إسلام ويب

التتار وغزو العراقللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ما ترك قوم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سلط الله عليهم الأعداء، ينخرون فيهم عود العزة والمهابة، ويزرعون فيهم الذل والهوان، إلا أنه مهما ضاق العيش على المسلمين ومهما اشتد حصار الكافرين عليهم فإن الله يفتح لهم باب الفرج والنصر والتمكين على أيدي أبطال يصنعون التاريخ، وزمن المعجزات لن ينتهي ما دام القرآن في أيدينا.

    1.   

    نشوء دولة التتار وأول زعمائها

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فأهلاً ومرحباً بكم في هذا الجمع المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.

    يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176].

    ويقول: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111].

    نتحدث إليكم عن فترة عجيبة من الفترات التي مرت على أمتنا الإسلامية، هذه الفترة من أهم الفترات التي مرت علينا، والتاريخ يعيد نفسه، ونفس الأحداث تتكرر، ولكن قد تكون بأسماء مختلفة أو في أماكن مختلفة، فنفس الحدث يتكرر بعد مرور مئات من الأعوام على الحدث السابق، فأحياناً نتعجب كيف صنع السابقون كذا أو كذا؟! ولكن تعود الأحداث من جديد وتتكرر بنفس الصورة، وكما ذكرنا من قبل في محاضرات سابقة بخصوص الأحداث التي مرت بحياة المسلمين.

    في هذه المحاضرة ألخص ما حدث في هذه الفترة من أحداث، وأسأل الله عز وجل أن يمكننا من استعراض كل الأمور بإيجاز، نتحدث اليوم عن ظهور قوة جديدة على سطح الأرض في القرن السابع الهجري، هذه القوة أدت إلى تغييرات هائلة في العالم بصفة عامة، وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة، قوة بشعة أكلت الأخضر واليابس، ولم يكن لها هدف في حياتها إلا التدمير والإبادة، كما قال عنهم ابن الأثير رحمه الله: وكأنهم لا يريدون المال ولا الملك، وإنما فقط يريدون إفناء النوع البشري، تلك هي دولة التتار أو المغول التي ظهرت في زمان الخلافة الإسلامية العباسية سنة (603هـ)، يعني: في أوائل القرن السابع الهجري، وكان أول زعمائها هو جنكيز خان ، واسمه أصلاً تيموجين ، وكلمة جنكيز تعني: قاهر العالم ، فاتخذ لنفسه هذا اللقب، وتزعَّم دولة التتار التي تقع في شرق آسيا في شمال الصين حالياً.

    في غضون سنوات معدودات بدأت دولة المغول في التوسع الرهيب، على حساب المساحات المحيطة بها شرقاً وغرباً، وكانت لهم ديانة عجيبة، عبارة عن خليط من ديانات مختلفة: الإسلام والمسيحية والبوذية.. وأشياء أخرى خاصة بـجنكيز خان أدخلها على هذه الديانة، وقد جمع جنكيز خان كل هذه الديانات في منهج واحد سماه: الياسة أو الياسق في بعض الألفاظ، وجعله ديناً يتبعه التتار بصفة عامة.

    العوامل المؤدية إلى سرعة تكون دولة التتار

    تتميز حروب التتار بأشياء هامة:

    أولاً: كانت الجيوش تتميز بسرعة انتشار رهيبة، إذ كانوا ينشرون أعداداً هائلة من البشر في أزمان قليلة جداً.

    ثانياً: نظام محكم وترتيب عظيم.

    ثالثاً: أعداد لا تحصى من الخلق.

    رابعاً: تحمل ظروف قاسية، فقد كان جنكيز خان يدرب جنوده في الصحراء وفي الجليد، وكان يدرب جنوده بالليل والنهار، تحت كل الظروف يدرب جنوده، حتى استطاعوا أن يغزوا العالم كله في سنوات قليلة.

    خامساً: قيادة عسكرية بارعة، واحتياطات أمنية لم تسبق في زمانها.

    إضافة إلى ذلك فقد تميز التتار بصفتين في غاية الخطورة:

    الأولى: أنهم بلا قلب تماماً، حروب تخريب غير طبيعية، من السهل جداً أن ترى في تاريخهم أنهم دخلوا مدينة كذا أو كذا فدمروا كل المدينة وقتلوا كل السكان، فكلمة كل السكان هذه تكررت في أكثر من موضع في تاريخ التتار، يبيدون أهل المدينة بكاملها ولا يفرقون بين رجل وامرأة، ولا بين رضيع وشاب، ولا صغير وشيخ، ولا ظالم ومظلوم، ولا مدني ومحارب! يبيدون كل الناس إبادة جماعية رهيبة دموية لا تصل إليها الحيوانات الشرسة.

    الصفة الثانية: رفض قبول الآخر، والرغبة في تطبيق مبدأ القطب الواحد! لا يريدون أحداً إلى جوارهم، ليس هناك طرح للتعامل مع دول أخرى محيطة، والغريب أنهم كانوا يتظاهرون دائماً بأنهم ما جاءوا إلى بلاد غير بلادهم إلا ليقيموا الدين وينشروا العدل، ويخلصوا البلاد من الظالمين! هكذا كانوا يقولون في رسائلهم إلى البلاد، مع أن هذا يخالف تماماً طبيعتهم كما سنرى.

    ظهرت هذه القوة البشعة في آخر قرون الخلافة العباسية التي ظلت تحكم بلاد المسلمين خمسة قرون كاملة، فظهر التتار في آخر قرن من قرون الخلافة العباسية في القرن السابع الهجري، وكان هذا القرن متسماً بالضعف الشديد، فكان هناك تفرق ضخم في العالم الإسلامي، واهتم الخلفاء بجمع المال، وتوطيد أركان السلطان دون مراعاة لسمة منصب الحاكم، فلم يعد من وظيفة الحاكم أن يؤمن دولته، ويرفع مستوى المعيشة لأفراده، ويحكم في المظالم، ويرد الحقوق لأهلها، ويقيم حق الله عز وجل على العباد، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بل إن الحكام في هذه الفترة لم يكن من همهم إلا توطيد الحكم لهم ولعائلاتهم، وجمع الأموال الكثيرة والتحف النادرة والغناء والحفلات.. وغير ذلك؛ بسبب ذلك كله ضعفت هيبة الخلافة، وتضاءلت طموحات الخليفة.

    إن الخلافة العباسية في ذلك الوقت لم تكن تسيطر إلا على العراق، وتسكن في العاصمة بغداد وحولها عشرات من الممالك الإسلامية، إما منفصلة عنها بالكلية أو تابعة لها اسماً لا فعلاً، فرقة شديدة، فكان من الطبيعي جداً أن ترى خلافاً على الحدود يفضي إلى حروب ومعارك بين المسلمين، وما أكثر ما تم من حروب بين مصر والشام، وبين حلب ودمشق، وبين الموصل وبغداد، وبين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، فرقة بشعة في ذلك الزمن، والله عز وجل يقول في كتابه الكريم: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، فالتنازع الذي كان بين أمراء المسلمين في ذلك الزمن أدى إلى الفشل الذي رأيناه في تاريخ التتار مع المسلمين.

    في ذلك الوقت ظهرت قوة التتار في شرق آسيا، وسرعان ما ضمت في حوزتها إقليم منغوليا في شمال الصين، ثم الصين، ثم كوريا، ثم سيبيريا، وأصبحت دولة ضخمة.

    أسباب غزو التتار لبلاد المسلمين

    كان الصليبيون يعيشون في بعض الإمارات في الشام، وفي أوروبا وفرنسا وإنجلترا.. وفي غيرها من البلاد، فرأوا هذه القوة الناشئة التي ظهرت في أقصى بلاد الأرض في ذلك الزمن في شرق آسيا، ففكروا في استثارة هذه الدولة على بلاد المسلمين وتحريضها على غزوهم، ولا ننسى أن موقعة حطين كانت قبل ظهور دولة التتار بحوالي عشرين سنة فقط في سنة (583هـ)، ودُحِر فيها الصليبيون، وانتصر عليهم المسلمون انتصاراً عظيماً، وبعدها بعشرين سنة قامت دولة التتار.

    فالصليبيون أرادوا أن يستغلوا دولة التتار في إفناء القوة الإسلامية المتمثلة في الخلافة العباسية، وفي ذلك الوقت كانت جيوش التتار قد وصلت إلى حدود الممالك الإسلامية، فقد كان المسلمون يحكمون أفغانستان وأوزبكستان وطاجاكستان وتركمانستان الغربية، يعني: كل الجمهوريات الموجودة في جنوب روسيا، فقد كانت حدود دولة التتار ملاصقة لحدود دولة المسلمين في أفغانستان وأوزبكستان .. وغيرها من البلاد المحيطة بها، وكان يحكم هذه البلاد في ذلك الزمن من المسلمين الدولة الخوارزمية، وعلى رأسها محمد خوارزم شاه، وكانت هذه الدولة على خلاف كبير مع الخلافة العباسية في العراق، وهذه أول مشكلة أن العالم الإسلامي كما ذكرنا كان مفرقاً مشتتاً، فقد كان هذا المكان الملاصق للتتار على خلاف مع الدولة العباسية.

    اقتنع جنكيز خان بنصيحة الصليبيين له بغزو البلاد الإسلامية، وبالطبع كان يعلم عن مدى غزارة الأموال في هذه البلاد ومدى الخير العميم فيها، فأراد أن يضم هذه البلاد إلى مملكته الواسعة، فكيف يعمل لكي يغزو الخلافة العباسية المستقرة في العراق؟

    رأى جنكيز خان أن أفضل طريقة لإسقاط الخلافة العباسية في العراق هي التمركز أولاً في منطقة أفغانستان وأوزبكستان، بحيث تصبح قاعدة إمداد بعد ذلك لجيوشه إذا اتجه إلى العراق، لكن جنكيز خان في شبه اتفاق مع ملك خوارزم على حسن الجوار، مع أن التتار ليس لهم عهد، فهم لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:10]، ولكن جنكيز خان كان قد عقد هذا الاتفاق كخطوة لتأمين ظهره إلى أن يستتب الأمر له في شرق آسيا، فأراد جنكيز خان أن ينزل في أرض أوزبكستان وأفغانستان، فكان لا بد من سبب ينقض من أجله العهد، ويدخل إلى بلاد خوارزم، فجاء السبب مبكراً عن إعداد جنكيز خان ، ولكنه لا مانع من استغلال هذا السبب.

    كانت هناك بعثة تجارية قادمة من بلاد المغول للمتاجرة في مدينة من مدن المسلمين تسمى مدينة أوترار، واعتقد حاكم أوترار أنهم جواسيس، وهم لا يعرفون هل هم جواسيس .. أو غير ذلك؟ فأمسك بهم حاكم المدينة وقتلهم، وكانت هذه علة مناسبة، فقد طلب جنكيز خان من حاكم خوارزم أن يسلم له القتلة ليحاكمهم بنفسه، لكن حاكم خوارزم رفض، قال: إن هذا تعدٍّ على سيادة الدولة المسلمة، إنما يحاكمهم هو، فإن ثبت خطؤهم عاقبهم وإلا فلا.

    غزو التتار لبلاد خوارزم شاه وتدميرهم لمعظم المدن

    استغل جنكيز خان قتل التتريين في مدينة أوترار، فجهز جيوشه، وبدأ بغزو بلاد خوارزم التي تعتبر الحدود الشرقية للدولة الإسلامية المترامية الأطراف، فقاموا بحرب إبادة قذرة تماماً، فقد نزلوا في بخارى بلد الإمام البخاري رحمه الله سنة (617هـ) ودمروها تدميراً كاملاً، وقتلوا معظم سكان بخارى، ونزلوا في سمرقند بعدها بشهور ودمروها بكاملها، ثم نزلوا نيسابور ودمروها تدميراً كاملاً.

    ثم نزلوا في أورجندة وكان فيها محمد بن خوارزم زعيم البلاد، فحاصروا أورجندة حتى اضطروه إلى الهروب منها، ودخلوا إلى البلد واستباحوا أهلها، وقتلوا كل من فيها، وهرب محمد بن خوارزم إلى جزيرة بحر قزوين حيث مات فيها هناك وحيداً.

    ثم تولى الأمر من بعده جلال الدين بن خوارزم شاه ، وأخذ يجمع الجيوش حتى يحارب التتار، لكن دخل التتار أفغانستان، ودخلوا مدينة تسمى بميان، وقتلوا أهلها جميعاً، ولم يبقوا فيها إلا على أربعمائة فقط من الصناع المهرة، فحاول جلال الدين تنظيم الصفوف من جديد، واشتبك في بعض المواقع مع التتار، وانتصر عليهم في موقعة في كابول، ولكن ما لبث أن حلت به الهزيمة، وفر جلال الدين إلى الهند وهزم جيشه، وقبض جنكيز خان على عائلته بأكملها، وذبح كل أطفاله.

    وفي سنة (619هـ) دخلت القوات التترية إلى مدينة هرات الأفغانية، وذبحوا مئات الألوف من أهلها، ثم دخلوا إيران ودمروا مدينة قم، وقتلوا معظم أهلها، ثم احتلوا مدينة الري التي تقع بالقرب من طهران، ووقف التتار عند مدينة الري بالقرب من طهران.

    إذاً: اجتاحوا كل هذه البلاد في فترات وجيزة جداً لا تتعدى الأربع أو الخمس سنوات.

    والغريب في الأمر أن الناصر لدين الله خليفة المسلمين في ذلك الوقت كان يتعاون مع التتار لضرب جلال الدين بن خوارزم؛ وذلك لأنه كان يعارض الخليفة العباسي في بغداد، فقد كانت الحرب طويلة بين العراق وإيران، أو قل: بين الخلافة العباسية والدولة الخوارزمية التي تسيطر على فارس وباكستان وأفغانستان وأوزبكستان وأذربيجان.. وما حولها، ولم يكن يدري حاكم الخلافة الإسلامية في ذلك الوقت أن الدائرة ستدور عليه في يوم من الأيام، وعلى أيدي نفس الطواغيت الذين تعاون معهم، لكن هذا ما حدث فعلاً في ذلك الوقت.

    وفاة جنكيز خان واجتياح بقية البلدان الإسلامية بعد وفاته بخمس سنوات

    في عام (624هـ) توفي جنكيز خان ، وترك وراءه إمبراطوريةً ضخمة جداً من كوريا إلى منتصف بلاد إيران، ومن سيبيريا إلى المحيط الهندي، وبوفاته هدأت الأمور نسبياً، ولكنها عادت إلى الاشتعال مرة أخرى بعد خمس سنوات، فأين كان المسلمون في هذه السنوات الخمس؟ لا شيء لا حركة، إذ لم يعتقد المسلمون أن ما يدور الآن في بلد مسلم سيدور في البلد الآخر بعد قليل، بل كل يبحث عن أمنه اللحظي المحدود فقط بحدود البلاد الضيقة التي يعيش فيها.

    في سنة (629هـ) -يعني: بعد وفاة جنكيز خان بخمس سنوات- كان اجتياح بقية الأجزاء الغربية من إيران وأذربيجان.

    اجتياح التتار لبلاد روسيا وأوروبا وتضييق الخناق على الخلافة العباسية

    في سنة (630هـ) صعد التتار إلى الشمال، ودمروا روسيا بكاملها وقتلوا أهلها، وبالذات في موسكو، واستمروا إلى سنة (640هـ) يعني: أخذوا عشر سنوات في احتلال البلاد الروسية إلى أن وصلوا إلى موسكو في سنة (640هـ) ودمروها بكاملها.

    ثم بدأ التتار يجتاح أوروبا اجتياحاً رهيباً في سنة (641هـ)، ووصلوا إلى بولندا والمجر وكرواتيا، ودمروا كل هذه البلاد تماماً.

    ثم عادوا بعد ذلك إلى بلاد المسلمين، وبدأ الخناق يضيق على الخلافة الإسلامية في بغداد، ورأى التتار أن يتحالفوا مع النصارى في البلاد الإسلامية وحول البلاد الإسلامية، فبدءوا في مراسلتهم واستخدامهم كجواسيس داخل البلاد الإسلامية، وعقدوا حلفاً مع ملك أرمينيا الذي كان في ذلك الوقت نصرانياً، ووعدوا النصارى إن هم تعاونوا معهم أن يعطوهم بيت المقدس، الذي كان قد حرره صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.

    رأى التتار أيضاً أن يسيطروا على منطقة الأناضول -التي هي تركيا الآن- فوجهوا إليها جيوشاً وحاربوها، وقاومهم السلاجقة هناك، ولكن ظهرت حكومات ضعيفة في منطقة الأناضول، ما كان لهم من هم إلا شراء رضا التتار، فوافقت على الخضوع للتتار، وأن تنطلق الجيوش التترية من تركيا؛ للإحاطة بالخلافة الإسلامية العباسية في العراق من شمالها.

    ظهور شخصية هولاكو والأساليب التي استخدمها لإسقاط العراق

    ظهر بعد ذلك على هذه الصفحة من التاريخ رجل بشع يقال له: هولاكو، وكان ذلك في سنة (651هـ)، وكان ظهوره عندما تولى منكو خان زعامة دولة المغول، وكانت دولة المغول في ذلك الوقت من كوريا في شرق آسيا إلى بولندا في وسط أوروبا، وتولى زعامة هذه البلاد رجل اسمه منكو خان ، وكان منكو خان أخاً لـهولاكو ، فأرسل منكو خان أخاه هولاكو لاستكمال إسقاط ما تبقى من بلاد المسلمين، وجاء هولاكو إلى إيران؛ ليكون قريباً من الأحداث.

    إن شخصية هولاكو شخصية من أبشع الشخصيات في التاريخ، فهو رجل ليس له أي نزعة إنسانية، فقد كان يحب القتل ويتعطش للدماء بشكل مريع، وكان يمثل الجناح الأشد تطرفاً في دولة التتار، فإنه كان من دولة التتار أناس يعارضون هولاكو في حروبه الدموية البشعة، ولكنه كان هو الذي يسيطر على هذه الأمور، لقرابته من زعيم التتار في ذلك الوقت.

    ماذا فعل هولاكو لإسقاط العراق؟ قرر أولاً أن يسقط طائفة الإسماعيلية، وهي طائفة من أبشع طوائف الشيعة، حتى إن كثيراً من العلماء أخرجوا طائفة الإسماعيلية بأفكارهم من الدين الإسلامي بالكلية، وكانت هذه الطائفة تتمركز في غرب إيران وعلى حدود العراق، وكانت لهم قوة عسكرية ضخمة، فلم يرد هولاكو أن يدخل على الخلافة العباسية الموجودة في العراق وفي طريقه طائفة الإسماعيلية، فأراد أن يدمر هذه الطائفة، وكان العنف والإرهاب هو الوسيلة المناسبة لهم، وبالفعل تم له ما أراد، وأفنى طائفة الإسماعيلية بكاملها.

    الأمر الآخر الذي قرره هولاكو لاحتلال العراق كان أمراً في منتهى الدهاء، فبدلاً من أن يهلك جيوشه مع جيوش المسلمين الضخمة في منطقة العراق والشام والأناضول وما حولها؛ قرر أن يحدث انقساماً حاداً في هذه المنطقة، فقرر أن يتعامل بالاتفاق مع مجموعتين رئيستين من المسلمين، يعطيهم الوعود والعهود بالتمكين لهم وإغداق الهدايا عليهم، ومساعدتهم في الوصول إلى ما يريدون من حكم وسلطان في نظير إسقاط الخلافة في العراق.

    الطائفة الأولى التي تعامل معها هولاكو هي طائفة الأكراد أحفاد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فقد قام هولاكو بمراسلة الأشرف الأيوبي ملك حمص، وكذلك راسل الناصر يوسف الأيوبي أمير حلب ودمشق، ووعدهم أن يبقيهم في أماكنهم إذا ساعدوه، أو على الأقل يكونون على الحياد في حربه مع الخلافة العباسية، ووافق الأكراد على ذلك.

    الطائفة الثانية التي تعاون معها هولاكو كانت طائفة الشيعة التي تعيش في العراق، وتعارض النظام الحاكم المتمثل في الخليفة العباسي في ذلك الوقت، وكان الخليفة لسوء فهمه لإدارة الأمور، وعدم تقديره الكافي للمسئولية؛ قد اختار أحدهم، وجعله أقرب المقربين إليه، فقد كان الوزير الأول للخليفة العباسي في الدولة التي تحارب التتار هو مؤيد الدين العلقمي الشيعي، وهكذا استطاع التتار أن يصلوا إلى هذا الرجل، ودارت بينهم وبينه الاتفاقات والمراسلات التي تؤدي إلى إسقاط الخلافة، على أن يتولى الأمور بعد ذلك في بغداد هذا الرجل، تحت حماية تترية وتأييد من هولاكو .

    وكان من نصائح التتار لـمؤيد الدين العلقمي أن يُهبِط تماماً من معنويات الخليفة والمسلمين، أو يشككهم في أمر الانتصار على التتار، فأخبرهم أنه من المستحيل أن يحاربوا هذه الأعداد الهائلة من البشر بهذه الإمكانيات الضعيفة عند بلاد المسلمين، بل إنه طلب من الخليفة العباسي طلباً غريباً جداً، والأعجب من ذلك أن الخليفة العباسي وافق على طلبه، طلب منه أن يقلل عدد الجيوش الإسلامية لإثبات حسن النوايا أمام التتار أنه لا يريد حرباً! فوافق الخليفة على ذلك، وقلل بالفعل من الجيش الإسلامي الموجود في بغداد، والجيش التتري على بعد خطوات في إيران.

    شخصية الخليفة العباسي المستعصم بالله ومهادنته للتار

    تعالوا لنأخذ نظرة على هذا الخليفة، حتى إذا قرأتم وصفه في كتب التاريخ لم تستغربوا، الخليفة هو المستعصم بالله ، فيا لها من أسماء عظيمة جداً في ذلك الزمن. يصفونه بأنه كان رجلاً عالماً محباً للعلم والعلماء، وكان رجلاً كريماً محباً للسنة ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    يعني: أن المستعصم بالله كان رجلاً جيداً في ذاته، لكنه افتقر إلى أمور لا يصح أن يفتقر إليها حاكم مسلم، افتقر إلى حسن الإعداد والتنظيم، وإلى الكفاءة في إدارة الأمور، وافتقر إلى علو الهمة، وإلى الأمل في الصدارة أو التمكين، وافتقر إلى الشجاعة التي تمكنه من أخذ قرار الحرب في وقته المناسب، وافتقر إلى القدرة على تجميع الصفوف وتوحيد القلوب ونبذ الفرقة ورفع راية المسلمين، وافتقر كذلك إلى اختيار أعوانه؛ ففشت في بلاده بطانة السوء.

    كان الخليفة جيداً في عبادته وعقيدته، ولكنه لم يتعد ذلك إلى غيره، فهو أمام المجتمع والدولة والشعب لم يكن بالذي يستطيع أن يتحمل المسئولية، فقد كان في استطاعته في ذلك الزمن أن يعد -من داخل العراق فقط مائة وعشرين ألف فارس، فضلاً عن المشاة والمتطوعين، فقد كان جيش التتار الذي كان يحاصر بغداد مائتي ألف، فكان الأمل كبيراً جداً في رد الغزاة، ولكنه كان مهزوماً من الداخل، فاقداً للروح التي تمكنه من المقاومة، لم يرب شعبه على الجهاد، ولم يعلمهم فنون القتال، فكان لا بد أن يدفع الشعب كله والخليفة معهم الثمن، لم يدرك الخليفة أنه كان بإمكانه أن يكون عظيماً من عظماء التاريخ، وخالداً في الذكر بين الخالدين لو أنه اعتمد على ربه ثم على شعبه، لكنه مع الأسف اعتمد على بطانة السوء التي تؤخر كثيراً ولا تقدم شيئاً.

    ظهرت في بغداد دعوة للجهاد مع كل هذه الملابسات، قاد هذه الدعوة رجل اسمه مجاهد الدين أيبك، ورجل آخر اسمه سليمان شاه ، وكان لهما الرأي في المقاومة، لكن الخليفة أخذ برأي الوزير الشيعي مؤيد الدين العلقمي في مهادنة التتار، واقتربت اللحظات الأخيرة، وقرر هولاكو أن يأخذ الخطوات اللازمة لدخول بغداد، ولتحسين الصورة أمام الخلفاء ولتفتيت الشعوب التي قد تثور، أراد هولاكو أن يقوم بحيلة خبيثة وهو أن يطلب من الخليفة طلباً ما، فإذا رفضه كان هذا إيذاناً بإعلان الحرب على بغداد، ولا بد أن يكون الطلب مستحيلاً حتى لا ينفذه الخليفة، طلب منه أن يرسل له بجيش يساعده في حرب طائفة الإسماعيلية في شمال إيران، ولو أن الخليفة العباسي أخرج هذا الجيش فإنه سيترك بغداد والعراق بلا جيش تقريباً، ولو دخل التتار إلى بغداد عنوة ورفعوه عن الكرسي فلن يعيدوه إليه أبداً، لذلك قرر الخليفة ألا يستجيب لطلب التتار بإخراج جيش لحرب طائفة الإسماعيلية وكانت هذه بداية الحرب.

    1.   

    حرب التتار للخلافة العباسية ببغداد

    الحصار الاقتصادي والعسكري والنفسي على بغداد

    أول هذه المقدمات حصار يضرب حول بغداد؛ لإضعاف الحالة الاقتصادية والعسكرية والنفسية، وشارك في هذا الحصار التتار وحلفاؤهم من الأرمن ومن المسلمين.

    وهكذا ضُرِب الحصار في (13) محرم سنة (656هـ)، ثم طلب هولاكو الرسل للمفاوضات، فأرسل له الخليفة المسلم رسولين للمفاوضات، والعجيب أن الرسول الأول هو الوزير العلقمي الشيعي، والرسول الثاني: البطريرك المسيحي في بغداد.

    تسليم الخليفة العباسي زعيمي فكرة الجهاد في بغداد وأتباعهما لهولاكو

    كان الطلب الأول الذي طلبه هولاكو: تسليم مجاهد الدين أيبك وسليمان شاه، اللذين كانا يتزعمان فكرة الجهاد في سبيل الله في بغداد، ولكن الخليفة رفض هذه الفكرة وعلم هولاكو من مؤيد الدين العلقمي خطورة هذين فطلب تسليمهما، فوافق الخليفة العباسي على تسليمهما استرضاءً للتتار، وبعث بالرجلين، لكن هولاكو الخبيث أراد تفريغ بغداد من المجاهدين فأعادهما وقال: ابعثوا معهما أتباعهما لنفيهم إلى الشام، وقال: نحن فقط سننفيهم إلى الشام، ووافق الخليفة وجمع لرسل هولاكو كل الناس الذين كانوا مؤيدين لفكرة سليمان شاه ومجاهد الدين أيبك، وبعثهم لـهولاكو لكي ينفيهم إلى الشام، وانتهز بعض الجبناء من المسلمين الفرصة، وطلبوا من الخليفة أن يخرجوا مع الوفد، لكي ينفوا للشام، وفي نظرهم أن هذا أحسن لهم من محاربة التتار، ووافق الخليفة على ذلك، وخرج الوفد الكبير سليمان شاه ومجاهد الدين أيبك وأتباعهما، وأولئك الجبناء الذين طلبوا النفي إلى الشام اختياراً، وتسلمهم هولاكو، فقام هولاكو؟ فقتلهم جميعاً، فكانت خيانة عظمى وجريمة كبرى! ولكنها خيانة متوقعة.

    وهكذا دبّ الرعب في أوصال الخليفة العباسي المستعصم بالله ، وأدرك في لحظة كانت واضحة لكل أهل الأرض من أن هؤلاء لا عهد لهم ولا أمانة، ولكن هذا الإدراك كان متأخراً جداً بعد أن فرغت بلاد المسلمين من الصفوة.

    رسالة من هولاكو بتزويج ابنته من ابن المستعصم مقابل شروط جديدة

    جاءت رسالة جديدة من هولاكو تجدد الآمال في نفس الخليفة، وهي وعود جديدة من هولاكو وفيها تزويج ابنة هولاكو لابن المستعصم بالله، وعلى أن يبقى المستعصم بالله في منصب الخلافة، والأمان لأهل بغداد جميعاً! لكن ما هي الشروط التي يمليها زعيم التتار على خليفة المسلمين؟

    أولاً: تدمير الحصون العراقية.

    ثانياً: ردم الخنادق.

    ثالثاً: تسليم الأسلحة، السيوف والخيول.

    رابعاً: الموافقة على أن يحكم خليفة بغداد العراق تحت رعاية تترية، ثم أن يخرج له الخليفة المستعصم بالله هو ومن معه من كبار رجال الدولة والعلماء والفقهاء وأولاد المستعصم ، وبالذات الولدين الكبار: أحمد وعبد الرحمن ؛ وذلك لأن واحداً منهم سيصير زوجاً لبنت هولاكو ، ويعدون استقبالاً كبيراً لـهولاكو لدخول بغداد، وختم هولاكو كلامه بأنه ما جاء إلى هذه البلاد إلا لإرساء قواعد العدل والحرية والأمان، وبمجرد أن يطمئن على هذه المعاني السامية سيعود مباشرة إلى بلاده.

    رحمة من هولاكو عليه لعنة الله، ومع أن سيوف التتار لم تجف بعد من دماء مئات الآلاف من المسلمين، وآخر هؤلاء مجاهد الدين أيبك وسليمان شاه ، إلا أن الخليفة العباسي لم يجد بداً من أن يسمع ويطيع.

    لماذا لم يحارب الخليفة العباسي التتار حين رأى الصورة واضحة؟ ماذا سيخسر لو أنه مات مرفوع الرأس أو عاش عزيزاً ملكاً على بلاده، لكن الهزيمة النفسية الداخلية كانت أشد من أن ينتصر عليها الخليفة.

    إن أهل بغداد في ذلك الوقت كانوا قد تجاوزوا المليونيين، ولكن كانوا غثاء كغثاء السيل، فقد كان جيش التتار المحاصر لبغداد مائتي ألف فقط، ولو كانت في قلوب المسلمين حمية لقاموا إليهم ولفتكوا بهم بأيديهم لا بسيوفهم ورماحهم، ولكن ماتت أرواح المسلمين قبل أن تموت أجسادهم!

    دور الإعلام الإسلامي في مضاعفة المأساة وإضعاف معنويات المسلمين في ذلك الوقت

    العجيب أن الإعلام الإسلامي في ذلك الوقت كان يضاعف من المأساة، ويزيد من حرج الموقف! فقد انتشرت الإعلانات عن جيوش التتار واستعداداته وإمكانياته ومعجزاته، فقد وجد في كتابات الأدباء والشعراء وأصحاب الأقلام في ذلك الوقت كلام عجيب، من ذلك قولهم: التتار تصل إليهم أخبار الأمم، ولا تصل أخبارهم إلى الأمم.

    التتار إذا أرادوا جهة كتموا أمرهم ونهضوا دفعة واحدة، فلا يعلم بهم أهل بلد حتى يدخلوها.

    التتار نساؤهم يقاتلن كرجالهم.

    التتار خيولهم تحفر الأرض بحوافرها -يعني: حتى الخيول تخترق الأرض، وتأكل عروق النبات لا تحتاج إلى شعير ولا تمويل.

    التتار لا يحتاجون إلى الميرة والمؤن، والميرة: التي هي المواد المغذية للجيش؛ وذلك لأن معهم الأغنام والأبقار والخيل.

    التتار يأكلون جميع اللحوم ويأكلون بني آدم، هذا الكلام فعلاً كان مكتوباً في كتبهم.

    اجتياح هولاكو بغداد وقتله الخليفة وأبناءه وكبراء قومه من الوزراء والعلماء

    رضخ الخليفة الضعيف المستعصم بالله ، وخرج هو وكبراء قومه وأبناؤه إلى لقاء هولاكو ، وهناك أمسك هولاكو بالخليفة وقتل كل من معه في لحظة واحدة، فكان غدراً فظيعاً من هولاكو ، وهو أمر متوقع تماماً، ولكن هولاكو أبقى على حياة الخليفة المستعصم بالله ؛ لكي يعلمه بمكان كنوز العباسيين، أين كنوز الأجداد التي جمعت على مدار خمسة قرون سابقة؟ قاد هولاكو الخليفة أمامه يرسف في أغلاله، ودخل به بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية ما يزيد على خمسة قرون، فكم من الجيوش خرجت لتجاهد في سبيل الله من هذا المكان؟ كم من العلماء جلسوا يعلمون الناس دينهم في هذا المكان؟

    أواه يا بغداد لم يبق لك أحد، أين خالد ؟ أين القعقاع؟ أين النعمان؟ أين المثنى بن حارثة ؟ أين سعد بن أبي وقاص؟ أين الحمية في صدور الرجال؟ أين النخوة في أبناء المسلمين؟ أين العزة والكرامة؟ أين الذين يطلبون الجنة؟ أين المقاتلون في سبيل الله؟ لا أحد، فتحت بغداد أبوابها على مصراعيها، لا مقاومة، لا حراك، لم يبق في بغداد رجال، ولكن فقط أشباه رجال.

    واستباح هولاكو مدينة الإمام أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل والإمام الشافعي، واستباح مدينة الرشيد الذي كان يحج عاماً ويجاهد عاماً، والمعتصم الذي سيّر جيشاً من بغداد إلى عمورية لنجدة امرأة مسلمة واحدة صفعها رجل رومي فقط ولم يقتلها.

    قتل هولاكو عليه لعنة الله من أهل بغداد ألف ألف مسلم أو يزيدون، ما بين رجال ونساء وأطفال، حرب إبادة جماعية هائلة رهيبة، مأساة من أشد مآسي التاريخ ضراوة، ووجد جندي أربعين طفلاً حديثي الولادة في شارع جانبي من شوارع بغداد، قد قتلت أمهاتهم جميعاً فقتلهم في عنف وبشاعة وقلوب أشد قسوة من الحجارة.

    واستمر القتل في المدينة أربعين يوماً، لا يرفع فيها مسلم سيفاً؛ لأنه يعتقد أن التتار لا يهزمون لا يجرحون، بل لا يموتون، فما الفائدة من بذل الجهد في المقاومة؟ نساء التتار يقتلن رجال المسلمين، إذا نادت تترية على مسلم قف! وقف وقد تيبست قدمه في الأرض، حتى يأتي التتري ويقتله ذلة وخزياً وعاراً.

    اتجه التتار إلى كنوز العباسيين واستخرجوا كنوز السنين، وقد يفهم هذا، ولكن الذي لا يفهم أنهم اتجهوا بعد ذلك إلى مكتبة بغداد، فأخرجوا الكتب منها وألقوا بها جميعاً في نهر دجلة، مئات الألوف من العلوم الثمينة التي لا تقدر بثمن، تخيل هذا الكم الضخم من تراث الحضارة والمدنية والإنسانية يلقى بها بهذه الصورة في نهر دجلة، حتى تلون لون النهر إلى اللون الأسود، تدمير لكل ما هو حضاري.

    مثل ذلك فعل الصليبيون الأسبان بمكتبة قرطبة، حين أحرقوا كل كتبها لما سقطت قرطبة، حروب إبادة لكل ما هو حضاري أو مفيد للإنسانية، كل هذا وما زال هولاكو يقول: إنه ما جاء إلى هذا المكان إلا لإرساء قواعد الأمن والعدل والحرية.

    وبعد أربعين يوماً وقف القتل في المدينة، وقد تناثرت الجثث المتعفنة في شوارع حضارة الإسلام، وأعلن هولاكو أمناً حقيقياً؛ ليخرج المختبئون من المسلمين؛ ليرفعوا الجثث بعد أن انتشرت الأوبئة، فخرج الذين كانوا مختبئين في الخنادق، والذين كانوا مختبئين في الديار المهجورة، والذين كانوا مختبئين في المقابر، خرجوا جميعاً للمدينة المدمرة بغداد يرفعون جثث أهلهم وذويهم.

    وانسحب هولاكو بجيشه خارج المدينة لتجنب الأوبئة.

    وقتل هولاكو الخليفة المستعصم بالله ، ووضع على رأس الحكم في بغداد الوزير العلقمي الشيعي، وجعل معه مستشارين من التتار، أو قل: جعل معه مراقبين من التتار، وأغدق هولاكو بالهدايا على البطريرك ماكيكا وأعطاه قصراً من قصور الخلافة، وسقطت بغداد بعد أن فتحت بالإسلام منذ أكثر من (640) سنة، على يد الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

    ودب الرعب في أوصال العالم الإسلامي بأسره، وفقد معظم المسلمين الأمل في قيامه، وظهر اعتقاد عجيب في تلك الآونة، وهو أن هذا الأمر من علامات الساعة القريبة جداً، وأن المهدي سينزل قريباً جداً، وشعر الناس أنهم لا طاقة لهم بـهولاكو وجنوده، فأرادوا النصر عن طريق معجزة، فإما أن يخسف بجيش التتار، وإما أن ينتظروا المهدي فينتصر على التتار، أما أن يتحرك المسلمون بدون المهدي فهذا أمر محال، هزيمة نفسية بشعة وغياب كامل للوعي الإسلامي الصحيح.

    وكان سقوط بغداد متزامناً مع سقوط قرطبة وإشبيلية في الأندلس، فإن قرطبة سقطت سنة (636هـ) قبل بغداد بعشرين سنة، وإشبيلية سقطت سنة (646هـ) قبل بغداد بعشر سنين، وها هي بغداد تسقط في صفر سنة (656هـ).

    ولاء ملوك الشام وشمال العراق والأناضول لهولاكو بعد سقوط بغداد

    أما ملوك الشام وشمال العراق والأناضول من المسلمين فماذا فعلوا؟ لقد أسرعوا إلى هولاكو يقدمون فروض الولاء والطاعة، الأمير بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل، والأمير فيكاوس الثاني، والأمير قلج أرسلان من منطقة الأناضول، والأمير الناصر يوسف أمير حلب ودمشق حفيد صلاح الدين الأيوبي، أرسل ابنه العزيز ليكون في صف هولاكو، والأمير الأشرف الأيوبي كل أمراء الشام فعلوا ذلك إلا القليل، كل أمراء الشام سلموا أنفسهم لـهولاكو ؛ ليظلوا في أماكنهم، أو على الأقل ليظلوا على قيد الحياة، فهل تركهم هولاكو ؟ أبداً.

    اجتياح هولاكو بجيشه بلاد الشام

    جاء الدور بعد العراق على سوريا، انطلق هولاكو بجيشه إلى بلاد حلفائه المسلمين، وبدأ بحلب بلد الناصر يوسف الذي بعث ابنه؛ ليكون في جيش هولاكو ، وأباد هولاكو حلب وقتل أهلها، وذلك في صفر سنة (658هـ) بعد سنتين من سقوط بغداد، ثم انتقل إلى دمشق في سنة (658هـ) أيضاً في ربيع أول بعد أيام من سقوط حلب، وألقى القبض هناك في دمشق على الناصر يوسف الذي كان يعاونه من قبل، ودخل المدينة العظيمة دمشق عاصمة الخلافة الأموية السابقة، وثغر من أعظم ثغور المسلمين، وتقدم صفوف التتار قائد المقدمة التتري كتبغا وهو نصراني في جيش التتار، فتقدم وعن يمينه أمير أرمينيا النصراني وعن يساره أمير أنطاكية النصراني، وأول مرة يشاهد أهل دمشق ملوك النصارى يدخلون أرض دمشق يتبخترون على خيولهم، أول مرة يرون ذلك منذ أن فتحت هذه البلاد على يد أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد رضي الله عنهما أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ودمرت دمشق بكاملها، واستبيحت البلاد وقتل العباد، ودمرت الحضارة الإسلامية في دمشق، كما دمرت قبل ذلك بغداد.

    ثم توغل التتار إلى الجنوب إلى فلسطين واحتلوا نابلس، ثم واصلوا تقدمهم إلى غزة واحتلوها، ولم يقتربوا في كل ذلك من الإمارات النصرانية الموجودة في عكا وحيفا وبيت المقدس وصيدا، وأصبح معلوماً لدى الجميع أن الخطوة القادمة هي مصر، كيف كان الوضع في مصر في ذلك الوقت؟

    1.   

    وضع مصر من الناحيتين السياسية والاقتصادية حال سقوط بغداد والشام في أيدي التتار

    من الناحية السياسية كان الوضع متأزماً جداً، أمراء مصر على صراع شديد على الحكم بين أواخر الأيوبيين وأوائل المماليك، ففي وقت اجتياح بغداد كان يتولى حكم مصر طفل لم يبلغ خمس عشرة سنة من عمره، طفل اسمه نور الدين علي ، ابن السلطان السابق لمصر عز الدين أيبك ، وكان وزيره الأول هو الأمير قطز رحمه الله.

    أما الوضع الاقتصادي فكان متدهوراً للغاية في مصر، فقد أنهكت مصر سلسلة من الحملات الصليبية المتتالية، آخر واحدة منهن كانت موقعة المنصورة الشهيرة ضد الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، وانتصر فيها المسلمون انتصاراً باهراً في سنة (648هـ)، يعني: قبل تدمير بغداد بثمان سنين.

    ومع رداءة هذا الوضع السياسي والاقتصادي، إلا أن الشعب لم يكن متأثراً تماماً بهذه الظروف السيئة التي تمر بها البلاد، فقد كان لدى الشعب شيئان في منتهى الأهمية في تلك الفترة: العلم، والجهاد، فقد كانوا دائماً يعظمون جداً من أمر العلم والعلماء، ويعظمون من أمر الجهاد في سبيل الله، فقد كان الشعب لديه حمية للجهاد، ألف حياة المشقة والبذل من جراء الحروب المتتالية التي مر بها، ونتيجة صدق العلماء الذين كانوا يعيشون في هذه الفترة من الزمان.

    1.   

    استلام قطز حكم مصر واستعداده لمواجهة التتار

    في سنة (657هـ) وبعد أن دمرت بغداد، وبدأ التتار في اجتياح الشام؛ رأى الأمير قطز النائب الأول للسلطان الطفل نور الدين علي أن أمر البلاد لن يصلح، وأن مقاومة التتار مستحيلة والبلاد تحت حكم طفل لا يستطيع أن يدبر شئون نفسه فضلاً عن شعبه وأمته، فقام قطز رحمه الله بعزل الطفل السلطان، ووضع نفسه على كرسي الحكم في مصر، وبدأ يعد العدة لأمر عظيم، جمع قطز المستشارين من كبار المماليك وكبار قواد الجيش والعلماء، وأشهرهم العز بن عبد السلام رحمه الله، وكان قد تجاوز الثمانين عاماً في ذلك الوقت، ثم قال لهم: إنه لم يطلب الملك لذاته وإنما طلبه لحرب التتار، فإذا كتب الله له النصر على التتار ترك الشعب يختار أميره بعد ذلك بإرادته.

    إذاً: قطز صرح لأمرائه أنه ما طلب الملك إلا لحرب التتار، فبدأ الأمراء المماليك يترددون، فقد وصلت أنباء التتار المخيفة عن حرب التتار، لكن قطز رحمه الله بدأ يضرب لهم مثلاً رائعاً في فهمه للإسلام، ويعطي لهم قدوةً راقية في الجهاد، لقد أعلن قطز لهم أنه سيذهب بنفسه لحرب التتار، ويكون مع جنوده في قلب المعركة، ولن يرسل جيشاً ويبقى هو في عرينه بمصر، بل سيذوق مع شعبه ما يذوقون، ويتحمل ما يتحملون، ولو أرسل قطز جيشاً وبقي هو في القاهرة ما لامه أحد، ولكنه لم ير هناك وسيلة أفضل من ذلك؛ لتحميس القلوب الخائفة، وتثبيت الأفئدة المضطربة.

    فقه قطز رحمه الله ما علمه الناس نظرياً لا عملياً، لقد فقه أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فقه أن الشجاعة لا تقصر الأعمار، وأن الجبن لا يخلد الإنسان في الحياة، فقه أن الحياة بعزة ساعة خير من البقاء أبد الدهر في ذلة وهوان.

    ثم قام قطز رحمه الله وقال للناس: من للإسلام إن لم نكن نحن؟ فضج الأمراء بالبكاء وقاموا خلفه ينادون بالجهاد في سبيل الله، وقد علم أنه من كانت هذه صفته فهو منصور إن شاء الله.

    وقام قطز رحمه الله في نشاط يجهز الجيوش ويعد السلاح ويرتب الخيول ويحمس الناس، ولكن واجهته مشكلة ضخمة، وهو أن بيت المال يعاني من ضائقة شديدة، والحالة الاقتصادية متردية، فأراد قطز رحمه الله أن يفرض على الناس الضرائب لتجهيز الجيش، فقام إليه العز بن عبد السلام رحمه الله، وقال له ولأمراء المماليك جميعاً: إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم، وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهادهم -أي: فوق الزكاة- ثم علق هذا الأمر على أمرين:

    الشرط الأول: ألا يبقى في بيت المال شيء.

    والشرط الثاني: أن تبيعوا مالكم من الممتلكات والآلات، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه وتتساووا في ذلك أنتم والعامة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا، فاستجاب قطز رحمه الله وباع ما يملك، وأمر الأمراء بذلك، وجهز جيشاً صادقاً من المسلمين، وقرر قطز رحمه الله أن يخرج بجيشه إلى حرب التتار في فلسطين، ولا ينتظر حتى يقدموا عليه في مصر، فقامت دعوة في أمراء المماليك بأن يبقى قطز في مصر بجيشه، ولا يخرج إلى فلسطين لقتال التتار، وأن يبقى لحماية مصر، فمصر هي مملكته، وفلسطين مملكة أخرى. هكذا قيل.

    ولكن قطز رحمه الله جمع أمراءه، وأفهمهم حقائق غابت عن أذهان كثير منهم، أفهمهم أن حماية مصر يبدأ من حدودها الشرقية، ولا يمكن أبداً أن يحيا أهل مصر في أمان والعدو الصليبي والتتري يعيش في فلسطين. هذه واحدة.

    الثاني: أنه من الأفضل عسكرياً أن ينقل المعركة إلى أرض خصمه، وأن يكون له خط رجعة، بدلاً من أن تحدث هزيمته في مصر إن حدثت، فتضيع البلاد برمتها.

    الأمر الثالث: أنه من الأفضل عسكرياً أن يفاجئ أعداءه قبل أن يستعدوا له.

    الأمر الرابع: أن لهم فوق ذلك كله دوراً هاماً ناحية إخوانهم في فلسطين والشام والعراق، ولن تزول أقدامهم يوم القيامة إلا بعد أن يسألوا عن هذا الدور.

    الأمر الخامس: أن لهم دوراً في حرب أعداء المسلمين، حتى وإن لم يفكروا أصلاً في دخول قطرهم المحدود ما داموا يعيثون في أرض الله الفساد.

    واقتنع المخلصون بالأمر، وبدأ الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله يذكر الناس بالجهاد، واعتلى العلماء المجاهدون منابر البلاد، وألهبوا مشاعر الناس بالحمية لهذا الدين، ورغبوا الناس في الجنة، وزهدوهم في أمر الدنيا وعظموا الجهاد وأهله، وذكروهم بأيام الله، ذكروهم ببدر واليرموك والقادسية، وذكروهم بحطين، التي لم يمض عليها إلا (75) عاماً، وذكروهم بمعركة المنصورة، التي لم يمض عليها إلا عشر سنين.

    ومع كل هذا إلا أن فريقاً من المسلمين دبّ الرعب في قلوبهم، وجالت بأذهانهم صور ما سمعوه عن التتار، فبدأ بعض الناس بالفرار إلى المغرب وإلى اليمن وإلى الحجاز، فهل قيدهم قطز ؟ أو أجبرهم على الاشتراك؟ أبداً إنه تركهم في غيهم يعمهون، لقد فقه قطز رحمه الله أن النصر لن ينزل إلا على الثابتين الذين لا يولون الأدبار، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال:45].

    وفقه أن الجيوش لا تنصر بأعدادها ولا عتادها، وإنما تنصر بطاعتها لله عز وجل واعتمادها عليه.

    وفقه أن هؤلاء الذين فروا لو خرجوا مع الجيش لاضطرب الجيش وانهزم، قال تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47].

    وفقه قطز أن الذي يوهب الحياة هو الذي يحرص على الموت، وأن الذي يوهب النصر هو الذي يحرص على الجنة.

    تجاهل قطز رسائل التتار وتوجهه بجيشه إلى فلسطين

    جاءت رسل التتار إلى قطز في مصر تحمل رسالة من هولاكو تقطر سماً وتفيض تهديداً ووعيداً وإرهاباً، وهي رسالة تنخلع لها قلوب أشباه الرجال، أما قطز ومن تبعه فقد اعتصموا بالله، ومن كان الله معه فلا غالب له، قال هولاكو في رسالته كلاماً كثيراً قد ردده لكثير من الزعماء قبل ذلك، فمما قاله هولاكو مثلاً: نحن لا نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى، خلقنا الله من سخطه، وسلطنا على من تكبر وتجبر من عباده.

    وفي موضع آخر يقول: نحن قد أهلكنا البلاد وأبدنا العباد، وقتلنا النساء والأولاد. فـهولاكو يستخدم مثل هذه الأشياء، بل إنه يقول في موضع من رسالته: وعدلنا في ملكنا قد اشتهر، ومن سيوفنا أين المفر؟ ثم قال في النهاية: تحسبون أنكم منا ناجون أو متخلصون، وعن قليل تعلمون على ما تقدمون، وقد أعذر من أنذر.

    لقد كانت الرسالة في منتهى الشدة، ولكن سبحان الله المثبت! فإن قطز لم يعبأ مطلقاً بكلمة واحدة من هذه الرسالة، وفي هذا الوقت اضطر هولاكو ترك بلاد الشام ليتجه إلى بلاده بمفرده؛ وذلك لموت أخيه منكو خان الذي كان يرأس دولة التتار في ذلك الوقت، وترك هولاكو قائد جيشه كتبغا على زعامة جيش التتار.

    خرج قطز رحمه الله بجيش من مصر وقد تجاوز الجيش مائة ألف مقاتل، وسار على ساحل البحر الأبيض المتوسط مروراً بالعريش، حتى وصل إلى مشارف فلسطين، خرج رحمه الله من القاهرة في (5) شعبان سنة (658هـ)، وكان هذا موافقاً شهر أغسطس سنة (1260م)، وكان الحر شديداً، والمرور في سينا صعباً، ولكنه زيادة في الابتلاء والتنقية للصف المسلم.

    جعل قطز رحمه الله على مقدمة جيشه الظاهر بيبرس بعد أن جاءه من بلاد الشام، وكان الظاهر بيبرس هارباً من مصر، فأرسل له قطز رسالةً يقربه فيها إليه، واستقدمه من بلاد الشام، وجعله على المقدمة في الجيش؛ وذلك لبراعته في القتال.

    لقد كان قطز رحمه الله على عكس ما كان معروفاً في زمانهم، فقد جعل مقدمة الجيش كبيرة جداً، وكان له هدف في ذلك الأمر، أراد قطز رحمه الله أن يفهم التتار أن مقدمة جيش المسلمين هي كل جيش المسلمين، وأنه ليس من ورائها جيش آخر، فالتقت مقدمة المسلمين بقيادة الظاهر بيبرس بحامية التتار في غزة، وقاتلتها بشدة وانتصرت عليها.

    نسأل الله عز وجل أن يحرر فلسطين من اليهود.

    وفر التتار إلى الشمال يحملون الأخبار إلى كتبغا أن جيش المسلمين بمصر قد جاء إلى فلسطين، واعتقد التتار أن جيش المسلمين ما هو إلا مقدمة الظاهر بيبرس رحمه الله، وحرص قطز رحمه الله على هذا المعنى، فكان يتخفى في سيره، حتى لا يظهر جيشه، بينما يظهر عن عمد جيش الظاهر بيبرس ، حتى تعلم العيون المراقبة أن هذا هو الجيش فقط.

    مر قطز في طريقه على عكا، وكانت عكا في ذلك الوقت إمارة تحت حكم الصليبيين، فقرر قطز رحمه الله أن يقيم معهم معاهدة، حتى يمر من حول الحصون دون أن يتعرض لحرب صليبية، وهددهم قطز تهديداً شديداً أنهم لو خالفوا ترك التتار وعاد لحربهم، أما إن كانوا على العهد فلن يمسهم بسوء.

    فالرؤية كانت واضحة جداً عند قطز، فهو لا يريد الدخول في مواقع جانبية؛ لأنه يعلم أن العدو الرئيسي الآن هم التتار، ويعلم أن عكا مدينة حصينة جداً، ولو فرغ وقته وجهده لفتحها ما استطاع أن يحارب التتار، ولما أشار عليه أحد الأمراء أن يباغت عكا بعد العهد؛ لأن بها ضعف عن كل وقت سابق، قال له قطز : إنه لا يخون العهود، فهذه قيادة إسلامية على منهاج النبوة.

    إقامة قطز معاهدة مع إمارة عكا المسيحية

    مر قطز في طريقه على عكا، وكانت عكا في ذلك الوقت إمارة تحت حكم الصليبيين، فقرر قطز رحمه الله أن يقيم معهم معاهدة، حتى يمر من حول الحصون دون أن يتعرض لحرب صليبية، وهددهم قطز تهديداً شديداً أنهم لو خالفوا ترك التتار وعاد لحربهم، أما إن كانوا على العهد فلن يمسهم بسوء.

    فالرؤية كانت واضحة جداً عند قطز، فهو لا يريد الدخول في مواقع جانبية؛ لأنه يعلم أن العدو الرئيسي الآن هم التتار، ويعلم أن عكا مدينة حصينة جداً، ولو فرغ وقته وجهده لفتحها ما استطاع أن يحارب التتار، ولما أشار عليه أحد الأمراء أن يباغت عكا بعد العهد؛ لأن بها ضعف عن كل وقت سابق، قال له قطز : إنه لا يخون العهود، فهذه قيادة إسلامية على منهاج النبوة.

    معركة عين جالوت

    كان الظاهر بيبرس يراوغ القوات التترية حتى يخفي الجيش الرئيسي بقيادة قطز، ويقفز من مكان إلى مكان، ومن مدينة إلى مدينة، ثم وصل المسلمون إلى مكان اختاروه؛ لتكون فيه المعركة، وسجل المسلمون نقطة كبيرة لصالحهم بالسبق إلى مكان القتال وامتلاك عنصر الإعداد ثم عنصر المفاجأة، واختار قطز سهلاً واسعاً بين تلال كثيرة، هذا السهل هو سهل عين جالوت بين مدينتي بيسان ونابلس في فلسطين على بعد (65) كيلو متراً فقط من موضع حطين، وكأن الله عز وجل أراد أن يعظم أكثر وأكثر من قدر فلسطين، حتى تدور فوق أراضيها المعارك الخالدة في تاريخ المسلمين: أجنادين بيسان اليرموك حطين ثم عين جالوت. نسأل الله عز وجل أن يمنّ علينا بانتصار مجيد على أرضها ضد اليهود.

    وضع قطز مقدمته وعليها الظاهر بيبرس في وسط السهل، ثم أخفى كل جيشه خلف التلال المحيطة وانتظر قدوم التتار، وجاء التتار بصلف وغرور تسبقهم سمعتهم المرعبة، ولكن الله عز وجل ثبت قلب قطز ومن معه من أبطال المسلمين.

    وصل كتبغا قائد التتار إلى سهل عين جالوت في (25) رمضان سنة (658هـ) الموافق (6) سبتمبر سنة (1260م) تاريخ من أعظم التواريخ في حياة المسلمين، قرر كتبغا أن يدخل المعركة من فوره، وكان من سعادة المسلمين أن يقاتلوا في هذا الشهر الكريم؛ ليستعيدوا ذكريات بدر وفتح مكة وفتح الأندلس، دخل كتبغا وهو يعتقد أن قوة المسلمين هي مقدمة الظاهر بيبرس فقط، فلم يأخذ حذره، بل اندفع بكل جيشه ولم يجعل له ظهراً، وهذا تدبير رب العالمين الذي أعمى عيون التتار عن رؤية جيش قطز ، والذي زرع في قلبه الإقدام بكامل جيشه إلى داخل السهل المحاط بكمائن المسلمين، تلقى الظاهر بيبرس رحمه الله هو ومن معه الضربة الأولى من التتار بشجاعة بالغة وصبر أمام جحافل التتار، وتناثرت أشلاء المسلمين على أرض عين جالوت، وسالت الدماء وسقط الشهداء من المسلمين، ولكن ما فر رجل واحد منهم.

    ثم تظاهر الظاهر بيبرس رحمه الله بالانسحاب إلى داخل السهل حتى يستدرج كتبغا ومن معه من التتار وقد حدث له ما أراد، ودخل التتار في الفخ الإسلامي، وأشار قطز رحمه الله إشارة النزول لقوات جيشه المختبئة خلف التلال، فأحاطت بقوات التتار الهائلة إحاطة السوار بالمعصم، ودارت موقعة من أشرف المواقع في تاريخ المسلمين، بل من أشرف المواقع في العالم، وثبت المسلمون فيها ثباتاً هائلاً، ولكن التتار ما لبثوا أن تداركوا أنفسهم، وبدءوا يحاربون في منتهى العنف، وأظهروا مهارتهم وبراعتهم في القتال، وحدث تردد في جيش المسلمين، وبدأت جيوش المسلمين تعود إلى الوراء.

    لاحظ كل هذا البطل المظفر قطز رحمه الله، فقام في شجاعة نادرة وألقى خوذته على الأرض تعبيراً عن اشتياقه للشهادة وطلب للموت، وأطلق صيحته الخالدة: وا إسلاماه وا إسلاماه. يلخص بها أسباب النصر.

    فإنه لن ينصر هذا الدين إلا من علم أن دينه أغلى من أهله وماله وكل حياته، وانطلق قطز بنفسه يصارع ويقاتل ويضرب هذا ويطعن هذا، وهو الأمير على كل هؤلاء، وانطلق الجيش السعيد خلف قائده الأسعد، وقام الأمير جمال الدين آقوش الشمسي بحملة صادقة على جيش التتار فوجد أمامه كتبغا زعيم التتار، فحمل عليه حملة صادقة، وضربه عبد الله المؤمن بسيفه ضربة، فسقط العبد الآبق كتبغا صريعاً في دمائه: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].

    ودب الاضطراب في قلوب التتار، وأسر ابن كتبغا ودارت الدائرة على أهل الشرك، وانسحب التتار بسرعة إلى مكان بعيد عن مكان الموقعة، ثم عادوا من جديد يرتبون قواتهم قرب بيسان وانطلق وراءهم قطز بجيشه، وكانت موقعة جديدة أعتى من الأولى، إنها بالنسبة للتتار الحياة أو الموت، ولكنها بالنسبة للمسلمين النصر أو الشهادة، وزلزل المسلمون زلزلاً شديداً، وقاتل التتار قتالاً مريراً، ولكن قطز عاد من جديد يصيح الصيحة الخالدة: وا إسلاماه وا إسلاماه وا إسلاماه قالها ثلاث مرات، ثم قال: يا الله! انصر عبدك قطز على التتار، وعندما يخشع ملوك الأرض لا بد أن يرحم جبار السماوات والأرض، وتنزل الرحمات على الجيش المؤمن، واللعنات على الجيش الكافر، وقاتل قطز قتالاً مجيداً حتى قتل فرسه، فقاتل وهو يمشي على الأرض، حتى أعطاه أحد جنوده فرساً فركبه، واستمر في القتال، وانكسر جيش التتار كسرة لا قيام بعدها في أرض الشام، وانطلق المسلمون وراء التتار فريقاً يقتلون ويأسرون فريقاً، وأورث الله عز وجل المسلمين سلاح التتار وأموالهم، وفني جيش التتار بأكمله في موقعة عين جالوت لم يفلت منهم إلا الشريد، وانطلق الظاهر بيبرس رحمه الله بمقدمة الجيش يتابع الفارين إلى الشام، ونزل البطل المغوار المجاهد المسلم التقي الورع قطز من على فرسه في أرض الموقعة، ومرغ وجهه في الأرض وسجد لله شكراً.

    قائد كهذا لا بد أن ينصر، جيش كهذا لا بد أن ينصر، قواعد ليس فيها لبس ولا غموض، ووصلت أخبار النصر العظيمة إلى أطراف الشام، وانقلب المسلمون على الحاميات التترية، وقد زالت الرهبة من قلوبهم، وانتصر المسلمون على أنفسهم قبل أن ينتصروا على التتار.

    وواصل السلطان المظفر قطز تقدمه وتطهيره لأرض الشام من نجس التتار، ثم دخل دمشق في يوم الثلاثين من رمضان سنة (658هـ) بعد خمسة أيام فقط من عين جالوت، وقضى يوم العيد هناك وكان العيد عيدين: عيد الفطر وعيد النصر والعزة والتمكين، والإعلاء لدين الله عز وجل، والنصر لجنده.

    وفي غضون أسابيع قليلة طهّر المسلمون كل بلاد الشام من التتار، وواصل الظاهر بيبرس حملاته في الشمال، حتى طهر حلب منهم واستتب الأمن في بلاد الشام، وأعلن السلطان المظفر قطز رحمه الله توحيد الشام ومصر تحت راية واحدة، وسعد المسلمون بنعمة الوحدة بعد سعادتهم بنعمة النصر.

    وانطلق العلماء يبشرون الناس بالنصر المجيد، وعمت الفرحة في كل بلاد المسلمين، وأشرقت الأرض من جديد بنور ربها.

    فوائد إيمانية من معركة عين جالوت وأسباب النصر فيها

    كانت موقعة عين جالوت من أهم المواقع في تاريخ الأرض، وليس فقط في تاريخ المسلمين، كان للموقعة آثار لا تحصى ولا تعد، أدرك جميع المسلمين أن النصر من عند الله عز وجل، وأن موالاة الكافرين لا تجر على المسلمين إلا الويلات، قتل المسلمون فيها الهزيمة النفسية، وسقط حاجز الخوف من التتار.. وغيرهم، وفنيت القوة العسكرية التترية تماماً في بلاد الشام وغيرها، وقامت دولة المماليك قياماً قوياً، وحملت على عاتقها صد الهجمات التترية بعد ذلك، كما قامت بتحرير الشام من الممالك الصليبية، ثم واجهت الاستعمار الصليبي البرتغالي بعد ذلك، وظلت تحمي بلاد المسلمين (270) سنة كاملة، وهكذا عادت الهيبة لبلاد المسلمين ولأمة الإسلام بعد غياب سنوات طوال.

    من العجب أن التتار بدءوا يدخلون في دين الله عز جل! وهي من المرات القليلة أو الوحيدة التي يدخل فيها الغزاة في دين من يغزونهم سبحان الله! إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وحدث ذلك بعد عين جالوت.

    فهذه وقفات مع أسباب النصر في موقعة عين جالوت:

    أولاً: الإيمان بأن النصر من عند الله عز وجل وليس من عند غيره.

    ثانياً: التربية الإسلامية للشعب على حب الجهاد في سبيل الله.

    ثالثاً: الوحدة بين جيوش المسلمين والقتال تحت راية واحدة.

    رابعاً: القدوة المتمثلة في قطز القائد الذي نزل إلى خندق الجنود، فكان فعله أبلغ من ألف خطبة ومقال.

    خامساً: الإعداد الجيد للجيش والخطة، واختيار المكان، وإعداد السلاح، وبذل المال.. وغير ذلك من أمور إعداد القوة.

    سادساً: عدم الاستعانة بالصليبيين.. أو غيرهم.

    سابعاً: الشورى الحقيقية الواضحة في منهج قطز رحمه الله، لما جمع الناس واستشارهم في أمر الجهاد.. وغير ذلك.

    ثامناً: رفع الروح المعنوية للجيش، والاهتمام بالجانب النفسي لهم.

    تاسعاً: نظافة اليد والبذل من المال وتولية الصالحين، والإعراض عن المفسدين والمنافقين.

    عاشراً: الشكر المباشر لله عز وجل والتواضع له، وسنة الله: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7].

    فتلك عشرة كاملة لو جمعها جيش -والله- لن يهزم قط.

    وفاة قطز

    تبقى في القصة مفاجأة هامة، فإن قطز لم يبق في كرسي الحكم إلا أحد عشر شهراً وسبعة عشر يوماً فقط، ولم يكمل السنة، مات قطز بعد انتصاره في عين جالوت بخمسين يوماً فقط، ولكن سبحان الله! قيمة الرجال لا تقاس بطول العمر ولا بكثرة المال ولا بأبهة السلطان، إنما تقاس بالأعمال الخالدة التي تغير من وجه التاريخ ومن جغرافية العالم، وهي في ذات الوقت تثقل في ميزان الله عز جل.

    يظن كثير من الناس أن زمن المعجزات قد انتهى، ولكن أخطئوا، فإن الله عز وجل قد ترك بين أيدينا معجزة لا تنتهي ولا تندثر، تلك هي كتاب الله عز وجل القرآن، ومن أعظم معجزات القرآن صناعة الرجال، فالقرآن هو الذي بث هذه الروح في الرجال من أمثال قطز وصلاح الدين ويوسف بن تاشفين وخالد بن الوليد.. وغيرهم من قادة المسلمين.

    والكتاب القرآن ما زال في أيدينا وسيبقى إلى يوم القيامة، فهو معين الأمة الذي لا ينضب، وسيخلق الله عز وجل للأمة دائماً رجالاً في كل زمن يجددون لها الدين، ويبعثون في نفوس أبنائها الأمل، ويقودونها إلى عز الدنيا ونعيم الآخرة، ويحققون وعد الله عز وجل الذي سطره في كتابه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].

    وبعد إخواني في الله! انتهت قصة التتار، وانتهت قصة عين جالوت، ومات جنكيز خان وهولاكو لعنهما الله، وكذلك مات قطز والظاهر بيبرس رحمهما الله، ومات الجند الظالمون، ومات الجند المؤمنون، ومرت الأعوام والأعوام، والقرون والقرون، ولكن الذي بقي ولم ينته هو الدرس والعبرة، الذي بقي هو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا) ، الذي بقي هو السنة الإلهية التي لا تتبدل ولا تتغير: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160].

    والله أسأل أن يجعل لنا في التاريخ عبرة.

    فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

    وجزاكم الله خيراً كثيراً.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755992148