دعني أضرب لك مثلين فيما يتعلق بظلمة البعد عن الله ونور الإيمان، أحدهما قديم، والآخر حديث صاحبه معاصر وموجود في مدينتنا، أما المثال القديم فهو في زمن المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما بدأ دعوته استجاب له القلة وحاربه الكثرة، وكان ممن حاربه بعض أقاربه، وعلى رأسهم الهالك الممقوت الموصوف بالقرآن
أبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ *
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ *
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ *
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ *
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1-5].
وكان أيضاً ممن حارب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قرابته ابن عمه
أبو سفيان بن الحارث ، وهو غير
أبي سفيان بن حرب والد
معاوية بن أبي سفيان، بل هو شخص آخر اسمه
أبو سفيان بن الحارث ابن عم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهذا الرجل
أبو سفيان بن الحارث كان رجلاً له مكانة في قومه شريفاً نسيباً، وكان شاعراً، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عاداه، وصار يقول الشعر في عداوة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وامتدت عداوته طول العهد المكي، حتى بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبعد غزوة بدر وأحد والخندق، واستمر على ذلك حتى جاء صلح الحديبية، ثم نقضت قريش الصلح في قصة معروفة، فجاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى مكة فاتحاً، فكان مما أعلنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو مقبل على مكة أن فلاناً وفلاناً لا عهد لهم، اقتلوا فلاناً ولو وجدتموه متعلقاً بأستار الكعبة؛ لأنه رجل حرب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلا يقبل منه شرط ولا عهد، فقال في حق بعضهم: (
إذا وجدتموه فاقتلوه ولو وجدتموه متعلقاً بأستار الكعبة)، فكان ممن أهدر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دمه ابن عمه
أبو سفيان بن الحارث ، فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على مكة ضاقت بـ
أبي سفيان هذا الدنيا من أولها إلى آخرها، فماذا يصنع؟
الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقبل على مكة بجيش عرمرم، وقريش مستسلمة ترى أنها لا تستطيع لذلك مقاومة، فماذا يصنع؟
أظلمت عليه الدنيا، وصار ما كان يفعله في السابق من تبجح ومفخرة في قريش وقيادة لحرب الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن معه من المسلمين صارت هذه أحلاماً مزعجة؛ لأنه ينتظر العقوبة، فقيل له: يا
أبا سفيان لو أنك أتيت إلى محمد بن عبد الله؛ فإنه رجل يقبل من أتاه تائباً! ففكر في الأمر هل يهرب؟ هل يذهب يميناً أو شمالاً؟ فلم يجد له مجالاً إلا أن يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكن كيف يأتيه والرسول قد أهدر دمه؟ كل من يراه من المسلمين سيقتله.
فلما قرب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة ذهب وأخذ معه ولداً له صغيراً عمره قرابة سبع سنوات، لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرق له إذا رأى الطفل الصغير، فأخذ معه ولده الصغير، وذهب ليلقى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكان مخفياً نفسه حتى لا يرى، فأتى إلى
العباس ، فأخذه
العباس حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو مع أصحابه، فقيل له: يا رسول الله! هذا ابن عمك
أبو سفيان فاقبله. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من شدة الغضب.
ويا له من موقف! ووالله إن موقف العاصي حين يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى لهو أشد ذلاً من هذا الموقف.
ذلك الذي سرح ومرح في معاصي الله يضحك ويلهو لا بد له من الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى:
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [القلم:43]، كل واحد منهم قد رفع بصره إلى السماء في موقف الحساب لا يدري ماذا يؤمر به، حتى إن كثيراً من أهل المحشر -بل كل أهل المحشر- يصابون بالفزع الشديد حين تزفر جهنم، فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه خوفاً.
أقول: انظر إلى ذل
أبي سفيان بن الحارث وهو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم! فلما أعرض عنه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أظلمت عليه الدنيا من أولها إلى آخرها، وقال: والله لئن لم يقبلني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأخرجن أنا وولدي هذا إلى البرية حتى نهلك ونموت عطشاً.
ضاقت عليه الدنيا من أولها إلى آخرها، لكن المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الذي وصفه الله بقوله:
بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، ففيه رحمة من رحمة ربه سبحانه وتعالى.
رحمه لما قال هذا الكلام وقبله، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وصار من كبار المسلمين الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى وسلم في سائر المعارك كلها، ومنها معركة حنين، فرضي الله عنه وأرضاه.
ولأنه شاعر فقد سطر تجربته في أبيات من الشعر كان ينشدها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتأمل قوله رضي الله عنه وأرضاه وهو يحكي تاريخه الجاهل وما أكرمه الله به من الإيمان ونور الإسلام، يقول
أبو سفيان بن الحارث رضي الله عنه:
لعمرك إني يوم أحمل رايةً لتغلب خيلُ اللات خيلَ محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين أهدى فأهتدي
تصور إنساناً مدلجاً مسافراً في الليل لا أحد حوله ولا عن يمينه ولا عن شماله ثم أظلم عليه الليل!
يقول:
لكالمدلج الحيران أظلم ليلة فهذا أواني حين أهدى فأهتدي
أتاني هادٍ غير نفسي فدلني إلى الله من طردت كل مطرد
من هو الذي طرده كل مطرد؟ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي طرده كل مطرد هو الذي هداه الله بسببه، تقول بعض الروايات: إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا سمع البيت الأخير الذي يقول فيه:
أتاني هادٍ غير نفسي فدلني إلى الله من طردت كل مطرد
يضرب على كتف
أبي سفيان بن الحارث ويقول له: (
أنت الذي طردتني كل مطرد) يعني: قد أبدلك الله تبارك وتعالى بذلك هداية وإسلاماً.
هذه صورة لإنسان ظن أنه في يوم من الأيام في القمة، وإذا به يجد الظلمة وليس له نور إلا نور الإسلام والاستقامة على منهاج الله تبارك وتعالى، ومن ثم شارك بعد ذلك في الجهاد حتى مات في سبيل الله رضي الله عنه وأرضاه. فهذا مثال.
أما المثال الآخر فهو لشخص معاصر لنا يعيش الآن في مدينة الرياض، وهو من بلد الصومال، كان هذا الرجل مطرباً مغنياً في بلد الصومال، وبلغ في الطرب والغناء شأواً بعيداً، حتى إنه كان يقيم حفلات لرئيس الصومال السابق
زياد بري وأولاده ووزرائه، وصار مطرباً مشهوراً على مستوى الصومال من أوله إلى آخره، وكان يقيم الاحتفالات بأغلى الأثمان، فأصبح من الشباب الذين اجتمع لهم الجاه والشهرة والمال والعلاقات مع كبار القوم، واستمر على ذلك ردحاً من الزمان، لكن هل وجد في هذه الأشياء الراحة والسعادة؟
كان بداية أمره أن تزوج، وكان نساء الصومال من أولهن إلى آخرهن يتمنين هذا الشاب للصوت الجميل، والمطرب المؤثر على مستوى الدولة تتمنى كل واحدة أن يكون زوجها، لكنه تزوج من إحدى قريباته، يقول: فلما تزوجت كنت أظن أن هذه الفتاة التي تزوجت بها ستكون أسعد الناس. يقول: وتم الزواج، ثم بعد ذلك كنت أذهب لأحيي بعض الحفلات، ثم بعد أن أكون نلت الشهرة والمال والتصفيق أرجع إلى عروسي وإلى بيتي لأنعم معها بذلك الرضا وتلك الشهرة، يقول: فكنت إذا أقبلت عليها أنتظر منها أن تستقبلني بما أنا أهله وبفرح؛ لأنني أوقن أن كل فتاة تتمنى أن يكون هذا الشاب زوجاً لها، نعم هي تستقبلني استقبالاً طيباً، ولكنني لا أجد فيها الفرح الذي أظن أنني أعطيتها إياه بهذه الشهرة والمكانة والمال ونحو ذلك، يقول: وشيئاً فشيئاً إذا بي أحس أنها غير مرتاحة، وليست غير مرتاحة لسبب سوى سبب واحد، وهي أنها غير مرتاحة لهذا الأمر، فلم تزل به شيئاً فشيئاً حتى تاب إلى الله تبارك وتعالى، وترك الشهرة والمال والجاه والطرب.
فقد يكون الواحد منا ليس عنده جاه ولا عنده مال، فيقول: من أنا؟! سيان التزمت أو لم ألتزم! نقول: أنت الرابح على كل حال.
ولكن قد يوجد نموذج مثل هذا، اجتمعت له القمة التي يسعى إليها بعض الناس فيبيع لأجلها دينه ليرقى إلى الشهرة، أو يرقى إلى المال، أو يرقى إلى الجاه، ولكن هذا النموذج يبيع هذه كلها في سبيل الله تبارك وتعالى.
إذاً هو نموذج يقصر عليك الطريق يا أيها الشاب، يا من لك طموحات، قد تنظر إلى لاعب بلغت شهرته الآفاق، أو مغن يحضر حفله الألوف، أو رجل مشهور تتحدث عنه الصحف ووسائل الإعلام، فتقول: ما أحسن هذه الشهرة! نقول لك: يا أيها الشاب المتبصر! تمعن في الأمر، هل هذا الذي اشتهر به يقربه إلى الله؟ هذا هو المقياس الحقيقي، فاختصر الطريق، وخذ العبر والدروس من هذه الحياة، وانظر إلى غيرك، واعرف ما هي الأشياء التي تجلب السعادة الحقيقية، وما هي الأشياء التي تجلب الشقاء وغضب الجبار جل جلاله، ولتكن صاحب عين وبصيرة.
هذا الشاب تاب إلى الله وترك الجهل، حاولوا معه حتى قبل أن يجري على الصومال ما جرى، ولكنه ترك ذلك، ثم قدم إلى هذه البلاد المباركة ليعيش فيها عيشة هنية، وهو في الرياض اليوم، ومعه خمسة أولاد أربع بنات وابن واحد، ويسكن في بيت صغير.
والرجل فقير كما أعلم من حاله، لكنه يقول لي بالحرف الواحد: والله إني -والحمد لله- في سعادة ليس فيها أحد، اثنان من أولادي حفظا القرآن الكريم كاملاً، وثلاثة منهم الآن في طريقهم إلى حفظه.
ومع ذلك فإن عليه ضغوطاً نفسيةً، يقول: أحياناً يأتيني الشيطان فيذكرني بما كان لي من جاه.
الشيطان حريص على كل إنسان، وخاصة مثل هذا؛ لأن الشيطان يجد لديه تاريخاً يحييه، فالشيطان يحاول أن يحيي لأصحاب المعاصي تاريخهم، فهو يوسوس للشاب الذي تاب إلى الله، ويقول له: تذكر السهرة الفلانية، تذكر كذا، تذكر كذا. فلابد أن يتغلب الشاب على هذه الوسوسة ويصرفها بسرعة ويتقي الله سبحانه وتعالى ويعود إلى ربه ويبادر إلى العمل الصالح، لا أن ينساق مع الوسوسة من شياطين الإنس وشياطين الجن.
يقول لي هذا الرجل: فأحياناً تأتيني الوسوسة تذكرني بالمال وأنني الآن فقير، تذكرني بالجاه حين كان رئيس الجمهورية وأولاده يتصلون بي.
مَنْ مِنَ الناس يتصل به؟
رئيس الجمهورية وأولاده والوزراء وغيرهم!
يقول: فكلما كثرت الوساوس أذهب لأقرأ قصة
مصعب بن عمير .
ونحن نعرف قصة
مصعب بن عمير ، ذلك الشاب الذي كان أنعم شباب مكة، فلما أسلم حرمته أمه وأهله المال، فصار فقيراً جداً، وكان أول داعية إلى الله في المدينة النبوية، واستشهد رضي الله عنه وأرضاه، فلما استشهد لم يجدوا له كفناً إلا بردة قصيرة إذا غطوا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطوا بها رجليه بدا رأسه، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد وقف أمامه: (
لقد رأيتك بمكة وما بها أحدٌ أرق حلةً ولا أحسن لمةً منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة)، ثم أمر به أن يقبر، وأمر بأن يغطى بها رأسه وأن يوضع على رجليه من الإذخر.
يقول هذا الرجل -أسأل الله أن يثبتني وإياكم وإياه-: إذا جاءتني الوساوس ذهبت إلى قصة
مصعب بن عمير فتذهب عني الوساوس.
مصعب بن عمير ترك الدنيا من أولها إلى آخرها، لكن بقي له أنه صحابي جليل، أنه الداعية الأول إلى المدينة، أنه الشهيد في سبيل الله الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكن انظر إلى أهل الفساد في الأرض بعد أن انتهت الشهرة وانتهى المال وغيره، ماذا بقي لهم؟ لم يبق لهم إلا التاريخ الأسود والذنوب والأوزار؛ لأنه إذا عمل ذنباً انتشر هذا الذنب، فعليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة؛ فإن المطرب أو المغني يأتي بكلمات مبتذلة فيها دعوة إلى الفحش والتفحش، ثم بعد ذلك تحفظ هذه الأغنية، فكل من تأثر به وضل فعليه وزره إلى يوم القيامة.
إذاً ينبغي أن يكون جوابناً ونحن نواجه هذه التحديات المتنوعة -وعلى رأسها التحديات الفكرية والعقدية والأخلاقية الموجهة إلينا نحن الشباب- ينبغي أن يكون جوابنا هو أن نقول لهم: (الجواب ما تراه لا ما تسمعه)، وقد عرفت تفاصيل هذه الكلمة وأنها الجواب العملي الذي يجيب به الملتزم.