عن أبي ثعلبة الخشني قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وفي أرض صيد، أصيد بقوسي، وبكلبي الذي ليس بمعلم، وبكلبي المعلم، فما يصلح لي؟ قال: أما ما ذكرت -يعني: من آنية أهل الكتاب- فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، فإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل
مما أحله الله تعالى الصيد الحلال، قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة:4]، والجوارح هي التي تعلم ويصاد بها، فمن الجوارح الكلاب المعلمة، ومن الجوارح الطيور المعلمة، وقد اشترط الله تعالى فيها التعليم: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ [المائدة:4] فيعلم الكلب أو نحوه كيفية، الإرسال وكيفية الإمساك، وكذلك الطير الذي يصاد به كالباز والشاهين والباشق والصقر ونحوها من الطيور التي تعلم وترسل فتصيد، فأباح الله تعالى هذا الاصطياد ، وأباح أكل هذا الصيد.
والأمر في قوله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] أمر إباحة، ومنع من الصيد في حالة الإحرام فقال: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]، وقال: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96]، فدل على أنه إذا لم يكن هناك إحرام فإن الصيد حلال، وكذلك يحرم الاصطياد داخل الحرم؛ لأن مكة وما حولها حرم لا ينفر صيدها، يعني: لا يصطاد ولا يطرد، أما بقية البلاد غير الحرمين فإنه يجوز أن يصيد فيه غير المحرم.
فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يتركها إذا وجد غيرها، يعني: إذا وجدتم آنية غير آنية الكفار فلا تأكلوا ولا تشربوا فيها؛ مخافة أن يكون فيها شيء من أثر نجاسة، وقد يكون ذلك لأجل ألا يكون لهم منة على المؤمن، فيكون ذلك سبباً لمحبتهم ومودتهم، وموالاتهم وتقريبهم، بل لا تأخذوا منهم شيئاً وأنتم تجدونه عند غيرهم، فإذا لم تجدوا غير تلك الآنية فإن لكم رخصة في أن تأكلوا أو تشربوا أو تطبخوا فيها، ولكن بعد التطهير، بعدما تغسلها بالماء وتنظفها حتى يزول ما يخاف أن يكون فيها من آثار النجاسة، هذا جواب السؤال الأول.
إذاً: الصيد بالكلب المعلم حلال، بشرط أن يكون معلماً، ومتى يكون معلَّماً؟
المعلَّم هو الذي إذا أرسل استرسل، وإذا زجر انزجر، وإذا أمسك لم يأكل، هذا حد المعلم.
علم الله أن الإنسان قد يحتاج إلى الاصطياد من هذه الدواب المباحة المنتشرة في الأرض، وهذه الدواب منها ما هو حلال، ومنها ما هو حرام، وللحرام علامات يعرف بها، ويتميز بها الحلال من الحرام، فمنها ما يكون بالغذاء، ومنها ما يكون بوصف اتصف به، والدواب المباحة قد سبق ذكر بعضها، فتقدم أن الضب أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو من الصيد، وذكر أن الصحابة أنفجوا أرنباً، وأمسكها أنس وذبحها أبو طلحة ، وأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذها فقبله، فدل على أنها من الصيد، وتقدم في الحج ذكر حمار الوحش، وأنه من الصيد، وهو دابة أكبر من الوعل أو قريب منه، أو هو نوع من الوعول، فهو من الصيد، وكذا الظباء، والوعول، والإيل، والأروى، هذه كلها من أنواع الصيد، ومن أنواع الصيد المتوحش ما يعيش في البراري كالوبر واليربوع، وما يلحق به، فهذه من أنواع الصيود التي تعيش في البراري، وتتقوت من القوت الحلال، فترعى من الرعي الذي ينبت في الأرض، وتشرب إذا وردت ماء أو تعيش بدون ماء.
كذلك أيضاً أباح الله الكثير من الطيور المباحة، فالحمام بأنواعه من الطيور الحلال، وكذلك الحجل من الطيور المباحة، وهكذا الحبارى من الطيور المباحة؛ وذلك لأن قوتها وغذاءها حلال من الطيب، وأما الأشياء المستقذرة فإنها محرمة، حرم النبي صلى الله عليه وسلم (كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير)، فحرم ذوات المخالب، فالصقر ولو كان مما يعلم فإنه حرام لأنه ذو مخلب، وكذلك العقاب، والغراب، والباشق، والعقاب، والرخم، والنسور التي تأكل الجيف والقاذورات، فهذه ليست من الصيد، بل هي من المحرمات؛ لأنها تتغذى بالجيف وتأكلها وتأكل الأقذار، بخلاف الصيد الذي يتغذى بالأعشاب، أو الطيور التي تتغذى بالحبوب وبالأعشاب كالحمام ونحوها فهذه من الطيبات.
فعرفنا بذلك الفرق بين ما هو حلال من الطيور وما هو حرام، وكذلك الوحوش، فذوات الأنياب حرام كالذئب والنمر والأسد والدب وما أشبهه، وأيضاً ما يأكل الجيف كالكلاب بأنواعها، فهذه كلها محرم أكلها ولو كانت أليفة، فليست من الصيد الذي أباحه الله في قوله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، وفي قوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96]، وفي قوله: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4]، وإنما المراد ما أمسكت من الصيد الحلال، فهذا الصيد يقتنصه المقتنصون؛ لأنه طعام لذيذ ولحم شهي كسائر اللحوم، والله تعالى أباح اللحوم الطيبة، فأباح بهيمة الأنعام، أباح لحم الإبل والبقر والغنم بأنواعها، وتقدم أن لحم الخيل أيضاً مباح؛ لأنه من الطيبات، وكذلك لحوم الأسماك ودواب البحر لقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:96]، وتقدم أيضاً إباحة أكل الجراد، وهو من اللحوم المباحة وإن تقذره بعض من لم يألفه.
وهذه الصيود جعل الله لها ما تتحصن به، فمنها ما يتحصن عن الاصطياد بجناحيه فيطير حتى يحرز نفسه وينجو بنفسه عن أن يدركه من يطلبه، فالحمام وما أشبهه من الحجلات والعصافير بأنواعها تتحصن وتتحرز بأجنحتها بأن تطير حتى تؤمن نفسها، والظباء ونحوها جعل الله لها حصناً بشدة السعي، فهي تسعى سعياً شديداً حتى لا يدركها الإنسان ولا يدركها إلا جارح قوي سابق من الكلاب ونحوها، ولاشك أن هذه كلها جعل الله لها سلاحاً تتوقى به حتى تحصن نفسها، ولكن إذا غلبها الإنسان بأن اصطادها بشبكة أو اصطادها بجارح أو اصطادها بسهم رماها به؛ فهي من الطيبات التي أحلها الله، وجعل أكلها من نعمه التي أنعم بها على عباده، فيأكلها المصطاد سواء أكل تفكه وتلذذ وتنعم وإن لم يكن جائعاً، وإن كان اللحم موجوداً، أو أكل غذاء، فهناك من ليس لهم كسب وليس لهم غذاء إلا الاصطياد، ليس لهم حرفة ولا صنعة، وليس لهم مورد إلا أن يصطادوا، وكان إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام صياداً، ما كان له حرفة إلا أنه يذهب فيصيد بالنبل، يعني: يرمي السهام فيصيد من الطيور المباحة ومن الوحوش المباحة ونحوها، فيكون ذلك غذاء له ولأولاده، ونسمع أن كثيراً من الناس ما كان لهم غذاء إلا ما يصطادونه مما أباحه الله تعالى من هذه الصيود التي امتن الله بإحلالها في قوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ [المائدة:4].
واختلفوا إذا قتلها الكلب، عادة أنه إذا أمسكها فإنه يمسكها بأنيابه، وقد يكون صاحبه بعيداً، فلا يدركه إلا وقد ماتت في فمه، فالأكثرون على أنها تؤكل لعموم قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4]، ولكن بشرط أن تسمي عند الإرسال، فإذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله بأن تقول: باسم الله، والله أكبر؛ فإذا أمسك عليك فكل حتى ولو قتل بعضِّه أو بتحامله على ذلك الصيد حتى مات بثقله فالصحيح أنه يباح، وذلك لكونه داخلاً فيما أباحه الله: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4]، والحديث لم يفصل في الكلب المعلم، بل قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم فكل)، ولم يقل: إن وجدته حياً، بل أطلق ذلك بشرط ذكر اسم الله تعالى، فالكلب المعلم إذا قتل فإن قتله حلال بشرط التسمية عند الإرسال، ولو لم يجرح، ولكن إذا وجدت الصيد حياً فلا بد من ذبحه وتذكيته؛ حتى يخرج الدم، وإذا وجدته قد مات فلا بد من قطع رأسه وحلقومه ولو لم يخرج منه دم حتى تتحقق التذكية ظاهراً، فهذا حكم صيد الكلب المعلم.
أما الكلب غير المعلم من سائر الكلاب إذا استرسل وأمسك، ووجدت الصيد في فمه قد مات فلا تأكل؛ وذلك لأنه أمسك لنفسه، وإن وجدت الصيد حياً لم يمت وذكيته فإنه مباح، ويدخل في قوله تعالى: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة:3]، والتذكية هي أن تذبحه من حلقه حتى تقطع الحلقوم والمريء والوريدين، حتى يخرج الدم المتحجر في بدنه، أباح الله المذكى بقوله: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة:3]، وأباحه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله: (فأدركت ذكاته فكل)، فأما إذا لم يكن معلماً وقتل فلا تأكل، وكذلك إذا أكل، فإذا وجدت الكلب قد أكل من الصيد سواء كان معلماً أو غير معلم فلا تأكل، فإنه أمسك على نفسه أي: اصطاد لنفسه ولم يصطد لصاحبه؛ لأن الله تعالى يقول: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4] يعني: أمسكن لكم، فأما إذا أكل فإنه لم يمسك عليك، وإنما أمسك على نفسه.
وما ببندق الرصاص صيد فإنه مباح فحله استفيد
أفتى به والدنا الأواه وانعقد الإجماع من فتواه
فالحاصل أنه يحل أكل ما صيد بهذا الرصاص ونحوه، أما ما صيد بالحجر أو صيد بالعصا أو صيد بالسهم ولكن أصابه بعرضه، فلا يؤكل، بل يدخل في الموقوذة التي ذكر الله أنها من المحرمات، وهي التي تضرب حتى تموت، ولا تنجرح بالضرب، فإذا رميت عصفوراً مثلاً بحجر، وذلك الحجر كبير فشدخه ولم يجرحه ومات فلا تأكل، فإن وجدته قد جرحه فأسال منه الدم فكل إذا سميت عند الرمي، وهكذا إذا رميته بعصا وأصابته العصا بحدها وبرأسها فنفذت فيه وجرحته فإنه حلال إذا سميت عند الرمي، وأما إذا أصابته بعرضها فمات فإنه من الموقوذة فلا يؤكل، هذا ما يتعلق بالصيد بالقوس.
في هذا تعليم من النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الصيد، والصيد هو اقتناص حيوان متوحش طبعاً غير مقدور عليه، واصطياده بواسطة الكلاب، أو بواسطة السهام، أو بواسطة المعراض، وقد أباح الله تعالى جنس ذلك بقوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، وحرم ذلك في حالة الإحرام بقوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96] وأفاد أنهم إذا لم يكونوا حرماً فإنه مباح لهم هذا الاصطياد، وقد عرفنا أن المراد بالصيد ما يمكن اقتناصه من الدواب المتوحشة التي يباح أكلها، وهي معروفة ومشهورة، وقد جعل الله سلاحها الذي تتوقى به مختلفاً، فمنها ما سلاحه الأجنحة بحيث يطير حتى ينجو بنفسه، وقد جعل الله بطبعها الهروب من الإنسان، فقد عرفت أنه إذا أمسكها ذبحها وأكلها، فإذا رأته هربت، فإن كانت ذات أجنحة نفرت وطارت لتنجوا بنفسها، وإن كانت من غير الطير سعت بجهدها حتى تنجو بنفسها، ومنها ما يتحصن في رءوس الجبال كالوعول ونحوها، ومنها ما يتحصن بحفر في الأرض كالضب ونحوه، فهذه الدواب وهذه الصيود أباح الله تعالى اصطيادها واقتناصها، فهي تعيش في البراري وتتوالد كما قدر الله، وتأكل من نبات الأرض، ومما تجده مما يناسبها، ويمسكها الإنسان فيأكل مما أحله الله منها، ويتجنب ما ليس بمباح مما ليس من الطيبات.
وقد ذكر الله تعالى الاصطياد بالكلاب فقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [المائدة:4]، والجوارح تكون من الطير كالصقر أو البازي أو الشاهين أو الباشق، وغيرها من الطيور التي تجرح الصيد بمخالبها، ومن الجوارح الكلاب المعلمة، ولهذا قال: مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ [المائدة:4] أي: متخذين لهذه الكلاب المعلمة، فقد عرف أن الكلب لا يجوز اقتناؤه إلا إذا كان محتاجاً إليه، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتنى كلباً نقص من أجره كل يوم قيراط إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية) كلب الصيد الذي يعدو ويصيد، وكلب الماشية الذي يحفظها ويحرسها من الذئاب والسباع، وكلب الحرث الذي يحرس الحرث؛ لأن أهله قد ينامون ويغيبون، فالكلب يكون حوله حتى لا تأتيه المواشي لتأكل من ذلك الزرع ونحوه، وكذلك يحرسه من اللصوص ونحوهم، فيجوز اتخاذها للحراسة لمثل هذه الأشياء، وأما ما عداها فلا يجوز اقتناؤها.
على كل حال، الكلب المعلم صيده حلال؛ لقول الله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة:4]، فاشترط أن يكون معلماً لقوله: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [المائدة:4]، وقد ذكرنا أن المعلم هو الذي إذا أرسل استرسل، وإذا زجر انزجر، وإذا أمسك لم يأكل؛ فهذا هو الذي درب وعلم، يعلمه أهله أنهم إذا رأوا الصيد فإنهم يشيرون إليه، ويدعونه باسمه، ثم إنه يعدوا خلف ذلك الصيد، وإذا رأوه مثلاً متثاقلاً زجروه فانزجر وازداد في العدو، وإذا أمسك وأكل ضربوه فلم يعد، وليس تعبيرهم بالكلام وإنما بالفعل، فيدربونه على أنه يمسك ولا يأكل، وإذا أمسك وأكل ضربوه مرة فلم يعد يأكل، فهذا هو الكلب المعلم.
أولاً: أنه إذا أرسله فإنه يسمي؛ لقوله تعالى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة:4]، فيذكر اسم الله بقوله: باسم الله، أو باسم الله والله أكبر، على هيئة ما يقوله عند ذبح الحيوان المباح.
ثانياً: أن الكلب يمسك الصيد حتى يأتيه صاحبه، ثم يتسلمه منه، ويمسكه بفمه أو بيديه ويتثاقل عليه.
ثالثاً: يجوز الصيد لو قتله الكلب، فتسميتك وإرسالك للكلب يعتبر ذكاة، والكلب قد يعض الأرنب حتى تموت، أو يكسر أضلاعها، وقد يتأخر صاحبه فلا يأتي إليه إلا وقد مات، فيكون إمساكه لها تذكية له، وقد ذكر بعضهم خلافاً فيما إذا قتله الكلب بثقله، فـابن كثير رحمه الله تكلم على المسألة في أول تفسير سورة المائدة في تفسير قوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4]، وهي الآية الرابعة من السورة، وكأنه يميل إلى أنه لا يؤكل إذا قتله بثقله، ولكن ظاهر الحديث أنه يؤكل؛ لقوله في هذا الحديث: (وإن قتل) يعني: وإن قتل الكلب فَكُلْ.
والدليل عليه أنه قال: (وإن وجدت مع كلبك كلباً آخر أو كلاباً فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره)، فدل على أنه إذا سمى على كلبه وقتل فإنه يأكله، وإذا لم يسم فلا يأكل، وإذا وجد مع كلبه كلباً آخر ولم يسم وقد قتل فإنه لا يأكل؛ مخافة أن تكون الكلاب اجتمعت عليه فقتلته، ولا يدرى أيها قتله، هل المسمى عليه أو الذي لم يسم عليه؟
والدليل أيضاً أنه قال: (فأدركت ذكاته)، فإذا وجدت الصيد لم يزل حياً، لم تزل الأرنب أو اليربوع أو الحبارى أو نحوها فيها حياة، فإنك تذبحه بالسكين؛ وذلك لأنك إذا تركته حتى يموت فقد فرطت، ومثل ذلك القتل بالسهم.
أما الصيد بالمعراض، فالمعراض: هو العصا التي ليست بمحددة، ولكن قد يكون رأسها يخرق، فإذا رمى صيداً ولو صغيراً -كعصفور أو حمّرة أو حمامة أو نحو ذلك- بهذا المعراض فإن كان المعراض قتله بثقله فلا يحل، وهو داخل في الموقوذة التي هي من جملة المحرمات، والموقوذة: هي التي تضرب إلى أن تموت، تضرب بعصا أو بحجارة إلى أن تموت دون أن تذكى -أي: تذبح- فلو استعصت شاة أو ناقة أو ثور لم يجز قتله بالمثقل، فلا يجوز أن يضرب بالحجارة أو بالعصي إلى أن يموت، لكن يجوز رميه بالسهام إذا نفر وهرب، ففي حديث رافع بن خديج : أنهم كانوا في سفر فندّ بعير -يعني: هرب- ، ولما هرب رماه رجل بسهم فأثبته، فذلك السهم الذي رماه به خرق جلده وخرق بدنه وجوفه، فسقط ذلك البعير من آثار ذلك السهم، فأباح النبي صلى الله عليه وسلم أكله، وقال: (إن لهذه الدواب أوابد كأوابد الوحش، فما ندّ منها فافعلوا به هكذا) ، أما كونه يضرب بعصي إلى أن يموت فإن هذا وقيذ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم ما قتل بالمعراض بالوقيذ، فإذا رميت بالعصا صيداً طائراً أو حيواناً كيربوع أو أرنب أو ضب فقتله بالثقل فلا تأكله، وكذلك لو رماه بحجر ثقيل فشدخه ولم يجرحه، فمات من آثار الحجر، فإنه يلحق بالوقيذ فلا يحل أكله، ولو سمى عليه؛ وذلك لعدم الجرح فيه، ولا يلحق بالكلاب لأن الله أباح الصيد بها بقوله: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4]، فلا يدخل المعراض في إمساك الجوارح ونحوها.
والسهام هي النبال، تكون محددة رءوسها، تقطع من شجر العضاة، ثم تحدد حتى تكون كرأس السكين، فإذا رموا بالسهم توجه إلى الرمية وطعنها؛ لأنه يقع على حده، فينفذ في الرمية؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في صفة الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) أي: من المرمي كالظبي ونحوه، فهذا السهم قد يقتل، فتأتي إلى الصيد وقد قتله ذلك السهم سواءً كان ظبياً أو حماماً أو حبارى أياً كان، فإذا وجدته قد قتله وأنت قد سميت عند الرمي فإنه مباح وحلال أكله، أما إذا أدركته حياً فلا بد من ذكاته؛ لأنك قدرت على الذكاة فلابد أن تذبحه، ولا يجوز تركه والحال هذه بدون ذكاة، ومن فعل ذلك فإنه يعتبر مفرطاً، وكذلك لا يجوز تجاوزه وهو حي، فإذا رميته وأدركته وهو حي فلا تتجاوزه وتذهب لغيره، بل عليك أن تذكيه، فإن تركته حتى مات اعتبرت مفرطاً فلا تأكل، ويذكر أن بعض الصيادين إذا طردوا الظباء ونحوها رموا واحداً وأثبتوه فسقط، ثم واصلوا السير ليرموا الثاني، فيرجعون إلى الأول وقد مات، ومن العلماء من أفتى بأكله لأنه مات من أثر السهم، ومنهم من قال: لا يؤكل ما دام أنهم قدروا على ذكاته وتجاوزوه، ولعلهم إذا عرفوا أن السهم لا يقتله في تلك الحال، بل يبقى ساعة أو نصف ساعة؛ ففرطوا ولم يذبحوه فإنه لا يؤكل، وأما إذا عرفوا أن الصيد لن يبقى إلا ثواني -كما لو أصابه السهم في رأسه أو نحره- ففي هذه الحال لهم أن يأكلوا منه وإن تجاوزوه بلا تذكية حتى مات.
وإباحة الصيد من نعم الله تعالى، حيث إن الإنسان يشتاق إلى مثل هذه الصيود التي فيها منفعة، وفيها لذة، ولو كان اللحم متوافراً.
ومثل ذلك أيضاً لو سقط من شاهق، فلو رميته وهو في رأس جبل فتدحرج من رأس الجبل وسقط في الأرض، فأدركته وقد مات، فالأصل أنه ما مات من السهم، وإنما مات من تدحرجه، حيث ضربته هذه الحجارة، أو سقط من أعلى جبل، ومن شدة سقوطه على الأرض مات، فيكون موته ليس بسبب السهم، ولكن بسبب السقوط، فأفاد أنه إذا تعاون على موته مبيح وغير مبيح غلب غير المبيح احتياطاً؛ حتى لا يأكل المرء إلا ما هو حلال ليس في حله شبهة، ففي هذه التعليمات الاحتياط من النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم أمته لما يحل لهم وما لا يحل لهم، كما أمر بالاحتياط في الأمور المشتبهة بقوله: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه).
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة، فأصاب الناس جوع، فأصابوا إبلاً وغنماً وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات القوم، فعجلوا وذبحوا، ونصبوا القدور، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقدور فأكفئت، ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير، فند منها بعير، فطلبوه فأعياهم، وكان في القوم خيل يسيرة، فأهوى رجل منهم بسهم فحبسه الله، فقال: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا، قال: قلت: يا رسول الله! إنا لاقوا العدو غداً، وليست معنا مدىً أفنذبح بالقصب؟ قال: ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكلوه ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة)].
أورد المؤلف الحديث الأول للدلالة على جواز اقتناء كلب الصيد الذي يقتنص به، وقد دل عليه أيضاً القرآن في قول الله تعالى: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [المائدة:4] مكلبين، يعني: متخذي كلاب صيد تعلمونهن مما علمكم الله، فالكلب معروف بشدة السعي، وبشدة العدو، ومن آثار اشتداده في السير وفي العدو يدرك ما يدركه من الصيد، فقد يدرك بعض الظباء، وقد يدرك الأرنب ونحوه؛ فلأجل ذلك فإن كلاب الصيد مما يجوز اقتناؤه للصيد، وهذا هو وجه الاستشهاد بهذا الحديث.
وقد ورد في الكلاب الأمر بقتلها أولاً؛ وذلك بسبب أن الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه الكلب، فذكروا أن جبريل عليه السلام وعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه، فتأخر عليه، ولما أبطأ عنه خرج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت فنزل عليه جبريل فقال: ما منعني أن أدخل البيت إلا أن فيه جرو كلب، وكان هناك جرو كلب تحت السرير لأحد أولاد فاطمة عليها السلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بقتل الكلاب؛ لقول جبريل: إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب، فصاروا يقتلونها، ولكن بعد ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وقال: (ما لكم ولهذه الكلاب؟ فإنها أمة من الأمم)، فهذه الكلاب تتوالد كما يشاء الله، وتعيش على ما يسقط من الناس، وتأكل جيفاً، وتأكل أنتاناً، وتأكل لحوماً، والله تعالى هو الذي تكفل برزقها وبرزق غيرها، وهي داخلة في قوله تعالى: وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60] فلأجل ذلك لا يجوز قتلها ما لم تكن مؤذية معتدية، أما إذا كانت مؤذية كالكلب العقور فقد أذن بقتله حتى في مكة، وحتى في حالة الإحرام؛ وذلك لضرره واعتدائه بعدوه على الناس، وشق ثيابهم، وعضهم وجرحهم، وهو معنى تسميته كلباً عقوراً، وأما بقية الكلاب فلا يعتدى عليها، ولا تقتل، ولكن لا تقتنى لغير حاجة، لماذا؟
أولاً: لأن الكلب نجس العين، لو غسل ثم غسل لم يطهر، فهو نجس العين، ونجاسته لا تزول أبداً؛ ولأجل ذلك أمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه سبعاً إحداهن بالتراب أو الثامنة كما تقدم، وهذا دليل على نجاسته.
ثانياً: أنه يمنع دخول الملائكة، فلا تدخل الملائكة البيت الذي فيه كلب، ولعل ذلك لنجاسته العينية، والملائكة إنما تدخل الأماكن النظيفة السالمة من الأقذار ومن النجاسات ومن المحرمات ونحوها.
ثالثاً: أن فيه ترويع للناس، فالذي يقتنيه ويدخله في بيته كأنه يروع من دخل بيته أو من أتى إليه؛ فلأجل ذلك باء بهذا الإثم.
رابعاً: الأصل أنه لا حاجة إليه إذا لم يكن فيه منفعة.
الأول: كلب الصيد، وهو الذي يعدو ويصيد الصيد الحلال، وذكرنا أنه يعدو إليه ويطرده حتى يدركه، فقد أباح الله ذلك بقوله: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة:4]، ومعروف أنه يعدو حتى يدرك الأرنب أو اليربوع أو الوبر، ثم يمسكه على صاحبه حتى يأتيه صاحبه ويستلمه ويذكيه إن وجده حياً.
الثاني: كلب الماشية، المواشي هي الغنم، ولا شك أنها بحاجة إلى حراستها من السباع، ومعلوم أن أهلها في الليل قد يغلبهم النوم، وقد تأتي السباع في حالة نومهم فتفترس ما تقدر عليه من أغنامهم؛ فلأجل ذلك أبيح لهم أن يتخذوا الكلاب التي تحرس أغنامهم، وتطرد عنها هذه السباع، فيعلمونهن الحراسة، والكلب فيه خفة في نومه، وكذلك الذئاب كما يقول بعضهم في الذئب:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى الأعادي فهو يقضان نائم
فالكلب أيضاً سريع الانتباه، ينتبه بأدنى حركة، فإذا أحس بأن السبع قد وصل إلى الأغنام ونحوها انتبه وطرده، وعادته أنه يخدشه ويخمشه إلى أن يطرده، وقد ينتبه الأهالي، ويجتمعون على طرده، وبكل حال أبيح أن يتخذ لحراسة الغنم وما أشبهها، فإن الغنم ليس لها القدرة على مقاومة السبع، هذا هو الذي حفظه عبد الله بن عمر ، حفظ كلب الصيد وكلب الماشية، وأبو هريرة رضي الله عنه كان صاحب حرث، فحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أو كلب حرث)، ولعله سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن الإنسان يهتم بالأشياء التي له فيها مصلحة، فلما كان له حرث اهتم وبحث وسأل حتى حفظ أنه استثنى أيضاً كلب الحرث، فإذا كان عند الإنسان حرث كزرع أو نحوه يحتاج إلى ما يحرسه من الغنم التي تعيث فيه وتفسده؛ فإن له أن يتخذ كلباً، والكلب إذا أحس بأن هناك أبقاراً أو أغناماً جاءت لتأكل من هذا الزرع أو نحوه انتبه وطردها.
المسألة الأولى: ما فعله الصحابة رضي الله عنهم قبل أن يدركهم النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا في غزوة، وأصابتهم مجاعة، فحصلوا على غنيمة غنموها من بعض المشركين، وكانت الغنيمة إبلاً وغنماً، ولما حصلوا على هذه الغنيمة -وكان قد اشتد بهم الجوع- تعجل بعضهم فذبحوا بعضاً من الغنم، ونصبوا القدور، ووضعوا فيها شيئاً من اللحم قبل أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لحق بهم -وكانت القدور تفور باللحم- أمر بها فأكفئت، وكأنه غضب عليهم لما تعجلوا؛ وذلك لأنها لا تزال مشتركة، فالذين تسرعوا قد يكونون أخذوا شيئاً من حق غيرهم، فلا يحق لهم أن يتصرفوا إلا فيما يملكونه، ويملكون التصرف فيه، وكيف أمر بتلك القدور فأكفئت؟
لعله لم يكن فيها لحم، أو كان فيها لحم ولكنه اعتبره كالنهبة، وفي بعض الروايات أنه قال: (إن النهبة ليست أحل من الميتة)، فالميتة حرام، فاعتبر هذا نهباً، بمعنى أنه شبه نهب، حيث إن جميع الغنيمة للغانمين بعد أن يخرج منه الخمس الذي هو لبيت المال، ثم يفرق الباقي على الغانمين الذين حضروها، فلهم أربعة أخماس الغنيمة، وتسوى سهامهم فيها، إلا أنه يزاد للفارس على الراجل، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة.
والحاصل أنه رأى أن هذا تسرع، وأخذ لما لا يملكونه، فأمر بالقدور فأكفئت، وبعضها يفور باللحم، وجعل هذا عقوبة لهم على تسرعهم، فدل على أنه لا يجوز التصرف بالغنيمة قبل أن تقسم؛ لأنها مملوكة لجميع الغانمين، ولأن كلاً منهم له حق فيها، ولأن الذي يأخذ منها يعتبر أخذه نهباً، أو يعتبر غلولاً، فكأنه غل يعني: أخذ شيئاً من غير أن يستحقه، وقد توعد الله على الغلول فقال تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، فهذا هو السبب في كونه أتلف هذه اللحوم على أهلها، وأتلف ماءهم الذي كانوا يطبخون فيه لحماً ليأكلوه، فجعل ذلك عقوبة لهم على هذا التسرع، حتى لا يتسرعوا بعد ذلك، هذه المسألة الأولى.
وكان معهم القصب، وهو قصب الزروع، قد يكون في القصبة طرف محدد، إذا شقت نصفين صار طرفها محدداً، وإذا أجري على حلق الشاة يجرحها، ويقطع الجلد واللحم، فيتخذ منه ما يقوم مقام السكاكين، فأباح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر بأنه يجوز أن يذبح بكل ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، أنهره يعني: أساله وأجراه، فكل آلة إذا ذبحت بها جرى الدم إلى أن يسيل فإنه يباح الذبح بها إلا ما استثني.
الشرط الأول: أهلية الذابح، وهو أن يكون مسلماً، أو ذمياً متمسكاً بالكتاب الذي أنزل عليه؛ وذلك لأن من شرع أهل الكتاب أنها لا تباح الميتة، وأنه لابد من ذبحها ذبحاً شرعياً بقطع الودجين مع المريء والحلقوم، هذا من دينهم، وهو أيضاً من دين الإسلام، فإذا كان الذابح أهلاً مسلماً أو ذمياً، أبيح ذبحه الشرعي.
الشرط الثاني: قطع الودجين مع المريء والحلقوم، فلابد من قطعها في أي مذبوح، حتى ولو طيراً أو بعيراً أو شاة أو بقرة، كل ما يذكى، والحلقوم هو مجرى النفس، والمريء مجرى الطعام، والودجان عرقان إلى جانب الحلقوم يجري معهما الدم، وإذا قطعا وفي المذبوح حياة فإنه يخرج الدم منهما خروجاً مندفعاً منسفحاً، حتى يخرج الدم كله من عروق الذبيحة، فهذا شرط من شروط حلها، قطع الودجين مع الحلقوم والمريء.
الشرط الثالث: التسمية لقوله في هذا الحديث: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل)، فلابد أن يسمي عند الذبح، وقد ذكر الله التسمية في قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة:4] فلابد أن يقول: باسم الله، أو باسم الله والله أكبر، والتكبير سنة، والتسمية واجبة، ويدعو في الأضحية بما ورد كما سيأتي، أما في التذكية فيقتصر على التسمية والتكبير، وإذا لم يذكر اسم الله تعالى، فإن كان تركها عمداً فلا تحل، قال الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121] أي: مما ذبح ولم يذكر عليه اسم الله تعالى، سواءً ترك التسمية عمداً أو ذكر عليه اسم المسيح أو اسم صنم أو غير ذلك.
كذلك يقول تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:118]، وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:119]، أما إذا ترك التسمية جاهلاً وهو من المسلمين أو تركها ناسياً فإنه معذور، والصحيح أنها تباح ذبيحة من كان مسلماً ونسي التسمية، وأما إذا تعمد تركها فلا تباح.
ونلاحظ أن كثيراً من الذين يذبحون في المجازر يكونون جهلة بالأحكام، ولكن ينبغي أن يحضرهم أهل المعرفة، فإذا وكلته أن يذبح لك شاة أو يذبح لك دجاجاً وأنت عنده، وعرفت أنه منشغل أو جاهل بالحكم؛ فعليك أن تسمي أنت عند ذبحه، أو تأمره وتكلفه بأن يسمي عند ذبح كل مذبوح ولو طيراً صغيراً أو نحوه.
الحاصل أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) يعني: أي شيء أنهر الدم يعني: أساله، وقد ثبت أن شاة كانت مع غنم لبعض الصحابة فأدركها الموت، وكانت ترعاها جارية له، فكسرت حجراً وذبحتها بذلك الحجر، فأباح لهم النبي صلى الله عليه وسلم أكلها، مع أنها ما ذبحت بحديد، وإنما ذبحت بحجر، ولكنه مما أنهر الدم وأساله.
الشرط الرابع من شروط الذكاة: الآلة التي يذبح بها، وقد قال في هذا الحديث: (كل ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة) فأمرهم بأن يذبحوا بكل شيء يسيل الدم إلا الظفر، فلو كان ظفر إنسان محدداً فذبح به طيراً لم يحل الذبح بهذا الظفر، وقد علل بأنه مدى الحبشة، يعني: سكاكينهم التي يذبحون بها، وكان الحبشة في ذلك الوقت نصارى، ومع ذلك كانوا يخالفون شريعتهم ويخالفون دينهم، ففيه النهي عن التشبه بهم، ويعم ذلك التشبه بهم وبالنصارى ونحوهم في كل شيء من اختصاصاتهم.
ولا يجوز أيضاً أن يذبح بسنه أو بأسنانه، فلا يجوز مثلاً أن يعض الشاة بأسنانه أو يعض الدجاجة بأسنانه حتى يقطع حنجرتها أو يقطع مريئها أو نحو ذلك، لا يجوز الذبح بالسن ، وعلل النهي في هذا الحديث بأنه عظم، فكأنه يقول: العظم لا يذبح به، ولو كان محدداً، يعني: لو لم يجد إلا عظم مذكاة مثلاً، ولكن له طرف محدد، فليس له أن يذبح به، ولعل السبب أنه من جملة ما يؤخذ من هذه الدواب فكأنه يذبحها بجزء منها.
إذاً: عرفنا أن شروط الذكاة أربعة:
الأول: أهلية الذابح بأن يكون مسلماً أو ذمياً عاملاً بكتابه.
الثاني: ذكر اسم الله تعالى عند الذبح.
الثالث: قطع الحلقوم والمريء والودجين.
الرابع: الآلة التي يذبح بها، وهو ألا يذبح بسن ولا بظفر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر