبون للدين مشابهون للنصارى، وبعض المفتين وبعض الذين يحملون شهادات شرعية ودكاترة وإلى آخره، يتشبهون باليهود من جهة كتم العلم وتحريف العلم، ولوي أعناق النصوص، وبيع الفتاوى وإصدار الفتاوى حسب الأهواء، وبعض المنتسبين للدين من العبّاد والزهاد وغيرهم سيشابهون النصارى في الرهبنة والبدع والانحراف.

    فالنصارى مشكلتهم البدعة: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد:27] وهؤلاء بعض الذين ينتسبون للدين من أصحاب بعض الطرق الصوفية ، ملايين في العالم، وهم سائرون في قضية البدعة.

    (وإذا كان الأمر كذلك أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ [الزمر:22].. أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122] لا بد أن يلاحظ أحوال الجاهلية، وطريق الأمتين المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى فيرى أنه قد ابتلي ببعض ذلك).

    إذاً: يقول: ألقوا نظرة على سيرة اليهود والنصارى وتمعنوا فيها، لاحظوا أحوال الجاهلية ستجدون أنفسكم أنكم قد ابتليتم بشيء من هذا، واتبعتموهم في قليل أو كثير.

    فأنفع ما للخاصة والعامة لو قلنا: نحن المتدينين والملتزمين، لو قلنا نحن الخاصة، وهؤلاء العامة الذين لا ينتسبون إلى التدين، ولكن دخول التشبه في الجميع، لا يمكن استثناء أحد.

    فإذا وقعت الواقعة في قضية التشبه واتباع اليهود والنصارى في أشياء (فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يُخلص النفوس من هذه الورطات) والورطات جمع ورطة، والورطة في لغة العرب: الشيء الذي لا مخلص منه، ولا مخرج منه، فإذا دخل شخص فيه لا يكاد يخرج منه، قال: (وهو إتباع السيئات الحسنات).

    إذن المخرج من الورطات هو إتباع السيئات الحسنات (والحسنات هو ما ندب الله إليه على لسان خاتم النبيين من الأعمال والأخلاق والصفات).

    إلى هنا ذكرنا من مكفرات الذنوب ثلاثة:

    أولاً: التوبة.

    ثانياً: الاستغفار.

    ثالثاً: الحسنات الماحية وهي الأعمال الصالحة.

    رابعاً: المصائب المقدرة، وهذه من المكفرات.

    المصائب المكفرة أي: التي تكفر الذنوب، هي: كل هم وغم وألم وحزن ومرض وأذية في مال أو جسد أو غير ذلك، أو عرض إلى آخره، فالحسنات الماحية مطلوب منك أن تسعى إليها، لكن المصائب المقدرة ليست من فعلك، وهذه مسألة مهمة، فلا يقال: مرّض نفسك؛ حتى يكفر عنك سيئاتك، أو قف بالشمس؛ حتى تُصاب بضربة وتكفر عنك سيئاتك، وجوّع نفسك حتى تتألم ويكفر عنك سيئاتك، لا! المصائب المكفرة لا تكون بفعل العبد وإنما هي من قدر الله تعالى.

    فلما قضى من هذا الأمر قال له: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها) قال له: (وخالق الناس بخلق حسن) ونحن كنا قد تكلمنا أن الحقوق على العبد من جهتين: حقوق لله، وحقوق للخلق، حقوق لله قد جرى الكلام فيها، وحقوق العباد كيف تؤدى؟

    الجواب: بهذا الشطر من الحديث وهو قوله: (وخالق الناس بخلق حسن) فما هو جِمَاع الخلق الحسن مع الناس؟ جاء في أحاديث لو جمعتها تخرج بنتائج، ومنها:

    أولاً: (صل من قطعك) بالسلام والإكرام والدعاء له والاستغفار والثناء عليه والزيارة له وغير ذلك.

    ثانياً: (وتعطي من حرمك) من التعليم والمنفعة والمال.

    ثالثاً: (وتعفو عمن ظلمك) من ظلمك في دم أو مال أو عرض، وبعض هذه الأشياء واجبة وبعضها مستحبة، فهذا كله داخل في التقوى؛ لأن وصية الله لعباده بالتقوى تجمع كل ما أمر الله به، أمر إيجاب أو أمر استحباب، وما نهى عنه تحريماً أو تنزيهاً، سواء كان حراماً أو مكروهاً، فهذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد.

    ولا شك أن أكثر الناس إيماناً أكملهم خلقاً، كما جاء في الحديث الصحيح: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) فجعل كمال الإيمان في كمال حُسن الخلق، والإيمان كله هو تقوى الله، فهذا إذاً ملخص الموضوع.

    وأصول التقوى وفروعها كلها هي الدين، وينبوع الخير وأصله: هو إخلاص العبد لربه عبادة واستعانة، لو قال: فسرها لنا بكلام آخر، نقول: التقوى هي الدين، وبكلام آخر: قال عبادة واستعانة، التي جاء قوله تعالى فيها: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وقوله تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123] وقوله تعالى: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].

    1.   

    أفضل الأعمال بعد الفرائض

    بهذا انتهى الجزء الأهم والأعم والأشمل من الوصية، ثم انتقل بعد ذلك للجواب على جزئية وردت في السؤال. الجزئية الثانية التي وردت في السؤال هي عن أفضل الأعمال بعد الفرائض، كأن السائل يقول: الفرائض أنا أعرفها، وأنت عالم، وأنا وقتي وعمري محدود، دلني على عمل بعد الفرائض أعمله، فأنت عالم حجة، فأنا سوف أستفتيك في عمري هذا بعد الفرائض في أي شيء أقضيه؟

    قال: ( وأما ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض، فإنه يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب أوقاتهم ) لاحظ الكلام ففيه حكمة بالغة؛ لأنه يُراعي ظروف الناس.

    فهناك من هو طالب، أو تاجر، أو موظف، ومن وظيفته قصيرة كمدرس، ومن وظيفته طويلة كموظف في شركة، ومن لديه نوبات، أو عاطل عن العمل، فالناس يختلفون، وهناك من ترك له أبوه إرثاً وعقارات، فلا يحتاج أن يعمل، فأفضل شيء بالنسبة لكل واحد يختلف باختلاف أحوال الناس وأوقاتهم، وهذه أوقات وقد ذكرنا أمثلة.

    أما أحوالهم فهذا مثلاً عنده علم والنفس لا تشبع من العلم نهمة، وهذا عنده جلد وصبر على القراءة، وهذا عنده فهم وقوة وحافظة وقدرة على التعليم، فما أنفع شيء بالنسبة له، أن يعلِّم ويتعلم.

    وهناك من عنده قدرة في التخطيط للقتال وخبرة في المعارك والسلاح، فهذا الأنفع له أن يعاون المسلمين مثلاً في الجهاد.

    وآخر عنده صبر على الأذى وجرأة في الحق وقوة في الدين وحسن أسلوب، يشتغل في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويركز عليه.

    وقد يكون آخر عنده خبرات تفيد المسلمين في مال أو اقتصاد أو تأسيس أعمال خيرية ونحو ذلك.

    وهذا عنده خبرة في الأسفار وتعلم اللغات بسرعة، وقد يفيد في أعمال الإغاثة ونحو ذلك.

    إذاً أفضل شيء عموماً يختلف باختلاف أحوال الناس، وحتى في العلم، قد يكون واحد عنده قدرة على الخطابة، وآخر عنده قدرة على التأليف، فتقول لهذا الذي يحسن التأليف ألِّف، والذي يحسن الخطابة ألق دروساً ونحو ذلك.

    هذا صوته جميل بالإمامة، وهذا موهبته الشعرية يذب عن المسلمين بها وهكذا.

    فالمسألة قدرات، والناس قدرات وطاقات، لكن قد يقول واحد مثلاً: أليس هناك شيء جامع أو ورد فضله على جميع الأعمال مثلاً فلفت نظره إلى هذه المسألة.

    أهمية الذكر وفضله

    بعد أن قال: ( فلا يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد، لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره ) -يقول وإذا لم نتمكن أن نعطي جواباً مفصلاً في هذه المسألة، لأن الناس يتفاوتون، لكن هناك شيء معين يمكن أن يشترك فيه الجميع، بالإضافة لقيام كل واحد بما يحسنه، فما هو هذا الشيء؟

    قال: ( إن ملازمة ذكر الله دائماً هو أفضل ما يشغل العبد به نفسه في الجملة ).

    وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قالوا: يا رسول الله! من المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) وهذا حديث صحيح والمفردون: هم المنفردون الذين هلك أقرانهم وبقوا هم، والمقصود أنهم بقوا يذكرون الله سبحانه وتعالى.

    وكذلك حديث أبي داود : (ألا أنبئكم بخير أعمالكم -هذا يقتضي التفضيل- وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله) حديث صحيح بطرقه.

    وكلمة (ذكر الله) ماذا تعني؟ قال: (أقل ذلك-أي: أقل مرتبة في ذكر الله- أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين، كأذكار طرفي النهار، وعند المضجع، والاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات، والأذكار المقيدة في الأكل والشرب واللباس والجماع، ودخول المنزل والخروج منه، ودخول المسجد والخروج منه، ودخول الخلاء والخروج منه، وعند العطاس وعند المطر وعند الرعد وعند المصيبة وغير ذلك من المناسبات) وهذه هي التي صُنفت لها كتب بعنوان: عمل اليوم والليلة، فإذا رأيت عالماً كتب كتاباً بعنوان: عمل اليوم والليلة فاعلم أن هذا موضوعه.

    فهذه الأذكار المقيدة بمناسبات وأوقات، وهناك الأذكار المطلقة، وأفضل شيء في الأذكار المطلقة (لا إله إلا الله) وأذكار أخرى وردت مثل: (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله).

    فالآن كلمة (ذكر الله) -حتى لا يتصور الواحد أنها محصورة في هذه الجمل- أشار رحمه الله إلى أن كلمة (ذكر الله) تشمل إلى جانب الأشياء اللسانية التي تكون فاضلة جداً إذا تصورها القلب، فبعض الناس تجده بعد الصلاة فقط لسانه وأصابعه تشتغل وعقله في مكان ونظره على الناس، ويظن أنه الآن يقوم بأفضل الأعمال، لا، هذا قلب غافل لاه، فإذا كان اشتغال اللسان مع موافقة القلب، هذا من هذه الجهات، لكن ذكر الله أشمل وأعم من قضية الأذكار التي هي باللسان.

    قال: (فإن ذكر الله يشمل كل ما يقربه من الله، من تعلم العلم وتعليمه) مثل جلوسنا للعلم إذا أخلصنا فيه النية، هو من ذكر الله الذي هو أفضل من كل شيء ومن أفضل الأعمال، قال: (تعلم العلم وتعليمه، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، هذا من ذكر الله) ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلساً يتفقه أو يفقه فيه الفقه، الذي سماه الله ورسوله فقهاً، ليس فقط الفقه الحلال والحرام، الفقه الأكبر، الإخلاص وما يتعلق به، فهذا أيضاً من أفضل ذكر الله، وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الأولين في كلماتهم في أفضل الأعمال كبير اختلاف، فعندما يقول الأفضل كذا وأفضل الأشياء كذا، فإذا نظرت لها في النهاية تجد أن ذكر الله يجمعها، فلا تعارض إذاً.

    وهذا الذي كان يُشير إليه ويُدندن حوله في عدد من كتبه رحمه الله في قضية اختلاف التنوع واختلاف التضاد، وأن هذا كله في قضية اختلاف التنوع الذي هو في الحقيقة لا تعارض فيه ولا تصادم.

    نظراً لأن الناس قد يجهلون ما هو الأصلح لهم، وليس كل شخص يدرك ما هو الأفضل بالنسبة في حقه، وقد لا يعرف الشخص دائماً كل قدراته، ولا يدري إذا ضرب بسهم في هذا المجال أفضل أو في هذا المجال أفضل، هل يتوجه إلى هذا العمل أفضل، أو إلى هذا العمل أفضل.

    نظراً لأنه ستعترض الشخص أشياء من الإشكالات لأجل عدم قدرته على الإحاطة بالظروف الموجودة، وعدم معرفة الغيب طبعاً، وماذا سيئول إليه حاله لو اشتغل بالتعليم أو بالجهاد أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك.

    نظراً لهذا أشار رحمه الله إلى أهمية أنه لو وقع أحد في مثل هذا الظرف ما هو المهم بالنسبة له أن يعمل؟ الاستخارة! قال: (وما اشتبه أمره عليه فعليه بالاستخارة المشروعة، فما ندم من استخار الله تعالى، وليُكثر من ذلك ومن الدعاء؛ فإنه مفتاح كل خير، ولا يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي، وليتحرَّ الأوقات الفاضلة كآخر الليل وأدبار الصلوات وعند الأذان ووقت نزول المطر وغير ذلك).

    هذا حتى يدعو الله أن يوجهه إلى أحسن وجهة وأحسن شيء يستغل فيه نشاطه ووقته ويستفيد ويفيد.

    1.   

    أرجح المكاسب

    بعد ذلك كأن السائل قد سأل سؤالاً يتعلق بالمكاسب، أي: من أين يعيش؟ وما هي العدة في مسألة كسب الرزق؟

    التوكل والدعاء

    فقال شيخ الإسلام : (وأما أرجح المكاسب، فالتوكل على الله والثقة بكفايته وحسن الظن به، وذلك لأنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق؛ أن يلجأ فيه إلى الله ويدعوه كما قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم).

    وفيما رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر) شسع النعل: هي سيور النعل الذي يدخل بين الأصبعين، وطرفه في الثقب الذي في صدر النعل، حتى يمسك القدم بالنعل، فلو انقطع هذا؛ فإنه يسأل ربه.

    فإذا جئت تطلب الرزق والمكاسب؛ عليك بأمرين مهمين جداً: التوكل والدعاء فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10] وهذا وإن كان في يوم الجمعة، ولكن المعنى قائم في جميع الصلوات، بعد الصلاة اخرج وابتغ من فضل الله.

    (ولهذا -والله أعلم- أمر الشخص إذا دخل المسجد أن يقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج أمر أن يقول: اللهم إني أسألك من فضلك) فكأنه الآن يناسب الخروج من المسجد كأنك ستذهب إلى المكاسب، فتسأل الله من فضله، لأن الأعمال والوظائف تُقطع لأجل الصلاة وتخرج من الصلاة وأنت قاصد العودة أو الذهاب إلى المكاسب فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ [العنكبوت:17] هذا الأمر للوجوب، فهذه أول وصية في قضية المكاسب: التوكل على الله والدعاء وحسن الظن بالله وأنه يدبرك سبحانه وتعالى أحسن من تدبيرك لنفسك.

    سخاوة النفس في المال

    ثانياً: ( ثم ينبغي له أن يأخذ المال بسخاوة نفس ليُبارك له فيه) أي يأخذ المال بطيب نفس دون حرص على المال ودون جشع فيه، ودون هلع فيه، دون جمع للمال وكنزه وعدم إنفاقه وتجميده، وبخل به وحرص عليه، وإنما يجب أن يكون معطاءً كريماً سخياً، وإن أخذ قرشاً لا يقول له وقد أودعه صندوقه: (لن ترى النور بعد الآن) وإنما يأخذه بسخاوة نفس، أي يأخذه الآن ويعطيه غداً ويسلف هذا، ويؤجل هذا، ويسامح في هذا ويصل رحماً به، ونحو ذلك بسخاوة، فلا يكون القرش عنده عزيزاً إذا دخل صندوقه لا يرى النور ولا يخرج، وإنما يأخذ المال ويضع المال وينفق ويدخل بسخاوة نفس، نفس ليست هلعة على المال، وإنما يكون المال عنده بمثابة الحمار الذي تركبه، وبيت الخلاء الذي تقضي فيه حاجتك.

    فالمال لا بد منه، فهو لازم وهو الذي جعل الله لكم قياماً، فقال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً [النساء:5] دنياك لا تقوم إلا بالمال، لا تذهب ولا تجيء إلا بالمال الذي جعله الله لك قياماً، ولكن هذا المال إذا أخذته بسخاوة نفس ولم تكن جشعاً وهلعاً فيه، يكون هذا المال بالنسبة لك وتعلقك به كحمارك الذي تركبه، وبيت الخلاء الذي تدخله، فهل تجد الإنسان وهو يحتاج إلى الدابة للتنقل والمشاوير مثلاً، يحتاج إلى بيت الخلاء ليقضي الحاجة فيه، أليست الحاجة ماسة إلى الحمام والمرحاض، ولكن هل تجد الواحد يعانق حماره بلهف وهو عزيز عليه، ولا ينتظر اللحظة التي يدخل فيها الخلاء ويحبه جداً ولا يكاد يفارقه، لا، فالشيء الذي لا بد منه، فاتخاذه لا بد منه، لكن هل نفسه متعلقة فيه ومنشدة إليه وحريصة عليه ومنكبة عليه، تحبه حباً جماً، لا! بالعكس، فالمطلوب إذاً اتخاذ المال ولكن يكون مثل حمارك ومرحاضك، ولكن من الذي ينفذ القضية الآن، هذا الكلام سهل ولكن أين التطبيق؟!

    وقد مر معنا في سيرة الشيخ الشنقيطي رحمه الله أنه كان لا يميز بين الأوراق النقدية العشرة والمائة والخمسين والذي في يده للآخرين، يأخذ مصاريف البيت والباقي يتصدق به، هذا من سخاء النفس، يُبارك له فيه، ولو ما استعمل منه إلا القليل، لكن يبارك له فيه، وأما الذي يجمع الملايين بدون سخاوة نفس لا يبارك له فيها، ولا يستمتع بها، بل قد تكون نكداً عليه، وهو في قلق وهم وغم ملازم له (من أصبح والدنيا أكبر همه، شتت الله عليه شمله، وفرق عليه ضيعته، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه، جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) حديث رواه الترمذي رحمه الله تعالى وهو حديث صحيح بطرقه.

    وقال بعض السلف: [أنت محتاج إلى الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج] فإذا بدأت بنصيبك في الآخرة، مر عليك نصيبك في الدنيا فانتظمته انتظاماً، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].

    وأما إذا بدأت بالدنيا فقد لا تصل إلى عمل الآخرة، لكن إذا بدأت بعمل الآخرة، وجعلت الآخرة هي الأولوية وهي الأصل جاءتك الدنيا وهي راغمة، وإذا ركضت وراء الدنيا واجتهدت فيها وجعلتها هي الأولوية، فكيف تعمل لآخرتك، وقد قال الله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ [القصص:77] هذا رقم واحد، والثاني: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] وقال: فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] وقال: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21].. وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133] وقال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

    هذا كله في أعمال الآخرة، وفي الدنيا قال: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك:15] قال: امشوا، والآخرة قال: اسعوا، إذاً الآخرة مقدمة وينبغي أن يكون العمل لها أكثر وتأتيك الدنيا.

    قال: (فأما تعيينه) الآن جاء على التفصيل في قضية المكاسب، فهذه الأشياء هي الإطارات العامة لقضية كسب الرزق، وهناك الأشياء الخاصة، فلو قال مثلاً: بماذا تنصحني أيها الشيخ أن أتوجه، قال: (فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية -عقارات- أو حراثة -زراعة- أو غير ذلك فهذا يختلف باختلاف الناس ولا أعلم في ذلك شيئاً عاماً، لكن إذا عَنَّ للإنسان جهة فليستخر الله تعالى فيها الاستخارة المتلقاة -إن فتح لك مثلاً باب تجارة أو باب عقار أو باب زراعة- عن معلم الناس الخير صلى الله عليه وسلم فإن فيها من البركة ما لا يُحاط به، ثم ما تيسر له أن ينفتح له الباب فلا يتكلف غيره، إلا أن يكون منه كراهة شديدة، فالباب الذي ينفتح توكل على الله واستمر فيه، إلا إذا كنت تكرهه كراهة شديدة.

    1.   

    وصية لطالب العلم

    ثم تحدث شيخ الإسلام رحمه الله في وصيته في اتجاه السؤال الذي سأله السائل عن قضية الكتب قائلاً: ( وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم فهذا باب واسع، وهو أيضاً يختلف باختلاف نشء الإنسان في البلاد ). لأن المذاهب موزعة في البلاد، هناك بلاد -مثلاً- أكثر ما يمشون عليه المذهب الحنبلي، وبعضها الحنفي، وبعضها الشافعي، والمالكي في المغرب كذا، فالمسألة أو القضية الآن تختلف باختلاف أين ينشأ الإنسان؟

    قال: (تختلف باختلاف نشء الإنسان في البلاد، فقد يتيسر له في بعض البلاد من العلم أو من طريقه ومذهبه فيه ما لا يتيسر له في بلد آخر، لكن جماع الخير، أن يستعين بالله سبحانه في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علماً).

    إذن يا إخوان يا طلبة العلم هذه الوصية لـشيخ الإسلام في منهج طالب العلم أنه مهما تفقه على أي كتاب وعلى أي مذهب، أو على أي شيخ، يجب أن يكون عنده حرص خاص واهتمام بالغ وعناية زائدة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو العلم، حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي يستحق أن يُسمى علماً، وما سواه أي غير القرآن والسنة:

    كل العلوم سوى القرآن مشغلة     إلا الحديث وإلا الفقه في الدين

    العلم ما كان قال حدثنا     وما سوى ذاك وسواس الشياطين

    فإذن أن يكون ميراث محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يغنيك ولتكن الهمة فهم مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه وسائر كلامه.

    فضع يا طالب العلم في نصب عينيك وفي ذهنك هذا الأمر: ما هو مقصود الشارع في كل أمر ونهي وفي كل تشريع، تجد مقصود الشارع هو هذا التفقه أما الحفظ فقد يحفظ أي أحد، لكن ماذا وراء الأمر وماذا وراء النهي وماذا قصد الشارع، هذا هو العلم والفقه.

    قال: (فإذا اطمأن قلبك أن هذا هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يعدل عنه) خذ القول الموافق لأن يكون هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، فأقوال العلماء في الأحكام كثيرة جداً، خذ القول الذي تعتقد أنه موافق لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم.

    (فلا يعدل عنه فيما بينه وبين الله تعالى ولا مع الناس إذا أمكنه ذلك، وليجتهد -وهذه وصية ثانية لطالب العلم- أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه الناس فليدْعُ بما رواه مسلم ..)

    إذاً: بعد قضية ما تيسر لك من التفقيه على أي مدرسة أو شيخ أو مذهب على حسب البلد التي أنت موجود فيها، تتوجه همتك نحو:

    أولاً: السنة.

    ثانياً: معرفة مقصد الشارع.

    ثالثاً: أن يكون في كل مسألة عندك دليل تحفظه، تعتصم في كل باب بأصل مأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون عندك في كل مسألة دليل مهم تحفظه، وأصل ترجع إليه، قوة وحجة وبيان وبرهان، فلو قال لك واحد: هاتوا برهانكم، تقول: خذ، ائتوني بأثارة من هذا؟ خذ هذا الدليل.

    رابعاً: إذا اشتبه عليك، فقد يحرص ويجتهد ويتعب ولكن لا يخرج بنتيجة نهائية واضحة في الموضوع، ولا يدري هذا أم هذا، فماذا تقول، وماذا تفعل؟

    قال: (فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام يصلي من الليل: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب الشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).

    فإذاً الدعاء أن يوفقك الله، إذا كان هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي يقوم ويصلي في الليل ويدعو: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك) فما بالك بنا حيث نحن أدنى منه ونحتاج إلى هذا الطلب والدعاء دائماً، وكثير من المسائل خلافية، التي يحتار الإنسان فيها: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم).

    أما وصف الكتب والمصنفين، فقد ذكرنا ذلك في مناسبات كثيرة من أفضل الكتب: ( وما في الكتب المصنفة المبوبة أنفع من صحيح محمد بن إسماعيل البخاري ) هذا أنفع كتاب في السنة، فإذاً طالب العلم إذا أراد أن يدرس السنة أول شيء يتوجه إليه أو أهم شيء في هذا الموضوع، صحيح محمد بن إسماعيل البخاري أبو عبد الله أمير المؤمنين في الحديث، قال: (لكنه وحده لا يقوم بأصول العلم) فليس كل العلوم في صحيح البخاري ، ولا يقوم بتمام المقصود للمتبحر في أبواب العلم، إذ لا بد من معرفة:

    أولاً: أحاديث أخر.

    ثانياً: كلام أهل الفقه وأهل العلم في الأمور التي يختص بعلمها بعض العلماء، فهناك أقوال تحتاج فيها إلى أقوال علماء لا تجدها في صحيح البخاري ، وأحاديث أخرى لا تجدها في صحيح البخاري ، وقد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم إيعاباً، فمن نور الله قلبه وهداه بما يبلغه من ذلك بلغه، ومن أعماه لن تزيده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالاً).

    إذاً: المسألة ليست بكبر المكتبة التي عندك، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن لبيد الأنصاري : (أوليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، فماذا تغني عنهم؟) وهذا حديث صحيح الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام لما نظر إلى السماء مرة قال: (هذا أوان رفع العلم، قال رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد : يا رسول الله! يرفع العلم وقد أثبت ووعته القلوب، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنت لأحسبك أفقه أهل المدينة ، ثم ذكر ضلالة اليهود والنصارى على ما في أيدهم من كتاب الله) يقول: كان عندهم التوراة الحقيقية وعندهم الإنجيل الحقيقي، فحرفوه وضلوا.

    ثم ختم وصيته بهذا الدعاء فقال: (فنسأل الله العظيم، أن يرزقنا الهدى والسداد ويلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد أن هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين وصلواته على أشرف المرسلين).

    ثم ذكر بعد ذلك الذين سمعوا هذه الوصية منه عدد من الأئمة في هذا المجلس بقراءة القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي على ابن تيمية في ليلة الثالث من شهر ربيع الآخر سنة (697هـ) بدار الحديث بالقصاعين بـدمشق .

    والحمد لله رب العالمين.

    1.   

    ثلاث وعشرون قاعدة في المحبة

    الموضوع التالي: هناك ثلاث وعشرون قاعدة في المحبة.

    الحمد لله، نلخص الآن قواعد المحبة التي ذكرها رحمه الله تعالى، وهناك بعض العبارات الجامعة التي ذكرها رحمه الله في كتاب ( قاعدة في المحبة ) ونرى بعد ذلك ما يمكن أن نأخذه من التفاصيل، أو بعض التفاصيل الأخرى المهمة التي ذكرها.

    القاعدة الأولى: الحب والإرادة أصل كل فعل وحركة في العالم.

    القاعدة الثانية: أصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها، هي عبادته وحده لا شريك له.

    القاعدة الثالثة: لا صلاح للموجودات إلا أن يكون كمال محبتها وحركتها لله.

    القاعدة الرابعة: المحبة لها آثار وتوابع، ولها لذة وألم، فاللذة عند نيل المحبوب، والألم عند فقده.

    القاعدة الخامسة: كل محبة لا يكون أصلها محبة الله وإرادة وجهه؛ فهي باطلة وفاسدة.

    القاعدة السادسة: المحبة والإرادة أصل كل دين، سواء كان ديناً صالحاً أو ديناً فاسداً، فهذه العلاقة بين الدين والمحبة.

    القاعدة السابعة: أن بني آدم لا بد أن يشتركوا في محبة شيء عام، وبُغض شيء عام، وهذا هو الدين المشترك.

    القاعدة الثامنة: في قلوب بني آدم محبة لما يتألهونه ويعبدونه، وهذا صلاح القلوب -إذا كان التأله لله عز وجل صلحت قلوبهم بمحبة الله- وكذلك كما أن في نفوس بني آدم محبة لما يطعمونه وينكحونه، ولكن حاجة البشرية إلى التأله أعظم من حاجتهم إلى الغذاء؛ لأن الغذاء إذا فُقد يفسد الجسم، وبفقد التأله؛ تفسد النفس كلها، فحاجة البشرية إلى عبادة الله ومحبته، أكثر من حاجتها إلى محبة الطعام والشراب بما لا يُوصف.

    القاعدة التاسعة: قوة المحبة يتفاوت الناس فيها تفاوتاً عظيماً، حتى إن الناس يتفاوتون في الشيء الواحد، والمحبة تارة تضعف وتارة تقوى، فالمحبة مثل الإيمان تزيد وتنقص.

    القاعدة العاشرة: محبة غير الله إذا زادت؛ صارت إفراطاً وانقلبت، ومحبة الله مهما زادت؛ فإنها تنفع ولا تضر، فمحبة غير الله إذا زادت عن حد معين؛ تصبح إفراطاً وتنقلب وتصبح ضارة، ومحبة الله مهما زادت؛ تنفع ولا تضر.

    القاعدة الحادية عشرة: إثبات المحبة لله على أن محبة الله صفة من صفاته، وإثبات محبة العبد لربه، وذكر أنه ضل في هذا الباب فريقان، فريق جحدوا محبة الله، فقالوا: الله لا يحب، وفريق أدخلوا فيها اعتقادات فاسدة من المتصوفة وغيرهم، فإثبات المحبة صفة لله وإثبات محبة المؤمنين لربهم.

    القاعدة الثانية عشرة: محبة ما يحبه الله من الأعيان والأعمال من تمام محبة الله، ولا يمكن أن تُفْصَل، فإذا كنت تحب الله ستحب كل شخص يحبه الله، كل نبي، وولي، وصالح، وعالم قائم بأمر الله، وكذلك ستحب كل عمل يحبه الله من صلاة وزكاة وصيام وحج وذكر ودعاء وبر.

    القاعدة الثالثة عشرة: الذنوب تنقص من محبة الله، وذكر رحمه الله هنا أن الذنوب قد تنقص من المحبة ولكن ليس بالضرورة أن تزيل أصلها، مثل الصحابي الذي جيء به يشرب الخمر فلعنه شخص، قال: (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله) فقد ينقص الذنب المحبة، لكن ليس بالضرورة أن يزيل أصلها، إلا إذا صار الذنب شركاً وكفراً فهذا يزيلها.

    القاعدة الرابعة عشرة: الفرق بين الحب في الله والحب مع الله، فالمشركون يحبون مع الله، والمؤمنون يحبون في الله، فقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] فهؤلاء أشركوا في المحبة بين الله والأنداد، وأما المؤمنون فهم أشد حباً لله من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم.

    ولذلك قال: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم) لأن محبتهم للدينار والدرهم والزوجة والقطيفة والخميلة والدنيا صارت محبة شركية، محبتهم للدنيا إن أعطوا منها رضوا، وإذا لم يعطوا إذا هم يسخطون.

    القاعدة الخامسة عشرة: أصل العبادة محبة الله، والشرك في المحبة هو أصل الشرك.

    القاعدة السادسة عشرة: محبة الله توجب المجاهدة في سبيله قطعاً، إذا كنت تحب الله لا بد أن تجاهد في سبيله.

    القاعدة السابعة عشرة: موادة عدو الله تنافي المحبة: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22].

    القاعدة الثامنة عشرة: محبة الله على درجتين:

    الدرجة الأولى: واجبة.

    الدرجة الثانية: مستحبة.

    فإذا كنت قائماً بالواجبات ومنتهياً عن المحرمات فهذه المحبة الواجبة، وإذا كنت عاملاً بالنوافل بالإضافة إلى ذلك مبتعداً عن المكروهات والشبهات؛ فأنت عندك المحبة المستحبة.

    القاعدة التاسعة عشرة: انقسام الناس في المحبة والإرادة إلى أربعة أقسام -نجمل الأقسام ثم نشرحها-:

    القسم الأول: قوم لهم قدرة وإرادة ومحبة في أشياء غير مأمورين بها.

    القسم الثاني: قوم لهم إرادة صالحة ومحبة كاملة لله وقدرة كاملة.

    القسم الثالث: قوم فيهم إرادة صالحة ومحبة قوية وقدرة ناقصة.

    القسم الرابع: قوم قدراتهم وإرادتهم قاصرة وعندهم إرادة للباطل.

    فما هؤلاء الأقسام الأربعة؟

    الذين لهم قدرة ولهم إرادة ولكن في محبة أشياء غير مأمورين بها، عندهم طاقة، وقوة، وجهد، وقدرة، لكن ليست في سبيل الله، إما أن تكون في أشياء محرمة أو مباحة غير مأمورين بها، فهؤلاء الأشخاص تلقاهم أصحاب عمل وإنتاج إما في أشياء محرمة أو في أشياء مباحة، مثل الذين يكدحون ويعملون في الوظائف والتجارات، أو يقول لك: أنا عندي هواية في تربية الحيوانات مثلاً، فهذه أشياء غير مأمورين بها، فهم يبدعون وينتجون في أشياء غير مأمورين بها، وليست مما يحبه الله، لكن عندهم قدرة، لكن في أشياء لا يحبها الله.

    وقوم لهم إرادة صالحة ومحبة كاملة وقدرة كاملة، كعالم مجاهد لله عز وجل، فهذا عنده إرادة وعنده قدرة في العلم والجهاد والصدقة، فهو يعمل في أشياء يحبها الله، فهؤلاء أشرف الأنواع.

    والقسم الثالث: ناس عندهم إرادة صالحة ومحبة لله قوية ولكن قدراتهم ناقصة، فهؤلاء يريدون أن يعملوا لمحبة الله ولكن لا يستطيعون، مثل الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (إن بـالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا سلكتم وادياً إلا كانوا معكم، قالوا: وهم بـالمدينة ، قال: وهم بـالمدينة -ما خرجوا للغزو، من هم هؤلاء- قال: حبسهم العذر) فهناك من يريد الجهاد ولكن ليس عنده سلاح، ولا مال، أو ضعيف البنية، أو مريض، فمثلاً: عثمان تخلف عن بدر ؛ لأنه قام على زوجته المريضة، وآخر يريد الصدقة: (ذهب أهل الدثور بالأجور) لكن ليس عنده مال يتصدق به، فهذا صاحب قدرة ناقصة، لكن محبته لله طيبة، فهو حريص على الأشياء التي يحبها الله، ولكن ما عنده قدرة.

    القسم الرابع: من قدرته وإرادته للحق قاصرة، وهو يريد أن يقع في الباطل وفيما يغضب الله ولكن ليس عنده قدرة، فهؤلاء ضعاف المجرمين، فلهذا انقسم الناس إلى أقسام أربعة.

    القاعدة العشرون: أن المحبوبات على قسمين:

    القسم الأول: قسم يُحب لنفسه.

    القسم الثاني: قسم يُحب لغيره، وليس في هذه الدنيا وهذا العالم والكون شيء يُحَب لذاته إلا الله سبحانه وتعالى.

    حتى المخلوقين تقول: أنا أحب فلاناً لأنه عبد لله، لأن القرب منه يؤدي إلى القرب من الله، لكن ليس لذات الشخص، لكن لأن محبة الشخص والتقرب منه تؤدي إلى تحصيل أجر مثلاً، فأنت تحبه، لكن الذي يُحب لذاته فقط، هو الله عز وجل، فإليه منتهى المحبة والتعظيم سبحانه وتعالى.

    القاعدة الحادية والعشرون: أن الموالاة تقتضي التحاب والجمع، والمعاداة تقتضي التباغض والتفرق: فالتحاب إذا واليت شخصاً معناه أنك تحبه. وقد نبه شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة إلى أنه لا يجوز أن يفرق بين المؤمنين لنسب أو بلد أو مذهب أو طريقة أو مسلك ونحو ذلك، وأن الذي يجمعنا كلنا أننا مسلمون موحدون، وأنه بالنسبة للمشركين فنحن في قطيعة وعداوة وكره، ولا يجوز لنا أن نواليهم، موالاتنا للمؤمنين لأننا نحبهم، وذلك يقتضي محبتهم والاجتماع في جماعة، وأما بالنسبة للكفار فإن العلاقة معهم علاقة عداوة، تقتضي قطع العلاقات وكرههم والتفرق عنهم وعدم الاجتماع بهم أو الإقامة معهم، وعدم دعمهم.

    القاعدة الثانية والعشرون: إمكان اجتماع المحبة، أي الحب في الله والبغض في الله في شخص واحد: فقد تحب شخصاً لله وتبغضه في الله وهو شخص واحد، وهؤلاء هم الذي خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فلو كان عندك ولي من أولياء الله من العباد، فموقفك منه أن تحبه، ولو كان عندك واحد جبار عنيد كافر فاجر، فموقفك منه أن تبغضه.

    ولو وجد شخص فيه هذا وهذا، فيه خير وشر، وصلاح وفساد، وإيمان وفجور، وحق وباطل، وطاعة ومعصية، وحسنات وسيئات، خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، مثل أكثر الناس المسلمين على هذا، فما هو الموقف منه؟ هل تحبه أم تبغضه؟

    أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى قاعدته العظيمة التي ذكرها ونافح عنها وشرحها في عدد من كتبه وهي قضية أنه يمكن أن يجتمع الحب في الله والبغض في الله في شخص واحد، تحبه من جهة وتبغضه من جهة، تحبه في الله بقدر الخير الذي فيه، وتبغضه في الله بقدر الشر الذي فيه، وتواليه في الحق وتعاديه في الباطل، وتتعاون معه في البر والتقوى، وتنبذه في الإثم والعدوان، هذه قاعدة مهمة، لأنه بناءً عليها تستطيع أن تتعامل مع الناس.

    وذكر أنه بغير هذه القاعدة لا يمكن أن تسير الأمور؛ لأن كثيراً من الناس فيهم شر وخير، والموقف منهم أنه إذا دعاك إلى خير تعاونت معه، وإذا دعاك إلى شر نبذته، وعندما يعمل طاعة تفرح به وتحبه وتثني عليه، وعندما يعمل معصية تكرهه وتنبذه وتكره معصيته.

    قال: وهذه القاعدة قد ذكرناها غير مرة وهي اجتماع الحسنات والسيئات والثواب العقاب في حق الشخص الواحد كما عليه أهل جماعة المسلمين من جميع الطوائف، نذمه على فعل السيئات، ونمدحه على فعل الحسنات.

    وذكر كلاماً نفيساً فقال: إن بعض الناس عنده السماحة في النفس، بحيث يسمح بالخير والشر، مثلاً: وهناك شخص عنده حب إنفاق المال، فيدعم الخير ويدعم الشر، إذا قيل له: تعال هنا تحفيظ القرآن وعمل خير وطباعة كتب إسلامية قال: خذوا عشرة آلاف، وإذا جاء شخص وقال: عندنا حفلة غنائية، قال: خذوا عشرة آلاف.

    إذاً: هناك أناس عندهم طبيعة إعطاء وسماحة نفس، بحيث إنها تمشي معهم في الخير والشر، فإذا قيل: يا فلان! نريد أن نبني مسجداً يقول: أنا معكم وأعاونكم، يا فلان! نريد أن نعمل شراً قال: أنا معكم وأساعدكم، فيسافر للحج والعمرة ويسافر للفجور، فإذاً: بعض النفوس تقبل الأمرين وعندها انسياق وراء التيارين.

    القاعدة الثالثة والعشرون: في الإنسان قوتان:

    القوة الأولى: قوة الحب.

    القوة الثانية: قوة البغض.

    وإنما خلق ذلك فيه ليحب الحق ويبغض الباطل: ففي الإنسان قوتان، والله خلق النفس البشرية وقد أعطاها قدرة على الحب وقدرة على البغض.

    لماذا أعطانا الله قدرة على الحب وقدرة على البغض؟

    فالجواب: لكي نحب ما يحبه الله ونبغض ما يبغضه الله، فالله أعطانا القدرة على أن نحقق الإيمان، ففي الإنسان قوتان.

    القاعدة الرابعة والعشرون: أصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض: فالتحاب يوجب التقارب والاتفاق، والتباغض يوجب التباعد والاختلاف، وهذه القاعدة مهمة جداً في مسألة أن المحبة توجب موافقة المحبوب بغض النظر عن كونها فاسدة أو صالحة، كما أن البغض يوجب مفارقة المكروه والمبغض.

    المحبة توجب موافقة المحبوب، فلو أحببت شخصاً؛ فإنك ستقلده، وستتشبه به وتوافقه وتقلده، إذا أحببت النبي صلى الله عليه وسلم؛ قلدته ووافقته وحرصت على طريقته والتشبه به، وإذا أحببت مغنياً أو لاعباً؛ فإنك ستقلده وتحرص على مشيته وحركاته وتتبع أخباره، وإذا أحببت النبي صلى الله عليه وسلم ستحب أخباره وتتبع أخباره وسيرته، وسوف تحرص على ذلك، إذن المحبة توجب موافقة المحبوب عموماً سواء كانت المحبة صحيحة أو خاطئة.

    أخيراً: الحب يتبع الإحساس والإحساس لا يكون إلا بموجود، فالآن عندما تقول: نحن نحب الرسول صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان موجوداً وآثاره باقية، لو قلت مثلاً حب الجنة: الجنة موجودة؟ نعم، أخبرنا عنها بالتفصيل، ولأن الأشياء والأمور الغائبة عن المشاهدة والإحساس لا تُعرف؛ فقد استعمل المثال والقياس في القرآن والسنة للإخبار عنها.

    فمثلاً: القرآن تقول بأنك تحب القرآن، نعم، فالقرآن موجود، انظر إليه، فإذا نظرت إليه، وقرأت فيه، ورأيت حروفه وعرفته، فإنك تحب القرآن.

    والجنة لا تراها ولا تذوقها ولا تشمها ولا تلمسها، لكنك تحب الجنة بناءً على ما ذكره الله عز وجل في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم عنها، فمن كثرة ما مثل لنا وأخبرنا ووصفها لنا أحببناها.

    هذه خمس وعشرون قاعدة تقريباً في المحبة ملخصة من كتاب قاعدة في المحبة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

    1.   

    مسائل مهمة تناولتها رسالة ( قاعدة في المحبة )

    وقد ذكر في هذا الكتاب أموراً أخرى مهمة، مثل أهمية التعاهد والتعاقد في بني آدم، وأن الناس لا تصلح أمورهم إلا بالوفاء بالعهد والعقد، ولو لم يكن وفاء بالعقد؛ لضاعت حياة الناس، ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] فحياة الناس تختل بدون عهود وعقود محترمة.

    ومن المسائل المهمة التي تناولتها هذه الرسالة أيضاً قضية العِشق والفساد الذي ينطوي عليه، ومسألة علاجه، والشيطان الذي يتولى العشاق وأنهم يشركون به، وذكر رحمه الله الفرق بين المحبة في الله وبين محبة العشق، وأن بعض الناس يخلطون، يقول: أنا أحب فلاناً في الله، وهو في الحقيقة عشق وليس محبة في الله.

    وكذلك من المباحث المهمة التي ذكرها رحمه الله تعالى في هذا الكتاب مباحث تتعلق في الموقف الصحيح من القضاء والقدر، وكذلك مبحث مهم في مسألة أن الله ينصر المسلمين في الدنيا، وليس في الآخرة فقط، وأن من ظن أن النصر والتقدم والرفعة للكفار دائماً في الدنيا؛ فإنه مسيء الظن بالله؛ لأن معنى ذلك أنه يعتقد أن الدنيا كلها للكفار وأن المسلمين ما لهم شيء، يبقون في ضعف وهزيمة وذل إلى أن تقوم الساعة وهذا غير صحيح، فإنك إذا استعرضت التاريخ رأيت أن الله نصر المسلمين وكانت لهم القوة والاستعلاء في الأرض في أوقات كثيرة جداً في التاريخ، ونصر موسى على فرعون، ونصر نوحاً، ونصر أتباع الأنبياء وأتباعهم، ونصر محمداً صلى الله عليه وسلم وفتح له مكة والجزيرة ، وفتح خلفاؤه الشام والعراق والمغرب والمشرق، واتسعت دولة الإسلام وقامت، حتى ضعفت وصار المسلمون الآن في تفرق، لكن ليس هذا الذي نراه الآن هو الأصل وكل الزمان مثله، لا، نحن الآن في مرحلة غير كل المراحل التي سبقت، وعندما ينزل عيسى بن مريم عليه السلام سيحكم الأرض بشريعة الإسلام والغلبة للدين.

    إذاً: من ظن أن الله لا ينصر المسلمين في الدنيا فهو مسيء الظن بربه. إلى غير ذلك من المسائل المهمة التي انطوت عليها هذه القاعدة، وقد كنا نرجو لو ذكرنا بعض المباحث فيها، ولو لم يكن لها علاقة مباشرة بالمحبة وذلك لأهميتها ونفاستها، ولكن يرجع إليها من شاء في هذا الكتاب بعنوان ( قاعدة في المحبة ) ورحم الله المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية ، وأعلى درجته وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756196519