الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
[ ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة، ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة، ونقول: الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه، ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر، كما جاء في الأثر.
والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين، برهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما. ].
قال المؤلف رحمه الله: (ونتبع السنة والجماعة) هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة، وبيان مسلكهم العملي في أنهم أهل اتباع للسنة، فهم يعظمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبها يستمسكون، وعنها يصدرون، وإليها يتحاكمون، وبها يفصلون ويقومون الأقوال والأعمال، فمصدرهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما صح منها وثبت فإنه حاكم على أقوالهم وأعمالهم وآرائهم وكل شأنهم، كما قال الله جل وعلا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، فأهل السنة من أخص الناس التزاماً بسنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا يردونها ولا يعارضونها ولا يتأولونها تأويلات باطلة، بل يقبلون ما صح منها ويرجعون إليه؛ ولذلك وصفوا بهذا الوصف، ولا يوصف به غيرهم.
قال: (والجماعة) وهذا فيه بيان خاصية أخرى من خصائص أهل السنة والجماعة: أنهم أهل اجتماع، وسموا بالجماعة؛ لأنهم يتبعون الجماعة، والجماعة هي الحق ولو كان الإنسان وحده، وليس المقصود بالجماعة الكثرة، فإن الكثرة ليست دالة على الحق في كل الموارد، بل قد قال الله جل وعلا: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وقال الله جل وعلا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:8]، وقال سبحانه وتعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13].
هم الجماعة الذين من انحاز إليهم انحاز إلى الحق واتصف بهذا الوصف، وليس الحق مع الأكثر في كل زمان، بل هو ما كان عليه أهل الصدر الأول والسلف الصالح: الصحابة أولاً ثم تابعوهم ثم تابعو تابعيهم، فهم أهل القرون المفضلة الثلاثة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
هؤلاء هم أهل الجماعة، فمن اجتمع إليهم، وانحاز لهم؛ فهو على الحق ولو كان وحده، ولا يضره التوحد في متابعة السلف الصالح.
المهم أن الجماعة تصدق بالأخذ بالإجماع، وأيضاً الاجتماع على ولاة الأمر، وعدم الخروج عليهم، وموافقة ما كان عليه سلف الأمة في القرون المفضلة.
والفرقة: هي مفارقة الجماعة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم مفارقة الجماعة سبباً مما يستباح به الدم، بل كل من سعى في تفريق المؤمنين فإنه يستحق أن يقتل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم أحد وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائناً من كان)وهذا يدل على أن كل من سعى في الفرقة بين المسلمين، وفي اختلال اجتماعهم فإنه من أهل الفرقة الذين يستحقون هذه العقوبة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ولا شك أن الاختلاف وقع بعد الصحابة رضي الله عنهم، أما الخلاف في العمليات فهو واقع في زمنهم رضي الله عنهم، بل حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم يعلموا فيه قولاً عنه صلى الله عليه وسلم، لكن الخلاف المذموم هو: الاختلاف الذي فيه المخالفة لهدي السلف الصالح، ولما كان عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الاعتقاد، هذا الذي يذم صاحبه، وكذلك تقصد مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم فيما عُلِمَ أنه من فعله أو قوله أو هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الاختلاف فقال في وصيته: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)ثم وجه إلى المخرج من هذا الاختلاف فقال: (فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)ووصفهم بالوصفين الدالين على المسوغ للاتباع: الرشد والهداية، الرشد: ضد الغي، والهداية: ضد الضلال، وبهما يسلم الإنسان من الزيغ والانحراف.
وكذلك يخرج بقوله رحمه الله: (ونحب أهل العدل) أهل البدعة، فإن أهل البدعة ليسوا أهل عدل، ولو كانوا أهل عدل لما عدلوا بسنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيئاً.
قال رحمه الله: (ونبغض أهل الجور والخيانة) أي: أهل الظلم، وقد يجتمع في الإنسان عدل وظلم، وهذا متصور وموجود، فالواجب في مثل هذا أن يحب لما معه من العدل والاستقامة والأمانة، وأن يبغض بما معه من الجور والخيانة، فيعامل الإنسان بما تقتضيه حاله من هذين الأمرين.
وأما مفهومه العام فيشمل كل ما جاء وأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن غيره، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بما لا شك فيه أن المسح على الخفين مما يتعبد الله جل وعلا به، وقد جاء في القرآن ما يشير إلى ذلك في القراءة المشهورة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]فاستدل بعض العلماء بقراءة الكسر على مشروعية المسح على الخفين، فالمسح على الخفين ثابت، وهو مما نقل نقلاً متواتراً، وعرفنا سر أو سبب إدخال هذا في كتب الاعتقاد؛ وذلك لأن عدم المسح على الخفين شعار لبعض أهل البدعة المخالفين لأهل السنة والجماعة.
وتقدم الكلام على الصلاة، وأتى المؤلف رحمه الله بما يتعلق بالحج والجهاد فقال: (ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين) يعني: هما مع ولاة الأمر من المسلمين ماضيان لا ينقطعان، ومن رأى أن الجهاد لا يكون وقد انتهى فإنه مخطئ، كما تقول الرافضة: لا يكون الجهاد إلا مع الإمام المعصوم! بل الجهاد ماض مع كل ولي من ولاة أمر المسلمين، وكذلك الحج باق وماض مع كل ولي من ولاة أمر المسلمين.
قال: (برهم) أي: مستقيمهم وعدلهم (وفاجرهم) أي: من لم يكن على صراط الاستقامة والهداية، قال: (إلى قيام الساعة) قال: (لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما شيء)، بل هما ماضيان كما قال رحمه الله: (إلى قيام الساعة).
يقول رحمه الله: (ونؤمن بالكرام الكاتبين) تقدم أن من الإيمان: الإيمان بالملائكة، فالإيمان بالملائكة من أركان الإيمان، وتقدم الكلام في ذلك، ولكن المؤلف رحمه الله أعاد البحث في الإيمان بالملائكة لكنه ليس بحثاً عاماً، بل ذكر الإيمان ببعض الملائكة، ونحن ذكرنا أن الإيمان بالملائكة يتضمن: الإيمان بأن الله جل وعلا خلقهم من نور، وأنه أوكل إليهم من المهام الشيء الكثير، وأنه سمى لنا بعضهم، وأنهم خلق عظيم، وأنهم أجسام لكن الله جل وعلا أغناهم عن الأكل والشرب، وسخرهم للعبادة والخدمة، فهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون.
وقولنا: إنهم أجسام، المراد بذلك: أنهم أعيان، وليسوا كما يقول الفلاسفة: خيالات لا حقيقة لها، ولكنهم أعيان -الله أعلم بحقيقة أعيانهم- خلقت من نور.
يقول رحمه الله: (ونؤمن بالكرام الكاتبين) ذكر هنا نوعاً من أنواع الملائكة، وهذا النوع مما جاء وصفه في القرآن وفي السنة، والملائكة يذكرون في القرآن والسنة إما بالأعمال أو بالأشخاص، فممن ذكر بالأعمال، يعني: ذكر عمله ولم يذكر عينه: الملائكة الكاتبين الحفظة، وهم المشار إليهم في قول المؤلف: (ونؤمن بالكرام الكاتبين) كما قال الله جل وعلا: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11] فهم كرام على الله جل وعلا، كاتبين لأعمال بني آدم، فهم يكتبون كل شيء من أعمال بني آدم، ومنه قول الله جل وعلا: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] يسجل ويقيد ما يكون منه.
يقول: (فإن الله قد جعلهم علينا حافظين) أي: يحفظون أعمالنا، ويقيدون ما يكون منا، فكل ما يكون من الإنسان من قول أو عمل فإنه مرصود مقيد، له ملائكة يسجلونه، ويحفظونه كما قال سبحانه وتعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]فالملائكة تكتب كل ما يكون من بني آدم، وهؤلاء ملائكة متعددون، وليس هو ملكاً واحداً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر)هؤلاء الملائكة مهمتهم حفظ ما يكون من الإنسان.
ومن هنا قال جماعة من العلماء: إن ملك الموت ليس واحداً بل هو متعدد؛ لأن الله جل وعلا ذكر توفي الرسل: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [الأنفال:50]فجعل التوفي لمجموع وليس لواحد، فذهب بعض العلماء إلى أن ملك الموت ليس واحداً، بل هم عدد كما دلت عليه الآيات التي فيها أن التوفي يكون من جماعة.
وقال جماعة من العلماء: إن ملك الموت واحد، وله أعوان، وكلا القولين محتمل، وفي حديث البراء بن عازب ما يشهد أو ما يشير إلى أنه واحد له أعوان؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الاحتضار -احتضار الإنسان- ذكر أن الملائكة ينزلون ويجلسون منه مد البصر، هذا في حال الاحتضار، (ثم يأتي ملك الموت، فينزع روحه، فتأخذها الملائكة ولا تدعها في يد ملك الموت طرفة عين)فدل هذا على أن الذي يباشر النزع هو ملك الموت وحده.
وقال آخرون: بل هم متعددون، ويدل لذلك قول الله جل وعلا: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات:1-2] فالنازعات: هم جماعات الملائكة الذين ينزعون أرواح بني آدم، ونزع الروح على حالين: إما نزع بشدة كحال أهل الفسق والكفر والشرك والمعصية، أو بيسر كقوله تعالى: وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتخرج روحه كخروج القطرة من في السقاء) في وصف خروج روح المؤمن.
بخلاف روح المنافق فإن روحه تتفرق في بدنه وتنزع من كل عضو، كما ينزع السفود من الصوف المبلول، وفي إخراجه عناء ومشقة.
المراد أن ملك الموت اختلف فيه العلماء على قولين:
القول الأول: أنه واحد له أعوان.
والقول الثاني: أن ملك الموت متعدد وليس واحداً، وكلا القولين له ما يشهد له، وعلى كل حال فالتحقيق هل هو واحد أو متعدد؟! يحتاج إلى تأمل وطول نظر، لكن ما تبين لي شيء في هذا.
أما كيفية تعلقها بالبدن فإننا لا نقف على ذلك في شيء، وأيضاً كيفية الروح لا نقف في ذلك على شيء إلا ما ذكره الله جل وعلا في قوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]أي: من مأمور ربي جل وعلا، فهي من الأمور التي قدرها الله جل وعلا، ليس فيها ما يعرف أكثر مما جاءت به النصوص، ومن طلب أكثر مما جاءت به النصوص فإنه لا يقف في حقيقة ذلك على شيء.
فقوله: (وبعذاب القبر) يعني: العذاب الذي محله القبر، والقبر هو مدفن الموتى، وأضيف العذاب إلى القبر؛ لأنه محله في الغالب، ولكنه لا يقتصر عليه، قال: (لمن كان له أهل) أي: مستحقاً، ولم يبين المؤلف رحمه الله من هم أهل عذاب القبر؟ وذلك أن عذاب القبر له أسباب توجبه ومن أسبابه:
الشرك والكفر، وهذا لا إشكال فيه قال الله جل وعلا: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] فذكر الله جل وعلا عذابهم في فترة قبل البعث وقبل يوم القيامة، وقال سبحانه وتعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ [السجدة:21] قيل: إن العذاب الأدنى هو عذاب القبر، وهو الذي يكون في البرزخ، وقال سبحانه وتعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25] وهذا الإدخال بعد موتهم، ومعلوم أن الدخول الذي يكون مستقراً دائماً ومتوعد به أهل الكفر لا يكون إلا بعد البعث، وهذا دخول مباشر بعد الإغراق، فهذا الذي يكون في البرزخ.
وعذاب القبر غالبه على الروح، وقد يلحق البدن شيء من ذلك، لكن الغالب فيما يكون من عذاب القبر ومن نعيمه إنما هو للأرواح.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر