اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:99-102].
يذكر الله سبحانه وتعالى قصة الذبيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في هذه الآيات من سورة الصافات، قال عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذلك بعد أنْ كسر أصنام القوم، وبعد ما أرادوا إحراقه عليه الصلاة والسلام، فنجاه الله عز وجل من النار، وكان مولد إبراهيم في العراق في بلدة اسمها (أور) في جنوب العراق، وكان قومه يعبدون الأصنام وكان أبوه يصنع هذه الأصنام لقومه، فإبراهيم هداه الله سبحانه وتعالى إلى الحق، ودعا أباه فرفض أبوه أن يتابعه، ودعا قومه إلى عبادة الله سبحانه فأبوا، فلما خرجوا إلى عيد لهم قال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ [الأنبياء:57] يعني: هذه الأصنام، فسار لها وكسرها وترك كبيرها وقال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63].
خرج إبراهيم من بلدته، وخرج معه في هذه الرحلة لوط ابن أخيه، وهو المؤمن الوحيد الذي آمن به، وكان معه امرأته سارة وهي المؤمنة الوحيدة من النساء، وذكروا أن ممن خرج معه أيضاً فاران أخو أبي لوط، وزوجة فاران هي أم لوط، وكانا كافرين ولم يكونا مسلمين، وذكروا أيضاً ممن خرج مع إبراهيم أبوه آزر وكان كافراً، وكأنه خاف على إبراهيم فخرج معه ليس مهاجراً إلى الله، ولكن خوفاً على ابنه، فخرج معه وتوجه إلى حران، وهنالك مات أبوه آزر في حران، ووجد إبراهيم أهل هذه البلدة كفاراً يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه وتعالى.
خرج من عند قوم يعبدون الأصنام إلى قوم يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه، فناظرهم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال الله عز وجل في سورة الأنعام: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:76-78] أي: مما تعبدون من دون الله، وهنا وجه إبراهيم وجهه لله سبحانه، كما وجه وجهه لله من قبل مع قومه عباد الأصنام حين ناظرهم، وناظر الملك النمرود ، وكان يدعي الربوبية والألوهية وغلبه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهاجر إلى أقصى الشام وناظر عباد الكواكب من دون الله فأبهتهم وغلبهم، ثم بعد ذلك تركهم وانصرف إلى بلاد الشام، في رحلة طويلة جداً من تركيا حتى وصل إلى فلسطين ثمَّ الأردن، وهناك في الأردن ذهب لوط عليه الصلاة والسلام إلى عمور وسدوم يدعو إلى الله سبحانه وتعالى بأمر الله، فكان نبياً من أنبياء الله، وهو ابن أخي إبراهيم، وتوجه إلى هذه البلدة بأمر الله سبحانه.
وقوله تعالى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، قال ذلك وهو في جنوب العراق لما ترك قومه عباد الأصنام، بعد محنة النار، وتوجه إلى الشمال.
هذه فتنة أخرى ومحنة أخرى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد هذا العمر المجيد الطويل في الدعوة إلى الله سبحانه، يولد له هذا الولد، وبعدما جاوز إبراهيم الثمانين من عمره عليه الصلاة والسلام، وفوق ذلك يأتيه هذا الغلام الحليم، والذي لم يكن معه في بلده، فإنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام مجرد أن ولد له إسماعيل إذا بـهاجر تعلو بنفسها على سيدتها سارة، فتغيضت منها سارة ولم تطق بوجودها، فأمرت إبراهيم أن يغيبها، وتحلف بالله أن تقطع منها أعضاء، فإذا بالله سبحانه تبارك وتعالى يجعل لها ما تبر به عن يمينها، بأن تثقب أذنها، وتختنها فكانت سنة، ثم أمر إبراهيم أن يأخذها ويذهب بها إلى مكة.
فكان عندها الثقة بالله عز وجل، وأن الله طالما أمر إبراهيم بذلك فإن الله لن يضيعها هي وابنها، وتركها، فلما توارى عنها وراء ثنية، أي: أكمة مرتفعة دعا ربه سبحانه، وأظهر حزنه، وأظهر الشفقة التي كان يخفيها عن هاجر وعن ابنها، قال تعالى عنه: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، فيدعو ربه سبحانه ويستجيب الله سبحانه وتعالى له، فيأتي إلى هذا المكان وفد من جرهم ويقيمون في هذا المكان.
والغرض أن الله سبحانه وتعالى إذا قطع عن إبراهيم شيئاً، فالله عز وجل يصله دائماً، ويتعرض إسماعيل للبلاء في هذا المكان وأمه كذلك، فالأم ترى ابنها يكاد يموت أمامها، ولا لبن في ثديها ولا طعام، وتذهب من جبل الصفا إلى جبل المروة ذاهبة آتية، وتدعو ربها سبحانه حتى يظهر لها جبريل عليه السلام ويبحث بعقبه في الأرض، فتخرج زمزم العين المعين، التي تكون للخلق جميعهم إلى يوم الدين، نعمة من الله سبحانه وتعالى وشفاء سقيم، وطعام جائع، فمن شرب من زمزم وسأل الله عز وجل فالله يعطيه بفضله وبكرمه سبحانه.
ويشب إسماعيل ويأتي أبوه إليه، ويأخذه ويتوجه به إلى مكان ويقول: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102]، وهو ما زال غلاماً، والغلام: الشاب الصغير، في هذا الوقت يأتيه أبوه ويقول: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ [الصافات:102] أي: رؤيا منامية، أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]، وكأنه يشاوره، وإن كان في الحقيقة أنَّ إبراهيم سينفذ أمر الله سبحانه، ولكن يريد أن يطيب خاطر ابنه ويطيب قلبه لهذا الشيء، وكأنه يقول: ما رأيك؟ ربي يأمرني أنني أذبحك! فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]، فإذا بولده إسماعيل يقول: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].
وقراءة حفص عن عاصم : يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ [الصافات:102]، وقراءة الجمهور: (يا بنيِّ إني أرى في المنام أني أذبحك).
وقوله تعالى: إِنِّي أَرَى [الصافات:102]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وأبي جعفر : (إِنِّيَ أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّيَ أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى).
وقوله تعالى: (ماذا ترى) قرأها الجمهور: تَرَى ، وقرأها حمزة والكسائي وخلف : (تُرِى) بالبناء للمجهول، وأيضاً بالإمالة؛ لأن قراءتهم لهذه الكلمة بالإمالة.
قال الله تعالى: قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]، فقوله تعالى: قَالَ يَا أَبَتِ [الصافات:102]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن عامر وأبو جعفر : (قَالَ يَا أَبَتَ).
قال تعالى: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، فظهر حلم إسماعيل عليه الصلاة والسلام حين قال لأبيه ذلك، ويقول: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، وهذه إشارة من الله لإبراهيم أنه بشره بغلام حليم، فالحلم من الصبر، والصبر كذلك من الحلم، فكان ما قصه الله عز وجل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر