يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
إخوتي الكرام! فما زلنا مع أهل الجاهلية الذين كانوا يعتقدون في الله غير الاعتقاد الصحيح وكانوا يتعبدون لله بعبادات لا يرضاها الله جل في علاه وأنكرها عليهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد تكلمنا عن معتقد من معتقدات أهل الجاهلية ألا وهو الطيرة، وتكملة لهذا الباب نتكلم اليوم عن العيافة التي كانت من اعتقادات أهل الجاهلية.
فالعيافة: زجر الطير والاعتقاد في أصواتها وفي أسمائها بل وفي أمكنتها فهم كانوا ينظرون إلى الطيور كالغراب والبوم ويتشاءمون بأصواتها وبأسمائها فمنهم من يعتقد أن البوم إذا وقفت على داره دنا أجله أو منهم من يستمع إلى صوت الغراب فيرى أن شؤماً أو سوءاً سيدركه لا محالة، فهذه الاعتقادات من العيافة.
وهذا يخالف التطير؛ لأن فيه حصر لمسألة الاعتقاد في الطير فقط، أما التطير فكان على العموم بالشجر والحجر والأسماء والبشر -كما بينا- فيكون هذا خصوصاً من عموم.
والعيافة مما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم وبين أنه من الشرك كما سنفصل القول في ذلك.
وبعض العلماء قال: إن الطرق هو الرمي بالحصى، والرمي بالحصى ضرب من ضروب التكهن فيأخذون الحصى فيلقونها على الأرض فتعطي أشكالاً ورسوماً معينة يستدلون بها على علوم الغيب.
مثال ذلك: أن يأتي رجل غر -لا يعرف عن دين الله شيئاً- إلى رجل يحسبه من أولياء الله الصالحين فيقول له: سأتزوج فلانة فهل حياتي معها ستكون حياة سعيدة أم لا؟ فيأتي هذا الكاهن ويخط الخط الأول ويسأله: ما اسمك؟ فيقول: زيد ، فيقول: ما اسم المرأة؟ فيقول: هند، فخط خط زيد ثم خط خط هند ثم نظر في الخطين فقال له: هذه الحياة ستكون حياة سعيدة وسيكون لك منها من الولد كذا ومن البنات كذا وتموت يوم كذا وهي تموت بعدك في يوم كذا. فهذا هو الطرق، أي أنهم يخبرون عن الغيب بالخطوط أو برمي الحصى فينظرون في تحركات الحصى فيخبرون عن الغيبيات.
ومثل هذا كان يحصل في الجاهلية التي كانت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم والتي قد يعذر أصحابها لاندراس العلم في زمنهم واندثار الشريعة وفترة الرسل حيث لم يرسل رسول في تلك الأزمنة، أما أهل هذه العصور التي انتشرت فيها العلوم والله جل في علاه نصب أهل الدين الذين يناصرون الدين فإن المرء يندهش مما يرى فيها من انتشار لمثل هذه الجاهليات التي نراها في عصورنا المتقدمة والمتحضرة في القرن الواحد والعشرين، فترى في هذه العصور ما يضاهي الجاهلية، ومن هذه الجاهليات -التي نعيش فيها والتي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فحطمها وبين أنها من الكفر بمكان- ضرب الودع، وفي مصر يسمونه: وشوشة الودع، وهو حقاً تشويش على القلب، فيأتي أحدهم ويأخذ الودع ويوشوشه، ثم يخبر بما سيحدث مقدماً، ولا تحسبن أن هذا الأمر خفي، والله الذي لا إلا هو إن هذا الأمر لمن الجلاء بمكان، بل إن في وسط الإخوة الملتزمين من يعتقد هذا الاعتقاد الخفي، فمنهم من يتلمس أحداً يخبره عما سيتاجر فيه وهل سيربح في تجارته أم لا.
ومن الاعتقادات الباطلة أيضاً قراءة الكف وهذه من أعجب الأعاجيب، فبعد أن تركوا الخطوط على الرمال جعلوها على الأكف والأيدي، فينظر أحدهم في كف المرء فيرى هذه الخطوط المتشابكة فيقول: هذا الخط خط العمر، وهذا الخط خط الزواج، وهذا الخط خط الأولاد، ثم ينبئ بما يشتهي، وهذا العبد الذي يذهب لهذا الخطاط ليخبره بأمور من الغيوب لعل الله يبتليه بصدق هذا الرجل حتى يفتنه في دينه والعياذ بالله.
وأنا هنا أذكر هذه الصور لبيان أن حاجة الأمة بل والبشرية إلى نور النبوة أشد من حاجتها للماء والهواء، وأنه بموت الرسول وموت العالم تندرس الشريعة ويتفشى الجهل وهذا الذي حدث في هذه العصور، فبعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم ومات العلماء من أمثال الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ الألباني تلك الشموس المشرقة في سماء إسلامنا، فبعد موت هؤلاء الجهابذة صارت الدنيا كلها تضطرب، وصار الناس يضرب بعضهم بعضاً في الأفكار وفي الأديان، فصار التقرب لله جل في علاه بشتى أنواعه أشواباً أو أخلاطاً؛ لأن العالم الذي تستضيء به وتستنير بعلمه لا تراه، فلما غابت شمس النبوة وقع الناس في الشرك، ثم بعث الله الرسول صلى الله عليه وسلم فأخرج الناس من الظلمات إلى النور، وبعدما مات الرسول ومات من بعده من أهل ورثه وهم العلماء تفشى الجهل وظهر في الناس ما ظهر من معتقدات فاسدة.
ومن الصور التي ضاهت الجاهلية قراءة فنجان القهوة فبعدما يشرب المرء وتبقى آثاره في الفنجان تنظر المرأة المدعية المتكهنة في الفنجان وترى الخطوط متشابكة في الفنجان وتستشعر بها أو تستلهم بهذه الخطوط ما يحدث مغيباً، فجاهلية قبل البعثة وجاهلية بعد البعثة يتقاربان وإن لم أقل يتساويان، بل لي أن أتنطع وأقول: إن جاهلية القرن الواحد والعشرين تفوقت على جاهلية ما قبل البعثة، فما حكم هذه الجاهليات التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم بنبذها وجاء النبي صلى الله عليه وسلم بقطع دابرها.
فالحكم الأول: أن الله سماه فسقاً، وهذه وضح النبي صلى الله عليه وسلم أنها من الشرك ومن الكفر، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء ليبطل هذه الجاهليات، وجاء في حديث متكلم في إسناده -والصحيح إسناده حسن لذاته- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطيرة والطرق والعيافة من الجبت)، والجبت اختلف العلماء فيه على قولين: فـعمر بن الخطاب وابن عباس ومجاهد وغيرهم من الصحابة والتابعين قالوا: الجبت هو: السحر، وفي تأويل آخر قالوا الجبت: هو الشرك ولا منافة فإن السحر من الشرك كما قال الله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ [البقرة:102]، وفي هذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحديث على سبيل الزجر والردع لهؤلاء هدماً للجاهليات وكأنه يقول: عليكم أن تنفروا من هذه الاعتقادات وتبطلوها.
إذاً: الطرق والكهانة يتفقان ويفترقان، فيتفقان في الإخبار بمغيب، ويفترقان في السبيل الذي يخبر بالمغيب وهذا السبيل هو الذي يجعلنا نفرق بين الحكم الأول والحكم الثاني، والطرق إخبار بمغيب، والغيب غيبان: غيب مطلق وغيب نسبي، ولكل حكم.
أما الغيب النسبي فهو: الغيب الذي يغيب عني وعنك ولا يغيب عن الثالث والرابع ومثال ذلك: عندي مال سُرِقَ مني وأنا لا أعرف السارق، ورجل وقف ينظر إلى الواقعة التي وقعت فعلم السارق وعلم مكان السرقة فأصبح هذا بالنسبة لي غيباً أما بالنسبة للذي رأى السارق شهادة وليس بغيب.
ومثال آخر: هناك مسجد في الشارقة يقام فيه درس آخر لا نعرف عنه شيئاً فما يحدث هناك هو بالنسبة لنا غيب، أما بالنسبة لأهل ذلك المسجد فهو شهادة.
أما الغيب المطلق فهو: الغيب الذي أستأثر الله بعلمه، والذي غاب عن كل الخلق والذي لا يمكن أن يظهر لأحد، سواءً كان ملكاً أو بشراً أو حجراً أو جناً أو إنساً، فإذا خط الرجل الخط ليعرف من سرق المال بهذا الخط فيخبر المسروق بمكان السرقة أو بمكان المال فقد أخبره بأمر غائب عنه، وهو غيب نسبي، فحتى لو لم يعلمه أحد من البشر إلا أن السارق نفسه يعلمه، وكذلك الجني قرين السارق، فالذي يخط يستعين بالجن كالكاهن، فيخبره الجني الذي معه بعد أن يسأل قرين السارق فيخبره قرين السارق فيخبر الخطاط صاحب المال بهذا، فإذاً: أخبره بالغيب النسبي وحكم هذه الإخبارية أن صاحبها قد أشرك شركاً، وبعض العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية يرى جواز الاستعانة بالجن في المصالح.
وأنا أقول: إن أقل ما يوصف به هذا الحال أنه من الشرك الأصغر؛ لأنه أتخذ سبباً لم يشرعه الله وإلا فأين الدليل على أن الله جل في علاه شرع لنا الاستعانة بالجن؟ فالاستعانة عبادة، والعبادة لا تصح إلا لله جل في علاه، فأقل أحوال هذا النوع أنه من الشرك الأصغر، لكن إذا كان الحال وفق القاعدة التي قعدها العلماء من أنه لا يمكن للجني أن يمتع الإنسي إلا أن يتمتع الجني من الإنسي فهذا من الشرك الأكبر، وهذا واضح وجلي في عصورنا فترى كثيراً من الناس يربط المصحف في رجله، ومنهم من يبول على المصحف، وهذا يكون بأمر هؤلاء الجن حتى يمتعوه، بل أكثر من ذلك ترى المشعوذ الذي يقرأ على المصروع تراه يأمره بأن يذبح ديكاً لونه أحمر مختلطاً بالأصفر، أو يذبح ديكاً له رجل واحدة، أو قرداً له ثلاث أرجل، وهذه الأوامر كلها أوامر من الجني أصلاً.
أما القسم الثاني فالخلاف فيه هين وهو الإخبار بالغيب المطلق، فإذا أخبر به الكاهن فقد كفر كفراً أكبر من وجهين:
الوجه الأول: شرك في الربوبية.
والوجه الثاني: يمكن أن نقول شرك في الإلهية لكنه أيضاً في الربوبية.
ففي الوجه الأول: يكون قد أشرك في الربوبية لأنه نازع الله في صفة من صفاته ألا وهي العلم بالغيب المطلق، قال الله تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]، وهذا أسلوب حصر وهو أقوى الأساليب في الإثبات، وقول الله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27]، إلى آخر الآيات، فالغيب كله لا يعلمه إلا الله جل في علاه فمن خط الخط وأخبر بالغيبيات فقد نازع الله في صفة من صفاته.
أما في الوجه الثاني فيكون قد كفر لأنه كذّب الله ورسوله، قال الله تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122] وقال: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]، وقال: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65]، وهذا يقول: أنا أعلم مع الله، فيكون قد كذّب الله وكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله هذا، وتكذيب الله وتكذيب الرسول من الكفر بمكان.
لكن يرد عندنا إشكال هنا وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان نبي من الأنبياء يخط خطاً فيخبر بغيب فمن وافق خطه خط هذا النبي فذاك)، فكان نبي من الأنبياء يخط خطاً، إذاً: هذا طرق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: من وافق خطه خط النبي فذاك.
والجواب على هذا الإشكال: أن هذه مسألة تعجيزية، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلق على مستحيل، فبعد أن بين لهم أن الطرق من الشرك أخبرهم أن هناك نبياً كان يخبر بغيب عاملاً بقول الله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى [الجن:27] و(إلا) هنا للاستثناء، فهذا النبي الذي خط الخط قد ارتضى الله أن يعلمه شيئاً من الغيب ووسيلة معرفة هذا الغيب عن طريق الخط، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن فعل هذا النبي كان بوحي وأما أنتم فما عندكم وحي، فمن وافق خطه خط النبي ولن يوافق بحال من الأحوال -وهذا هو المحذوف المقدر هنا- لأن غير النبي يضرب الخط بشكل عشوائي بينما النبي يضربه بوحي من الله، وهذه نظيرها في الشرع قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، فعلقها الله على مستحيل، فلو دخل الجمل في خرم الإبرة فعندئذ للكافر أن يدخل الجنة، فمفهوم هذا القول أن الكافرين لن يدخلوا الجنة أبداً.
مثال آخر من الشرع وهو قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف:81]، هنا يأمر الله عز وجل نبينا أن يقول: لو كان عيسى ابن الله لكان أول من يعبده محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا تعليق بالمستحيل، ومعناها: أنه لا يوجد لله ولد، فهو سبحانه لم يلد ولم يولد، ولكن لو حدث ذلك فأنا أكون أول عابد له، وهذا أيضاً لا يمكن أن يحدث أبداً؛ لأن أشد الخلق توحيداً لله سبحانه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أمره الله جل وعلا أن يعلق على المستحيل.
إذاً: معنى الحديث: كان نبي يخط خطاً بوحي من الله وأنى لكم ذلك فعلق الأمر على مستحيل، يعني: أنه محال أن يحدث لكم ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر