الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].
ثم أما بعد:
فإن الخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه، وهو سراج في القلب به يبصر الخير والشر، وإذا دخل الخوف القلوب أحرق مواضع الشبهات منها، وطرد الدنيا عنها.
قال أبو سليمان الداراني : ما فارق الخوف قلباً إلا وخرب هذا القلب.
ولكل شيء زينة، وزينة العبادة الخوف من الله عز وجل كما قال حاتم الأصم.
ولا تغتر برؤية الصالحين، فلا أصلح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينتفع برؤيته المنافقون ولا الكافرون، ولا تغتر بطيب المكان، فذلك لا ينجيك من الله عز وجل إن لم تكن صالحاً، فلا مكان أطيب من الجنة، وفيها لقي آدم ما لقي، فآدم عليه السلام لم يسامح في لقمة، وهو صفي الله وكليمه، ودخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان ونيل فوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدما منها إلى الدنيا بذنب واحد
نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم
وتنشط فيما سوف تكره جده كذلك في الدنيا تعيش البهائم
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61].
فرار السعداء إلى الله عز وجل، وفرار الأشقياء من الله عز وجل، وكل إنسان إذا خفته تهرب منه، أما الله عز وجل فإنك إذا خفته تهرب إليه.
قال الله تبارك وتعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] قال أبو عيسى الترمذي : جنة لخوفه من ربه، وجنة لتركه لشهواته.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن).
وقال الله تبارك وتعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ [النازعات:40] أي: اطلاع الله عز وجل عليه، ورؤية الله له وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41].
عجباً لك يا ابن آدم! تحرك الريح أستار بيتك وأنت مستلق في بيتك، فيضطرب فؤادك لنظر الناس إلى عورتك، والاطلاع على ما خفي من أمرك، وأنت عالم أن الله ناظر إليك من فوق سبع سماوات، يراك مصراً على المعصية، فلا ينخلع فؤادك لنظر الله عز وجل إليك من فوق سبع سماوات.
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15].
وقال الله عز وجل عن عباده الصالحين: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [الإنسان:10].
وقال عز وجل: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].
وقال عز وجل: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:51].
وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ [الرعد:21].
فاتقوا الله عز وجل؛ فإن أخذ الله أليم شديد.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل)، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين، أي: بكاء.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر) وقال: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، ولا رأيت مثل النار نام هاربها).
وفي حديث عدي بن حاتم الطائي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
فهذه جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تبعث على الخوف والخشية والوجل والإجلال والهيبة من الله عز وجل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون كمقدار ميل) قال سليم بن عامر الراوي عن المقداد : فوالله ما أدري ما يعني بالميل، أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكحل به الجفون؟!
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يعرقون يوم القيامة، فيذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ثم يلجمهم حتى يبلغ آذانهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل) والإدلاج: السير آخر الليل.
يقول صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ظهر الربا والزنا في قرية فقد حلوا بأنفسهم عذاب الله عز وجل).
وما زلزال تركيا ببعيد، فالحكومة التركية أعطت -كما نشر في جريدة الأهرام- وسام الجمهورية من الطبقة الأولى لصاحبة أكبر مؤسسات الدعارة، قالوا: لأنها جلبت المال الوفير للاقتصاد القومي التركي، فأعطوها أعظم جائزة في الجمهورية التركية.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ، قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمر).
وأظن أن المعازف والقينات أصبحت كثيرة جداً، والله تبارك وتعالى يقول: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13] أي: ما لكم لا تخافون لله عظمة؟! وما لكم لا ترعون لله حقاً؟! وما لكم لا تقدرون الله عز وجل حق قدره؟! أأمنتم عذاب الله عز وجل؟!
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأسه بأهل الأرض، وإن كان فيهم الصالحون).
فإذا كان فيهم قوم صالحون يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يرجعون إلى رحمة الله وإلى مغفرته.
فهذا الزلزال الذي أصاب تركيا من غضب الله عز وجل، وكيف لا يغضب الله عز وجل على دولة كانت دولة الخلافة في يوم من الأيام؟! فتركيا فتحت بودابست عاصمة المجر، وبلاد البوسنة والهرسك، وفتحت بلغاريا، وهزمت فرنسا في قعر دارها، فهذه الدولة نشرت أعلام الإسلام، ثم يأتيها أتاتورك الرجل الصنم الذي أذهب القرآن، وحول مسجد آياصوفيا إلى مطعم آياصوفيا، وألغى لغة القرآن في تركيا، وأراد أن يعتدي على أخت زوجته، وأطلق عليها الرصاص لما رفضت، وحال بينه وبين ذلك خادمه، وأقام سد أتاتورك على منبع الفرات ومنبع دجلة حتى لا يصل الماء إلى سوريا أو العراق، وأغلق المدارس الدينية، ومنع المحجبات من النزول في الشوارع، فكيف لا يغضب الله عز وجل؟!
فهذا الزلزال أخذ في لحظة واحدة أربعين ألفاً إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
فلا بد من وقفة للحساب.
ويقول: والله لقد هممت أن آمر إذا أنا مت أن يطرحوني على مزبلة، وأن يضعوا الرماد على وجهي، ويقال: هذا جزاء من عصى الله. فمن رآني لم يعص ربه. وهذا خوف الصادقين.
وانظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان ربما بكى في الصلاة حتى يسمع لصوت صدره أزيز كأزيز المرجل، وكان إذا تغير الجو دخل وخرج، وعرف ذلك في وجهه، فتقول له السيدة عائشة : إن الناس إذا رأوا المطر استبشروا، فقال: (وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب من الله عز وجل؟).
يقول سيدنا أنس بن مالك: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، وإن كنا لنعدها على عهد رسول الله من الموبقات. أي: من المهلكات.
وروي أن أحد العباد كان بمكانٍ فغشي عليه، فلما أفاق سألوه: فقال: هذا مكان عصيت الله فيه يوماً من الأيام.
وسيدنا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يقول المولى عز وجل فيه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75] كان إذا ذكر ذنبه تأوه، كما كان يفعل سيدنا داود، يقول: أواه من عذاب الله، قبل أن لا تنفع أواه.
ويقول: يا رب! إني لا أستطيع حر شمسك، فكيف أستطيع حر نارك؟! يا رب! إني لا أستطيع سماع صوت رحمتك وهو الرعد، فكيف أستطيع سماع صوت غضبك؟!
فيا عباد الله! ابكوا قبل أن لا ينفع البكاء، وقبل أن تكون الدموع دماً، وقبل أن يؤمر بنا ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي بجبريل كالحلس البالي من خشية الله).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ما لي لم أر ميكائيل ضاحكاً؟! فقال: لم يضحك ميكائيل منذ خلقت النار).
فقد يعجل لك الموت قبل التوبة، والنفس قد يخرج ولا يعود، وإن العين قد تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يدي الله عز وجل.
وهناك الخوف من نقض التوبة:
أي أن تتوب إلى الله عز وجل، ثم تعود في توبتك مرة أخرى، أو أن تكون التوبة توبة علة.
ويخاف من الرياء، ومن أن يكون فعله لغير وجه الله عز وجل، ويخاف أن لا يبقى على هذا العمل إلى موته، كما قال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ [الأنعام:160] يعني: أتى بها، وصبر على فعلها إلى الموت، فهو يخشى ألا يوفق للطاعة، فهذا خوفهم وهم يعملون الصالحات، فكيف بخوف من يصرون على الموبقات والسيئات؟!
وهناك الخوف من عدم الوفاء بأمر الله عز وجل، حيث لم تقدر الله عز وجل حق قدره، ولم تف بأوامر الله عز وجل، وكان بإمكانك أن تفي بها.
أتى وفد اليمن سيدنا أبا بكر في زمن الخلافة، فلما سمعوا القرآن بكوا، فقال سيدنا أبو بكر : هكذا كنا حتى قست القلوب.
ويقول أبو بكر: يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل، يا ليتني كنت شعرة في صدر امرئ مسلم، أو في جنب امرئ مسلم.
وما كان بين إسلامهم وعتاب الله عز وجل لهم بهذه الآية إلا أربعة سنين، وكأن الله عز وجل استبطأ الصحابة فعاجلهم بهذه الآية بعد أربعة سنين فقط.
فحذار -يا أخي- من قسوة القلب، فإن القلب إذا قسا لا تنفع فيه المواعظ أبداً، وإذا حضر قلبك فأقل شيء تراه يذكرك بالله عز وجل، وإن غاب قلبك فإن مائة ألف نبي لا يوصلون إليك موعظة.
وهناك الخوف من استيلاء العادة في اتباع الشهوات، فتطل على شهواتك متبعاً لها حتى تصبح عادة لك لا تستطيع أن تفارقها، ثم بعد ذلك يكلك الله إلى حسناتك، وإن أعظم الخذلان أن يكلك الله عز وجل إلى أعمالك فيصيبك الغرور والعجب، وهو صنو الكفر.
فاقطع كل ما يقطعك عن الله، فإذا ابتليت بصاحب يقطعك عن الله عز وجل فاتركه؛ لأنه قاطع طريق إلى الله عز وجل، وقاطع طريق الآخرة أشد من اللص، فاللص يسرق جيبك، أما هذا فيسرق رأس مالك، ويسرق وقتك مع الله عز وجل.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال له أبو بكر : قد شبت يا رسول الله قبل المشيب! فيقول: (شيبتني هود وأخواتها).
والاغترار بزخرف الدنيا أن تميل إلى فتنة الدنيا، واعلم أن الدنيا إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها).
فالإنسان يخشى على نفسه من الدجال، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر للقلوب الحية -قلوب الصحابة- أمر الدجال فخافوا، حتى قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ظهر وأنا فيكم فأنا حجيجه).
فالصحابة خافوا على أنفسهم من هذه الفتنة، وهي أعظم فتنة من يوم أن خلق الله السماوات والأرض إلى قيام الساعة.
قال تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك:13] فهو يعلم السر وأخفى من السر.
فخف من الوقوف بين يدي الله عز وجل يوم تبدو السمات فوق الجباه، ويظهر المخفي.
فاتق الله تبارك وتعالى، أما تخاف من اطلاع الله عز وجل على قلبك وأنت تزخرف ظاهرك للناس؟! فإياك أن تكون ولياً لله في العلانية، عدواً له في السر، وأن تكون ولياً لله في العلانية، ولياً للشيطان في السر.
يقول سيدنا سفيان الثوري : بكينا على الذنوب زماناً، ونحن الآن نبكي على الإسلام.
ولما نزل به الموت بكى، فقالوا: لم هذا الجزع؟! قال: والله ما خوفي من الذنوب ولو بلغت ذنوبي أمثال الجبال، وإنما أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت.
وأشد من هذا خوف السابقة، فماذا سبق في علم الله لك في اللوح المحفوظ؟! وماذا كتب الله لك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؟!
كان أحد الصالحين يأتي إلى أخيه ويقول: تعال لنبكي لعلم الله فينا؟ أي: ماذا قدر علينا ربنا في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض.
ويروى أن رجلاً وعظ سفيان الثوري ، فذكر الله عز وجل حتى رق، فقال سفيان : والله إني لأحب الموت الآن. فقال: ولكني والله لا أحب الموت، فقال: لمَ؟ قال: لمعاينة الرسل. ثم قام يبكي يخط الأرض برجله.
يعني بذلك رؤية ملك الموت ولم يره من قبل، ورؤية ملائكة العذاب، أو ملائكة الرحمة.
فالسكرات شيء، ورؤية ملائكة العذاب شيء، وضرب ملائكة العذاب شيء آخر، فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [محمد:27].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه).
فخف هذا اليوم ولا تتغافل عنه، وأعد لرؤية ملك الموت، ونزولك بدار البلاء بين أقوام لا يتكلمون، وأحباء لا يتزاورون، صار عليهم الجديدان سرمداً إلى يوم يبعثون.
فيا خبر! ما أثكلك، وتحتك الدواهي، مر بعسكرهم إن كنت ماراً، وادعهم إن كنت داعياً، وانظر إلى تقارب منازلهم، وسلهم عن الأعين النظرة التي كانوا بها إلى اللذات ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة وعن الأجساد الناعمة.
سلهم عما فعلت الديدان باللحمان تحت الأكفان، سالت الأحداق عن الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وقيحاً وصديداً، واتخذت هوام الأرض وحشراتها في أبدانهم مقيلاً.
يا مغسل الوالد والولد، ويا تاركه في التراب وحده، قل لي: بأي خديك بدأ الثرى؟!
وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟! وأين ثمارك اليانعة؟!
إني سألت التراب ما فعلت بوجوه فيك مبعثره
فقال لي صيرت ريحهمو يؤذيك بعد مناظرٍ عطره
وأكلت أجساداً منعمة كان النعيم يهزها نظره
لم تبق غير جماجم عريت بيض تلوح أو أعظم نخرة
ففي يوم من الأيام سيخرج كل منا في رحلة لا يرجع منها أبداً، وسيركب كل منا مركباً لا يركب مثله أبداً، وسنوضع على شفير القبر، فماذا أعددت من النور لهذه الظلمة، وماذا أعددت من الغنى لهذا الفقر، غم الضريح، وردم الصفيح، أفلا يبكيك هذا؟!
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تفتنون في قبوركم قريباً من فتنة المسيح الدجال) يعني: سؤال الملكين عن ربك ودينك ورسولك، فهي فتنة تساوي في هولها فتنة المسيح الدجال.
قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]، فإياك أن تقول: هاه هاه لا أدري!
فإن كنت لا تدري في دار الدنيا فلن تدري غداً، فيقال لك: لا دريت ولا تليت، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، فحذار من ليلة تتمخض بنا عن يوم القيامة.
كان الوسيم بن جميل الثقفي عم قتيبة بن سعيد الشيخ الإمام إذا ذكر القبر بكى ويقول: أواه من القبر وظلمته، أواه من القبر وشدته، أواه من القبر وضيقه!
وكانت إحدى العابدات إذا أطفأت السراج يبكي زوجها، وعندما تسأله عن ذلك يقول: يذكرني هذا بظلمة القبر.
ففي القبر يفرش لك -إذا هلكت- فراش من نار، ومهاد من نار، وتنظر من طاقة إلى النار، وتعيش كهيئة المنهوش، ويضيق عليك القبر حتى تختلف أضلاعك، فنعوذ بالله من ليلة صباحها يؤدي بنا إلى عرصات القيامة.
ثم بعد ذلك الخوف من القيامة وأهوالها، وهذا أمر سنفرده مع ذكر الخائفين.
أي: كشف ما ستر من أمرك على الناس في دار الدنيا من القبائح التي لو ظهرت لكانت الذلة والهوان، فستبدو علانية أمام الناس يوم أن يقال: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، فيصيح بك الأشهاد على مرأى من الناس: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18].
ثم بعد ذلك الخوف من المقام بين يدي الله عز وجل.
كان أحد الصالحين يقول: والله ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها موقفاً بين يدي الله عز وجل.
فيد تعلق، ورجل تطيش، وإنما الصراط دحض مزلة، فكيف تقوى على المرور عليه؟!
قال تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] فنحن من الورود على يقين، ومن النجاة على حذر.
ولما نزلت هذه الآية بكى سيدنا عمر، فلما سئل عن ذلك قال: إن ربي أنزل على رسوله في كتابه آية ينبئني فيها أني وارد النار، فأنا من الورود على يقين ومن النجاة على حذر.
قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72]
ثم بعد ذلك الخوف من النار وأغلالها وأهوالها، وأنت ترى ملائكة النار ومعهم الكلاليب والخطاطيف والأغلال، والله عز وجل يقول: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة:30]، فإذا لم يرحمك أرحم الراحمين فمن سيرحمك؟!
قال الشاعر:
أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الخطايا أن يتوبا
أنا العبد الذي أضحى حزيناً على زلاته قلقاً كئيبا
أنا العبد الذي سطرت عليه صحائف لم يخف فيها الرقيبا
أنا العبد المسيء عصيت سراً فما لي الآن لا أبدي النحيبا
أنا الغدار كم عاهدت عهداً وكنت على الوفاء به كذوبا
أنا العبد المخلف عن أناسٍ حووا من كل معروف نصيبا
أنا العبد الغريق بلج بحرٍ أصيح لربما ألقى مجيبا
أنا العبد السقيم من الخطايا وجئت الآن التمس الطبيبا
أنا العبد الشريد ظلمت نفسي وقد وافيت بابكمو منيبا
أنا العبد الفقير مددت كفي إليكم فادفعوا عني الخطوبا
أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا
فواأسفا على عمرٍ تقضى ولم أكسب به إلا الذنوبا
وأحذر أن يعاجلني مماتٌ يحير هول مطلعه اللبيبا
ويا ذلاه من حشري ونشري بيومٍ يجعل الولدان شيبا
ويا خوفاه من قبح اكتسابي إذا ما أبدت الصحف العيوبا
وذلة موقفٍ وحساب عدلٍ أكون به على نفسي حسيبا
ويا خوفاه من نارٍ تلظى إذا دخلت وأقلقت القلوبا
فكادوا إذا بدت تنشق غيظاً على من كان ذماماً مريبا
فوامن مد في كسب الخطايا أما آن الأوان لأن تتوبا
وقال ثان:
إذا ما قال لي ربي أما أستتحييت تعصيني
وتخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني
فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني
وقال ثالث:
يا من تمتع بالدنيا وزينتها ولا تنام عن اللذات عيناه
أفنيت عمرك فيما لست تدركه تقول لله ماذا حين تلقاه
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر