أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ [السجدة:23-26].
معاشر المستمعين، والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [السجدة:23]. هذا كلام الله أنزله على رسوله ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية وحدها تقرر معنى لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلولا أن الله عليم وحكيم وموجود لما نزل هذا الوحي، ولولا أن محمداً رسول الله لما تلقى هذا العلم وهذه المعرفة، وهذا الكتاب. فآية واحدة تدل على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ومع هذا كفر الكافرون إلى اليوم وإلى يوم الدين.
وقوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ، هو موسى بن عمران الذي أرسله الله إلى فرعون، فحاربه وانتصر عليه، وأرسله إلى بني إسرائيل، فعاش بينهم يدعوهم إلى الله، والمراد بالكتاب هنا التوراة، وهي كتاب ضخم عظيم فيه ألف سورة.
وقوله تعالى: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ ، أي: فلا تكن يا رسولنا! أي: يا محمد صلى الله عليه وسلم! في شك من لقائك موسى. وهذا والله سيكون كما أخبر تعالى، فسيلقى محمد رسول الله موسى، وقد لقيه ليلة الإسراء والمعراج، وهو الذي كان يراجعه في موضوع عدد الصلاة، حتى صارت من خمسين إلى خمس صلوات، فلقد رآه، وسيراه يوم القيامة، والمرية هي الشك
وقوله: وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [السجدة:23]، أي: وجعلنا الكتاب هدى لبني إسرائيل، أو وجعلنا موسى هدى لبني إسرائيل، فكل منهما هاد إلى طريق مستقيم، والكتاب يهدي إلى الله، وموسى يهدي إلى الله، والهداية إلى الله هي الهداية إلى الإيمان به وإلى عبادته، وثمار ذلك ونتاجه سعادة الدنيا والآخرة.
فيا معشر المشركين، والكافرين! إن الله آتى موسى الكتاب، وآتى محمداً مثله الكتاب، وقد لقيه محمد في الملكوت الأعلى، وجعل الله موسى هدى لبني إسرائيل، فآمنوا وادخلوا في الإسلام، ولا تعرضوا وتتكبروا.
وقوله: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً ، الأئمة جمع إمام، والإمام من يكون أمام الناس يقودهم إلى سعادة الدارين، ومن يقتدون به ويأتسون به، كاقتدائنا بإمامنا في الصلاة، نكبر إذا كبر، ونركع إذا ركع، ونسجد إذا سجد، فالإمام من يؤتم به في هذه الحياة، ويقتدى به في إيمانه وفي صلاحه وفي كماله، وفي آدابه وفي أخلاقه، وهو الذي يدعو إلى الله؛ ليعبد وحده؛ من أجل أن يسعد العابدون ويكملون.
وقوله: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ ، أي: من بني إسرائيل أَئِمَّةً ، كداود وسليمان، وزكريا ويحيى.
وقوله: يَهْدُونَ ، أي: العباد إلى الصراط المستقيم الموصل إلى رضا الله أولاً، ثم إلى سعادة الدنيا وكمالها، وأخيراً إلى سعادة الآخرة وكمالها. ويهدون إلى أن يعبد الله وحده.
والعبادة تزكي النفوس وتطهرها، وتؤهل المزكين المطهرين لرضوان الله وجواره في الملكوت الأعلى في الجنة دار السلام.
وقوله: بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا أولاً، وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] ثانياً.
فيا معشر الشبيبة المسلمة! من أراد منكم أن يكون إماماً يؤتم به ويقتدى به ويقود الناس فيمشون وراءه فليصبر أولاً على عقيدته، ولا يتخلخل، ويصبر على عبادته، ولا يضعف، ويصبر على آدابه وأخلاقه ولا يهبط، ثم بعد ذلك يدع، ويصبر على ما يصيبه من ذم أو سب، أو شتم أو قتل.
أولاً: أن تصبر على طاعة الله ورسوله، فلا تنقص منها ولا تزيد عليها، بل اصبر صبراً كاملاً.
ثانياً: أن تصبر على ما يصيبك من أذى وضرر، وجوع وخوف، ثم تواصل صبرك حتى تلقى ربك.
وهذه المخلوقات كلها مخلوقة لله، والله خالقها، فهي من آياته الدالة على علمه بعد وجوده، وعلى قدرته ورحمته، فهم يؤمنون بآيات الله ويوقنون.
واليقين أعظم من الإيمان مجرداً، فالمؤمن الذي ليس عنده يقين ضعيف، والمؤمن الذي عنده يقين إيمانه قوي.
وقوله: وَكَانُوا بِآيَاتِنَا ، المنزلة على رسلنا يُوقِنُونَ . يقيناً ثابتاً لا يتزلزل. وهكذا من أراد الإمامة في الدين فعليه بالصبر واليقين.
وهذا هو حكم الله، فلا سجن ولا ضرب ولا غرامة مالية، بل فقط إما إلى الجنة، وإما إلى النار؛ إذ لا يوجد يومئذ إلا دار السلام، وفيها الأكل والشرب، واللباس والفراش، وكل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وفيها النار دار الشقاء والعذاب والبلاء.
والآن يقرأ القرآن في إذاعة لندن ونيويورك، وفي إذاعة إسرائيل، وفي إذاعة الروس، ولا يؤمنون ولا يسألون من أنزل هذا القرآن، ولماذا نزل، ولا أين أهله، حتى يسألوهم. وهذا الواقع. ولذلك قال: أَفَلا يَسْمَعُونَ [السجدة:26]؟ فهو يوبخهم ويقرعهم؛ لأن لهم آذاناً، فهم يسمعون، ولكنهم صم لا يسمعون، وبكم وعمي لا يفقهون ولا يعلمون. وهؤلاء هم أهل جهنم، فإن الله عز وجل أوجد عالمين، عالم السعادة وعالم الشقاء، وعالم السعادة في الجنة، وعالم الشقاء في النار، وخلق الخليقة على هذه الأرض خلقاً عظيماً، وأمدهم بكل مستلزمات حياتهم، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وقال: اعملوا؛ لتسلموا وتسعدوا، فإن أجابوا نجاهم ورفعهم إلى الجنة، وإن أعرضوا ولم يجيبوا أذلهم وأخزاهم وأدخلهم النار.
قال: [ معنى الآيات:
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ، أي: أعطينا موسى بن عمران أحد أنبياء بني إسرائيل الكتاب الكبير، وهو التوراة، إذاً فلم ينكر عليك المشركون أن يؤتيك ربك القرآن كما آتى موسى التوراة؟ ] فما لهم ينكرون عليك أن ينزل الله عليك القرآن، ويقولون: هذا شعر، وليس بقرآن، وهم يعلمون أن الله أنزل الكتاب على موسى، فكما أنزل على موسى وعلى عيسى ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم [ وفي هذا تقرير لأصل من أصول العقيدة، وهي الوحي والنبوة المحمدية ] ففيها تقرير بأن محمداً رسول الله.
[ وقوله تعالى: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ ، أي: فلا تكن يا محمد! في شك من لقائك موسى ليلة الإسراء والمعراج، فقد لقيه وطلب إليه أن يراجع ربّه في شأن الصلاة، فراجع حتى أصبح خمساً بعد أن كانت خمسين ] كما علمتم.
[ وقوله: وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [السجدة:23]، أي: الكتاب، أو موسى كلاهما كان هادياً لبني إسرائيل إلى سبيل السلام والصراط المستقيم ] أي: إلى الإسلام والجنة.
[ وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً ، أي: قادة هداة، يهدون الناس إلى ربهم، فيؤمنون به، ويعبدونه وحده؛ فيكملون على ذلك ويسعدون، وذلك بأمره تعالى لهم بذلك ] فقد جعلهم أئمة وكلفهم بذلك.
[ وقوله تعالى: لَمَّا صَبَرُوا ، أي: عن أذى أقوامهم ] وقرئ: (لما صبروا) أيضاً، أي: من أجل صبرهم عن أذى أقوامهم، ومن هنا كان يصبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى المشركين في مكة وفي المدينة، فقد كادوا له المكائد، وأرادوا أن يقتلوه في مكة وفي المدينة [ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا الحاملة لأمرنا ونهينا، ووعدنا ووعيدنا ] وكانوا بآياتنا القرآنية أو التوراتية أو الإنجيلية أو غيرها، وكانوا بآياتنا الجامعة لأمرنا ونهينا، ووعدنا ووعيدنا [ يُوقِنُونَ [السجدة:24]، أي: تأهلوا لحمل رسالة الدعوة بشيئين ] ألا وهما [ الصبر على الأذى، واليقين التام بصحة ما يدعون إليه، ونفعه ونجاعته.
وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [السجدة:25]، يخبر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه سبحانه وتعالى الذي يفصل بين المختلفين من الأنبياء وأممهم، وبين الموحدين والمشركين، والسنيين والبدعيين، فيحكم بإسعاد أهل الحق، وإشقاء أهل الباطل. وفي الآية تسلية للرسول، وتخفيف عليه مما يجد في نفسه من خلاف قومه له.
وقوله: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ ؟ أي: أعموا فلم يبيّن لهم إهلاكنا لأمم كثيرة يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ مارّين بهم في أسفارهم إلى الشام، كمدائن صالح وبلاد مدين وبحيرة لوط، إنا قادرون على إهلاكهم إن أصروا على الشرك والتكذيب، كما أهلكنا القرون من قبلهم.
وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ ، أي: في إهلاكنا أهل القرون الأولى لما أشركوا وكذبوا دلالات وحججاً وبراهين على قدرة الله، وشدة انتقامه ممن كفر به وكذب رسوله.
وقوله: أَفَلا يَسْمَعُونَ [السجدة:26]؟ أي: أصموا فلا يسمعون هذه المواعظ التي تتلى عليهم؟ فيتوبوا من الشرك والتكذيب؛ فينجوا ويسعدوا ] اللهم اجعلنا من الكاملين السعداء يا رب العالمين!
[ من هداية الآيات:
أولاً: تقرير النبوة المحمدية ] ولهذا نشهد بأعلى أصواتنا بأن محمدا رسول الله؛ إذ هذه الآيات تقرر نبوته.
وفيها أيضاً تقرير وتأكيد قصة الإسراء والمعراج، وهي حادثة عجب، أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم فيها من مكة من بيت أم هانئ إلى بئر زمزم، وهناك شق جبريل الأمين عن صدره، واخرج حظ الشيطان من قلبه، ثم غسل قلبه، وملأه بالحكمة والنور، ثم ذهب به إلى بيت المقدس، ومن بيت المقدس إلى الملكوت الأعلى، ثم إلى سدرة المنتهى وعندها جنة المأوى. فهذه الآية تقرر الإسراء والمعراج؛ لقوله في موسى: (( فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ ))، أي: شك (( مِنْ لِقَائِهِ )). وقد لقيه.
[ ثانياً: الكتاب والسنة كلاهما هادٍ للعباد إن طلبوا الهداية فيهما ] فهذه الآيات تقرر أن الكتاب والسنة بهما يهتدى من طلب الهداية إلى الله ليسعد ويكمل، فعليه بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليعرض عن أقوال القائلين وأباطيل المبطلين، وليتمسك بقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
[ ثالثاً: بيان ما تنال به الإمامة في الدين، وهو الصبر وصحة اليقين ] فاصبر على ما تتحمل ويلقى عليك، وكن على يقين مما تدعو إليه، وتدعو به، وبذلك تصبح إماماً للناس يقتدى بك ويهتدى.
[ رابعاً: كل خلاف كان في هذه الحياة سينتهي بحكم الله تعالى فيه يوم القيامة ] فأهل الإيمان والتوحيد في الجنة، وأهل الشرك والكفر في النار، وأهل اليقين والصبر في دار السلام في درجات عالية، ومن دونهم في درجات دون ذلك. فالله يحكم بيننا يوم القيامة فيما اختلفنا فيه.
[ خامساً : في إهلاك الله تعالى للقرون السابقة ] عاد وثمود وما إلى ذلك [ أكبر واعظ لمن له قلب وسمع وبصيرة ] ففي هذا عبرة وعظة؛ لأولي الأبصار والقلوب الواعية؛ ليعرفوا أن الله عز وجل على كل شيء قدير، وأنه ما أهلك تلك الأمم إلا لكفرهم وظلمهم، فيحذروا الكفر والظلم، ويستقيموا على منهج الحق؛ لينجوا ويكملوا ويسعدوا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر