يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أخي المسلم! إن الأمراض التي تصيب الإنسان على نوعين:
النوع الأول: أمراض تصيب الأبدان، ومنها نفر إلى الطبيب، فينظر الطبيب في الحال، وينظر في الأعراض، ويصف الدواء، وعلى المريض الأخذ بالأسباب، ومداومة أخذ العلاج حتى يبرأ بإذن الله.
النوع الثاني: أمراض تصيب القلوب وهي أشد فتكاً وأشد خطراً من الأمراض التي تصيب الأبدان؛ لأنها تؤدي إلى خسارة الدنيا وخسارة الآخرة؛ ولأنها لا تكتشف إلا عند ساعات الرحيل، وساعات الاحتضار، فأمراض القلوب من أشد الأمراض فتكاً بهذه الأمة.
ومرض الأمة اليوم قد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم منذ مئات السنين حين قال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قلنا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع من صدور أعدائكم المهابة، ويقذف في قلوبكم الوهن -وهذا هو المرض- قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
فطول الأمل من أشد الأمراض فتكاً بالأمة اليوم، وقد كانت وصية السلف (احرص على الموت توهب لك الحياة) واليوم لا يبالي الناس أي حياة يحيونها، فالمهم عندهم أن يحيوا بأي حال من الأحوال، فيصبح المسلم ويمسي وهمه الدنيا وحطامها، ويغدو ويروح من أجل دنياه، وهذا واضح في صلاة الفجر عند المسلمين؛ فإنه إذا أذن المؤذن ونادى المنادي خرجت فئة قليلة تبتغي ما عند الله، وآلاف مؤلفة تغط في سبات عميق.
يا من بدنياه اشتغل
وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة
والقبر صندوق العمل
وقد علمنا ربنا عز وجل حقيقة الدنيا فقال مشبهاً لها ومصححاً مفاهيم الناس حولها: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45] فهذه الحياة شبهت بالماء؛ لأن الماء لا يستقر على حالة واحدة، ولا يستقر في مكان واحد، ومن خاض في الماء أصابه البلل، ولذلك تقرأ سورة الكهف من الجمعة إلى الجمعة لأنها تصحح المفاهيم، وتصحح المعتقدات، وتربط الناس برب الأرض والسماوات؛ فقد قال الله في أوائل هذه السورة: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [الكهف:7-8].
والحياة الحقيقية التي لابد من أن نحياها هي في الآخرة، ولذا قال عز وجل في هذه السورة: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46].
يا عجباً للناس لو فكروا وحاسبوا أنفسهم أبصروا
وعبروا الدنيا إلى غيرها إنما الدنيا لكم معبر
لا فخر إلا فخر أهل التقى غداً إذا ضمهم المحشر
ليعلمن الناس أن التقى والبر كان خير ما يدخر
قال الله جل في علاه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:5-6].
فالتعلق بالدنيا هو من أسباب طول الأمل، فإذا أنس الإنسان إلى الدنيا تعلق بها وبما فيها، وإذا ذكر الموت كان ذكر الموت من أصعب الأشياء عليه؛ لأنه يقطع عليه لذاته وشهواته.
وقال لـابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
والغريب هو الذي لا مال له، ولا وطن له، ولا أهل له، فهو يشتاق دائماً إلى لقاء أهله، والعودة إلى دياره ووطنه، هكذا حال الغريب، قال ابن القيم رحمه الله:
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي أضحت لها الأعداء فينا تحكم
فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى
نعود إلى أوطاننا ونسلم
وإن من صفات الغريب أنه لا يتطاول في البنيان، ومتاعه قليل، وزاده قليل، وأخذه من الدنيا قليل؛ لأنه على سفر، ولكن انظر في حالنا! وانظر إلى تطاول الناس في البنيان وقد قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: والمقصد من البنيان جدران أربعة تضم الصغير والكبير، تحميهم من حر الصيف وبرد الشتاء، ومن أعين الناس.
واليوم تنفق الأموال في تزيين الجدران والسقوف .
قال الله جل في علاه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:5-6].
فالتعلق بالدنيا هو من أسباب طول الأمل، فإذا أنس الإنسان إلى الدنيا تعلق بها وبما فيها، وإذا ذكر الموت كان ذكر الموت من أصعب الأشياء عليه؛ لأنه يقطع عليه لذاته وشهواته.
إن نبينا الكريم قد عرضت عليه الدنيا بما فيها، ولكنه زهد فيها ورغب عنها.
يقول الحسن البصري : دخلت بيوت النبوة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بحين، دخلتها وهي على ما هي عليه لم تتغير، فرفعت يدي فلمست سقف المكان، ونظرت في جدرانها، ونظرت في أساسها، فإذا بجدرانها من الطين والجريد.
وقد دخل عليه عمر رضي الله عنه وأرضاه وقد أثر الحصير في جنبه، فبكى عمر متأثراً وقال: بأبي أنت وأمي، أنت أحب البشر إلى الله وملوك فارس والروم تنعم بالديباج والحرير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مصححاً لـعمر مفهومه: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟!).
تقول عائشة رضي الله عنها: (كان يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ولا يوقد في بيتنا نار، قال
وما شبع آل محمد من خبز الشعير ثلاثة أيام متتالية، وخبزت فاطمة خبزاً في مرة من المرات فأتت إلى أبيها بكسرة خبز فأكلها وقال: (أما إنها أول طعام دخل بطن أبيك منذ ثلاثة أيام).
هكذا عاش من يريد ما عند الله تبارك وتعالى، وقد خيره الله بين الملك والرسالة وبين العبودية والرسالة، فقد ورد: (أنه جاءه جبريل فقال: معي ملك الجبال، إن شئت أن يحول لك جبال مكة ذهباً وفضة فعل، وإن شئت جعلك الله ملكاً رسولاً، وإن شئت جعلك عبداً رسولاً) فاختار العبودية مع حمل الرسالة، وقال: (بل عبداً رسولاً، أشبع يوماً فأشكر الله، وأجوع يوماً فأحمد الله) فماذا غيرت الأمة وبدلت من بعده؟!
يقول سعيد بن المسيب رحمه الله: لما هدمت بيوت النبوة ما رأيت باكياً في المسجد كما رأيت في ذلك اليوم، ليتهم أبقوها حتى تأتي الأمة من مشارق الأرض ومغاربها وترى كيف كانت حياة نبيها صلى الله عليه وسلم. وهو الذي علمنا وأمرنا بالاغتراب في هذه الحياة.
ومن أسباب طول الأمل: الجهل بحقيقة هذه الحياة، والحقيقة التي لابد من أن يعيها كل واحد منا: هي أننا في هذه الدنيا ضيوف، وأننا على وشك الرحيل طال الزمان أو قصر، فكم هي مدة هذه الضيافة؟ لا يعلم ذلك إلا الله جل في علاه قال تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:2].
فالجهل من أعظم أسباب طول الأمل، فإن الشاب بجهله يعول على شبابه وعلى قوته، وتناسى المسكين أن أكثر من يموت هم الشباب.
وقد أرسلت إلي رسالة قال فيها كاتبها: خرجت في عصر هذا اليوم أهنئ جيراناً لي بمولود جديد وأعزي الآخرين في وفاة ابن من أبنائهم. فقلت: هكذا سنة الحياة، أناس يحيون وأناس يموتون، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تغييراً.
ويا للعجب! ندفن الموتى ونودعهم ولا نعتبر، ونظن أن الموت قد كتب على الآخرين ولم يكتب علينا، يقول ثابت البناني : كنا إذا سرنا في جنازة لا نرى إلا باكياً متقنعاً، وكنا لا ندري من نعزي لكثرة الباكين.
وانظر إلى جنائزنا اليوم، فسترى الضاحكين والمبتسمين يمنة ويسرة، فإن لم يغير الموت طباعنا وسلوكنا ويجعلنا نستعد للقاء الله تبارك وتعالى فأي واعظ بعده يعظنا؟!
فالشاب يعول على شبابه، وتناسى المسكين أن أكثر من يموت هم الشباب، وحين يموت شيخ واحد فانظر كم مات في زمن حياته من الشباب؟ وكم يموت من الشباب والأطفال والصغار والكبار، وهذا المسكين يعول على قوته، ويعول على صحته، ويسوف بقوله: غداً أستقيم، غداً أرتبط بالمساجد، إذا انتهيت من هذه السفرة، إذا انتهيت من بناء هذا البيت! ولا يزال المسكين يمني نفسه ويسوف ويؤخر حتى يأتيه الموت على حين غرة.
وقد اتفق أهل العلم قاطبة على أن الموت ليس له مكان معين ولا زمن معين ولا عمر معين ولا سبب معين، وإنما يأتي بغتة ونحن لا نشعر:
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب
متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نشاهد ذا عين اليقين حقيقة
وكأننا بما علمنا يقيناً نكذب
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا
وفي كل يوم واعظ الموت يندب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها
وعل الردى مما نرتجيه أقرب
فقيل للثاني: كيف أملك؟ قال: والله ما أدركت جمعة إلا قلت: لا أدرك الجمعة التي بعدها. فقال صاحبه: تؤمل أن تعيش أسبوعاً كاملاً! والله إنه لأمل طويل.
فلما قال الثالث: إن أملكما طويل قالا له: وكيف أملك؟ فقال: والله ما أخذت نفساً إلا ظننت أني لا أرده.
لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عمر : (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، فكان ابن عمر يحقق هذا واقعاً ملموساً في حياته فيقول: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من حياتك لموتك، ومن صحتك لمرضك).
وقال علي رضي الله عنه: أخوف ما أخاف عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى، أما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا.
وكان حبيب الفارسي يقول لأهله: إذا مت اليوم فاذهبوا إلى فلان يغسلني، واذهبوا إلى فلان يكفنني، واصنعوا كذا اصنعوا كذا، فقيل لزوجته: رؤيا رآها؟ قالت: لا، في كل يوم يقول مثل هذا الكلام.
وكان صفوان بن سليم رحمه الله لا يكاد يفارق المسجد أبداً، وإذا أراد الخروج من المسجد بكى، فقيل له: ما الذي يبكيك؟ قال: أخاف أن لا أرجع إليه مرة ثانية.
وكان آخر يقول: والله ما نمت نومة إلا ظننت أني لا أستيقظ بعدها أبداً.
قال سلمان الفارسي : عجبت من ثلاثة: مؤمل دنيا والموت يطلبه، وضاحك بملء فيه لا يدري أربه راض عنه أم ساخط عليه، وغافل ليس بمغفول عنه.
ومر شيخ الإسلام على مجموعة من الرجال والصبيان يضحكون ويغنون ومعهم معازف وآلات طرب فقال لهم: إن كان هذا طريق الجنة فأين هو طريق النار؟
إن علامات قصر الأمل تظهر في المبادرة إلى الأعمال، وفي المسارعة إلى الخيرات، وكم من مدع أنه قصير الأمل لكن الأفعال لا تصدق الأقوال.
فإن كنت صادقاً أنك قصير الأمل وأنك على استعداد وأنك تريد النجاة، فأين صليت الفجر اليوم؟! أفي صفوف النائمين، أم كنت في ذمة رب العالمين؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281].
عباد الله! اتصل أحد أقاربي بأهله ظهراً في الساعة الواحدة تماماً وقال لهم: إني قد استأذنت من العمل مبكراً فما هي مطالبكم؟ وما هي حاجاتكم؟ فأملوا عليه المطالب وقالوا: نريد كذا ونريد كذا ونريد كذا، فقال: ساعة واحدة وسأكون عندكم.
فمرت الساعة الأولى والساعة الثانية والثالثة، ثلاث ساعات متتاليات، ثم مرت الرابعة ولم يظهر له أثر، وقبيل المغرب بقليل اتصل متصل من المستشفى يقول لأهله: عظم الله أجركم في فلان. حيث إنه في ساعة خروجه من مكان عمله ارتطمت سيارته بسيارة أخرى وفارق الحياة.
والسؤال الذي أسألك إياه: هل كان يظن حين رفع سماعة الهاتف أنها آخر مكالمة بينه وبينهم؟! وهل كانوا يظنون وهم يملون عليه المطالب أنها لن تصل؟! بل الذي يحملها هل كانوا يظنون أنه لن يصل؟! وهل خاطبت نفسك يوماً وأنت تخرج في الصباح وقلت: لعلي لا أرجع إلى البيت مرة ثانية؟ وهل خاطبت نفسك ليلاً فقلت: لعلها تكون آخر ليلة في الحياة؟
فكيف تسهو وتني
ومعظم العمر فني
فيما يضر المقتني
ولست بالمرتدع
أما ترى الشيب وخط
وخط في الرأس خطط
ومن يلح وخط الشمط
بفوده فقد نعي
ويحك يا نفس احرصي
على ارتياد المخلص
وطاوعي وأخلصي
واستمعي النصح وعي
واعتبري بمن مضى
من القرون وانقضى
واخشي مفاجأة القضا
وحاذري أن تخدعي
وانتهجي سبل الهدى
وادكري وشك الردى
وأن مثواك غدا
في قعر لحد بلقع
من منا إذا أصبح حدث نفسه أنه لن يمسي، ومن منا إذا أمسى حدث نفسه أنه لن يصبح.
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها
وعل الردى مما نرتجيه أقرب
جلس زيد بن عبد الرحمن مع نفر من أصحابه بينهم غافل لا يعلم بغفلته إلا الله، فقال -وكأنه يخاطبنا-: يا أبا فلان! الحال التي أنت عليها ترضاها للموت؟ قال: لا، قال: هل نويت أن تغير هذه الحال إلى حال ترضاها للموت؟ قال: ما اشتاقت نفسي بعد، قال: وهل تضمن أن لا يأتيك ملك الموت على هذه الحال؟ قال: لا، قال: وهل بعد هذه الدار دار فيها معتمل؟ قال: لا، قال: والله ما رأيت عاقلاً يرضى بهذه الحال!
أليس هذا هو حال الكثير اليوم؟! تخلف عن الصلوات، واقتراف للمناهي والمحرمات، أعمارهم تنقضي أمام شاشات وقنوات، فمتى نعرف قيمة الأعمار وقيمة الأوقات؟ قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99].
وأنت يا ابن آدم ابن لحظات ثلاث: لحظة مضت بكل ما فيها، كتب فيها ما كتب إما لك وإما عليك، ولحظة قادمة لا تدري أتدركها أو لا تدركها، فأنت لست من أهلها، ولحظة تحياها فأنت ابن هذه اللحظة، فمتى ستتوب؟! ومتى ستنتظم في صفوف المصلين؟! ومتى ستكون من أهل القرآن؟! متى ستتعود على الصيام والقيام؟!
يقول الحسن البصري : إن أقواماً غرتهم الحياة الدنيا فخرجوا منها بلا رصيد من الحسنات، يقولون: إننا نحسن الظن بالله. قال: كذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل، لكن ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1].
فالجهل يدفع بالعلم، وفي مجالس الصالحين ومجالس الذكر يدفع الجهل والغفلة التي يحياها كثير من الناس.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة ودخل أهل النار النار، جيء بالموت على صورة كبش أقرن أملح بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة! تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعرفه، هذا هو الموت، ثم ينادى بأهل النار: يا أهل النار! تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعم نعرفه، هذا الموت، فيؤمر به فيذبح بين الجنة والنار) حتى الموت سوف يموت.
قال: (فيؤمر به فيذبح، ثم ينادى بأهل الجنة: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، وينادى بأهل النار: يا أهل النار! خلود فلا موت، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ *إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:39-40])، فالجهل يدفع بالعلم، والشيء يدفع بضده.
أما حب الدنيا فهو المرض العضال الذي أعيا الأولين وأعيا الآخرين ولا علاج له إلا بالإيمان بالله وباليوم الآخر وتذكره، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة).
يقول الناظم عن الدنيا:
وإن هدمت فزدها أنت هدماً
وحصن أمر دينك ما استطعتا
ولا تحزن على ما فات منها
إذا ما أنت في أخراك فزتا
أراك تحب دنيا ذات غدر
أبت طلاقها العقلاء بتا
وتطعمك الطعام وعن قليل
ستطعم منك ما منها طعمتا
تفر من الهجير وتتقيه
فهلا من جهنم قد فررتا
فإنك لا تطيق أهونها عذاباً
ولو كنت الحديد بها لذبتا
وليس العجب -والله- ما يحدث هناك، فما يحدث هناك هو من فعل اليهود ولا عجب، لكن العجب هو الصمت المطبق على العالم بلا استنكار وبلا شجب وتنديد، والعجب غفلتنا عما يحدث لهم هناك، والعجب تفكك البنيان الذي كان في يوم من الأيام جسداً واحداً.
القدس بصوت الحزن تنادي: أيا عرب! أأنتم قول والعمل صعب المنال؟!
أين عمر ؟ أين صلاح الدين ؟ أين هؤلاء الأبطال؟!
أين من يحمي أغصان شجرة الزيتون من أفعال نجستها أسوأ الأفعال؟!
أين من يحمي أطفالاً في حضون أمهاتهم ربما كانوا في الغد من سادة الأجيال؟!
أين أنتم يا عرب القول؟! أين أنتم أم أنتم شعوب تخاف القتال؟!
هل تفكك بنيان يشد بعضه بعضاً، أم سقط النسر من أعالي الجبال؟!
إنه لا عجب مما يحدث هناك، لكن العجب من أحوال المسلمين التي لم تتغير ولم تتبدل.
أفيقوا يا رقود قبل أن ننادي بأعلى الصوت فلا يستجاب لنا، فإن السكوت عن مآسيهم إثم آخر تتحمله الأمة من أدناها إلى أقصاها، وإن السكوت وعدم الانفعال مع ما يحدث هناك إثم يتحمله الجميع بدون استثناء.
أليس ما يحدث هناك بسبب تقصيرنا نحن إن كنا نظن أننا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى؟! لكنها الغفلة وطول الأمل، وقد قال تعالى: وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا [الإسراء:60].
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يردنا إليه رداً جميلاً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا من الراشدين.
اللهم ارفع البلاء عن إخواننا في العراق وفي فلسطين وفي الشيشان وكشمير وفي الفلبين وأفغانستان.
اللهم رحماك بالشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والبهائم الرتع، اللهم كن لهم عوناً وظهيراً، ومؤيداً ونصيراً.
اللهم قل الناصر وقل المعين، اللهم آثرهم ولا تؤثر عليهم، اللهم زدهم ولا تنقصهم، وأكرمهم ولا تهنهم يا رب العالمين.
اللهم انصر من نصرهم واخذل من خذلهم يا رب العالمين، اللهم انصر من نصرهم واخذل من خذلهم يا رب العالمين، اللهم انصر من نصرهم واخذل من خذلهم يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين، والنصارى الحاقدين، والوثنيين وأعداء الملة والدين، ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم اشدد وطأتك عليهم فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز، اللهم رد الشباب والشيب إليك رداً جميلاً يا رب العالمين، اللهم رد الشباب والشيب إليك رداً جميلاً يا رب العالمين، اللهم طهر بيوتنا من الشاشات والقنوات، وأسواقنا من الفواحش والمنكرات، واملأ مساجدنا وبيوتك -يا رب العالمين- بالمصلين والمصليات.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90] ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر