بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله!
(في رحاب الدار الآخرة): سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها تذكير الناس بالآخرة، في وقت طغت فيه الماديات والشهوات، وانحرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات، ليعود الناس إلى الله جل وعلا، وليتداركوا ما قد فات، قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون.
وهذا هو لقاؤنا الثاني عشر من لقاءات هذه السلسلة الكريمة المباركة، وكنا قد توقفنا في اللقاء الماضي مع البشرية كلها، وهي في أرض المحشر وقد أصابها من الهم والغم والكرب ما لا يستطيع بليغ على وجه الأرض أن يجسده، الشمس فوق الرءوس تكاد تذيب الجماجم والعظام، والزحام وحده يكاد يخنق الأنفاس، فالبشرية كلها -منذ أن خلق الله آدم إلى آخر رجل قامت علية الساعة- تقف في موقف واحد، في أرض واحدة.
العرق يكاد يغرق الناس كلٌ بحسب عمله، جهنم -أعاذنا الله وإياكم من حرها- قد أتي بها، لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، يؤتَى بها إلى أرض المحشر، فإذا ما رأت الخلائق زفرت وزمجرت غضباً منها لغضب ربها جل وعلا، حينئذ تجثوا جميع الأمم على الركب من هول الموقف وكربه والعياذ بالله، بل ولا يتكلم يومها أحد إلا الأنبياء، ودعاء الأنبياء يومئذ: اللهم سلم سلم!! اللهم سلم سلم!!!
يزداد الهم والكرب على الخلق، فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون ما نحن فيه؟! ألا ترون ما قد بلغنا؟! ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟! ويذهبون إلى صفوة الله من خلقه: إلى الأنبياء والمرسلين، فيقول كل نبي: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ثم يقول: نفسي، نفسي، نفسي! يقول آدم: نفسي، ويقول نوح: نفسي، ويقول إبراهيم: نفسي، ويقول موسى: نفسي، ويقول: عيسى: نفسي، إلا المصطفى، فهو صفوة الله من خلقه وأكرم الخلق على الله.
يقول الحبيب: فيأتونني، فيقولون: يا رسول الله! ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! ألا تشفع لنا إلى ربك؟!
فأقوم وأقول: أنا لها، ويخر ساجداً تحت عرش الرحمن جل جلاله، ويثني على الله سبحانه وتعالى بما لم يفتح الله به على أحد من قبله، ولا على أحد من بعد الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فينادي عليه ربه ويقول: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فيقول المصطفى: يا رب! أمتي.. أمتي.. أمتي..
وفى حديث الصور الطويل يقول الله جل وعلا لنبيه المصطفى: (
ما شأنك؟ وهو أعلم، فيقول الحبيب: يا رب! قد وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك، فاقضِ بينهم، فيقول الله جل وعلا: قد شفعتك، أنا آتيكم لأقضي بينكم، فيرجع الحبيب المصطفى ويقف مع الناس في أرض المحشر؛ لينتظروا جميعاً مجيء الرب جل جلاله لفصل القضاء بين العباد).
ولقاؤنا اليوم مع حضراتكم في هذا اليوم الأغر المبارك، سوف يتركز الحديث فيه حول العناصر التالية:
أولاً: مجيء الرب جل جلاله.
ثانياً: أول من يكلمهم الله يوم القيامة.
ثالثاً: العرض على الله جل وعلا وأخذ الكتب.
فأعيروني القلوب والأسماع فإن هذه الكلمات ورب الكعبة تكاد تخلع القلوب.
مجيء الرب جل جلاله
أول من يكلمهم الله
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الأحبة الكرام! بعد ذلك يبدأ الحساب، وسنقف مع الحساب وقفات، فالحساب يبدأ بالعرض على الله جل جلاله، بعد الوقوف بين يدي الحق الملك العدل سبحانه، فأنت في أرض المحشر ستسمع نداء الملائكة: أين فلان بن فلان، والملائكة لا تخطئ أحداً من الخلق منذ أن خلق الله آدم، أين فلان بن فلان؟ ماذا تريدون يا ملائكة الله؟! أقبل للعرض على الله جل جلاله، وقد وكلت الملائكة بأخذك وسوقك في أرض المحشر على رءوس الأشهاد، والخلائق كلها تنظر إليك، فيقرع النداء قلبك، ويصفر وجهك، وترتعد فرائصك، وتضطرب جوارحك، وترى نفسك بين يدي الحق جل جلاله ليكلمك، ليس بينك وبينه ترجمان، كما في الصحيحين من حديث
عدي بن حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (
ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه تُرجمان، فينظر العبد أيمن منه -أي: عن يمينه- فلا يرى إلا ما قدم -أي: في هذه الحياة الدنيا- وينظر العبد أشأم منه -أي: عن شماله- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) أي: ولو بنصف تمرة تتصدقون بها لوجه الله جل وعلا.
يقرع النداء القلب، ويأمر الله تبارك وتعالى بالصحف وبالكتب فيأخذ كل إنسان صحيفته.
تلك الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبأة أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، فيا حسرة القلب وقتها على ما فرطنا في دنيانا من طاعة مولانا!
اسمع لربك جل وعلا، وهو يقول:
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا *
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا *
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:47-49].
أيها المسلم!
تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
والنار تلهب من غيظ ومن حنق ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك يا عبد على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
فلما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا
المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكاناً
أكتفي بهذا القدر وأقف عند العرض على الله جل وعلا، ونواصل في اللقاء المقبل -إن قدر الله لنا البقاء واللقاء- ونتحدث عن كيفية العرض وكيفية الحساب.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يستر عليَّ وعليكم في الدنيا والآخرة، وأن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال.
وأسأل الله أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض.
اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً معنا إلا هديته، ولا طائعاً بيننا إلا زده وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم مكن لدينك يا أرحم الراحمين! اللهم مكن لدينك يا رب العالمين! اللهم مكن لدينك يا رب العالمين! اللهم طهر الأقصى من دنس اليهود المجرمين! اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود وعملاء اليهود، اللهم حرق قلوب اليهود قبل أن يحرقوا الأقصى، اللهم دمر بيوتهم قبل أن يدمروا الأقصى، اللهم إنا نشهدك على ضعفنا وعجزنا وفقرنا، فاللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وفرج كربنا، واكشف همنا، وآمن روعاتنا، وفك أسرنا، وتول خلاصنا، واختم بالصالحات أعمالنا.
اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك ضعف الموحدين، اللهم إنا نشكو إليك ضعف الموحدين، اللهم إنا نشكو إليك ضعف الموحدين.. اللهم إنا نشكو إليك ضعف الموحدين، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا يا أرحم الراحمين!
اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد الإسلام، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين!
هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جنهم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.