إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله،
[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة والأخوات، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة! حقوق يجب أن تعرف، سلسلة منهجية تحدد الدواء من القرآن والسنة لهذا الداء العضال الذي استشرى في جسد الأمة، ألا وهو داء الانفصام النكد بين المنهج المنير، والواقع المؤلم المرير، فأنا لا أعرف زماناً قد انحرفت فيه الأمة عن كتاب ربها وسنة نبيها، وضيعت فيه حقوق الإسلام؛ كهذا الزمان، فأردت أن أُذَكِّرَ أمتي ونفسي من جديد بهذه الحقوق الكبيرة التي ضاعت عسى أن تسمع الأمة مرة أخرى عن الله ورسوله، وأن تردد مع السابقين الصادقين الأولين قولتهم الخالدة:
[البقرة:285].
ونحن اليوم بحول الله ومدده على موعد مع اللقاء السابع والعشرين من لقاءات هذه السلسلة الكريمة، وحديثنا اليوم عن حق جليل كبير ألا وهو: حق المستضعفين في أفغانستان وفلسطين، فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يرزقنا الصدق في القول والعمل، وأن يقر أعيننا بنصرة المستضعفين من المسلمين في كل بقاع الأرض، وأن يشفي صدور قوم مؤمنين بهزيمة ساحقة لأعداء رب العالمين وأعداء المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وحتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا؛ لأن الحديث طويل بطول آلامه، مؤلم بكثرة دمائه، ممزق للقلوب الحية بكثرة الأشلاء المتبعثرة الممزقة، فأرجو أن أركز الحديث في العناصر المحددة التالية:
أولاً: أمة الجسد الواحد.
ثانياً: أمة غثاءٌُُ.
ثالثاً: أين واجب النصرة؟
رابعاً: أيها المظلوم صبراً لا تهن.
وأخيراً: مِنْ رَحِمِ الليل يولد ضوء الصباح.
فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وألاَّ يستخرج منا إلا ما يرضيه سبحانه إنه ولي ذلك ومولاه.
أولاً: أمة الجسد الواحد:
كان العرب أمة ممزقة قبل الإسلام لا وزن لهم ولا قيمة، لو تصفحت التاريخ وقرأت عن حروب العرب؛ لوقفت على قيمة هذا الدين العظيم الذي حَوَّلَهُمْ من غثاء وقبائل متناحرة، ومن أمم متمزقة متصارعة، إلى أمة واحدة؛ لذا امتن الله عز وجل عليهم بهذه النعمة العظيمة الكبيرة فقال سبحانه وتعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران:103].
كانوا متفرقين، وكانوا على شفا حفرة تُوْدِيْ بهم إلى نار الدنيا والآخرة، بشركهم بالله جل وعلا وتَصَارُعِهِمْ وتحاربهم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى التوحيد، فاستنقذهم من شرك العصبية والوثنية إلى أنوار الأُلْفَةِ والتوحيد لرب البرية جل جلاله، فأذلوا كسرى، وأهانوا قيصر، وأقاموا للإسلام دولة من فتات متناثر، وسط صحراء تموج بالكفر موجاً، فإذا دولة الإسلام بناء شامخ لا يطاوله بناء، وذلك في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، يوم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ووحدت العقيدة صفوفهم، وجمعتهم على لسان وقلب رجل واحد.
فجاء المصطفى فآخى بين
سلمان الفارسي و
حمزة القرشي ، و
صهيب الرومي و
معاذ الأنصاري و
بلال الحبشي، وعلى اختلاف ألوانهم وأوطانهم وأجناسهم انصهروا في بوتقة واحدة، جمعتهم آصرة العقيدة، جمعتهم الأخوة الإيمانية التي لا نظير لها في كل الشرائع الوضعية على وجه الأرض؛ لأنها أُخُوَّة تعلو على إخوة النسب والعِرْقِ واللون والوطن، إنها الأُخُوِّةُ في الله.
استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل من المؤمنين جميعاً دوحة واحدة متشابكة الأغصان، متلاصقة الأوراق، انصهروا في بوتقة المحبة في الله، فرأيت منهم العجب العجاب، ولو لم نكن على يقين بأن ما سنذكر بعضه الآن جاء عن الصادق الذي لا ينطق عن الهوى لقلنا إنه من نسج الخيال؛ لأنه لا يمكن بحال أن يقع في دنيا الناس، اللهم إلا إذا كان المربي لهؤلاء الناس هو المصطفى محمد.
تدبر معي هذه النماذج ولن أطيل فيها، تدبر معي في هذا النموذج العظيم الأول:
في الصحيحين من حديث
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (
آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع الأنصاري)، يوم أن هاجروا من مكة إلى المدينة اختار النبي
سعد بن الربيع أخاً في الإسلام لـ
عبد الرحمن بن عوف المهاجر من مكة، تدبر ماذا قال الأنصاري لأخيه، قال
سعد بن الربيع: يا
عبد الرحمن ! إني أَكْثَرُ الأنصار مالاً، وسأقسم مالي بيني وبينك نصفين، ولي زوجتان فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها).
والله إن الحلق ليجف، وإن القلب ليرتعد فرحاً وخجلاً، وإن الكلمات كلها لتتوارى خجلاً وحياءً أمام هذه الأُخُوَّةِ.
لولا أن الحديث في الصحيحين لظننت أنه من نسج الخيال أن يقول رجل عربي له شهامة، وعنده من الرجولة ما نعلم جميعاً، يقول لأخيه: (عندي امرأتان فانظر أعجبهما إليك؛ لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها)، فيرد عليه العفيف الشريف
عبد الرحمن بن عوف ويقول: (بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق، فدله على سوق بني قينقاع، فذهب فباع واشترى وربح.
وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صُفْرَةٍ، فقال له النبي: (
مَهْيَمْ؟ -يعني: ماذا صنعت يا عبد الرحمن ؟- قال: تزوجت امرأة من الأنصار يا رسول الله، قال النبي: وماذا سقت لها من مهر؟ فقال: سقت لها مقدار نواة من ذهب، فقال له المصطفى: أو لم ولو بشاة).
وإن سألني سائل وقال: أين من يعطي الآن عطاء
سعد بن الربيع؟
فالجواب: وأين من يتعفف عفة
عبد الرحمن بن عوف ؟ فلقد وجد
سعد يوم وجد
عبد الرحمن ، وضاع
سعد يوم ضاع
عبد الرحمن .
جاء رجل فقير إلى أحد الأغنياء الأثرياء ليسأله الصدقة بإلحاح، فلما امتنع الغني قال له الفقير: أين الذين ينفقون لله سرّاً وعلانية؟
فقال له الغني: ذهبوا مع من لا يسألون الناس إلحافاً.
إنه مجتمع فريد فيه
سعد وفيه
عبد الرحمن ، فيه من يبذل وفيه من يتعفف، والمربي لـ
سعد ولـ
عبد الرحمن هو الإسلام، بقيادة المصطفى الذي رباه الله على عينه ليربي به الدنيا، بأبي هو وأمي ونفسي وروحي
موقف من مواقف الأمة ذات الجسد الواحد، وانظر إلى هذا الموقف الذي يتألق عزة، واسمحوا لي أن أكرره، فإن المسلم الآن يتطلع إلى موقف من عزة ولو في الماضي؛ ليضمد به الجراح، إنه موقف
ربعي ، ذكرت الموقف كثيراً لكننا في أَمَسِّ الحاجة إلى ذكره الآن؛ لنقف على أمة الجسد الواحد، وبما كانت تمتلكه من عزة ومكانة وكرامة.
ربعي بن عامر جندي متواضع في الجيش المسلم، يرسل به قائد القادسية
سعد بن أبي وقاص إلى قائد الجيوش الكسروية الجرارة
رستم ، ويدخل
ربعي بثيابه المتواضعة، ويقف بين يدي
رستم دون وقوف مع جزئيات الموقف والحدث، ليقول له
رستم : من أنتم؟
فيقول
ربعي الذي عرف الغاية، وفهم الوظيفة التي من أجلها ابتعث: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَوْرِ الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قبل منا قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن حال بيننا وبين دعوة الناس لدين الله قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله.
قال
رستم : وما موعود الله؟
قال
ربعي : الجنة لمن مات منا، والنصر لمن بقي من إخواننا.
قال
رستم : سمعت مقالتك، فهل لكم أن تؤجلونا لننظر في أمرنا، ولتنظروا في أمركم؟
قال
ربعي : لقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم ألاَّ نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث ليال فانظر في أمرك وأمرهم، واختر لنفسك ولهم واحدة من ثلاث. يا لها من عزة وكرامة!.
قال
رستم : ما هي؟
قال
ربعي : الأولى: الإسلام ونرجع عنك -هذه هي الغاية أن تسلموا لله جل وعلا.
قال
رستم : وما الثانية ؟
قال: الجزية، وإن احتجت إلى نصرتنا نصرناك.
الجزية التي ما زالت الأمة تدفع فاتورتها الآن كاملة غير منقوصة، ومن أغرب ما قرأت في اليومين الماضيين أن تقريراً أمنيّاً وضعه التقرير الأمريكي عرض على (
بوش )، هذا التقرير الأمني يطالب العرب والمسلمين بتسديد نفقات الحرب الأمريكية على أفغانستان، هل تعلمون تكلفة اليوم الواحد؟ تتكلف أمريكا في حربها في أفغانستان في اليوم الواحد ما يزيد على مائة مليون دولار، وليدفع العرب وليحيا العرب، وليبارك الله في بترول العرب، وفي أموال العرب، فليدفع العرب أذلاء، ينفق في اليوم مائة مليون دولار، فالصاروخ تزيد قيمته على مليوني دولار، والقنبلة الانشطارية التي تسقط الآن على أرض أفغانستان تزيد تكلفتها على نصف مليون دولار، ويطالب التقرير الأمني (
بوش) أن يكلف العرب بتسديد هذه الفاتورة، بدعوى أنها حرب ضد الإرهاب، والعالم العربي كله بحاجة إلى القضاء على الإرهاب، حسبنا الله ونعم الوكيل!!
كل الكلمات ورب الكعبة أراها تنسحب من بين يدي، بأي لغة أعلق؟! وبأي كلام أدلل على مثل هذا الكلام الخطير؟! فالجزية اليوم تدفعها الأمة، و
ربعي يقول لـ
رستم : الجزية، وإن احتجت إلى نصرتنا نصرناك.
قال
رستم : وما الثالثة؟
قال
ربعي : القتال، ولن نبدأك بقتال فيما بين اليوم وبين اليوم الثالث إلا إن بدأتنا أنت.
فقال له
رستم : عرفتك، أسيدهم أنت؟ أي: هل أنت القائد؟
قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد، يسعى بذمتهم أدناهم على أعلاهم.
هذه أمة الجسد الواحد التي حققت قول المربي والمعلم صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين من حديث
النعمان : (
مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
هذه أمة الجسد الواحد التي حققت قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين من حديث
أبي موسى الأشعري : (
المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه).
هذه أمة الجسد الواحد التي استحقت أن تُخَاطَبَ من الله جل وعلا بقوله:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].
استحقت هذه الأمة أن تُخَاطَبَ من الله جل وعلا بقوله:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
استحقت هذه الأمة أن تُخَاطَبَ من الله بقوله:
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ولو كان المراد بالآية هم الأنبياء، فالخطاب لأمة سيد الأنبياء، وإمام الأصفياء محمد صلى الله عليه وسلم.
ظلت هذه الأمة عزيزة تَرْفُلُ في ثوب العز والكرامة حتى جيء بتاج كسرى ليوضع في حجر
عمر بن الخطاب وهو في مدينة رسول الله، نعم يؤتى بتاج كسرى ليوضع بين يدي الفاروق!
وقيصر تفتَّتَتْ إمبراطوريته، وكسرى يمزق ملكه، وتنتشر وتعلو راية الإسلام على ثلثي الكرة الأرضية في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، ارتفعت راية الإسلام في قلب الصين .. في قلب فرنسا .. في إيطاليا .. في أقصى الحدود المغربية، ارتفعت راية التوحيد في قلب أوروبا على أيدي هؤلاء الأبطال الفاتحين الذين عرفوا الغاية التي من أجلها خلقوا، والوظيفة التي من أجلها ابتعثوا.
ثم راحت الأمة تتخلى شيئاً فشيئاً عن ثوب عزها بانحرافها عن أصل عزها، عن قرآن ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، راحت الأمة تبتعد يوماً بعد يوم، حتى وقع ما لم يكن يخطر أَلبَتَّةَ لأحد على بال، حين تركت الأمة شريعة الكبير المُتعَاَلِ، وحكمت الأمة قوانين أخبث الرجال في السياسة .. في الاقتصاد .. في الإعلام .. في التعليم .. في كل مناحي الحياة.
ابحث عن شريعة الله وشريعة رسول الله في الأمة لقد ضاعت! بل رأينا من أبناء الأمة من يعلنها صريحة بلا خجل أو وجل: إن الشريعة الإسلامية لم تعد صالحة لمدنية القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، بل يجب على الأمة إن أرادت التقدم والانطلاق أن تحاكي الغرب، وأن تُحَكِّمَ قوانينه ولو اصطدمت مع شريعة الله ورسوله! فاستبدلت الأمة بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً، وظنت الأمة أنها قد ركبت قوارب النجاة فغرقت وأغرقت وهلكت، وضلت وأضلت، وصارت الأمة الآن ذليلة لأذل أهل الأرض؛ لمن كتب الله عليهم الذُّلَّ والذِّلَّةَ من إخوان القردة والخنازير، وللصليبيين الحاقدين، وَلعِبُادِ البقر، حتى للملحدين في روسيا.
وهذا هو عنصرنا الثاني: أمة غثاء: