[باب الصداق:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك، فقامت طويلاً، فقال رجل: يا رسول الله! زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال: هل عندك من شيء تصدقها؟ قال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك، فالتمس غير هذا، قال: ما أجد، قال: فالتمس ولو خاتماً من حديد، فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زوجتكها بما معك من القرآن).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى
ولا جناح عليها أن تسقط شيئاً من صداقها لترغب الزوج في إمساكها.
وتطيب نفسها بشيء من مهرها، قال تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4] أي: متى طابت نفس الزوجة بشيء من الصداق لزوجها فإنه حلال له هنيء مريء مباح له أكله، ولا يلزمه أن يدفعه لها مرة ثانية إذا كانت قد سمحت به.
وسماه الله تعالى نفقة في قوله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، يعني: بما دفعوا من هذا المال، أي: المال الذي دفعه الزوج لزوجته، فبذلك صار له الفضل والرفعة على المرأة: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، ولأن الرجل هو الذي يقوم بالنفقة فله مزية وفضيلة عليها.
والحاصل: أن النكاح لابد فيه غالباً من الصداق.
الأول: الرضا من كل من الزوجين.
الثاني: تسمية كل منهما بما يتميز به.
الثالث: الإيجاب والقبول من الولي ومن الزوج.
الرابع: تسمية الصداق، بأن يقال: زوجتك بصداق كذا وكذا، وذلك لأن الله أمر به في قوله: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، وهذا هو سبب تسميته صداقاً.
واستحقاق المرأة لهذا الصداق لا يكون إلا بالعقد؛ كما ذكر الله تعالى أنه يجب بالعقد، وإذا طلقها قبل أن يفرض لها فليس لها إلا المتاع في قوله تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ [البقرة:236]، وفي قوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، فإذا طلقها ولم يفرض لها فإنه يمتعها بكسوة، يمتعها بحلية، أو نحو ذلك.
فهذا هو السبب في الأمر بتخفيف الصداق، وأيضاً فإن في تخفيفه حملاً للكثير على الزواج، بخلاف ما إذا تشدد الناس وتشدد الأولياء وضاعفوه وأكثروه فإن التقدم من الزوج سيكون متأخراً، وربما يجلس الواحد سنوات يجمع الصداق! فيفوت عليه جزء من عمره قبل أن يتزوج، وربما لا يتزوج إلا أفراد معدودون؛ حيث إن الكثير قد يعجزون عن ذلك الصداق الذي يثقل كواهلهم.
كذلك أيضاً ورد أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أعني؛ فإني تزوجت، فقال له: (وكم دفعت من المهر؟ فذكر له مهراً كأنه استكثره فقال: عشرين مثقالاً؟! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل) أي: أنه يلومه على أن دفع مهراً عشرين مثالاً من فضة، مع أنها شيء يسير بالنسبة إلى زماننا.
وحصل أن امرأة تزوجت بنعلين، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أرضيت من نفسك بنعلين؟ فقالت: نعم، فأجاز نكاحها) ومنه أُخذ استحباب تخفيف الصداق وتقليله حتى لا يثقل على المتزوجين، وحتى لا يتعطل كثير من رجال ونساء.
وصفية هي بنت حيي بن أخطب ، وهي من بني النضير من اليهود، وكان أبوها من أهل المدينة الذين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من ديارهم المذكورون في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الحشر:2] ولما خرج حيي نزل في خيبر، ثم فتحت خيبر، وكان قد قتل قبل ذلك، وسبيت نساء اليهود الذين استولي عليهم، وكانت صفية من جملة السبي، فكانت من نصيب بعض الصحابة، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: إنه أخذها قبله ثابت بن قيس بن شماس .
والحاصل: أنه اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه وأصبحت ملك يمين، ولما رأى أنه قد قتل أبوها، وقتل زوجها، وقتل أحد إخوتها، وأنها مصابة رأى أن يعتقها حتى يزول ما في نفسها، ورأى أن يتزوجها وأن يجعلها كأمهات المؤمنين، وأن يحجبها كما حجب نساءه، فكان في ذلك ما تسلت به عن هذه المصيبة، فجعل عتقها صداقاً فقال: (أعتقتكِ وجعلت عتقكِ صداقكِ) فرضيت بذلك، وأصبحت إحدى زوجاته يقسم لها كما يقسم لزوجاته، وبقيت في عصمته حتى مات عنها، وهي من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
استدلوا بذلك على أنه يجوز أن يكون الصداق غير مال؛ وذلك لأنه لم يسلم لها شيئاً، إنما قيمة نفسها جعلت كصداق لها، وهذا هو مدلول هذا الحديث.
ثم لما عرف منها هذا ونظر إليها كما في بعض الروايات: (صعد النظر فيها وصوبه) أي: وطأطأه ولما طال وقوفها جلست تنتظر، ولما طال جلوسها قام رجل من الحاضرين -وهو أيضاً من فقراء المهاجرين- وطلب أن يتزوجها إذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة بها، ولما كان الصداق لابد منه في النكاح طلب منه صداقاً، ولكنه فقير من فقراء المهاجرين لا يملك شيئاً، فأمره أن يصدقها شيئاً فلم يجد؛ لأنه لم يكن عنده شيء، ولم يكن له إلا إزار قد شد به عورته حتى لم يبق على ظهره منه شيء، فهو عارٍ حتى من الرداء الذي يستر به ظهره، ومن العمامة التي يستر بها رأسه، فهو إذاً من الفقراء الذين هم في شدة فقر وحاجة، هكذا حالته، فلما لم يجد عنده شيئاً طلب منه أن يلتمس، وردده مراراً، حتى طلب منه ولو خاتماً من حديد، والخاتم هو: الذي يوضع في إحدى الأصابع، والحديد معروف يعني: قيمته قد تساوي قرشاً أو نحو ذلك، ولكنه لم يجد حتى هذا الخاتم من حديد؛ وذلك لفقره، فجلس وانتظر، وفي بعض الروايات: (أنه ذهب مولياً)، ولما رآه النبي صلى الله عليه وسلم مدبراً، دعاه وسأله عن الحفظ الذي يحفظه من القرآن، فعدد سوراً يحفظها: سورة كذا، وسورة كذا، فقال له: (زوجتكها بما معك من القرآن) وفي رواية قال: (فعلمها عشرين آية) فجعل تعليمه لها قائماً مقام المال الذي يُدفع لها مقابل نكاحها.
هذا هو مدلول هذا الحديث.
وقد استدل به بعض العلماء على أن تعليم القرآن يصح أخذ الأجرة عليه؛ وذلك لأنه هنا جعله مقام الأجر المطلوب في قوله تعالى: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النساء:24] وجعله قائماً مقام المال المطلوب في قوله تعالى: وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34] فأصبح مما يؤخذ عليه مال، ومما يصح أن يجعل صداقاً ومهراً ينتفع به، فعُرف بذلك أنه يصح أن يكون تعليم القرآن صداقاً، وبطريق الأولى تعليم غيره من العلوم التي يحتاج إليها، فإذا علمها شيئاً من الفقه، أو من الأحاديث، أو من تفسير بعض الآيات، أو علماً يحتاج إليه كعلم أدب أو علم أخلاق أو علم لغة أو غير ذلك مما يحتاج إلى تعليم صح أن يجعل هذا التعليم صداقاً.
وبذلك يُعرف أنه عليه الصلاة السلام كان يسهل في أمر الصداق؛ بحيث إنه جعل هذا التعليم صداقاً قائماً مقام الأموال التي يدفعها الزوج لزوجته مقابل أن تكون بينهما الزوجية، فإذا جاز تعليمها آيات من القرآن صداقاً أو أحاديث أو تفسير آيات أو تعليم حكمٍ أو أحكام أو مسائل فقهية أو نحو ذلك ويكون ذلك قائماً مقام المال، فبالطريق الأولى أنه يصح صداقها مالاً ولو قليلاً. والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر