والصواب أن الشفعة كغيرها؛ لأن الشارع أثبتها للشفيع، وأجمع العلماء عليها، فأي دليل يدل على سقوطها إلا رضا الشفيع بإسقاطها قولاً أو فعلاً].
هذا أيضاً من الفروق الضعيفة التي ذكرها المؤلف رحمه الله بين الشفعة وبقية الحقوق، وأن الشفعة تجب المبادرة بها، وإذا لم يبادر بطلبها فإنه يسقط حقه من الشفعة على المشهور من المذهب.
فمثلاً لو أن زيداً وعمراً شريكان في أرض، فباع زيدٌ نصيبه من هذه الأرض على صالح، فإن الشريك عمراً له أن يشفع فيأخذ النصيب بالثمن الذي استقر عليه العقد، فلعمرٍ أن يشفع على صالح -المشتري الجديد- ويعطيه ما دفعه لشريكه زيد، ويأخذ النصيب كله، ويستقل بهذه الأرض.
يقول المؤلف رحمه الله: المذهب يوجبون المبادرة بالشفعة، أما بقية الحقوق فلا تجب المبادرة عندهم. فمثلاً خيار العيب لا تجب المبادرة به، فلو أن الإنسان اشترى سلعة ووجد بها عيباً فلا يجب عليه أن يبادر، فلو اختار الفسخ بعد يوم أو يومين فإن هذا لا بأس به، إذا لم يضر المشتري، فحق الخيار مقيد بالخيار.
قال رحمه الله: [والصواب أن الشفعة كغيرها؛ لأن الشارع أثبتها للشفيع، وأجمع العلماء عليها، فأي دليلٌ يدل على سقوطها إلا رضا الشفيع بإسقاطها قولاً أو فعلاً.
والأحاديث التي استدلوا بها كلها ضعيفة لا تقوم بها حجة كالحديث الذي فيه: ( الشفعة لمن واثبها )، و( الشفعة كحل العقال ).
فظاهر النصوص الصحيحة عدم اعتبار ما قالوه من وجوب المبادرة جداً، نعم لا يضر الشريك المشتري بتأخير الاختيار، كما لا يضر الشفيع بدفعه كدفع الصائل].
فالصواب في ذلك: أن اشتراط المبادرة بأخذ الشفعة غير صحيح، وأنه لا بأس للشريك أن يشفِّع حتى وإن لم يبادر، فلا بأس أن يؤخر يوماً، أو يومين، أو ثلاثة أيام، يستخير أو يستشير، أو ينظر هل عنده مال أو لا؟ لكن بشرط ألا يكون هناك ضرر على المشتري؛ لأن المشتري سيكون معلَّقاً: إما أن الشريك يشفِّع وإما أنه لا يشفِّع.
ولهذا اشترط ألا يضر الشريك المشتري بتأخير الاختيار، كما لا يضر الشفيع بدفعه كدفع الصائل.
فكون الشفيع يدفع للمشتري الجديد ويأخذ النصيب، يكون دفعه بعدم الضرر، بحيث أنه لا يؤخر الاختيار، كما أن الإنسان إذا صال عليه شيء يدفعه بالأسهل فالأسهل.
ما لا يجوز التقاطه مطلقاً كالذي يمتنع من صغار السباع كالإبل، ونحوها.
وهذا دليله قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث زيد بن خالد الجهني لما سئل رسول الله عن لقطة الإبل فقال: ( ما لك ولها؛ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها ).
والأحسن أن يقال: ما يتحفظ بنفسه لا يجوز التقاطه، والذي يتحفظ بنفسه ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون حيواناً كالإبل ونحوه مما يمتنع عن صغار السباع، إما يمتنع عن صغار السباع؛ لكبر جثته، أو يمتنع لطيرانه، أو يمتنع لسرعة عدوه.. ونحو ذلك، فإنه لا يجوز التقاطه.
هذا القسم الثاني: وقيّد العلماء بأوساط الناس، فلا عبرة بأشرافهم؛ لأن الأشراف قد لا يهتمون بالشيء الكثير، وكذلك لا عبرة بأراذل الناس؛ لأن أراذل الناس أيضاً قد يهتمون بالشيء الحقير جداً، فالعبرة بأوساطهم، فهذا يُملك في الحال ولا يجب تعريفه، مثل الريال، والريالين، والقلم الذي يكون ثمنه قدر هذه الأشياء.. ونحو ذلك، إلا إذا كان يعرف صاحبه فإنه يجب أن يدفعه إليه، لكن إذا كان لا يعرف صاحبه فإنه يملكه في الحال.
ولو أنه أستنفقه أو أستهلكه كما لو كان طعاماً أو شيئاً من الخضار أو الفواكه فأكله ثم عرف صاحبه، فإنه لا شيء عليه.
ما يجوز التقاطه بشرط تعريفه يشمل أمرين:
الأمر الأول: الحيوان. وهو ما لا يمتنع من صغار السباع، مثل: الحمار، والشاة، والدجاج، والأرانب.. ونحو ذلك.
الأمر الثاني: ما تتبعه همة أوساط الناس، ولا يتحفظ بنفسه من المال، كالذهب، والفضة، والأوراق النقدية، والثياب، والأواني... ونحو ذلك مما يدخل تحت هذا الضابط، فهذا يعرّف لمدة حول كامل.
ففي النسب يُنسب إلى أبيه ولا يُنسب إلى أمه، فمثلاً: زيدٌ تزوج فاطمة فأنجبت ولداً أو بنتاً فإنها تنسب أو يُنسب إلى أبيه؛ لقول الله عز شأنه: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب:5].
ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: إذا تزوج الحر رقيقة رق نصفه؛ لأن أولاده سيكونون أرقاء تبعاً لأمهم.
ودليل ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه ).
وهذا بناء على أن الحمار نجس، لكن لو أن الذئب نزا على الضبع، الضبع طاهرة والذئب نجسة، فإذا أنجبت فإنه يغلّب جانب النجاسة.
هذا من الفروق في باب الحضانة: قبل التمييز يكون عند أمه.
إذا طُلِّقت الأم ولها طفل لم يميّز ذكراً كان أو أنثى فإنه يكون عند أمه، وبعد التمييز إذا كان ذكراً فإنه يخيَّر بين أبويه، وتكون الأنثى عند أبيها، فلا تخيّر، فالمذهب لا يرى تخيير الأنثى بل تكون عند أبيها.
الرأي الثاني: أنها تخير كالغلام، والرأي الثالث رأي أبي حنيفة : أنها تكون عند أمها، حتى يتسلمها زوجها، وهذا اختيار ابن القيم ؛ لأن كونها عند أمها أرفق بها، وتتعلم من أمها ما لا تتعلم من زوجة أبيها، وأيضاً قد يحصل لها ضرر إذا كانت عند زوجة أبيها.. إلى آخره.
ولأن قاعدة الحضانة هو الرفق بالمحضون وعمل الأصلح له، والأصلح أن تكون عند أمها كما ذكر ابن القيم رحمه الله.
فإذا حصل بلوغ: حصل رشد. فالإنسان يستقل بنفسه، فليس لأحد عليه ولاية.
والعلة في ذلك قال: لأنه نائب لجائز التصرف، وموكله يراقبه في أعماله، وبين الولي لليتيم والمجنون وناظر الوقف، فاشترطوا عدالته؛ لأنها ولاية يجب فيها العمل بالأصلح.
والصواب في هذه المسائل كلها: أنه لا تشترط العدالة، وإنما نشترط ما اشترطه الله عز وجل في قوله: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، فإذا اجتمعت هاتان الصفتان القوة والأمانة في ولي اليتيم، وولي المجنون، وناظر الوقف، فإنه يصح حتى ولو كان عنده شيء من الفسق.
هذا فرق بالنسبة للأكل، هل يأكل هذا النائب أو لا يأكل؟
قال: إن كان وكيلاً فلا يأكل، فلو وكّلته على البيع أو الشراء في هذه السلع، فلا يسمح له أن يأخذ شيئاً لنفسه، أو كان طعاماً ليس له أن يأكل، وإن كان ولي يتيم وتولى ماله، فهذا كما قال الله عز وجل: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6] الفقير يأكل بالمعروف، وأما الغني فإنه يستعفف.
والمعروف قال العلماء رحمهم الله: هو الأقل من أجرته ونفقته، فإذا كانت أجرته في الشهر ألف ريال ونفقته لأكله وشربه ولباسه في الشهر 500، فإننا نعتبر النفقة لا الأجرة؛ لأنها هي الأقل، فالأجرة تساوي ألف ريال، والنفقة تساوي خمسمائة.
والعكس بالعكس.. فلو كانت نفقة أكله وشربه تساوي ألف ريال، وأجرته تساوي خمسمائة ريال فإننا نعتبر بالأجرة.
الرأي الثاني: أنه يُنظر للنفقة مطلقاً؛ لقول الله عز وجل: وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6]، لكن ما ذكره العلماء رحمهم الله أحوط لمال اليتيم.
ناظر الوقف يأكل بالوصف مطلقاً، سواء كان غنياً أو فقيراً، يأكل الوسط. قالوا: الناظر في الوقف يأكل لقول عمر لما وقف وقفه: لا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف.
والأحوط في مثل هذا أيضاً أنه يأكل إذا جعل له الموقف شيئاً، فهذا الأمر فيه ظاهر، وإذا لم يجعل له شيئاً من ذلك فالأحسن أن يكون عن طريق القاضي؛ لئلا يؤدي ذلك إلى التلاعب بالأوقاف.
وقال شيخ الإسلام في مثل هذا: تجب عمارة الوقف على حسب البطون].
يعني: الوقف هل تجب النفقة عليه أو لا تجب النفقة عليه؟
قالوا: إن كان حيواناً فتجب النفقة عليه مثل وقف بعير، أو فرس، فإن كان غير حيوان كالعقار فلا يجب الوقف عليه إلا إذا شرط الواقف فقال: بشرط أن يُعمر، أو كذا إلى آخره.
والصواب في ذلك: أنه تجب النفقة عليه جميعاً، سواء كان حيواناً أو عقاراً؛ لأن عدم النفقة عليه يؤدي إلى ضياعه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.
وأما بقية الأبواب فجعلوا الباطل والفاسد واحداً، الكل لا يصح ولا يفيد الملك والتصرف].
فرقوا بين الباطل والفاسد في موضعين:
الموضع الأول: في الحج.
الموضع الثاني: في النكاح.
ففي الحج: من جامع فيه قبل التحلل الأول، فهذا يفسد.
والباطل: ما ارتد فيه.
والفاسد هنا يمضي فيه ويقضيه بعد ذلك، أما الباطل فإذا ارتد -نسأل الله السلامة- يبطل.
وفي باب النكاح: الباطل: ما أجمع العلماء على بطلانه، والفاسد: ما اختلف العلماء في فساده.
فالفاسد مثل النكاح بلا شهادة، هذا اختلف العلماء في فساده، وما يجمع العلماء على بطلانه كنكاح خامسة، فهذا أجمع العلماء على بطلانه، وكذلك النكاح في العدة لقول الله عز وجل: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235].
هذا الفرق بينهما، أما بقية المواضع فعلى المشهور من المذهب: أن الباطل والفاسد بمعنى واحد، وهو قول جمهور الأصوليين، بخلاف الحنفية فإن الحنفية يفرقون بين الفاسد والباطل، ويفرقون أيضاً بين الواجب والفرض.
وإذا كان النكاح فاسداً فلا يصح أن تتزوج هذه المرأة حتى يطلق صاحب النكاح الفاسد، أو يفسخ الحاكم إذا رفض أن يطلق، فطلاقه واجب؛ لأن هناك من يعتقد صحة النكاح، فكونها تتزوج وهناك من يعتقد صحة النكاح، تكون كأنها زوجت وهي في حكم الزوج، فيجب الطلاق، ولهذا ذكروا هذا في المواضع التي يجب فيها الطلاق، فيجب الطلاق أو يفسخ الحاكم إذا لم يطلق الزوج.
الفسوخ تنقسم إلى قسمين: فسخ متفق عليه لا يحتاج إلى حاكم، مثل خيار المجلس، لو أن أحد المتعاقدين فسخ فلا يحتاج إلى حاكم، ومثل خيار الشرط، وخيار الغبن فهذه لا يحتاج فيها إلى حاكم.
والأمة المعتقة تحت زوجها، إذا كان زوجها رقيقاً، تختار من غير حاجة إلى حاكم، لكن الفسوخ المختلف فيها تحتاج إلى حاكم مثل: لو أن المرأة وجدت في زوجها عيباً فإن الذي يفسخ الحاكم القاضي، ولو تخلف شرط من الشروط لم يوف به، فالذي يفسخ هو القاضي.
ولعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال في هذه الفسوخات المختلف فيها: إن اتفق الزوجان فليس هناك حاجة إلى القاضي، فلو أن الزوج وجد فيه عيب، واتفق الزوجان على أنه عيب، وأنه موجب للفسخ، واتفقا على الفسخ، فيقول شيخ الإسلام : يفسخها ولا حاجة إلى القاضي، وإن اختلفا فيحتاج إلى القاضي؛ لأن حكم القاضي أو حكم الحاكم يرفع الخلاف.
وهذا هو الصواب: فلو أن زيداً قذف عمراً بالزنا، فإنه يجب جلده ثمانين جلدة؛ لقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، لكن لو قذفه بما هو أعظم كأن قال: أنت كافر، أو أنت يهودي أو أنت نصراني، فالكفر أعظم من الزنا، لكن لا يجب جلده ثمانين، وإنما يعزّره القاضي؛ لأن قوله: أنت يهودي أو أنت نصراني الحال تكذب ذلك، فهو يصلي، ويقوم بأركان الإسلام، فلا يلحقه من العار ما يلحقه بقول القاذف له: أنت زان.
والقدح في العرض بالزنا قد لا يتمكن المقذوف من إزالته، وأما بالنسبة للقذف باليهودية والنصرانية فإن المقذوف يتمكن من تكذيب من رماه.
يعني: لو أن رجلاً رمى امرأة بالزنا، فهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـهلال بن أمية : ( البيّنة وإلا حد في ظهرك ) فلا بد أن يأتي بأربعة شهود على هذا الزنا، وإلا حد في ظهره، لكن لو رمى زوجته بالزنا فالله عز وجل جعل له مخرجاً: البيّنة بأربعة شهود، أو حد في ظهره. يحد في ظهره إذا كانت المرأة محصنة، التعزير إذا كانت غير محصنة.
ولكي يسقط الحد أو التعزير يلاعن، فبهذا جعل الله عز وجل له مخرجاً، فاللعان لا يوجد إلا في قذف الزوج لزوجته، وما عدا ذلك فليس فيه لعان.
والفرق: أن الزوج غالباً لا يقدم على قذف زوجته بالزنا إلا وقد حصل له اليقين بذلك؛ لأنه إذا قذفها فإنه يدنس فراشه، ويلوث عرضه، فلا يقدم على ذلك إلا إذا حصل له يقين على هذا القذف.
هذا فرقٌ بين التذكية والصيد، أي بين الأشياء التي تُذبح: تُذكى وبين الأشياء التي تصاد.
فالصيود وسّع الشارع طرق صيدها: فتصاد بالآلة، وتصاد بالجارحة سواء كانت مما يصيد بنابه، أو يصيد بمخلبه، وتصاد في أي موضع في بدنها.
أما الذبائح فطريق الحل فيها طريق واحد وهو تذكيتها بقطع ثلاثة من أربعة على الصحيح: الودجان، والحلقوم، والمريء.
ويصيد إما بالآلة، وإما بالجارحة، والجارحة: ما يصيد بنابه أو يصيد بمخلبه.
والحيوانات الأهلية التي تذكى إذا نفرت واستوحشت مثل: بعير ند، أو بقرة ندت، أو شاة ندت.. ولم يقدر عليها إلا بإصابتها في أي موضع من مواضع بدنها، جاز ذلك كما في حديث رافع بن خديج لما ند البعير فحبسه رجل بسهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فاصنعوا به هكذا ).
والعكس بالعكس: فلو كان الصيد مقدوراً عليه، كما لو صدنا غزالة فإنه لا بد من التذكية، ولا يكفي فيه أن يصاب في أي موضع من بدنه.
هذه عدة فروق بين القاضي والمفتي:
الفرق الأول: أن القاضي يبيّن الأحكام الشرعية ويلزم بها، وأما المفتي فهو يبيّن الأحكام الشرعية لكن لا يلزم بها. يقول المفتي: هذا حلال، وهذا حرام. لكنه لا يلزم، وأما القاضي فيقول: هذا صحيح، وهذا غير صحيح ويلزم به.
الفرق الثاني: أن المفتي يفتي في المسائل المتنازع فيها وفي غيرها، وأما القاضي فإنه لا يقضي إلا في المسائل المتنازع فيه.
الفرق الثالث: أن المفتي يفتي لنفسه ولغيره في صحة العبادة كالصلاة، وصحة المعاملة، وغيرها.
وأما القاضي فإنه لا يقضي لنفسه، فلو كان له مع زيد من الناس خصومة فإنه لا يقضي لنفسه، بخلاف المفتي؛ فإنه يفتي نفسه.
الفرق الرابع: أن القاضي لا يقضي لمن لا تقبل شهادته له كأصوله وفروعه، والمفتي يفتي لمن لا تُقبل شهادته له كأصوله وفروعه.
الفرق الخامس: أن القاضي لا يقضي بعلمه إلا فيما أقر به في مجلس الحكم، وفي عدالة الشهود وفسقهم، والمفتي بخلاف ذلك.
القاضي لا يقضي بعلمه إلا في موضعين: الموضع الأول: في عدالة الشهود وفسقهم. فإذا كان يعرف عدالتهم قضى بذلك، وإذا كان يعرف فسقهم قضى بذلك وردهم.
الموضع الثاني: فيما أقر به الخصم في مجلس الحكم، فإذا أقر الخصم في مجلس الحكم بشيء فإنه يقضي به، فالقاضي لا يقضي بعلمه إلا في هذه الموضعين، وما عداهما فإنه لا يقضي بعلمه.
والمفتي يفتي بعلمه.
الفرق السادس: أن حكم القاضي يرفع الخلاف، وأما إفتاء المفتي فإنه لا يرفع الخلاف.
فمثلاً: طلق هذه المرأة ثلاث طلقات بكلمة واحدة، فحكم القاضي أنها ثلاث طلقات، ارتفع الخلاف، أما المفتي فلو أفتى أنها ثلاث أو أفتى أنها واحدة فإنه لا يرتفع الخلاف.
هذا فرق بين قسمة الإجبار وقسمة التراضي.
فقسمة التراضي: ما فيها ضرر أو رد عوض، وقسمة الإجبار ما ليس فيها ضرر ورد عوض.
فقسمة التراضي الممتنع منها لا يُجبر، وأما قسمة الإجبار فالممتنع منها يُجبر.
صورة المسألة: أرض قسمناها، فهذا نصيبه في الجانب الشرقي وهذا نصيبه في الجانب الغربي، وأحدهما أكثر رغبة من الآخر، فنحتاج إلى عوض.
أو في أحدهما ضرر دون الآخر، فالقسمة هذه نسميها قسمة التراضي، وما لا ضرر فيه ولا رد عوض: كأرض كبيرة متساوية وقسمناها قسمين، هذا الجانب وهذا الجانب سواء. فهذه نسميها قسمة إجبار.
ففي قسمة الإجبار الممتنع يُجبر، وفي قسمة التراضي الممتنع لا يُجبر. هذا الفرق بينهما.
لكن كما قال المؤلف رحمه الله في قسمة التراضي: إذا امتنع من القسمة، فالضرر يزال بالبيع، أو بالمهايأة بأن يستفيد أحدهم من هذه الأرض مثلاً مدة سنة وهذا يستفيد لمدة سنة، يحسب الانتفاع بالزمن، أو بالتأجير فتؤجر.
البيع واقعٌ على الرقبة، وأما الإجارة فإنها واقعة على المنفعة فقط، وهذا ظاهر.
قال رحمه الله: [ولا يصح بيع الحر ولا بيع الوقف من غير ضرورة، والإجارة بخلاف ذلك].
ذكر الفرق الأول بين البيع والإجارة: أن هذا على العين وهذه على المنفعة.
الفرق الثاني: أن الحر لا يجوز بيعه، لكن يجوز تأجيره.
والوقف لا يجوز بيعه إلا لمصلحة، والصواب إذا كان هناك مصلحة فإنه لا يصح بيعه، لكن يصح تأجيره.
قال رحمه الله: [والبيع يدخله الربا ربا الفضل، والإجارة لا يدخلها الربا، فيصح استئجار حلي الذهب أو الفضة بمثله أو أقل أو أكثر، بإجارة مقبوضة أو غير مقبوضة].
الفرق الثالث: أن البيع يدخله الربا، فذهب بذهب مع زيادة ربا.
لكن المؤلف رحمه الله قيده بربا الفضل ولا أدري ما هو الوجه، فالبيع يدخله ربا الفضل وربا النسيئة، فذهب بذهب مع تأخير القبض ربا النسيئة، وذهب بذهب يداً بيد مع الزيادة ربا الفضل.
لكن الإجارة لا يدخلها الربا، فيصح استئجار حلي الذهب أو الفضة بمثله أو أقل أو أكثر بإيجار مقبوض أو غير مقبوض.
تستأجر بمائة جرام من الذهب بثلاثة جرامات ليس فيه بأس، وهنا لا تساوي، كذلك أيضاً تستأجر مائة جرام من الذهب بثلاثة جرامات غير مقبوضة ليس فيه بأس.. فالإيجار لا يدخله الربا: لا ربا الفضل ولا ربا النسيئة.
هذا فرقٌ في باب الطلاق بين المدخول بها وغير المدخول بها: أن العدد إذا وقع دفعة واحدة أو في دفعات مرتبط بعضها ببعض أنه يقع العدد المذكور عليهما.
فلو قال للمدخول بها: أنت طالقٌ ثلاثاً. تطلق ثلاثاً.
وكذلك لو قال لغير المدخول بها، وهي من عقد عليها ولكن لم يدخل بها: أنتِ طالق ثلاثاً. تطلق ثلاثاً.
فما دام جاء دفعة واحدة فلا فرق بين المدخول بها أو غير المدخول بها.
وإذا كان الطلاق ليس دفعة واحدة؛ لأنه فرقٌ بين المدخول بها وغير المدخول بها، فإذا قال للمدخول بها: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق. يقع عليها ثلاث طلقات، وكان قصده في كل جملة إنشاء الطلاق، ما لم يقصد التفهيم أو يقصد التأكيد، وإنما قصده إنشاء الطلاق: يقع ثلاثاً، أما غير المدخول بها إذا قال: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق. فيقع واحدة؛ لأنه لما قال: أنتِ طالق. فقد بانت وليس عليها عدة، فقوله: أنتِ طالق. الثانية لم تصادف محلاً، فقالوا: يقع عليها واحدة.
فاتفقوا على نفعها للمظلوم والمحتاج إليها، وعلى عدم نفعها للظالم، واختلفوا في نفعها لغير الظالم الذي لا يحتاج إليها، فالمشهور عند الأصحاب: نفعها، وعند شيخ الإسلام لا تنفعه في هذه الحال؛ لأنها تشبه التدليس وتوهم الكذب وتسيء ظنون الناس بصاحبها، والله أعلم].
يقصد هنا التورية باليمين.
والتورية باليمين تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن تكون من المظلوم، فهذه تنفع، فإذا جاء ظالم وقال: أعطني مال زيد، فقلت: والله ما عندي لزيد مال، وأنت تقصد ما عندك في جيبك، أو ما عندك في يدك هذه، لكن عندك في الصندوق له مال، فما دام أن التأويل هنا لظالم فإن هذا صحيح.
هذا التأويل بالنسبة للمظلوم.
القسم الثاني: التأويل من الظالم، فالظالم هو الذي يقوم بالتأويل. فهذا لا ينفعه، مثل: لو قال القاضي للغاصب أو للسارق: عندك مال لزيد؟ قال: والله ما عندي مال لزيد. وهو يقصد ما عنده مال في جيبه الآن، نقول: هذا لا ينفعه.
القسم الثالث: ما عدا ذلك. وليس هناك ظلم ولكنه يحصل في أمور الناس كشخصٍ أتى إليك فقال: عندك كذا؟ قلت: والله ليس عندي، وأنت تقصد ليس عندك الآن في جيبك أو في سيارتك، فهل ينفع هذا التأويل أو لا ينفع؟ هذا موضع خلاف.
فالمشهور من المذهب أنه ينفع، والرأي الثاني عند شيخ الإسلام قال: لا ينفع.
والأقرب: أن هذا يرجع إلى الحاجة والمصلحة، فإذا كان هناك حاجة ومصلحة فلا بأس، وإن لم يكن هناك حاجة أو مصلحة فإن الإنسان يترك التورية ولا يصير إليها إلا عند الحاجة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر