أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.
وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل:63-66].
وقد كان العرب يحلفون بآلهتهم، يقول: واللات والعزى. ولما جاء الإسلام ودخلوا فيه بقي بعض الأفراد يجري على ألسنتهم الحلف بغير الله يقول: واللات. فأرشدهم الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى ما يقوم هذا الاعوجاج، فقال: ( من قال: واللات فليقل: لا إله إلا الله ) ليكفر السيئة بالحسنة، الحسنة لا إله إلا الله والسيئة الحلف بغير الله.
فإذا جرى على لسانك وقلت: والنبي أو والكعبة أو ورأسي أو وعزة فلان، فهذه والله سيئة تسيء إلى النفس البشرية وتخبثها، وتحتاج إلى مادة أخرى تطهرها وتغسلها وتنظفها، ولذا أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كلمة (لا إله إلا الله)، فإنها تمحو أثر تلك السيئة.
معاشر المستمعين والمستمعات! لقد شاع بين المسلمين قرونا عديدة الحلف بغير الله، فكانوا يحلفون بالأولياء، بالقباب والقبور، يحلفون بالرأس والحياة، يحلفون بالطعام فيقولون: والطعام الذي بيننا! ما تركوا شيئاً إلا حلفوا به، فما علة ذلك؟ إنه البعد عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد بعدوا عن مصدر العلم والمعرفة فكيف يعرفون؟ حتى إنك تجد القرية يمضي عليها مائة سنة ما يجتمع أهلها على آية يتدارسونها.
فكيف يعلمون والشياطين متهيئة للإفساد والإضلال؟ فمن ثم شاع الحلف بغير الله وأصبح عادياً، وأزيدكم برهنة وتدليلاً وهو أن بعض القضاة في العالم الإسلامي أيام الهبوط والسقوط كان إذا قضى بين اثنين باليمين يقول: خذه إلى سيدي فلان يحلف لك عنده! وإن لمته يعتذر فيقول: هذا يحلف بالله مليون مرة ويأكل أموال الناس، لكن إذا قلنا: احلف بسيدي فلان يخاف وترتعد فرائصه، فنحن مضطرون إلى أن نحلفه بغير الله، وهذا والله ما هو بعذر.
لقد وقف صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: ( ألا ) انتبهوا! ( ألا إن الله ورسوله ينهيانكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، ما عندنا إلا (الله)، لا إله إلا الله.
بعض أهل العلم يقولون: حلف الله بالشمس وضحاها بمعنى: ورب الشمس وضحاها. والقول الأول هو الصحيح، وهو أنه تعالى يحلف لنا بمخلوقاته إذ هو خالقها وربها من أجل أن تسكن نفوسنا وتطمئن قلوبنا إلى ما يخبرنا به. وهنا أخبر بماذا؟ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ [النحل:63] يحلف للرسول صلى الله عليه وسلم لتطمئن نفسه ويذهب ذاك العناء الذي يعانيه من تكذيب المكذبين وكفر الكافرين ورد دعوته والصد عنه والصرف.
بالأمس قلت لكم: إن الشياطين يريدون أن لا يدخل أحد الجنة أبداً من بني آدم، لماذا؟ لأنهم دخلوا النار بسبب آدم، قال الشيطان: كيف تدخلون الجنة وأنا أدخل النار، فحلف بالله: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، فلهذا ما يسمح لأحد أن يستقيم إلا إذا قهره وجاهده؛ لأنه ما يريد أن يدخل أحد الجنة أبداً.
إذاً قوله: فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [النحل:63] أي: الفاسدة من الشرك والكفر والكذب والخيانة وكل الأمور الفاسدة، حسنها وزينها لينغمسوا فيها ويقولوها ويعتقدوها، وهذا هو الذي حصل.
قال تعالى من سورة إبراهيم المكية: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22] سبحان الله! لو أعطيت المليارات أتستطيع أن تأتي بخطبة يخطبها إبليس في النار؟ من يستطيع أن يأتي بهذا؟
لو تجتمع البشرية كلها أتستطيع؟ الحمد لله أن رزقنا الله كتابه وبعث فينا رسوله وهدانا إلى ما فيه إكمالنا وإسعادنا، الحمد لله، خطبة إبليس مسجلة في القرآن، على سرادق من نار يخطب ليذل أهل النار ويخزيهم: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ [إبراهيم:22] تستصرخون أو تسكتون وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22] أيضاً.
إذاً فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ [النحل:63]، اليوم يحسن لهم الباطل ويزين لهم الخبث ويحملهم على الشرك والردة والكفر، هذا جهده.
هكذا يقول تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ [النحل:63] يا رسولنا يا محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا تقرير لنبوته ورسالته، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [النحل:63]الكريهة القبيحة السيئة من الشرك والكفر والمعاصي فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:63]، ولهم عذاب أليم يوم القيامة يوم يدخلون جهنم ويستقرون في النار، فهناك لهم عذاب أليم شديد الإيلام والوجع.
هذا خبر عظيم، من أخبرنا بهذا؟ الله جل جلاله، فلهذا ما نستطيع أن نكفر أبداً، أهل القرآن ما يكفرون وما يقوون على أن يكفروا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:100-101]، هذه الآية يمكن أننا قرأناها -والحمد لله- آلاف المرات في هذا المسجد النبوي، ونقول: إن أبناءنا الذين نبعث بهم إلى روسيا وإلى فرنسا وأمريكا وبريطانيا والصين يتعلمون فيجلسون بين يدي أساتذة ليعلموهم قد لا يسلمون أبداً من السقوط.
نبعث شبيبة ناضجة فيجلسون أمام المدرسين أربع سنوات وهم يقررون لهم المسائل العلمية الصناعية، ومن وقت إلى وقت يلدغونهم كالعقرب بكلمة تمس العقيدة وتبطل الإيمان، فقد رجع أكثر من درس في الخارج هابطًا بإيمان صوري فقط، بل يسخر أحياناً ويضحك من المؤمنين.
والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:100] لبيك اللهم لبيك إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا [آل عمران:100] وهم الأساتذة والمعلمين، فريق خاص ما هو من عوام النصارى والكفار فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100] أي: اليهود والنصارى يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100].
أليس هذا كلام الله؟ أليس هذا إخبار الله؟ أيشك في كلام الله؟ وقد شاهدنا من درسوا في الخارج ونزلوا بلادنا -أرض المسلمين- يسخرون من المصلين ومن أصحاب اللحى ويستهزئون بهم.
ثم قال تعالى -وهذه هي المناعة والوقاية-: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، من أين يأتيكم الكفر؟
فلهذا طالبت المسئولين في العالم الإسلامي في رسالة وقلت: ينبغي إذا انتدبنا عشرة أو مائة من شبابنا إلى الخارج أن نبعث معهم عالماً ربانياً ورقيباً حفيظاً عليماً، ثم نعطيهم سكنًا يسكنون فيه مع بعضهم، فيدرسون في الصباح والمساء ويعودون إلى المركز الإسلامي لتلقي الحكمة والمعرفة والمحافظة على عقائدهم ودينهم.
أما أن نبعث بهم هكذا فأقل ما يقع الفجور، ثم يعودون فكيف يحكمون البلاد؟ كيف يربون؟ كيف يستقيمون؟
من أين أخذنا هذا؟ من قول الله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] من أين يأتي الكفر؟ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101].
فلذلك لو أننا أنشأنا مركزاً في بريطانيا أو فرنسا مثلاً يجتمع فيه طلبة بلدنا، في الليل يجلسون مع بعضهم وينامون ويتعلمون أمور دينهم ويعبدون الله، وفي النهار يتعلمون من الكفار المسائل الدنيوية فإنهم يسلمون وما يتسرب إليهم أبداً الباطل والشر، أما أن نهملهم ونتركهم فأقل ما يأتون أن يكونوا فجرة إلا من رحم الله.
وهكذا يقول تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:63] غداً يوم القيامة.
وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل:64] ما أنزل الله كتابه الذي حوى كل الشرائع والقوانين والأشياء المتطلبة في الحياة كاملة إلا من أجل أن يبين للناس الذي اختلفوا فيه وهو التوحيد، هذا مشرك وهذا كافر وهذا موحد، من يبين هذا الخلاف؟ القرآن يبين هذا.
إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل:64] من الحق والباطل والشرك والكفر والإيمان والتوحيد.
ثانياً: وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل:64]، فالكفار المشركون الهابطون الجهلاء القرآن يبين لهم الحق، يبين لهم الطريق، يبين لهم سبيل نجاتهم، يبين كيف يسلمون من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وأما المؤمنون فالقرآن هدى ورحمة لهم، عليه يهتدون إلى طريق الجنة ويصلون إلى السعادة والكمال في الحياتين في الدنيا والآخرة.
في غزو بلاد الروم على عهد عمر رضي الله عنه انتهت المعركة وسقط فيها من سقط من الجرحى، فمر أحدهم بجريح يقول: آه آه. يشكو الظمأ، فجاءه بماء فسمع ذاك الجريح جريحاً آخر يقول: آه. فقال: أعطه له، ومات هو، ولما تقدم للثاني ليعطيه سمع آخر يقول: آه. فقال: أعطه، ودار على نحو من عشرين واحداً ماتوا عن آخرهم كل واحد يفضل الثاني على نفسه، فالرحمة تتجلى إذا تحقق العمل بالقرآن وساد الأمة فصعدت وطهرت، بهذا تكون الرحمة فوق ما تتصور.
إذاً: حولوه عنهم بأن قالوا: لا تجتمعوا على تفسير القرآن، فإن صوابه خطأ وخطؤه كفر، عرفتم هذه؟ لا يجتمع اثنان على كتاب الله فضلاً عن جماعة، لماذا؟ لأن تفسير القرآن صوابه خطأ، وإذا أخطأت كفرت، فصرفوا أمة الإسلام عن القرآن.
زوروا القرى والمدن في العالم الإسلامي هل تجدون حلقة كهذه يفسرون كتاب الله؟ أبداً؛ لأن الكتاب هداية ورحمة ونور وحياة، عرف العدو هذا فحوَّل القرآن إلى الموتى من إندونيسيا إلى موريتانيا غرباً، القرآن يقرأ في جماعة على الميت فقط، فإذا كانوا من أهل السنة فكل واحد في يده مصحف يقرأ، وإذا كانوا من أهل البدع يقرءون بصوت واحد على أن ينقذوا الميت من النار بالقراءة فوقه.
والشاهد عندنا في قول ربنا جل ذكره في القرآن: وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل:64] أم يكفرون؟ لا، الهداية والرحمة في القرآن لمن؟ نصيب من؟ نصيب المؤمنين الصادقين في إيمانهم العالمين بربهم العارفين بشرعه، هؤلاء يكون القرآن لهم هدى ورحمة.
أضف إلى ذلك: الإجرام والتلصص، والله لقد كانوا يأخذون باب المنزل ويبيعونه في السوق، وإن تكلمت يقتلك في المدينة، يأخذ بابك من بيتك ويبيعه ولا تقدر أن تقول: كيف هذا؟
ظلم وعبث وشرك وباطل والله ما يقدر على إزالته إلا الله، فلو كان التغيير بالحديد والنار لما نفع، لكن عبد العزيز تغمده الله برحمته ماذا فعل؟ فعل الدعوة التي نرددها طول العام وهي: أن على أهل القرية وجوباً أن يجتمعوا في بيت ربهم كل يوم لتلقي الكتاب والحكمة.
وبعث بذلك إلى القرى والأرياف، حتى إن الإمام كان يخرج ورقة ويقرأ أسماء المصلين: إبراهيم عثمان صالح سعيد، إذا قالوا: سعيد غير موجود يبعث رجاله: لم تخلف عن صلاة الصبح؟ ويؤدب، ومن ثم ساد العلم وانتهت الشركيات والخرافات والضلالات، وسادت الرحمة وأصبح الرجل من الرياض إلى المدينة يمشي وحده لا يخاف إلا الله.
تحقق هذا أم لا؟ والله لقد تحقق كما تسمعون، سببه ماذا؟ القرآن، طبقوا شرع الله فانتشرت بينهم الرحمة والهداية فاهتدوا وتراحموا، وما يزال القرآن هكذا، ولو طبق في الصين وفي روسيا، لو طبق في أعظم بلد كفر فوالله لن تمضي عليهم خمس وعشرون سنة -ربع قرن- إلا وهم كالملائكة طهرًا وصفاءً وكمالاً وجمالاً.
وكذلك لو طبق في قرية، فلو أن عالماً ربانياً فقط يجلس في قرية ويمدون أيديهم إليه ويستجيبون لدعوته فيعلمهم الكتاب والحكمة، فلن يمضي عليهم أربع وعشرون سنة أو خمس وعشرون وبينهم لص ولا مجرم ولا خائن ولا مشرك ولا خرافي ولا كذاب ولا مبتدع أبداً.
وهذا الذي أخبر تعالى به فقال: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل:64] لقوم يؤمنون أو يكفرون؟ يؤمنون، يتجدد إيمانهم في كل لحظة، الإيمان كالطاقة دائماً يتجدد.
ها هو ذا مثل حي: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [النحل:65] أي: من السحاب ماء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [النحل:65]، بعدما ماتت أشجارها وعشبها وكل ما فيها يبس ينزل ماء من السماء فتمضي أربعون يومًا والبلاد كلها خضراء.
وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بعدما تتحلل الحياة كلها وتتفكك الجبال والسماوات والنجوم كما قال تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ [الانفطار:1-3]، تصبح الأرض عبارة عن قرص أبيض نظيف، فينزل الله من السماء ماء كمني الرجال فننبت -والله- في تلك الأرض العظيمة الجديدة كما ينبت البقل والخردل والثوم والبصل، وحين تكتمل أجسامنا ينفخ إسرافيل نفخة البعث لأرواحنا فتدخل كل روح في جسدها والله ما تخطئه أبداً، وإذا بنا قيام ننظر، فهل هذا فيه رد على المكذبين بالبعث الآخر أم لا؟
وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [النحل:65] ويستجيبون، أما الصم البكم العمي فكيف يستجيبون؟
هذا الخبر الإلهي لو عقله متعقل فوالله لا يكذب بالبعث الآخر أبداً ولا ينكره؛ لأن الذي أوجدنا اليوم يوجدنا غداً، وفي كل مائة سنة جيل يذهب وجيل يأتي، فكيف ننكر البعث؟ والله ما كذبوا بالبعث اليوم وبعد اليوم وأمس وقبل أمس إلا من أجل أن يبقوا على كفرهم وشركهم وباطلهم وفسادهم، لأن نفوسهم ضاقت: كيف يؤمنون بالدار الآخرة؟
وهم في دار ما أوجدتها أمهاتهم ولا آباؤهم، أوجدها الله، فلم لا يوجد دارًا أخرى؟ كيف لا يوجد دارًا أخرى؟ وقد أخبر أنه أوجدها، ولكن محافظة أصحاب الربا على الربا، وأصحاب الزنا على الزنا، وأصحاب الشرك على الشرك، وأصحاب الظلم على الظلم تجعلهم ينفون البعث والدار الآخرة؛ لأنه إذا آمن باليوم الآخر ينهار وما يستطيع أن يقول كلمة سوء أو يتقدم خطوة إلى باطل أو شر، لكن الشيطان زين لهم الكفر بيوم القيامة.
هكذا يقول تعالى جل جلاله وعظم سلطانه: وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [النحل:65] أي: من ماء من السحاب فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [النحل:65].
إذاً: من الناس من يسمع ومنهم من لا يسمع، نعم، أهل الحق والمعرفة يسمعون ويستجيبون، والصم والبكم أرباب الدنيا وشهواتها لا يسمعون أبدًا.
العبرة ما هي؟ في الأنعام (نُسقيكم) و(نَسقيكم) قراءتان سبعيتان، نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ [النحل:66] وهو: الزبل مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ [النحل:66] الدم الذي يدور في الكبد وتحوله، والفرث الذي في الكرش مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل:66].
هذه أعظم آية؛ كيف يتحول الشعير أو التمر أو العشب إلى أن يصبح لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، وكيف يتحول من بين الفرث والدم، مع أن اللبن غذاء الأطفال لعامين، ومع أن اللبن يغني عن الماء للعطشان وعن الطعام للجوعان، ولا يوجد شيء يغني عن الطعام والشراب إلا اللبن فقط، عطشان أعطه اللبن يرتوي، جوعان أعطه اللبن يشبع، ولهذا كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول إذا جاء الطعام: اللهم بارك لنا في طعامنا هذا وزدنا خيراً منه، وإذا جاء اللبن: اللهم بارك لنا في طعامنا هذا وزدنا منه. يجيء خبز، لحم، شعير.. فيقول: اللهم بارك لنا في طعامنا هذا وزدنا خيراً منه، فإن جاء اللبن قال: اللهم بارك لنا في طعامنا هذا وزدنا منه. ما هناك خير منه أبداً، والله لا خير من اللبن.
دعوة من ورائها دعوة: وزدنا منه، فإذا زادنا فمعناه: أن السماء أمطرت والأرض أنبتت والأنعام عاشت وحلبت، سبحان الله!
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ [النحل:66] أي: هذا الجنس من المخلوقات مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ [النحل:66].
والذي عليه الجمهور: أن المني طاهر، والدليل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن عائشة كانت تفركه فركاً لما ييبس في ثوب الرسول صلى الله عليه وسلم، والتحفظ منه أحسن، لكن لو صليت بثوب فيه مني فصلاتك صحيحة، ما هو بنجس؛ لأنه أصل حياتك، وليس شرطاً أنه يتصل بالبول أو يتلطخ به أبداً؛ لأنه ينفتح له منفذ يخرج منه.
هذا معنى قوله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ يا عباد الله! أيها المكذبون بالبعث الآخر والدار الآخرة! وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً [النحل:66] من أعظم العبر نُسْقِيكُمْ نحن، أي: الجبار جل جلاله مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل:66].
ويروى أيضاً أن جبريل لما عرج بالرسول وسرى به إلى بيت المقدس جاءه بإناء فيه لبن وإناء فيه خمر، وقال: اشرب، فاختار اللبن ولم يختر الخمر، فقال جبريل: لو اخترت الخمر لغوت أمتك، ولكنك أصبت الفطرة اللبن.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر