الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
فسلام الله عليكم أيها الإخوة ورحمة الله وبركاته!
وها نحن قد اجتمعنا على غير أرحام كانت بيننا، وعلى غير معرفة أو صداقة سابقة، وإنما جمعنا المحبة الدينية لله وفي الله، ونرجو أن تكون هذه المحبة دائمة إلى الممات، ونرجو أن تكون محبتنا خالصة لوجه الله، وذلك بأن نحب الله، ونحب من يحبه الله ونبغض من يبغضه الله؛ وذلك لأن المؤمنين يحبون الله، ومحب المحبوب محبوب، ومبغض المحبوب مبغوض.
ونحن في هذه الليلة سنتكلم حول هذا الموضوع: (السلف الصالح بين العلم والإيمان).
فأولاً: نتكلم قليلاً عن المراد بالسلف وسبب تسميتهم.
وثانياً: على سبب فضلهم.
وثالثاً: على حقيقة علمهم.
ورابعاً: على ثمرة علمهم الذي تعلموه.
كثيراً ما نسمع: قال السلف، وهذا مذهب السلف، وعند بعض السلف.
اصطلح العلماء على أن أهل القرون الثلاثة المفضلة يسمون السلف، ومن بعدهم يسمون الخلَف إذا كانوا على الإسلام، أما المغيرون والمنحرفون فيقال لهم: خلَفْ، بمعنى: خالف بسوء. فالخلَفَ معهم الإيمان ولكن هم أنقص من السلف، والخْلَف خلف سوء كما في قول الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم:59] فالخلفُ: هو الذي يأتي مخالفاً لمن قبله مخالفة كاملة، ونحن موضوعنا عن السلف، وذلك لأن الكلام على الخَلَف والخَلْف يحتاج إلى وقت آخر.
فالسلف: هم أهل القرون المفضلة، وهم: الصحابة والتابعون وتابعو التابعين.
فالصحابة: هم الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وماتوا على الإيمان ذكوراً وإناثاً، وقد حازوا قصب السبق؛ وذلك لأنهم فازوا وسبقوا غيرهم بالصحبة لكونهم صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا عنه وسمعوا منه، ولا شك في فضلهم.
ثم جاء بعدهم تلامذتهم الذين هم التابعون، والتابعي: هو من رأى أحداً من الصحابة وعقل رؤيته، ولو من أصاغر الصحابة،وسمي كذلك لأنه تابع لمن قبله.
وتابعو التابعين: هم الذين رأوا أو أدركوا أحداً من التابعين، ولو من المتأخرين.
وقد ذكر العلماء أن الصحابة انقضوا في القرن الأول، قيل: إن آخرهم أنس بن مالك الذي مات سنة ثلاث وتسعين، وقيل: إن منهم من أدرك المائة كـأبي الطفيل .
أما التابعون فاستمروا، حتى بقي بعضهم إلى أواخر القرن الثاني، ولكنهم يتفاوتون، فمن أكابرهم من أهل المدينة الفقهاء السبعة الذين أدركوا أكابر الصحابة: كـسعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود والقاسم بن محمد بن أبي بكر ونحوهم من أولاد الصحابة الذين أخذوا عن كبار الصحابة وأدركوا الخلفاء أو بعضهم.
ومن أصاغر التابعين من رأى بعضهم، حيث ذكروا أن الأعمش رأى أنس بن مالك فكتب له رؤية فأصبح من التابعين.
أما تابعو التابعين: فهم الذين ما أثر أنهم رأوا أحداً من الصحابة، ومنهم بعض كبار الأئمة كـمالك بن أنس وأبي عبد الرحمن الأوزاعي ومن في طبقتهما، فهؤلاء من أكابر تابعي التابعين.
وفيهم أيضاً أكابر حملة العلم ممن أثر عنهم علم عظيم، فتابعو التابعين بقوا إلى قرب القرن الثالث أو أواسطه.
ثم جاء بعدهم أتباعهم الذين ما أدركوا أحداً من التابعين فهؤلاء أتباع تابعي التابعين، ومنهم الأئمة البخاري ومسلم والشافعي وأحمد ونحوهم، فهؤلاء من أكابر أتباع تابعي التابعين.
ونقول: إن أهل القرون الثلاثة ومن في طبقتهم هم السلف؛ وذلك لأنهم سلفوا،أي: مضوا قبل من بعدهم، فالسلف معناه المضي، يقال: سلف الشيء إذا مضى وانقضى وانقرض، فهذا هو سبب تسميتهم بالسلف.
ثم إنهم سلفوا على الاستقامة، أي: مضوا على عقيدة سليمة مستقيمة، ليس فيهم من هو منحرف ولا مبتدع إلا من هو شاذ لا يؤبه له، ومن اضطهد وأذل وأهين في هذه الفترة التي هي فترة السلف الأجلاء، حيث كان من بينهم علماء الصحابة الذين حفظوا العلم، وعلماء التابعين، وعلماء تابعي التابعين، وكذلك منهم العُبَّاد والزهاد من رجال ونساء، ولا شك أنا إذا اعتقدنا أنهم على الصواب كانت أقوالهم قدوة.
والسبب أنه قد ورد الشرع بتفضيلهم ووردت السنة بأفضليتهم، فذكر الإمام أحمد في رسالته في الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم خير من أبنائكم، وأبناؤكم خير من أبنائهم، وأبناؤهم خير من أبنائهم)، يعني: أن الخيرية تكون للأول، ولا شك أن الأولين حازوا قصب السبق وهو صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا أفضل ممن بعدهم، ولهذا اتفقوا على أن الصحابة رضي الله عنهم عدول تقبل روايتهم، ولم ينقل على أحد منهم ضعف ولا كذب ولا رد في رواية ولم يجرح أحد منهم في الرواية، بل قبلت روايتهم كلهم، واتفقوا على أنهم كلهم عدول، فهذه من ميزاتهم.
وثبت أيضاً في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني -أي: القرن الذي بعثت فيهم- ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويقولون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)، أي: السمنة؛ فهذا دليل على أفضليتهم، وعلى أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الوجود، فأفضلهم القرن الأول الذي انقضى بسنة مائة، ويليه القرن الثاني الذي انقضى بسنة مائتين، ويليه القرن الثالث الذي انقضى بثلاثمائة.
هذا إذا عبر عن القرن بأنه مائة سنة، ومنهم من يقول: إن القرن هم الجماعة الذين يتواجدون في زمان واحد وتتقارب أعمارهم ثم يفنون، فآخرهم هو آخر القرن.
وعلى هذا يحمل حديث: (أنتم خير من أبنائكم)، أي الصحابة خير من أبنائهم (وأبناؤكم خير من أبنائهم)، أي: أبناء الصحابة خير من أولادهم.
ولا شك أنهم في ذلك الزمان أو في تلك القرون كان فيهم الفضل والشرف والعقيدة السليمة، ولم تظهر فيهم البدع والمحدثات، وإذا ظهرت بدعة كانت مضطهدة وأهلها أذلة، فكانوا بذلك أفضل من غيرهم.
وكانوا مع ذلك قدوة لمن بعدهم، ولهذا تتخذ أقوالهم حجة لا سيما علماؤهم وعبادهم الذين تبصروا في دين الله، وعبدوا الله على نور وبرهان؛ وذلك لأن العلماء حسنوا الظن بهم، بحيث جعلوا الأصل فيهم أنهم لا يعملون إلا عن دليل، ولا يقولون إلا عن توقيف، ولا يروون إلا عن تثبت، ولذلك تقبل مراسيل الصحابة بالاتفاق، ومراسيل كبار التابعين فيها خلاف، ولكن يترجح أنها تقبل إذا دلت القرائن على صحتها ولو لم تثبت مسندة.
وهكذا أيضاً أقوالهم التي يذهبون إليها تتخذ دليلاً، فيقال: هذا القول قد سبقنا إليه فلان الصحابي، أو قد قال به قلبنا من التابعين فلان وفلان، وهم من العلماء الأجلاء الذين لا يقولون إلا عن توقيف.
وقد قيضهم الله عز وجل وقيض علماء الأمة من بعدهم لحفظ هذا العلم الصحيح ولتصفيته وحمايته مما يدخل فيه من الأكاذيب ومما ليس منه، ولهذا اشتغلوا بترتيب الأسانيد وتصفيتها، وهذه الأسانيد التي توجد في كتب الحديث ما هي إلا للتثبت، حتى لا يقبل قول إلا بعد التثبت من صحته.
ذكر بعض العلماء أن السلف لم يكونوا يسألون عن الإسناد، ولكن رأوا من بعض الناس التساهل في الرواية ، فقالوا للرواة: سموا لنا رجالكم، حتى نعلم ممن أخذتم ، فإذا سموا رجلاً موثوقاً عرفوا أن الحديث وثابت، وإذا سموا من هو ضعيف أو من ليس من أهل الصناعة عرفوا أن ذلك ليس بثبت، وهذا دليل على حرص السلف رحمهم الله على حفظ السنة وعلى حمايتها عما هو دخيل فيها.
علمهم الذي تميزوا به هو: حفظهم للسنة النبوية التي رووها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حفظهم لكلام الله سبحانه وحرصهم على حمايته عن أيدي العابثين، ولهذا اهتموا بتدوين كتاب الله وكتابته بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بعدة أيام، فأثبتوه في صحف حتى لا يذهب ولا يفقد منه شيء، ثم كتبوه في مصاحف ونشروه إلى الأمة حتى يقرءوه ويحفظوه، ويعرف أن هذا هو القرآن المنزل عليهم.
ثم من علمهم أيضاً أنهم اشتغلوا ببيانه وبإيضاحه، وذلك بتفسيرهم لمعانيه التي قد تخفى على من بعدهم، وذلك لأنهم شاهدوا التنزيل، ولأنه نزل بلغتهم وبلسانهم، ولأنهم أعرف بأسبابه وأعرف بما يراد به، فلأجل هذا تُقدَّم تفاسير الصحابة وتفاسير تلاميذ الصحابة على من بعدهم من أهل الأزمنة المتأخرة الذين يفسرون القرآن بالآراء أو بالتخرصات أو يطبقونها على الوقائع والحالات أو ما أشبه ذلك، فيقدم على الصحيح تفسير أولئك على غيرهم.
وإذا تجدد شيء يدخل في عموم الآية فلا مانع من قبوله ولكن نقدم التفاسير السلفية، ولأجل هذا فإن علماء الأمة الذين اشتغلوا بعلم التفسير يستشهدون بالأحاديث أو الآثار التي لها صلة بالقرآن؛ وذلك لأنها بيان له.
لما أنزل الله عليه هذا الكتاب ليبينه للناس شرع في بيانه؛ فبيانه هو بيانه بالفعل كالصلاة والحج والزكاة وما أشبه ذلك من الأشياء المجملة، وكالحدود والعقوبات والتعزيرات المجملة في القرآن التي أوضحها وبينها.
وبينها أيضاً بالقول وذلك فيما فسره وأوضحه من الآيات التي بين المراد منها كما استشهد بذلك المفسرون.
ولا شك أن الصحابة الذين بينها لهم قد تحملوها، ولما تحملوها لم يسكتوا عندها بل بلغوها وبينوها لتلامذتهم؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام كلفهم بأن يبلغوها، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليبلغ الشاهد الغائب)، وقال فيما ثبت عنه: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
فلما سمعوا ذلك منه عرفوا أنه سوف ينتقل إلى الرفيق الأعلى، وأنهم سيقومون بعده بحمل هذه الشريعة وبحمل نصوصها وحمل معانيها وحمل كيفياتها، فما سكتوا، بل بلغوا ذلك وأخبروا من بعدهم بما علموه وبما حفظوه، فالنصوص التي حفظوها حدثوا بها وما تركوا شيئاً، والنصوص التي حفظوا معناها ذكروا معانيها فمثلوا لهم الأمثلة، وفعلوا الأفعال أمامهم ليبينوا لهم أن هذا هو ما حفظوه وتلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل هذا ظهرت أعمالهم طبقاً لذلك العلم، وذلك أن العلم إذا كان سليماً وكان علماً صحيحاً فإنه يتبعه العمل لأنه ثمرته.
ولا شك أن من اقتدى بهم في هذه العلوم ممن جاء بعدهم ولو بعدة قرون أنه يحشر في زمرتهم، وذلك أن اقتداءه بهم وإرثه لعلومهم وحرصه على الاقتداء بهم وتخصيصهم بالاقتداء ؛ دليل على أنه يفضلهم وعلى أنه يحبهم ويقدرهم قدرهم، ولا شك أيضاً أنه سيتبعهم في الإيمان وسيتبعهم في العمل، فيكون من نتيجة ذلك أن يعمل كأعمالهم، ثم هو يوم القيامة يحشر في زمرتهم فإن: (من أحب قوماً حشر معهم)، كما ورد بذلك الحديث.
نحن نحث على علم السلف ونقول: إن واجبنا أن نتعلم العلم الصحيح الذي ورثه السلف عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، ونقدمه على العلوم الأخرى التي تزاحمه، والتي متى اشتغلنا بها فاتنا من العلم الخير الكثير، وفاتتنا المسابقات التي تقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة، وإذا اشتغلنا به قطعنا السير ووصلنا إلى الله تعالى ونحن على طريق مستقيم، وسرنا سيراً سوياً ليس فيه انحراف ولا اعوجاج، وإذا اقتدينا بمن بعدهم وأخذنا الطرق المنحرفة، خيف علينا أن نقع في المهالك، وخيف علينا أن نبتدع في دين الله ما لم يأذن به الله.
أولاً: الحفظ، والثاني: الفهم، والثالث: التطبيق، والرابع: البيان، هذه هي مراجع علومهم.
وتنقسم علومهم إلى أقسام:
علم الآيات ومعانيها وما يتعلق بها، ويسمى التشريع.
وعلم الأحاديث وتفريعها وتقسيمها وتوزيعها إلى مواضيع وما أشبه ذلك، وكذلك ما يتعلق بها دراية من معرفة صحيحها وسقيمها ومقبولها ومردودها، وتجريح الرواة وما يتصل بذلك، ويسمى هذا علم السنة.
وكذلك جاء قسم ثالث وهو: علم التفقه فيها والتعقل، ويسمى علم الفقه.
وكذلك قسم رابع هو: علم الاعتقاد وهو أهم.
فقسموها إلى علوم أصولية وعلوم فروعية.
فالأصولية التي تتعلق بالعقيدة، وقد أوضحوها وبينوها أحسن بيان، والتي تتعلق بالفروع أوضحوها كذلك، ولما علموا أن هناك ما يكفر به أفردوا ذلك بالتأليف، فكتبوا مؤلفات كثيرة فيما يتعلق بعلم العقيدة وبعلم السنة، وذلك أنهم رأوا أو شاهدوا بعض المبتدعين الذين يخاف أن يفسدوا في الأرض، فردوا عليهم بدعهم وكتبوا ما يناقض تلك الشبهات التي يشبهون بها على ضعفاء البصائر.
وقد حفظ الله تعالى لنا تلك المعتقدات التي كتبها لنا علماء سلف الأمة، فمثلاً توجد مؤلفات ألفت في العقيدة في القرن الثاني، وأكثر منها في القرن الثالث موجودة ميسرة، إذا اقتناها العالم وأراد قراءتها والتقيد بها، عرف أن السلف رحمهم الله كانوا على عقيدة راسخة، وكانوا على علم غزير، وكان منبع علمهم وأصله هو الكتاب السنة.
أما الفروع التي كتبوا فيها والتي تناقلوها فهي أيضاً كثيرة؛ وذلك لأنهم احتاجوا إلى أن تحفظ على الأمة سنة نبيهم وعلمهم الموروث عنه، فكتبوا في ذلك مؤلفاتهم التي في الفروع، وضمنوها أحاديث ثابتة عن نبيهم عليه الصلاة والسلام، رووها بالأسانيد المتصلة، وضمنوها آثاراً عن الصحابة وآثاراً عن التابعين تبين ما يقولونه وما يذهبون إليه، وكل ذلك لأجل أن يحفظ ذلك العلم ولا يضيع منه شيء.
وذلك لأن الله سبحانه تكفل بحفظ هذه الشريعة، فقيض علماء السلف الذين حفظوها بالأسانيد وحفظوها في صدورهم، ثم لما أنهم خافوا أن يضيع منها شيء بسبب النسيان الذي يطرأ على الحفظ، سارعوا في تدوينها وكتابتها، فألف خلق كثير في القرن الثاني فيما يتعلق بالفروع، كالإمام مالك وأبي حنيفة ، فإنه كتب عنه علم جمّ فيما يتعلق بالفروع، وكذلك صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وكذا أهل ذلك الزمان كـابن جرير وعبد الرزاق بن همام ومعمر بن راشد ونحوهم من علماء ذلك القرن.
ثم جاء بعدهم تلاميذهم، فألفوا في ذلك مؤلفات كثيرة كأهل كالصحيحين والسنن وغيرها مما كتب في القرن الثاني والقرن الثالث، أي: في القرون المفضلة، وجاء في القرون التي بعدهم من ألف في ذلك ونفع الله تعالى بعلومهم، ولكن العلم السلفي هو العلم الصحيح، وهو أقرب إلى الثبوت وأقرب إلى الصحة.
وقسم ثان اشتغلوا بالتفقه فيه والتفهم له واستنباط الأحكام منه.
وقسم ثالث: يسر الله لهم الأمرين فجمعوا بين الحفظ وبين الفهم.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً لحملة هذا العلم بالغيث الذي يقع على الأرض، وأخبر بأن الغيث إذا وقع على الأرض انقسمت الأرض أربعة أقسام:
القسم الأول: يحفظ الماء حتى يزرع منه الناس ويسقون دوابهم، هؤلاء بمنزلة الحفظة الذين رزقهم الله حفظاً وإن لم يكن معهم نوع تفقه.
والقسم الثاني: الأرض التي يصيبها الماء أو المطر ولكنها لا تحفظ الماء ولكن تشربه، ثم تنبت النبات فينتفع الناس بذلك النبات ويرعون منه، فهذا القسم بمنزلة الفقهاء الذين رزقهم الله الفهم واستنباط الأحكام، وإن لم يكن معهم مقدرة على الحفظ.
والقسم الثالث: الأرض التي تجمع بين الأمرين: تحفظ الماء لنيل الشرب وللسقي، وتنبت الكلأ والعشب الكثير، فهؤلاء بمنزلة من جمعوا بين الحفظ وبين الفهم والفقه.
وهناك قسم رابع: وهو أرض سبخة لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء، وهم الذين لم يشتغلوا بشيء من العلم، بل هم معرضون عنه.
نقول: إن هذا هو العلم الصحيح الذي هو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، ونص الحديث: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ، فسقى الناس منها ورعوا وشربوا، وأصاب منها طائفة أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به من الهدى والعلم، فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).
ولما كان الخوارج كذلك لم يتبعهم أحد من الصحابة ولا من علماء الأمة، وإنما تبعهم بعض العوام وبعض المتأولين ممن لم يكن لهم قدم راسخ في العلم المعروف عن الصحابة رضي الله عنهم.
هذه الطائفة أنكروا العلم السابق وقالوا: إن الله لا يعلم الأشياء حتى تقع، وأنكروا أن يكون الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق، وأنكروا أن يكون الله قدر على العباد ما هم فاعلون، وعلم ما عمل الشقي والسعيد وما أشبه ذلك، وقد أنكروا النصوص الصريحة في ذلك، ولكن رد عليهم السلف وبينوا خطأهم، وبينوا أن هذا قول باطل، وأن هذا تنقص لعلم الله تعالى، ولهذا يقول الشافعي رحمه الله: (ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا)، أي: سلوهم: هل تقرون أن الله بكل شيء عليم؟ وبأن الله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون؟
فإن اعترفوا بأن الله بكل شيء عليم انقطعت حجتهم ولم يبق لهم ما يتعلقون به، وإذا أنكروه وقالوا: لا نقر بأن الله بكل شيء عليم كفروا، وذلك لأنهم تنقصوا الله تعالى ووصفوه بالجهل، فإنّ من نفى العلم عن الله يلزمه أن يثبت له الجهل.
فهذه بدعة خرجت ولكن كان هناك من يقاومها ويردها، فلم تكن متمكنة في ذلك العهد، وذلك لقوة أهل الحق وكثرتهم ولقوة الأدلة التي جادلوا بها، فانقطعت الشبه: وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:48].
ولما ظهر الجهم أنكر عليه السلف، وهو الذي نسبت إليه هذه البدعة، أعني بدعة إنكار الصفات، وهو الذي نشرها وتلقاها عن الجعد بن درهم ، ولكن كان السلف رحمهم الله على جانب من العلم وعلى جانب من الإيمان، فلأجل ذلك ردوا عليه وأنكروا بدعته وشنعوا على الجهمية الذين هم أتباعه، فلم يكن في عهد السلف بدع متمكنة.
فالخلف الذين هم أهل القرون المتأخرة الرابع والخامس والسادس وما بعدها فكانوا يزعمون أن السلف إنما يؤمنون بألفاظ مجردة لا يدرون ما معانيها، بل يؤمنون بها ألفاظاً ويفوضون معانيها ولا يعرفونها، ولا شك أن هذا تنقص لهم، حتى زعموا أن علم السلف هو مجرد التفويض، ويستدلون بقولهم في أحاديث الصفات: (أمروها كما جاءت بلا كيف)، ولا شك أن هذا تنقص لهم وعيب لهم، وذلك لأنه قد نقل عن السلف رحمهم الله أشياء كثيرة تدل على إيمانهم بالله وإيمانهم بصفات الله، وإيمانهم بما جاءهم عن الله عز وحل، وتقبلهم للشريعة، وتطبيقهم النصوص، واعتقادهم بمدلولاتها، ووصفهم الله تعالى بصفات الكمال وإثبات الصفات كما جاءت.
كما أنهم نهوا عن التكلف في السؤال عن الكيفية وما أشبه ذلك، وهذا معنى قولهم في آيات الصفات: (أمروها كما جاءت بلا كيف)، أي: لا تسألوأ عن الكيفية لأنها مجهولة، وكما يقول مالك بن أنس وهو من علماء تابعي التابعين لما سئل عن الاستواء؛ فقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)، وروي هذا أيضاً عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وهو أحد أكابر التابعين من أهل المدينة، فإنه سئل عن الاستواء فقال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم).
فهذه المقالة تدل على أنهم يعرفون معاني الآيات ويعرفون معاني النصوص ويؤمنون بها، إلا أنهم يعرفون أن لها كيفية وتلك الكيفية هي المجهولة، وهي التي لم تصل علوم الخلق إلى معرفتها.
وقد ذكر علماء الأمة كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن عقيدة السلف وعقيدة أتباعهم، هي ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، وما بلغه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أخذ عن الوحيين الكتاب والسنة، وأن هذا هو الواجب اعتقاده، وأنه هو الهدى الذي بعث الله تعالى به رسوله في قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33].
ولا شك أن من اتبعه فإنه على هدى، ومن تركه وحاد فإنه على ضلال، ولا شك أيضاً أنه الصراط السوي الذي أمرنا الله تعالى باتباعه في قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، فذكر أن من سار عليه فإنه بمنزلة من يسير على الصراط المستقيم، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم وضح معنى هذه الآية (فخط خطاً مستقيماً وقال: هذا صراط الله. وخط خطوطاً عن يمينه وعن يساره، وقال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)، يعني أن من سار على هذا السبيل السوي فإنه يؤدي به إلى النجاة، ومن انحرف عنه إلى بنيات الطريق فإنه يؤدي به إلى الهلاك، والصراط وصف بالاستقامة لأنه ليس فيه اعوجاج ولا انحراف، وإنما هو سبيل الله الذي من سار عليه فلا خوف عليه، ثم هو واضح المعالم لا يخفى على أي إنسان.
لاشك أن الإيمان في الأصل هو العقيدة الراسخة في القلب، وأن تلك العقيدة لا بد أن يكون لها مستند، فإن الشيء الذي له مستند يعتمده يكون راسخاً راسياً لا يخاف عليه أن يتزعزع ولا أن يسقط، فإن حيطان المسجد أو غيره من البنايات أو الأعمدة تعتمد عليها السقوف، إذا قامت على أساس قوي عميق، فإن البناء يثبت وينتفع به، وأما إذا لم يكن لها أساس بل كانت على وجه الأرض ولم تكن على أصل تعتمد عليه، فإنه لا تلبث أن تسقط أو تتصدع الحيطان أو ما أشبه ذلك.
فكذلك علم السلف الذي ذكرنا لا شك أنه أثر في قلوبهم، فصار من آثار ذلك العلم الإيمان الذي هو عقيدة راسخة، وسبب رسوخها هو قوة الدليل الذي اعتمدوه، وهو تلك النصوص الواضحة التي لا غموض فيها ولا التباس، وذلك لأنهم بنوا عقائدهم على أصول عقلية تؤيدها أدلة وأصول نقلية سمعية، فالأدلة النقلية هي ما ورثوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم من الآيات ومن الأحاديث، والأدلة العقلية هي ما شهدت به الفطر السليمة المستقيمة التي لم تتغير بالبدع ولا بالخرافات ولا بغيرها، بل صانها ربها عن أن تركن إلى تلك الشبهات وتلك الخرافات، فكان ذلك سبباً من أسباب بقائها على هذه العقيدة ورسوخها وعدم تزعزعها، ولهذا لم تؤثر فيهم تلك الشبهات، التي أدلى بها المبتدعة، فعند الخوارج شبهات يستدلون بها، وعند المعتزلة شبهات يعتمدونها، ولكنها شبهات لا يلتفت إليها وليست راسخة، بل بعض الشبهات التي يتشبثون بها يحطم بعضاً، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام في بيت مشهور في آخر العقيدة الحموية فقال:
حجج تهافت كالزجاج كأنها حق وكل كاسر مكسور
أي: حججهم أو شبهاتهم في منزلة ما إذا كان معك زجاجتان إحداهما في يدك اليمنى والأخرى في اليسرى، ثم ضربت إحداهما بالأخرى فتنكسران معاً، فكذلك حجج المبتدعة: فحجج المعتزلة عقلية تنقضها حجج الجهمية، ومثلهم بعض العلماء كـابن القيم في الصواعق بمثال نظمه أيضاً في أبيات بقوله:
واضرب لهم مثلاً بعميان خلوا في ظلمـة لا يهـتدون سبيلا
فتصـادموا بأكفهم وعصيهم ضرباً يدير رحا القتـال طويلا
حتى إذا ملوا القتـال رأيتهم مشجوجاً ومفجوجاً او مقتولا
وتسامع العميـان حتى أقبلوا للصلح فـازداد الصيـاح عويلا
فهذا أيضاً مثل لحججهم وأنهم مثل العميان إذا اصطدم بعضهم ببعض، وذلك أنهم لا يهتدون ولا يدري أحدهم بالآخر، فإذا تصادموا وظن أحدهم أن الآخر تعمده، فإنه سيضربه بكفه وبعصاه، ثم كل منهم يضرب الآخر، فهكذا شبهات هؤلاء لما كان الحق واضحاً لم تؤثر فيه تلك الشبهات ولما كانت تلك الشبهات مبنية على تخرصات وظنون لم تقبل، بل أبطل بعضها بعضاً.
ولهذا كثيراً ما يذكرون أن بعضهم يرد حجته بنفسه، فبعض أولئك المبتدعة يبتدع حجة ويتخذها دليلاً، ثم يأتي إلى نقضها بنفسه أو ينقضها شيخه أو تلميذه، وهذا دليل على أن تلك الشبهات ليست على علم راسخ، وأما حجج الصحابة والتابعين ومن بعدهم فإنها عن دليل راسخ، فلهذا لم تؤثر فيها تلك الشبهات، لأنهم لما اعتقدوا هذه العقيدة وآمنوا هذا الإيمان ورسخ في قلوبهم، لم تزعزعه تلك الشبهات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر