أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.
نكمل النداء الثاني والأربعين إن شاء الله، ثم نأتي بالنداء الثالث والأربعين، ونعيد تلاوة هذا النداء الكريم؛ تبركاً وطلباً لحفظه وفهم معانيه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105].
[ الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم! ] الذي يضع هذا الكتاب عند رأسه، ويسمع إلى نداء ربه، ويحفظ نداءه، ويفهم ما طلبه منه، ويستعد لتقديمه، هذا هو القارئ الكريم. وأبشركم فقد قام البارحة أحد المؤمنين وقال: أضيفوا للثلاثة آلاف نسخة ألفين من عندنا، فأصبحت خمسة آلاف، وإن شاء الله أيام وهي سبعون ألفاً، حتى لا يقول قائل: ليس عندنا الكتاب، وضعوه في الفنادق، حتى إذا نزل النزيل في الفندق بدلاً من أن يشاهد التلفاز فيصاب بالهوى والشيطان يقرأ نداء، ويتلذذ به، وينام على نوره.
قال: [ إذ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] ] ومعنى رهينة: مرهونة، والشيء المرهون لا أحد يفكه إلا إذا جاء بما دفع له، فكل نفس بكسبها مرهونة تجزى به [ وَلا تَزِرُ [الأنعام:164]يوم القيامة وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] ] والوازرة أي: نفس تحمل وزراً، فهي تحمل زنابيل أو أكياساً من الذنوب والآثام، فهذه الوازرة المثقلة بالذنوب لا تحمل ذنوب آخرين، وهي لا تستطيع؛ لأنها ممتلئة، مثل السيارة المشحونة التي فيها ألف طن لا تجد مكاناً لوضع أطنانك الزائدة، قال تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر:18]. وقد عرفتم أن المرأة تقول لولدها: يا ولدي! لقد عرفت أني كنت لك خير الأمهات، وأنا الآن في حاجة إلى حسنة واحدة ترجح بها كفة ميزاني، فيقول العبد الولد: إي أماه! أعلم أنك كنت لي خير الأمهات، ولكن نفسي نفسي، ويأتي الأب لابنه أيضاً ويقول: يا بني! لقد علمت أني كنت خير الآباء لك، والآن أنا في حاجة إلى حسنة ترجح بها كفة ميزاني، فيقول: إي والدي! أعلم أنك كنت لي خير الآباء، ولكن نفسي نفسي [ إذ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123] ].
وقد بلغنا اليوم أن شبيبة تجمعوا في بلاد المتدينين أخذوا يتابعون السافرات، والتي يشاهدونها سافرة يؤدبونها، فتجمع شبيبة آخرون وقالوا لهم: اسمعوا إن قتلتم سافرة سنقتل خمساً وعشرين متحجبة، فعللوا يا علماء النفس! هذه الظاهرة، ليس لها علة إلا الجهل، فهم ما عرفوا الله، ولا جلسوا في حجور الصالحين، وهم شبيبة مسلمة في بلد إيمان وإسلام، ووالله إن لم يعودوا إلى بيوت الله ليتعلموا الكتاب والحكمة ويزكوا أنفسهم تحت تربية ربانية ما خرجنا من الفتن والإحن، ولا عززنا ولا سدنا، ولا كملنا بحال من الأحوال. وقد بينا الطريق، والآن كتاب المسجد وبيت المسلم موجود، فكل طالب علم يجمع قريته أو أهل حيه عليه، وإذا كان جاداً وصادقاً يقبل أيدي أهل الحي وأرجلهم، ويقول: ائتوا بنسائكم وأبنائكم، ويأتي هو بامرأته وأولاده، وسيأتون واحداً بعد واحد، وأسبوع وإذا هم كلهم في المسجد، فيعلمهم ليلة آية وأخرى حديثاً، فيتعلمون ويطهرون وينمون، ولا تمضي السنة إلا وهم ربانيون، فلا كذب ولا خيانة، ولا زنا لا فجور، ولا أغان ولا باطل، ولا خداع لا غش، بل يصفوا صفاء كاملاً، فلنفعل هذا، فلم يقيدنا أو يكبلنا أو يمنعنا شيء، ونحن كأننا نساق سوقاً إلى الهاوية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: [ ولنصغ للترمذي ] صاحب السنن [ يحدثنا بما يلي: ... عن أبي أمية الشعباني قال: ( أتيت
قال: [ وأخيراً: نصغي بآذاننا إلى أبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ] وقد صلنا هذا الخبر وبيننا وبينه ألف وأربعمائة سنة، وأبو بكر ورسول الله هناك في الحجرة مدفونين من قبل ألف وأربعمائة سنة. وقد وصلنا هذا الخبر وملايين البشر ما سمعوا به ولا عرفوه [ وهو يقرر ما سبق في شرح هذا النداء، وهو أنه لا هداية تتم للعبد ما لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، اللهم إلا أن يوجد في بلد أو ] في [ دار لا يرى فيها معروفاً متروكاً ولا منكراً مرتكباً، لقد أبو بكر الصديق رضي الله عنه خطيباً يوماً ] ما [ فقال: ( أيها الناس! تقرءون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]. وإنكم تتأولونها على غير تأوليها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب ). فلنذكر هذا فإنه هاد وكاف بإذن الله ] إذاً: من كان عنده جار يغني ويرقص مع بناته يدخل إليه يسلم عليه في البيت ويقول له: من فضلك أنت مؤمن، وقد انتهى هذا اللهو، وهذه الحالة قد انتهت، ولم تبق أغان ولا مزامير في بيوت المسلمين، بل أنت مؤمن، صل بأولادك وأهلك، وخذهم إلى المسجد يصلون. وإذا شاهد منكراً في أي حال من الأحوال يأتي إلى صاحبه ويضع رأسه أو فمه في أذنه ويقول له: أنت مؤمن، وأنت عبد الله، فلا تفعل هذا، فهذا لا يليق بمثلك، وهكذا لا يبقى دش على السطوح. وهذا هو الولاء والنصرة والمحبة، كما قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]. وعلة هذا الهبوط الجهل فقط، وليس هناك علة أخرى. وكيفية الخروج من هذا الجهل أن نقبل على الكتاب والسنة، وهم يقولون: مدارسنا كلها تعلم الكتاب والسنة، ونقول: إنكم لم تبنوها من أجل أن يعبد الله، ويتعلم دينه، وإنما من أجل الوظيفة، وإذا سألت الطلاب والطالبات: هل ذهبوا إلى المدرسة ليعرفوا الله فيحبوه، ويعملوا بإرشاده وطاعته أو للوظيفة؟ لقالوا: للوظيفة.
قال: [ أما قوله تعالى في ختام النداء: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105] إنه يحمل الوعد والوعيد ] الوعد بالخير والوعيد بالشر، ودائماً يكونا هكذا، فالوعد بالجنة والوعيد بالنار [ وعد لمن أطاع الله ورسوله فطهر نفسه وزكاها بالطاعة، ووعيد لمن عصى الله ورسوله فخبثت نفسه وداسها، وحكم الله في ذلك واضح، وهو قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. اللهم زك أنفسنا، أنت خير من زكاها، وأنت وليها ومولاها. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ] انتهينا من النداء السابق.
قال: [ النداء الثالث والأربعون: في وجوب الإشهاد على الوصية، وجواز شهادة غير المسلم على الوصية إذا تعذر وجود المسلم ] وهذا النداء طويل.
[ الآيات (106 ، 107 ، 108) من سورة المائدة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المائدة:106-108] ] وهذا النداء عجب، ولكن قراءة الشرح تبينه وتفصله؛ حتى يصبح مفهوماً أمامنا، فاسمعوا الشرح، وتعاد تلاوته إن شاء الله غداً.
[ الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم! أن هذا النداء الإلهي يحمل هداية وإرشاداً للمؤمنين بحل مشكلة عويصة قد تحدث لبعضهم في يوم من الأيام ] لا لكلنا [ وهذا بيان ما تضمنه النداء الجامع لثلاث آيات من كتاب الله ] فهذا النداء فيه ثلاث آيات.
والثانية: قوله تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [المائدة:108] ] إذا عرفوا أنهم سوف يحلفون عند المحراب [ أي: ما شرعه تعالى لكم من الإشهاد والأيمان على الشهادة، وقيام شاهدين لرد شهادة المرتاب فيهما، لاسيما إذا ظهرت علامة عدم صدقهما أقرب أن يصدق الشهود في شهادتهم وفي أيمانهم.
والثالثة: قوله تعالى: أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [المائدة:108]، أي: وأقرب أيضاً إلى أن يخاف الشهود أن ترد أيمانهم إذا هم حلفوا، فهم لذلك لا يكذبون خوف الفضيحة أن تلحقهم ] وتشملهم. فلهذا يصدقون في شهادتهم. وهذا احتياط عجيب.
ألا فلنحذر الفسق، وهو خروج عن طاعة الله وطاعة رسوله. ومن الفسق ما هو كفر، ومنه ما هو من كبائر الإثم والفواحش. فلنحذره إذ كله مانع من هداية الله تعالى؛ إذ العبد إذا توغل في الشر والفساد يصبح غير أهل لطلب الهداية بالتوبة والاستقامة، ومن ثم يحرم هداية الله تعالى ] والقصة ستأتي بالتفصيل، وسبب نزول هذه الآية حادثة عجيبة حدثت على عهد الرسول في الشام، وانتقلت إلى المدينة، وسنسمعها غداً إن شاء الله. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر