أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: العنوان كما سمعتم: (مواقف إيمانية)، وسوف أقتصر في هذا المجلس على ثلاثة مواقف إيمانية، وقد ذكرها الله عزَّ وجلَّ كلها في القرآن، ولعلك قد قرأتها من قبل أو استمعت إليها، ولكن أرجو منك أن تعيش معي هذه المواقف الثلاثة، فإنها مواقف عظيمة رهيبة، إذا وقرت في القلب أثمرت الإيمان واليقين بالله تعالى، وإن تدبرت هذه الآيات التي تتلى، وتلك المواقف التي تذكر، سوف تصبر على كل طاعة، وتترك كل معصية بإذنه جل وعلا؛ ذلك لأنه كلام الله الذي إذا ذكر على المؤمنين وجلت القلوب، وذرفت العيون، وازداد الإيمان .. كيف لا وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لصار هذا الجبل من تأثره بالقرآن خاشعاً متصدعاً من خشية الله.
ولكن بعض القلوب لا تتأثر بكلام الله جل وعلا، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] ما بال هذه القلوب أقفلت وكأن عليها أقفال لا تتأثر ولا تتدبر ولا تتعظ، ولا يوجل القلب، ولا ترجف الأعضاء، ولا يقشعر الجلد، ولا تدمع العين؟! وكأنه يسمع كلام بشر لا كلام رب البشر جل وعلا، يقول الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16]، قال ابن مسعود: [أربع سنوات أسلمنا فعاتبنا الله].
إلى متى؟ ألم يحن الوقت الذي تخشع القلوب فيه لذكر الله؟! إلى متى الواحد منا عُمِّر في الإسلام بل وَشَابَ فيه؟! وبعضنا -للأسف إلا من رحم الله- لا يخشع من كلام الله جل وعلا.
الموقف الأول: موقف أبينا إبراهيم عليه السلام، أبو الأنبياء، وإمام الموحدين عليه الصلاة والسلام، وخليل الرحمن.. إبراهيم عليه السلام الذي امتلأ قلبه بالإيمان منذ الصغر، فكان رجلاً شجاعاً في ذات الله، كسر الأصنام وفتتها حتى جعلها جذاذاً فتاتاً.
ولما كبر وهجر قومه ولم يبق له بعد الله عزَّ وجلَّ إلا زوجته، أراد أن تكون له ذرية، فما قضى الله له بالذرية، حتى كبر في السن وشاب شعر رأسه، فإذا به يدعو الله تبارك وتعالى فيقول: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99] ترك قومه وترك أباه، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100].
يا رب! هب لي ذرية، قد كبر في السن وطعن حتى أوشك على الوفاة، ولم يعطه الله الذرية، وكم من الرجال اليوم الذين كبرت بهم الأعمار وهو عقيم يتمنى لو أنفق كل أمواله، بل يتمنى لو أنه قطع من جسمه عضواً ويعطيه الله عز وجل الولد، فإن أحلى كلمة عنده في الوجود أن ينادى: يا أبتِ أو يا أبتاه.
قال سبحانه: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ [الصافات:102] انظر إلى الأسلوب! الأب يكلم ابنه ويقول: يا بني! وقد كان صغيراً في السن يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ [الصافات:102] ورؤيا الأنبياء حق ووحي من الرحمن جل وعلا.
ماذا ترى يا أبي؟ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] يا أبي! ماذا تقول؟ فيقول: أمرني الله في المنام أن أضجعك على الأرض وأحمل سكيناً فأنحرك بيدي.
الأمر صعب -يا أخي- وقد تقول: إنه لابد من الاستسلام لله جل وعلا، ولكن لو وقع عليك الأمر فهل تستسلم؟
قال سبحانه: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] فكر وابحث في الأمر.. شاور نفسك.. اجلس بينك وبين نفسك .. لكن إسماعيل عليه السلام كان باراً بأبيه، ومسلماً لله جل وعلا، فقد سلَّم أمره لله تبارك وتعالى، وانظر إلى الأدب وإلى الاستسلام لله جل وعلا! قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102] انظر إلى الأسلوب! قال: يا أبت! يذكره بالأبوة، أنت أبي وأنا ابنك، ومهما فعلت فأنت أبي، ثم يقول له: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، إنني ابنك وأنت أبي، لكنها طاعة الرب جلَّ وعلا، والاستسلام له سبحانه وتعالى.
قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الصافات:102] يأمر الله تعالى بذبحه وعلى يد أبيه، وهو يقول: إن شاء الله.. انظر إلى الأدب مع الله عز وجل، وانظر إلى الاستسلام الكامل لله تبارك وتعالى، يقول: سوف أصبر، لكن ليس بحولي ولا بقوتي ولا بشجاعتي، فالقضية ليست شجاعة، ولا قوة، وليست جرأة؛ إن القضية إيمان بالله جلَّ وعلا، وتوكل على الرحمن تبارك وتعالى .. قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] وبعض الناس -للأسف- لا يصبر على أموال يتركها، أو على وظيفة يدعها لله جل وعلا، ولا يتحمل ألماً لأولاده أو بكاءً لصبيانه عندما يخرج التلفاز من البيت، أو يمنع ذلك الدش أو البث المباشر عنهم، يقول: لا أصبر على بكائهم وحنينهم، ولا أصبر على طلباتهم؛ فيأتي بالتلفاز بيده إلى البيت، أو يأتي بذلك الستلايت (البث المباشر) ليضعه في البيت فيدمر أخلاق أهله وأولاده .. يقول: لا أصبر، وهذا إسماعيل الصغير يقول: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].
وهل كان هذا ادعاء؟ وهل كانت فقط كلمات وألفاظ يتلفظ بها إسماعيل وأبوه؟ لا.
قال الله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103] لا تقل: إنني مسلِّم، ثم لا تستسلم لله جل وعلا، فلما أسلما، أي: سلَّما أمرهما لله جل وعلا.. جاء إبراهيم بابنه إسماعيل وكان شاباً صغيراً يعمل مع والده، فحمله ووضعه على جنبه على الأرض وأكبه على وجهه، وجاء بالسكين لينفذ أمر الله جل وعلا، وهو مستسلم لله تبارك وتعالى .. انظروا الإسلام! انظروا الصبر على طاعة الله! وجعل وجهه في مقابله حتى لا يراه؛ لأنه لا يتحمل هذا المنظر، ولكن حباً لله جل وعلا، ورضىً بأوامر الله تبارك وتعالى .. فجاء بالسكين ووضعها على نحر إسماعيل عليه السلام: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] تله أي: وضعه وأكبه على وجهه، ووضع السكين على رقبته وكاد أن ينحره.
ويأمره الله جلَّ وعلا أن يخرج من هذه الوظيفة؛ لأنها حرام، وموردها وأموالها حرام، فلا يصبر على هذا ولا يتحمل، ويقول: كيف أعيش؟ كيف أنفق على أولادي؟ كيف أرزق نفسي وأهل بيتي؟
انظر إلى الإسلام عند إبراهيم وانظر إلى الإسلام عندنا! قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن هذا القرض من الربا آخذه مرابٍ، ومعطيه مرابٍ، وكاتبه مرابٍ، والشاهد عليه.. كلهم سواء في لعنة الله جلَّ وعلا، فهل أنت مستسلم لأمر الله تبارك وتعالى؟! أم أنك تقول: أنا محتاج للقرض، أريد أن أثث بيتي، وأريد أتزوج، وأريد أشتري سيارة، فتأخذ القرض من الربا .. فهل أنت مستسلم لله جلَّ وعلا، أم أن هذه القصة وهذا الموقف يمر علينا وكأننا لا شأن لنا به؟! يخبرنا الله جلَّ وعلا بهذه القصص في القرآن لنعتبر ولنتأثر بذلك النبي الذي وصل به الحال إلى أن يذبح ابنه لله جل وعلا! فهل نحن فاعلون ومستجيبون لله تبارك وتعالى؟!
إنه موقف وقع لموسى عليه السلام، ولأولئك السحرة، واسمع إلى ذلك الموقف واعتبر وتدبر؛ لأن أولئك السحرة شأنهم عظيم، وأمرهم عجيب! حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما: [أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة] فاسمع إلى موقفهم ومشهدهم:
قال بعضهم: أخره أربعين يوماً. فقال: يا موسى! نؤخرك إلى يوم بيننا وبينك قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ [طه:59] -وهو يوم العيد- أريد أن يكون الموعد في يوم العيد؛ اليوم الذي يجتمع فيه الناس كلهم .. قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً [طه:59] ليس في الليل ولا في الفجر، بل في الضحى وكل الناس فيه منتبهون، ليس هناك رجل نائم ولا غائب، بل كلهم مجتمعون -انظر الواثق بدينه وبربه والمستيقن به- قال فرعون: لك ذلك.
وعندما أتى السحرة قالوا لفرعون: أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ [الشعراء:41] أي: يا فرعون! إذا غلبنا موسى وهارون هل لنا جزاء من أموال ومناصب؟ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الأعراف:114] الأمر عجيب! فرعون يجابه موسى.. ما الذي منع فرعون عن قتل موسى؟ لِمَ لمْ يقتله كحال غيره من البشر؟ لِمَ لمْ يقتله كما قتل الماشطة؟ إنها الهيبة من موسى قذفها الله عزَّ وجلَّ في قلب فرعون، فإذا به يصاب بالرعب، وإذا به يجمع السحرة كلهم -بل أعظمهم- ويعدهم بالأموال والمناصب، ويقول لهم: وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الأعراف:114].
إنهم الطواغيت؛ طواغيت البشر، الذين يدعون الربوبية، فقد كان فرعون يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعـات:24] هذه هي ربوبية فرعون، وربوبية غيره الذين يقولون: لا حكم إلا لنا، فهي ربوبية واحدة، هذه ربوبية وهذه ادعاء الربوبية، فعندما قال فرعون: أيها الناس: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي، ويأتي غيره ويقول: أيها الناس: لا حكم لكم غير حكمي؛ فهما سواء، قال الله جل وعلا: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40] فتوحيد الحكم من توحيد العبادة، بل هو أصل من أصول توحيد العبادة، ولهذا كان فرعون يستعبد الناس، فالحلال ما أحله فرعون، والحرام ما حرمه فرعون، قال عدي بن حاتم لمَّا سمع قول الله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] قال: (يا رسول الله! والله ما عبدناهم -ما جعلناهم أرباباً- قال: ألم يحلوا لكم الحرام فتحلونه، ويحرموا عليكم الحلال فتحرمونه؟ قال: نعم. -وهذا شيء منتشر عندنا- قال: فتلك عبادتهم) فلا يشترط السجود، ولا يشترط الذبح، ولا يشترط الطواف بقصره وبكرسيه، وذلك الملك لا يريد هذا، إنما يريد أن يكون الحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، وكل حكم فوق حكمه لا قيمة له، كما قال ذلك الطاغية الفاجر:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار |
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى [طـه:65] انظر إلى التحدي! فهم لجرأتهم ووثوقهم بأنفسهم يقولون: يا موسى! أتريد أن نلقي نحن أولاً أم أنت الذي تلقي عصاك؟ اختر ما تشاء يا موسى -يثقون بأنفسهم وثوقاً عجيباً- وإذا بموسى عليه السلام يرد عليهم بكلمة كالمستهزئ بهم: قَالَ بَلْ أَلْقُوا [طـه:66] ابدءوا بالإلقاء والناس ينظرون، فإذا بألوف السحرة كل واحد يرمي عصاه والوادي أمامهم، فإذا بالوادي يموج بالثعابين والحيات .. قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:65-66] انظر إلى المنظر العجيب! الناس خافوا، وبعض الجمهور تراجع من شدة الخوف، فإن الوادي كله قد امتلأ بالأفاعي وامتلأ بالحيات، هذا المشهد الذي يخبر الله عزَّ وجلَّ عنه بقوله: قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ [الأعراف:116] قذف الرعب والرهبة في قلوب الناس، بل حتى موسى عليه السلام، قال الله: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طـه:67] ولم يخف من الحيات والثعابين، إنما خاف على الناس، خاف أن يظل الناس وأن يكفروا، وخاف عليهم الناس أن يزدادوا كفراً وطغياناً .. ولكن انظر إلى ذلك الموقف، فرح فرعون واستبشر، نظر إلى ذلك السحر فازداد طغياناً وعتواً، فإذا بالوحي ينزل من السماء: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ [الأعراف:117] وماذا عساها تفعل مع هذه الثعابين؟ فقد ملأت الوادي ألوف الحيات والثعابين .. قال الله له: قٌلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ [طه:68-69] ألق ما عندك، عندك العصا.. ابذل السبب، إن المعركة بينهم وبين الله جلَّ وعلا ليست بينهم وبينك يا موسى، أنت ليس عندك شيء، أنت لا تملك إلا عصاً .. إن المعركة ليست بين الداعية الضعيف الذي لعله سجين، ولعله مكمم فاه، ومغلوب على أمره، ليست بينه وبين تلك الحشود وتلك الأمم، وليست بينه وبين تلك الضلالات .. إن المعركة بين الله جل وعلا وبينهم: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].
قال الله تعالى: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ [طـه:69] فيلقي موسى ما في يمينه وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الأعراف:117] انقلبت عصاة موسى عليه السلام ثعباناً حقيقياً، فابتلعت كل الثعابين التي في الوادي فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الأعراف:117].
انظر إلى المشهد الرباني: فَوَقَعَ الْحَقُّ [الأعراف:118] يقول الله جلَّ وعلا: فوقع، وكأن الحق أمر ثقيل مستقر في الأرض يحطم ما تحته: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:118] وإذا بالسحرة يندهشون من الأمر: فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [الأعراف:119] تعجب فرعون من هذا المنظر.. ما الذي حدث؟! ما الذي جرى؟! والجمهور ينظر، والناس تستغرب من الأمر.
قال فرعون: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طـه:71] أراد أن ينقذ نفسه من الموقف، انظروا إلى السخافة قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الأعراف:123] أيها السحرة: لِمَ لم تأخذوا الإذن مني حتى تؤمنوا؟ انظروا إلى السخافة والجنون إذا بلغ بالإنسان مبلغه .. إن الإيمان قد انفجر في قلوبهم ولم يتمالكوا أنفسهم إلا أن وقعوا لله سجداً، وتلفظوا بقولهم: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:121-122] كانوا قبل قليل يحاربون الله ويكرهون الناس على الكفر، ويقولون لفرعون: أإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ [الأعراف:113] يريدون الدنيا، وبعد لحظات وإذا بالأجساد تخر لله سجداً.
فماذا قال السحرة؟ لقد كانوا قبل قليل يريدون أموالاً ومناصب، ويريدون التقرب والتزلف للحاكم، أما الآن فأجابوا قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ [طـه:72] لن نحكمك، ولن نختارك يا فرعون: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ [طـه:72] لقد رأينا البينات، قال بعض المفسرين: إنهم لما سجدوا كل واحد رأى منزله في الجنة، لأنهم سجدوا يقيناً بالله تبارك وتعالى، وأي إيمان هذا الإيمان أيها الإخوة! قبل قليل كانوا سحرة كفاراً طواغيت، وبعد قليل يؤمنون ويسجدون لله؛ فقد أروا مساكنهم في الجنة، فلما رفعوا رءوسهم قال: لأصلبنكم.. لأعذبنكم.. سأقطع الأيادي والأرجل، قالوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ [طـه:72] وأقسموا على هذا: وَالَّذِي فَطَرَنَا [طـه:72] أي: نقسم بالذي فطرنا على هذا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طـه:72] افعل يا فرعون ما تشاء.. عذب.. قطع الأيادي والأرجل.. اصلبنا على جذوع النخل، افعل ما تشاء: إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طـه:72] مهما فعلت فإنها دنيا .. الله أكبر! أرأيت الإيمان إذا دخل في القلب كيف يستهين بالدنيا ويحتقرها! كيف تكون الدنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة، قبل قليل يريدون المناصب والأموال والقربى، أما الآن فيقولون: هذه دنيا فانية .. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ [طـه:73] يقال: إنه جمعهم منذ الطفولة وهم أيتام، وجاء بهم وعلمهم السحر منذ الصغر، حتى كبروا وترعرعوا على السحر، إكراه من فرعون، والويل لمن يخالف: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طـه:73] ثم إذا بهم يتكلمون عن الجنة والنار.
وهل تظن -يا عبد الله- أن فرعون تركهم؟! لا. بل نفذ ما وعدهم به، صلبهم على جذوع النخل، وقطع الأيادي والأرجل، وبعد قليل كما قال ابن عباس: [أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة].
عباد الله: أرأيتم إلى ذلك الموقف؛ موقف الداعية الثابت الصامد .. أنت لا تملك شيئاً، لا تملك إلا اللسان، والقلم، وهذا القلم وذلك اللسان يواجه تلك الجيوش الجرارة وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] لا تقل: أنا ضعيف، وما عندي شيء، لا تقل: الدعاة إلى الله عزل، أقول لك: الدعاة إلى الله جلَّ وعلا معهم الرب تبارك وتعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [الأنفال:12] يلقي الله عز وجل في قلوب أعدائهم الرعب.. ولا تقل: ما عندي جنود، ولا أسلحة، والمسلمون مستضعفون، واليهود والنصارى يقطعون في الأمة قطعاً ويمزقونهم تمزيقاً .. أقول لك: يا عبد الله! معك الرب جلَّ وعلا، إن موسى ما كان يملك إلا العصا وأمامه ألوف السحرة، وفرعون وما أدراك ما فرعون، ولكن نصره الله جل وعلا .. بم ذلك؟ بيقينه بالله تبارك وتعالى، وثقته بنصر الله جل وعلا.
إنها الكرامة الأولى على يد ذلك الصبي، ولما رجع إلى الراهب أخبره الخبر، فقال له: يا بني! إنك اليوم أعظم شأناً مني، وقد بلغت منزلة أعظم مني، وسوف تبتلى .. الله أكبر!
هل سمعت بحديث ورقة، عندما قال: ذلك الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك. فقال محمد صلى الله عليه وسلم: (أومخرجي هم؟) قومي، أبناء عمي، جيراني، أهلي، الذين يسلمون علي، ويسمونني الصادق الأمين، سوف يطردوني من بلدي؟! قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي .. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران:186] وعد من الله سبحانه وتعالى، تبتلى بالمال والنفس. قال: يا بني! أنت اليوم أعظم شأناً مني وسوف تبتلى، فإن ابتليت فلا تخبر عني. أي: اكتم خبري.
فقال: أيها الوزير! أنا لا أشفي، قال: ومن يشفي؟ قال: الله رب العالمين هو الذي يشفي، قال: الملك؟ قال: لا. بل ربي وربك ورب الملك الله رب العالمين. قال الوزير: وكيف يشفيني الله جلَّ وعلا؟ قال الغلام الصغير: تؤمن بالله رب العالمين، فأدعوه أن يشفيك؟ قال: آمنت بالله رب العالمين، فدعا الله له فشفي الوزير وردَّ الله عليه بصره.
غلام صغير، في قصر ملك طاغية.. هل خاف؟ هل ارتجف؟ هل قلب إيمانه؟ مع أنه في شرعنا يجوز هذا، ولكنها الجرأة، والإيمان إذا ملأ القلب .. قال: نعم، ربي وربك الله، قال: ماذا تقول؟ فعذبه وجلده حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب، فقال له الملك: ترجع عن دينك؟ قال: لا. قال: من ربك؟ قال: الله رب العالمين.
قال: ارجع عن دينك؟ قال: والله لا أرجع. فلا زال به يعذبه حتى جاء بالمنشار، فإذا به يضع المنشار على رأسه ويقسمه نصفين .. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] تحسب أنك آمنت ولن تفتن ولن تبتلى، تحسب -أيها الأخ الكريم- أنها صلاة وصيام والحمد لله ثم جنة .. لا يا عبد الله .. (حفت الجنة بالمكاره) وهذه من المكاره.
وجاء يمشي على قدميه إلى موطن الموت مرة أخرى، فدخل القصر، ففزع الملك، وخاف: من هذا؟! أهو الغلام؟! نعم. ماذا صنع الجنود؟ قال: كفانيهم الله جل وعلا.. كيف؟ لقد ماتوا كلهم وسقطوا من أعلى الجبل.. ماذا تقول؟! هذا الذي حصل، فخاف الطاغية، وجاء بجنود آخرين، وقال لهم: اذهبوا به إلى وسط البحر، ثم ارموه في البحر، وإذا علمتم أنه قد مات وغرق فارجعوا. -انظروا إلى التعذيب- فأخذوه إلى وسط البحر، ولما أرادوا أن ينزلوه في قاع البحر رفع الغلام يديه إلى الله جل وعلا، وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت .. وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186].
في بدر يقول أبو بكر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن جهز الجيش وجعل لكل إنسان مقعداً، جلس خارج الجيش ورفع يديه إلى الله جل وعلا، وهو يقول: اللهم إني أنشدك نصرك يا رب، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض. يقول
فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت. فإذا بموج هائل يأتي ويسقط الجنود كلهم في البحر، فماتوا كلهم غرقى وما بقي إلا الغلام.. فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64].
رجع الغلام مرة أخرى إلى القصر، ففزع الملك وخاف، وعلم أنه لن يقدر عليه، فقال الغلام: أيها الملك! إنك لست بقاتلي، ولن تستطيع على قتلي، ولكن إن أردت أن تقتلني فافعل ما آمرك به. قال الملك: وماذا تأمرني؟ الآن الغلام يأمر الملك الطاغية، وانظر كيف انقلب الحال!! فإن النصر الآن لهذا الغلام.
فقال: اجمع الناس في صعيد واحد واصلبني، وخذ سهماً من كنانتي، وقل: باسم الله رب الغلام، ولن تقتلني إلا بهذه الطريقة، ثم ارمني بالسهم فإن فعلت ذلك فإنك قاتلي .. الملك الآن أهم قضية عنده هو أن يموت الغلام، فقد صار عنده كالكابوس، رعب وفزع وبدأ الخوف في قلب ذلك الملك، فالمهم أن يموت هذا الغلام.
فجمع الناس في صعيد واحد والناس في تلك اللحظات يترقبون. أمر من الحق؟ أمر الغلام أم أمر الملك؟ والناس في ريب من أمرهم، والغلام الصغير يعلم أنه سوف يقتل لكنه ضحى بحياته وبروحه من أجل هذه الدعوة، هذا الذي هو الآن يقبل على الحياة، شاب صغير، والغلام في ريعان شبابه يتمنى أن يعيش في الدنيا، لكنه ضحى بجسد وبدمه الطاهر لله جل وعلا .. فإذا بالملك يقف أمام الناس، فيأخذ سهماً من كنانته -والناس ينظرون- ويرفع صوته، ويقول: باسم الله رب الغلام، والناس يسمعون، ويرمي الغلام بذلك السهم، فيقع السهم في صدغه على وجهه فيضع الغلام يده على وجهه، ثم تفيض روحه إلى الله جلَّ وعلا.
ومات الغلام لكنه انتصر، مات لكنه فاز، وعندما مات الغلام إذا بالجموع تهلل وتكبر، وتقول: آمنا بالله رب الغلام، آمنا بالله رب الغلام. فالتفت الملك مذهولاً!! إن الغلام ملطخ بدمائه لكنه منتصر.. انتصر بدعوته، وضحى بجسمه وجسده وروحه لله جل وعلا، لكنه انتصر، فقد آمن الناس كلهم .. فقال الجنود: أيها الملك! قد وقع الذي كنت تحذر منه، قال: احفروا لهم الأخاديد، وأشعلوا فيها النيران، وأحرقوا كل من لم يرجع عن دينه، فجاءت الجموع ترمي بنفسها في النار، وهي تقول: الله أكبر! آمنا بالله رب الغلام، حتى جاءت امرأة بيدها رضيع وهي تؤمن بالله، فقيل لها: ارجعي عن دينك وإلا رميناك في النار. قالت: بل أرمي بنفسي في النار، وكأنها تقاعست وترددت.. ما ذنب هذا الرضيع؟ ما ذنب هذا الغلام؟ فأنطق الله الغلام في المهد، وقال: يا أماه! اصبري فإنك على الحق. فرمت بنفسها ورضيعها في النار.
قال الله تعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج:4-7] لِمَ كل هذا يا رب: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [البروج:8-9] شهد الله موت الغلام، وشهد الله حال الناس، وشهد الله فعلتهم، والله على كل شيء شهيد.
لقد مات الغلام وضحى بجسمه، وبروحه في سبيل الله، لكنه انتصر فما زال ذكره إلى أن تقوم الساعة، قتل أصحاب الأخدود، وهم في جنة خالدين فيها.
أيها الإخوة الكرام: هذه ثلاثة مواقف مرت علينا كثيراً في كتاب الله، لكن هلا توقفنا عندها وقفات نتدبرها!
هلا استشعرناها يا عباد الله!
إن هذه القصص لا يخبرنا الله بها للتسلية، أو لقضاء الأوقات، أو لأجل أن نقصها فقط على الصغار أو الكبار، لا يا عباد الله! إنما هي للاعتبار: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176] إن القرآن الذي بين أيدينا عظيم، قد ملأه الله بالقصص والعبر والآيات والأوامر والنواهي، فهل نحن معتبرون -يا عباد الله- أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا؟
أقول هذا القول، وأستغفر الله من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر