في القرون السابقة قد يكون الشيعة والرافضة معذورين؛ حيث إنهم لم يطلعوا على سير الصحابة، ولم تنتشر كتب السلف، ولم تشتهر الأحاديث التي فيها؛ وذلك لكونها مخطوطة في المكتبات الكبيرة ولا يمكن انتشارها، وهم لا يألفونها، ولا يقصدون تلك المكتبات، ولا ينتقون تلك الكتب وإنما ينتقون ما يناسبهم من مؤلفات مشايخهم، ولكن في هذه الأزمنة بلا شك أنها قد قامت عليهم الحجة، وظهر الحق واستبان، ولكنهم عاندوا وأصروا واستكبروا عن الحق، فلا عذر لهم، فقد انتشرت كتب السلف وكتب السنة وكتب السيرة بعدما كان لا يوجد منها إلا كتاب أو كتابان أو نسخة أو نسختان، صار يوجد منها الآن مئات وألوف وعشرات الألوف، وفي إمكانهم أن يقرءوها، بل وقرءوها، ولكنهم أصروا واستكبروا.
كذلك في هذه الأزمنة أيضاً وجدت الأشرطة التي فيها سيرة السلف وهم يسمعونها ويقتنونها، ولكنهم أصروا واستكبروا على العناد وعلى البدعة الشنيعة.
كذلك أيضاً تنشر سير السلف وسير الصحابة ومآثرهم وفضائلهم في الكتب، وتنشر في الصحف اليومية، وتنشر في المجلات الأسبوعية أو المجلات الشهرية التي هي دائماً منتشرة تذاع علناً، ولا شك أن أولئك الشيعة يتمكنون من قراءتها والاطلاع عليها ولابد، ولكنهم مع ذلك كله بعد قيام الحجة عليهم أصروا واستكبروا استكباراً.
وكذلك أيضاً بلا شك أنهم يسمعون إذاعات أهل السنة في كل مكان وفي كل جهة، الذين يترضون عن الصحابة وينشرون سيرهم، وينشرون أخبارهم وجهدهم وجهادهم، فلا شك أنهم قد سمعوا ذلك ويسمعونه، ولكنهم مع ذلك أصروا واستكبروا استكباراً.
كذلك أيضاً مع وجود المناهج الدراسية التي تدرس فيها سير الصحابة وسير السلف وأحوالهم، وكتب الأدب، وكتب التاريخ في المعاهد العلمية، وفي المدارس المتوسطة والثانوية، وفي الجامعات الإسلامية، لا شك أنها تدرس وأن الشيعة يدرسونها, ويقرءونها، وقد عرفوا صحة ما فيها وثبوته؛ حيث إنه يعتمد على الدليل وعلى النقل الصحيح، ولكنهم مع ذلك كله أصروا واستكبروا استكباراً.
إذاً: فقد قامت عليهم الحجة، فليسوا كعلمائهم الأولين الذين لم يتمكنوا مما تمكن منه هؤلاء، هذا بالنسبة للرافضة.
أما بالنسبة لأهل السنة فإنهم كانوا قديماً لا يتمكنون من قراءة كتبهم، ولا يطلعون عليها، بل الرافضة بأنفسهم يخفون كتبهم وعقائدهم ويسرونها، ولا يمكنون أحداً من قراءتها؛ وذلك لما فيها من الفضائح، ولما فيها من الأخطاء الفاحشة، ولما فيها من الحمل على الصحابة، ومن التأويلات البعيدة، ولكن في هذه الأزمنة لم يقدروا على إخفائها، بل طبعت تفاسيرهم، وطبعت كتبهم، واطلع عليها أهل السنة، فرأوا فيها الفضائح، ونقلوا ما نقلوا منها، وجعلوه حجة عليهم، وردوا عليهم الردود الواضحة من كتبهم أنفسهم، وقالوا: قلتم في كتابكم الفلاني في صفحة كذا من جزء كذا، وقلتم في كتابكم كذا وكذا، وكلها أشياء واقعية، لكنها تأويلات بعيدة، وتحريفات للكلم عن مواضعه، وأكاذيب وترهات يقولونها بغير حق، ويجعلونها شبه أدلة وهي في الحقيقة خرافات لا أصل لها، وقد اتضح كذبها، واتضح بعدها، واتضح لكل عاقل أنها بعيدة عن الصواب، فبان بذلك كذبهم، وبان بذلك فشلهم، واطلع العلماء على أسرارهم، وردوا عليهم من مؤلفاتهم، ولكنهم مع ذلك كله أصروا واستكبروا.
وقد ذكر لنا بعض الإخوان أنه كان هناك مدرس من أهل السنة في إحدى البلاد التي يغلب على أهلها التشيع، فلما عقل أولئك الطلاب وتفتحوا، ورأى أن فيهم ذكاء وإقبالاً رأى أن يناقشهم بالدليل، ويناقشهم بالقرآن، ويناقشهم بالسنة الصحيحة، وأخذ يجعل لهم مجالس أسبوعية يقرر لهم الحق ويقول لهم: نحن مع الحق أينما كان، إن كان معكم فائتونا به، وإن كان معنا أتينا به، ونحن نتبعه أينما كان، ولكن بعدما استمر شهراً أو شهرين، ورأى آباءهم أنهم قد اقتنعوا بعض الاقتناع بكلام هذا الشيخ، وأنه غير شيئاً من معتقدهم؛ عمد الآباء إليه فطردوه وأبعدوه من بلادهم، وقالوا: إنك أوشكت أن تغير معتقد أبنائنا، رغم أنهم كلما أخذوا منه توجيهات عرضوها على آبائهم ومشايخهم، فلما رأوا أنها حجج قوية تكاد أن تغلبهم قالوا: هذا سوف يفسد أخلاقهم ومعتقدهم، وليس لنا حيلة إلا أن نبعده ونطرده.
وكذلك هم يحاولون اضطهاد أهل الخير، ويحاولون ألا يكون لأهل السنة قوة ولا نفوذ ولا تسلط ولا قدرة على شيء، وقد ذكر لنا بعض الإخوان أنه في مدرسة من المدارس قرب المدينة النبوية اتفق المدير والمدرسون -وكلهم شيعة- على ألا يدرس الأولاد في المرحلة الابتدائية إلا دروساً قليلة، فلا يعلمونهم هجاءً، ولا يعلمونهم كتابة، ولا إملاءً، ولا تجويداً، ولا قرآناً، ولا حساباً، ولا غير ذلك، وأن ينجحوهم في آخر السنة وإن كانوا لا يعرفون شيئاً، ويأتي المدرس ويقف أمام الطلاب ويبقى يتكلم معهم كلاماً عادياً، ولا يفتح عليهم بكلمة حتى تنتهي السنة الدراسية، فإذا انتهت نجحوهم كلهم، وهم لا يعرفون شيئاً، ولما انتهوا من المرحلة الابتدائية وواحدهم لا يحسن أن يكتب اسمه، ولا يعرف حساباً، ولا غير ذلك، والتحق بالمتوسطة؛ إذا هو لا يحسن شيئاً، ولا يعرف شيئاً، فيقول: ماذا أفعل وزملائي قد تفوقوا علي، فهم يعرفون وأنا لا أعرف، عند ذلك يتعقد ويترك الدراسة؛ لأنه لا يستطيع أن يعود للدراسة في السنة الأولى وعمره قد جاوز الثانية عشرة أو نحوها، عند ذلك يتركون الدراسة ويتعقد أحدهم، فهذه حيلة من حيل أولئك، لما تولوا هذا العمل وهو التدريس.
فهم في الحقيقة أعداء للسنة، وأعداء لأهلها، يحاولون أن يفرضوا أنفسهم، ويحاولون أن يظهر لهم النفوذ والقوة، ولكن كما قال الله تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
وسيرة أبي بكر رضي الله عنه هي أحسن السير؛ حيث إنه اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يفعل، فأنفذ جيش أسامة أول ما تولى، وبعث الجيوش لقتال المرتدين، فانتصر الإسلام بعدما كان العرب قد رموا أهل المدينة عن قوس العداوة خلال ما يقرب من ثلاثة أشهر، فأرسل جيشاً لقتال بعض المرتدين، فهدى الله طيئاً ومن معهم، فلما رأت منهم قبائل العرب الذين حولهم ذلك انضموا إليهم، ولم يمض إلا شهران أو ثلاثة أشهر حتى بعث أبو بكر ستة عشر أميراً أو سبعة عشر لقتال المرتدين البعيدين، فتراجعوا كلهم وانضموا إلى الإسلام أوليس ذلك دليلاً على حنكته وفراسته وقوته في القيام بأمر الله تعالى؟
أوليس دليلاً على أن الله تعالى وفقه وسدد به وهدى به ونصر به الإسلام؟
إذاً: بأي شيء ينتقدون أبا بكر ويقولون: إنه منع فاطمة حقها من ميراث أبيها؟
ويجاب عليهم من عدة وجوه:
أولاً: الرسل لا يورثون.
ثانياً: ليست الدنيا ذات أهمية عندهم حتى يخلفوها لأولادهم، ويقولون: لهم أن يرثوا، ولهم أن يأخذوا.
ثالثاً: أن الأرض التي جعلها صدقة قد صار علي رضي الله عنه هو المتولي عليها بعد موت فاطمة.
وبكل حال فهذا أكبر ما طعنوا فيه، ولما طعنوا فيه بأنه حرم فاطمة من ميراثها، أخذوا يجمعون عليه الأكاذيب ويلفقون عليه، ويعيبونه بكل عيب، فيقولون: إنه قاتل المسلمين، وكذبوا! فهو ما قاتل إلا من ارتد، فبالرغم من أنهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، إلا أنهم فرقوا بين الصلاة والزكاة؛ لذلك فلم يكونوا مقرين بالشهادة حق الإقرار، فلأجل ذلك رأى قتالهم وسماهم مرتدين.
ويقولون: إنه أقر خالد بن الوليد على القتال، ويكفرون خالداً بذلك، فنقول: إن أبا بكر ما أقره إلا وقد رآه أهلاً للقتال، لأن خالداً لم يكن قريباً له ولا صهراً له، بل هو سيف الله كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا نقموا عليه حتى يسبوه ويلعنوه ويشتموه؟! قاتلهم الله.
والنبي عليه الصلاة والسلام أمر أن تسد النوافذ التي فتحت على المسجد إلا باب أبي بكر فلا يسد، وذلك إشارة إلى أنه سيتولى الأمر، وسيكثر دخوله وخروجه إلى المسجد؛ وذلك إشارة إلى أن له أحقية في المسجد وفي الولاية.
وقال عليه الصلاة والسلام: (اقتدوا باللذين من بعدي
إذاً: فهذه إشارات واضحة إلى أن أبا بكر رضي الله عنه هو الخليفة بعده.
كذلك أيضاً من الإشارات ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (رأيت أني على قليب فنزعت منها ما شاء الله أن أنزع، فأخذها
وهكذا الرؤيا التي رآها بعض الصحابة في الدلو الذي تدلى من السماء فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم انتضح منه على علي، وهو إشارة إلى أنهم الذين يتولون بعده.
ومن أصرح الإشارات قوله صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت
فـأبو بكر رضي الله عنه هو الخليفة الراشد، وهو الذي تولى أمور المسلمين، وهو الذي سار بهم سيرة حسنة، ولم يول الخلافة لأولاده ولا لأقاربه، ولم يحاب فيها، وكذلك أيضاً في حالة ولايته لم يول الأمير الفلاني أو العلاني، ولم يولهم لأجل قرابتهم له، ولا لأجل محاباة، وإنما اختار الولاة والقادة الذين فيهم الأهلية وفيهم الكفاءة، حتى ولو لم يكونوا من قريش، فكانت توليته لـخالد بن الوليد ولغيره من الأمراء لما فيهم من الأهلية.
فنشهد بأن أبا بكر أهل للخلافة، وأن الله تعالى عندما اختاره ولياً وخليفة فإن ذلك عين المصلحة، وأنه هو الذي ثبت الله به الإسلام ورد به المسلمين بعد أن كادوا يخرجون من الإسلام، فلأجل ذلك سمي بـالصديق الذي هو أول من صدق، والذي فتح الله تعالى به قلوب العباد، ورزقهم الإنابة إليه والثبات على دينه.
وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: (من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلف؟).
والظاهر -والله أعلم- أن المراد أنه لم يستخلف بعده بعهد مكتوب، ولو كتب عهداً لكتبه لـأبي بكر ، بل قد أراد كتابته ثم تركه، وقال: (يأبى الله والمسلمون إلا
قد تقدم القول الأول أن خلافة أبي بكر رضي الله عنه كانت بالنص، وهذا قول ثان أنها بالإشارة، فهما قولان للعلماء: فالذين قالوا: إنها بالنص، استدلوا بقوله: (اقتدوا باللذين من بعدي
أما القول الثاني: وهو أنه لم يستخلف، وإنما أشار إشارات، فيقولون: إن عمر رضي الله عنه قال: (إن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني) يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فهذا عمر شهد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، فنقول: لم يستخلف بالنص؛ لأنه لم يقل: أيها الناس! بايعوا أبا بكر فهو خليفتي عليكم، لكن قد عزم على أن يكتب له كتاباً وقال لـعائشة : (ادعي لي أخاك وأباك أكتب كتاباً حتى لا يختلفوا عليه) ثم إنه ترك الكتاب وقال: (يأبى الله والمسلمون إلا
كذلك أيضاً سمعنا كلام الحسن لما قيل له: هل استخلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر؟ فقال: هو أورع من أن يتوثب عليها، يعني: ليس بمحب للولاية ولا راغباً فيها، ولكن لما اجتمعت عليه كلمة المسلمين، ولما جاءت هذه الإشارات من النبي عليه الصلاة والسلام باستخلافه؛ قبلها، وإلا فهو ورع وزاهد وخائف لا يمكن أن يقبلها بدون أن يكون أهلاً لها، وبدون أن يرضاه لها أهل الولاية وأهل الحل والعقد من الصحابة، هذا معنى قوله: يتوثب عليها.
فبلا شك أنه صلى الله عليه وسلم أشار هذه الإشارات التي تدل على أن أبا بكر أحق بالخلافة، ثم لما اجتمعت عليه الإشارات وكانت واضحة رأى عمر رضي الله عنه أنه أحق بالخلافة؛ فبايعه وبايعه الصحابة كلهم.
وخلاصة ما جرى في أول يوم من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل بيعة أبي بكر: أن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وكادوا أن يبايعوا واحداً منهم وهو سعد بن عبادة، فلما سمع بهم عمر رضي الله عنه وأبو بكر وأبو عبيدة ذهبوا إليهم، ثم خطبهم أبو بكر رضي الله عنه وقال لهم: (الخلافة في قريش) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قالوا: (منا أمير ومنكم أمير) أي: نؤمر أميراً على الأنصار، وأميركم منكم يا معشر المهاجرين! فقال أبو بكر وعمر: (بل الإمارة في قريش) ثم قال أبو بكر: (نحن الأمراء وأنتم الوزراء) فلما أقنعوهم بكلام النبي صلى الله عليه وسلم وبإشارته تمت البيعة في نفس السقيفة، فبايعوه واجتمعوا عليه، ولم يتخلف منهم أحد، أما سعد بن عبادة رضي الله عنه فإنه لم يبايع في تلك الساعة رجاء أن يكون له حظ من الولاية، ولكنه بايع بعد ذلك بيعة مختار راضٍ، كذلك أيضاً علي رضي الله عنه قيل: إنه تأخر عن البيعة ثم بعد ذلك بايع، والصحيح أنه لم يتأخر، بل بايع باختياره وبطوعه وبما علمه من أهلية أبي بكر وأحقيته بهذه الخلافة.
ثم حصل من خلافته رضي الله عنه من الأهلية ومن ضبط الأمور وإحكامها غاية الإحكام، فرأوا أن الله تعالى اختاره للمسلمين في ذلك الوقت الحرج الذي كانوا فيه أشد احتياجاً إلى خليفة قوي يقيم فيهم أمر الله تعالى، ويرتب أمورهم ترتيباً محكماً، فهذا ما يسره الله لهم في ذلك الوقت، وما أنعم به عليهم.
إذاً: عرفنا بذلك أن خلافة أبي بكر وإن لم تكن نصاً فإنها بإشارات واضحة مجموعها يصبح نصاً قوياً.
وفيهما أيضاً عن أبي الدرداء قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما صاحبكم فقد غامر، فسلم وقال: إنه كان بيني وبين
وفي الصحيحين أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح -فذكرت الحديث- إلى أن قالت: واجتمع الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليه أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر ، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني هيئت في نفسي كلاماً قد أعجبني خشيت ألا يبلغه أبو بكر ، ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس، وقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر : لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر : لا، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب وأعزهم أحساباً، فبايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح ، فقال عمر: بل نبايعك، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس، فقال قائل: قتلتم سعداً! فقال عمر: قتله الله!
والسنح: العالية، وهي حديقة من حدائق المدينة معروفة بها].
معلوم أن التقديم يدل على الفضل، والاختيار يدل على الأهلية، فهم ما قدموا أبا بكر إلا لفضيلته، ولا اختاروه خليفة إلا لأهليته وكفاءته، وكونه كفئاً لهذه الولاية؛ لذلك أجمعوا عليه، وقد نزه الله الأمة أن تجتمع على ضلالة، وقد ذكر العلماء في كتب الأصول الفقهية أن إجماع الأمة حجة قاطعة، والرافضة يعترفون أن الإجماع حجة، ولكنهم هاهنا خالفوا معتقدهم، فنقول لهم: من الذي خالف في بيعة أبي بكر ؟ سموا لنا شخصاً لم يرض بهذه البيعة فيما بعد؟
علي رضي الله عنه -الذي هو الإمام عندكم- قد بايعه، وجاهد معه، وصار مستشاراً له، وصار قريناً له في كل حاله وتدبيراته، يرجع كل منهما إلى قول الآخر، ولم ينقل عنه أنه سخط بيعته ولا أنكرها، فهو من جملة من بايع، وأما سعد بن عبادة الأنصاري فقد كان تهيأ لأجل أن يكون أميراً على الأنصار، ولكن لما تمت البيعة لـأبي بكر رضي الله عنه قام بعد ذلك وبايع، وبقي كسائر المقتدين بـأبي بكر ، فبقي كآحاد الرعية.
مثل هذه الأحاديث دليل على فضيلة أبي بكر ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويقدمه، فهذا عمرو بن العاص من أكابر قريش وأهل الفضل فيهم لما عينه النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على سرية ذات السلاسل، قبل أن يخرج جاء إليه وقال: أي الناس أحب إليك؟ من الناس كلهم، فأخبره بأنه يحب عائشة ؛ وذلك لفضيلتها ولفضيلة أبيها، فسأله عن أحب الرجال إليه، فقال: (أبوها) وهذا بلا شك دليل على تقديمه في المحبة، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويقدمه فإن ذلك دليل على فضيلته وأهليته، وبعده ذكر عمر وسمى بعده رجالاً، ولا شك أن محبته صلى الله عليه وسلم ما حصلت إلا لكونه أهلاً لأن يكون محبوباً كما ذكر في الأحاديث الأخرى.
وفي الحديث الثاني أنه صلى الله عليه وسلم قال: (هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ إني قلت: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بماله ونفسه) هكذا شهد له النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه أول من أسلم من الرجال، هذا هو القول الصحيح. يقول أبو الخطاب في عقيدته المشهورة، وهو عالم من علماء الحنابلة، يقال له: محفوظ بن أحمد الكلوذاني له عقيدة في نظم عقيدة أهل السنة يقول فيها:
قالوا فمن بعد النبي خليفة قلت الموحد قبل كل موحد
حاميه في يوم العريش ومن له في الغار مسعد يا له من مسعد
فشهد بأنه الموحد قبل كل موحد؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما دعاه لم يتلعثم ولم يتوقف، بل بمجرد ما عرض عليه الإسلام بايع ولم ينتظر، ولم يقل: أمهلني، ولا سأنظر في أمري، وكان رجلاً كاملاً من بين الرجال، فلذلك هو أول من أسلم من الرجال، فلما قال الناس: كذبت، قال أبو بكر : صدقت، أنت الصادق؛ فلذلك سمي بالصديق.
وفي حديث السقيفة أنه لما سمع باجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة جاء ومعه عمر وأبو عبيدة؛ فخطبهم وقال: (نحن الأمراء وأنتم الوزراء) لما طلبوا أن يكون منهم أمير، فقال: لكم الوزارة ولكم الإشارة، أما الإمارة ففي قريش؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ذلك بقوله: (إن هذا الأمر في قريش) يعني: الولاية، فرضوا بذلك، ولما قال: بايعوا أبا عبيدة أو عمر ، يقول عمر : إنه لم يقل كلمة تؤلمني إلا هذه الكلمة، ما كنت أحب أن أكون والياً على قوم فيهم أبو بكر ، لما هو فيه من الأهلية، فقد قدموه لصحبته، وقدموه لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم له، وقدموه لقربه منه، ولكونه صهره، وقدموه لكونه صاحبه في السفر، وصاحبه في الغار، وغير ذلك من الفضائل، وقدموه أيضاً لفضائله التي نص عليها الله سبحانه في كتابه، كما في قول الله تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وكذلك أنزل فيه قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21]، وغير ذلك من فضائله الكثيرة، ومن أراد أن يتوسع في ذكر فضائله فليرجع إلى ترجمته وإلى ما كتب عنه العلماء، ومن أهمها وأشهرها كتاب (فضائل الصحابة) للإمام أحمد، وقد اشتمل على فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر