أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة القصص المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، قال تعالى: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:25-28].
وقد سبق أن بينا بالأمس أن موسى عليه السلام لما توجه إلى ربه قال: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24]، واستجاب الله دعاءه فجاءت ابنة شعيب عليه السلام تدعوه لأبيها، إذ قالت: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]، ومشى معها، وكانت تلك اللطيفة وهي: لما عبثت الريح بخمارها وانكشف بعضها قال لها: امشي ورائي ودليني على الطريق بحصى ترمينها أمامي، وكان كما قال تعالى من شأن هذه الفتاة: تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25]، وقال عمر: إنها ليست سلفعاً، لا ولاجه ولا خراجة، ونبهنا وبلغنا أنه لا يحل للمرأة أن تظل خارجة من بيت داخلة آخر، إذ هذا من المذموم الذي لا ينبغي، والولاجة هي كثيرة الولوج، والخراجة هي كثيرة الخروج، فتخرج وتعود من بيت إلى بيت، أو من سوق إلى سوق، أو من دكان إلى دكان، فهذا الوصف والله ذميم، ولا ينبغي للمؤمنة الربانية وأمة الله الصالحة أن تخرج عن هذا النظام الإلهي، بل لا تخرج من بيتها إلا لضرورة تستدعي خروجها.
ثم وصل موسى إلى نبي الله شعيب وقص عليه القصص فقال: إني كنت في حجر أو في قصر الملك فرعون، وشاء الله عز وجل أن أجد قبطياً يتشاجر مع إسرائيلي يريد أن يقتله، فهممت لأنقذه فقتلت القبطي، ثم أصبحت أتخوف من هذا الفعل الذي ارتكبته، وسألت ربي أن يغفر لي فغفر لي، ومررت في يوم من الأيام بقبطي آخر يقاتل هذا الإسرائيلي، فهممت بالإسرائيلي وقلت له: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ [القصص:18]، فما كان من القبطي إلا أن بلغ الخبر للملك فرعون، ومن ثم بعث رجاله يبحثون عني ويطلبوني في المملكة، وشاء الله عز وجل أن يسخر لي مؤمناً من مؤمني آل فرعون يأتيني ويقول لي: إن القوم يطلبونك فاخرج من هذه الديار، فخرجت ونزلت بدياركم ديار مدين، وكان الحكم في مدين للكنعانيين لا لفرعون.
وهنا قالت إحدى البنتين أو الفتاتين: يَا أَبَتِ [القصص:26]، أي: يا أبي! وحذفت الياء وعوض عنها بالتاء، اسْتَأْجِرْهُ [القصص:26]، أي: اتخذه أجيراً على الغنم يرعاها ويسقيها ويقوم بها.
وهنا مسائل فقهية واسعة طويلة وعريضة نكتفي بأن نقول: كان هذا في شرعهم، وأيام ما هم عليه من الدين الإسلامي، أما نحن فلا نستخدم الرجل مهراً لنـزوجه، وهذا الذي عليه الجمهور، والرسول صلى الله عليه وسلم أجاز الذي يحفظ سورة من القرآن أن يعلم المرأة ثلاثين آية ويكون ذلك مهراً لها، لكن لو أنك قلت للرجل: ازرع هذه الأرض للبنت، أو ابن هذه العمارة للبنت فيصح ذلك مهراً، لكن كونه يستخدمه أبوها فقط فإن الثواب لا يكون مهراً لها؛ لأنها لا بد وأن تستلم المهر، فالبنت هنا ترعى الغنم وموسى يقوم مقامها نيابة عنها، وبالتالي يصح أن يتزوجها بهذا المهر.
قال: [ وقال له شعيب: اجلس تعشَّ معنا، فقال موسى: أخاف أن يكون عوضاً عما سقيت لابنتيك ماشيتهما، وإني لمن أهل بيت لا يطلبون على عمل الخير عوضاً، فقال له شعيب: لا، ليس هذا بأجر على سقيك، وإنما عادتنا أن نقري الضيف ونطعم الطعام، فأكل ولم ير في ذلك بأساً.
وقوله تعالى: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، يروى أنها لما قالت: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، أثارت حفيظته -أي: والدها- بهذه الكلمة فسألها: كيف علمت ذلك؟ فذكرت له عن القوة في سقيه لهما، وعن الأمانة في غض بصره عن النظر إليها، فصدقها شعيب وقال لموسى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ [القصص:27]، أي: أزوجك، إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص:27]، أي: سنين، جمع: حجة وهي السنة.
وقوله: فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27]، أي: إحساناً منك وكرماً، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ [القصص:27]، بطلب العشر سنين، سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:27]، أي: الذين يوفون بعهودهم، فقال موسى رداً على كلامه: ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ [القصص:28]، أنا عليَّ أن أفي بما اشترطت عليَّ، وأنت عليك أن تفي بما اشترطت لي على نفسك، أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ [القصص:28]، الثمانية أو العشرة، قَضَيْتُ [القصص:28]، أي: وفيت وأديت، فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ [القصص:28]، أي: بطلب الزيادة على الثمانية ولا على العشرة ]، أي: ما تعتدي علي وتطلب زيادة على هذا العهد المعهود.
قال: [ فقال شعيب: نعم، وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:28]، فأشهد الله تعالى على صحة العقد، وبذلك أصبح موسى زوجاً لابنة شعيب التي عيّنها له -من الفتاتين- والغالب أنها الكبرى التي شهدت له بالأمانة والقوة ]؛ لأنه بعث إليه واحدة فقط، فالغالب أن تكون الكبيرة.
قال: [ ثانياً: بيان أن الكفاءة شرط في العمل ]، بيان أن الكفاءة شرط في العمل، فلا نستعمل عاملاً إلا إذا كان ذا كفاءة وقدرة على العمل، وكان ذا علم، وكان ذا مروءة، قال: [ ولا أفضل من القوة وهي القدرة البدنية والعلمية والأمانة ]، فيا من يريد أن يستخدم أو يستأجر إنساناً في الزراعة أو في الفلاحة أو في الصناعة أو في أي شيء فينبغي أن يكون قادراً على ذلك العمل، وأن يكون أميناً فيه، وأخذنا هذا كله من قوله تعالى: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26].
قال: [ ثالثاً: مشروعية عرض الرجل ابنته على من يرى صدقه وأمانته ليزوجه بها ]، مشروعية وجواز عرض الرجل ابنته أو أخته على من يريد أن يتزوج بها، فهذا عمر عرض حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا شائع إلى اليوم، إذ إنك ترى الرجل صالحاً فتعرض عليه ابنتك أو أختك، وهذا شعيب قد عرض ابنته على موسى عليه السلام.
قال: [ رابعاً: مشروعية إشهاد الله تعالى على العقود بمثل: وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:28] ]، أي: مشروعية إشهاد الله تعالى على العقود كلها لا عقد النكاح فقط، وذلك بمثل: والله على ما نقول وكيل، وهذا اقتداءً بنبي الله شعيب عليه السلام.
قال: [ خامساً: فضيلة موسى عليه السلام بإيجار نفسه على شبع بطنه وإحصان فرجه ]، فضيلة موسى عليه السلام تتجلى في أنه من أجل أن يشبع بطنه ويصون فرجه رعى غنماً عشر سنوات، ولو كان يطلب الفساد أو الشر ما رعى غنماً، وإنما يبقى يأكل من الناس وينكح نساءهم، لكن تحصيناً لفرجه وسداً لحاجته رضي بأن يُستأجر الثمان السنوات لرعي الغنم، وهذا في حد ذاته كمال، والرسول كما بينا بالأمس يقول: ( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أحصن للفرج وأغض للبصر، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )، فهذه توجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر