أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد أنزل علينا كتابه، وأرسل إلينا رسوله؛ ليعلم عز وجل من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، ومن يثبت على منهج الله ممن ينكص ويرتد عن هذا المنهج وعن هذا الطريق: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143] فهو إذاً ابتلاء وامتحان للعباد.
وهؤلاء الذين ارتدوا على أدبارهم قال الله سبحانه وتعالى في شأنهم: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ [محمد:25]، وعن حبوط عملهم يقول عز وجل: يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217]، وقال سبحانه: وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [المائدة:21].
والردة عن الدين أخطر موضوع يمكن أن يواجه الإنسان؛ لأنه ليس هناك شر أعظم من الردة عن الدين، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه).
هل حدثت أحداث من الردة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: نعم، إن البشر الذين كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هم من جنس البشر، بينهم الصالح والطالح، والطيب والخبيث، ولذلك كان منهم من آمن، ومنهم من كفر، ومنهم من ارتد بعد إسلامه، ولأن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كان أبرك العصور التي مرت على البشرية، فإن الذين ارتدوا في ذلك العصر كانوا قلة جداً بالنسبة لمن أتى بعده.
هذا من دفاع الله عز وجل عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ما عهد أن أناساً يدفنون فيلقون خارج الأرض إلا أناس اعتدوا على حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك يعاقبهم الله عقاباً شديداً.
وألف شيخ الإسلام في ذلك كتاباً مهماً جداً، جمع فأوعى، وهو كتاب: الصارم المسلول على شاتم الرسول ، وقال فيه: بل إنا كنا -ينقل عن بعض الغزاة المسلمين سواء في الشرق أو في الغرب في بلاد الأندلس - يقول: كنا إذا حاصرنا الحصون فاستعصت علينا حتى نكاد نيئس، فإذا وقع القوم في سب رسول الله صلى الله عليه وسلم استبشرنا خيراً، فما يلبث الله أن يفتح؛ لأن الله يدافع عن رسوله صلى الله عليه وسلم دفاعاً لا يدافعه أحد.
يقول ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: "أما تنصر عبيد الله بن جحش فقد تقدم بيانه؛ وذلك على أثر ما هاجر مع المسلمين إلى أرض الحبشة، فزين له دين النصارى، فصار إليه حتى مات عليه لعنه الله، وكان يعير المسلمين، فيقول لهم: أبصرنا وصأصأتم.
فإذاً: حدثت وقائع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ارتداد أناس، ولكنها نادرة جداً؛ وذلك لطبيعة التربية النبوية التي لم يرفضها إلا من كان قد طبع الله على قلبه، والله عز وجل بين لنا في القرآن أمثلة عامة: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:175-176]؛ ولذلك الردة لا تضر في الإسلام، يعني: لا تضر إلا صاحبها، يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] ليست هناك مشكلة للإسلام، لا ينقص في الدين شيء لو ارتد الناس، الدين باقٍ والله يحفظه، لكن المشكلة مشكلة المرتد نفسه.
القسم الثاني: يخرج المسلم من دائرة الاستقامة -يكون مستقيماً ملتزماً بشرع الله- إلى دائرة الفسق، فيصبح فاسقاً فاجراً، لكن لا يزال في دائرة الإسلام.
القسم الثالث: نوع أخف من النوعين السابقين بكثير وهو: الفتور الذي يصيب المسلم.
وهذا الفتور إن كان المسلم في حالة فتوره لا يرتكب المعاصي، أي: هذا الفتور لا يؤدي به إلى ترك الواجبات وفعل المعاصي فإنه لا يزال بخير؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى).
أي: إذا صار الفتور إلى درجة يلتقي بالمحرمات أو يترك الواجبات فهو على خطر، لكن لو فتر بشيء بسيط -لأن الإيمان يزيد وينقص- ونقص إيمانه قليلاً لكن لا يزال في دائرة الإسلام والإيمان والتقوى، ولم ينزل إلى دائرة الفسق، فهذا فتور مقبول؛ لأن الإنسان إيمانه يزيد وينقص، ولا يتوقع أننا كلنا نبقى في حالة إيمانية واحدة؛ لأننا ونحن في مجلس الذكر نختلف عندما نخرج -مثلاً- نشتري الأشياء من السوق، أنت فكر في نفسك، عندما تخرج مثلاً من هنا أو من أي مكان فيه حلقة ذكر ثم تدخل السوق تشتري أشياء والمناظر أمامك، هل تكون في نفس الحالة الإيمانية؟ لا.
الآن الذي يدقق في الواقع يرى أن هناك بعض الأشخاص قد هداهم الله سبحانه وتعالى في فترة من الفترات وزمن من الأزمان، وبعد فترة من الزمن تغيرت أحوالهم، شخص كان مستقيماً ملتزماً بشرع الله، ثم تفاجئ بعد فترة من الزمن وقد تغير شكله، وترك المظهر الإسلامي، ووقع في بعض المحرمات، وهو تارك الآن لبعض الطاعات، تغيرت أحواله .. هذه الحالة موجودة، لكن هل أصبحت ظاهرة؟ هل هي منتشرة جداً بحيث أنك ترى يومياً أشخاصاً كثيرين جداً ينتقلون من معسكر الهداية إلى معسكر الفسق؟ نسأل الله ألا تكون الأحوال بهذه الصورة.
وهناك أشياء تطمئن، وهي: أن الذين استقاموا على الدين أكثر من الذين نكصوا عنه، والذين دخلوا فيه أكثر من الذين خرجوا عنه، وهذه والحمد لله نعمة، وأنت ترى الآن أن الذين يدخلون في الدين أكثر من الذين يخرجون منه، وأن الذين يدخلون ويسلكون سبيل الاستقامة والالتزام أكثر من الذين ينحرفون، ولكن هذه المشكلة موجودة وهي من مشاكل الصحوة الإسلامية في هذا العصر.
وبالطبع فإن هذه الحالة -حالة النكوص والانتكاس- ناتجة عن اتساع رقعة الصحوة الإسلامية، وهذا الاتساع هو الذي يقلل التركيز ويجعل مجالات هذه الصحوة تتعدد والجهود تتوزع في تلك المجالات، فلا بد أن يخف الاهتمام تبعاً لذلك على الداخلين في طريق الاستقامة، وطاقات الدعاة مهما كانت محدودة، فمع ازدياد القادمين إلى طريق الاستقامة لا تعود طاقات الدعاة تستوعب هذا الكم الكبير الذي يتجه إلى الدين، ومن هنا فلا بد أن نتوقع حصول حالات الردة أو الضعف الذي يوصل الإنسان إلى الانحراف، ونتوقع أيضاً اتجاهات غير مرضية في المنهج العلمي أو منهج التحرك في هذا الدين؛ نتيجة عدم وجود التوجيه الكافي.
ولا بد أن نذكر قبل عرض الموضوع أننا سنتكلم عن أسبابه، ومع بعض الأسباب سنذكر العلاج، وهناك علاجات منفصلة سنذكرها في النهاية، وسنمر كذلك بحالة هذا المنتكس نفسياً: كيف يشعر؟ ما هي الأشياء التي تغيرت فيه؟ كيف بدأ يتغير؟ وإلى أين ينتهي حاله؟ وكيف يعود إذا كتب الله له أن يعود؟
إذاً المقصود من الانتكاس هو: الخروج عن طريق الهداية الربانية وهذه هي الخسارة الحقيقية، بعض الناس يظن أنه إذا تركه شخص كان يسير معه فذهب إلى غيره -مثلاً- أن هذه خسارة، والحقيقة -أيها الإخوة- أنها ليست كذلك، الخسارة أن يكون إنساناً ملتزماً بشرع الله، مستقيماً على طريق الله، ثم ينتكس ويترك الاستقامة، هذه هي الخسارة.
ويجب أن نعلم أن النكوص الذي نتحدث عنه هو عن شخص كان مستقيماً في أموره ثم انحرف، وليس لشخصٍ كان أصلاً غير مستقيم في بعض الجوانب ثم انحرف في كل الجوانب، كشخص كان لا يحافظ على صلاة الفجر ويشاهد الأفلام المحرمة، ثم أطلق لحيته مثلاً والتزم ببعض الأشياء، ثم انتكس بالكلية، ليس هذا هو الشخص الذي نتحدث عنه، وهذا الرجل لا يسمى ناكصاً؛ لأنه كان أصلاً منتكساً من قبل، وهو الآن اتسعت رقعة انتكاسته، هذا الذي حدث.
ومن الملاحظ أن كثيراً من الناكصين لم يلجوا حياض التربية الإسلامية، ولم ينهلوا منها، فأنى لهم الثبات؟!
وقد يوجد في الوسط الإسلامي رجل فيه انحراف لكن لا يتبين أمره من البداية، ومع مرور الزمن وتوالي الأحداث تنكشف الأمور، وهذا مثال من السيرة النبوية:
روى الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ففتح الله علينا، فلم نغنم ذهباً ولا ورقاً، غنمنا المتاع والطعام والثياب.. والغنائم ما حكمها؟ تجمع كلها، ولا يأخذ أحد منها شيئاً، ثم توزع بالطريقة الشرعية في توزيع الغنائم- ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد له وهبه له رجل من جذام يدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب، فلما نزلنا إلى الوادي قام عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل رحله، فرمي بسهمٍ، فكان فيه حتفه، فقلنا: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفس محمد بيده! إن الشملة لتلتهب عليه ناراً، أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم فهي تلتهب عليه ناراً، قال: ففزع الناس -أي: فزعوا- فجاء رجل بشراك أو بشراكين، فقال: يا رسول الله، أصبت يوم خيبر، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: شراك من نار أو شراكان من نار
إذاً: قد يوجد في الوسط المسلم رجل فيه انحراف لكنه في الظاهر ملتزم مستقيم، لكنه يتبين مع الزمن ولو مات؛ فالله أعلم بنيته.
مرة أخرى: تعلق القلب ليس بالله، وطلب العون ليس من الله، هذا عنده مثل هذه النوعية من الأشخاص، وهذا ركن واهن لا بد أن يغير إلى ركن شديد، (يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، ولذلك نعى الله في القرآن على الذين يرتبطون بشخصية في التزامهم واستقامتهم ولا يرتبطون بالله، حتى لو كانت هذه الشخصية هي شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، الذين يلتزمون فقط لأن الرسول صلى الله عليه وسلم موجود بين أظهرهم هم أناس ما فقهوا حقيقة الاستقامة: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144] هذه حقيقة مهمة ينبه عليها القرآن: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144] سوف يموت كما مات أي رسول، أو يقتل كما قتل أي رسول.. أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
سبحان الله العظيم! كأن هذه الآية نزلت في المرتدين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما قرأها الصحابة كأنهم لأول مرة يقرءوها، ولما قام عمر يتكلم، ويقول: [إن محمداً ذهب إلى ربه كما ذهب عيسى، وليوشكن أن يرجع فيقطع رقاب أناس من المنافقين. قال
إذاً: الدعوة إلى الله والاستقامة على منهج الله ليست مرتبطة بأشخاص، إذا زال هؤلاء الأشخاص زالت الاستقامة، وإذا ابتعدوا ابتعد الإنسان عن الاستقامة! كلا. وكثير من الناس اليوم ارتباطهم بالدين هو عبارة عن ارتباط بأشخاص لو زال هؤلاء الأشخاص لزال الارتباط بالدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وقد يستغرب البعض وجود الارتياح العاطفي الشخصي بين فاسق وداع إلى الله يدعوه، ولكن الحقيقة -أيها الإخوة- أن هذا الأمر طبيعي في وسط الجاهلية التي أفرغت قلوب الناس من محبة الله وذكره، فيمكن أن تجد كل عاطفة سلبية مكانها في تلك القلوب الخاوية، وتنشأ العلاقات ويحصل التأثر ليس لله وإنما لأجل الشخص الناصح، فيلتزم لوجه الناصح لا لوجه الله.
أو رجل توظف -مثلاً- في دائرة أو مؤسسة مديرها رجل مستقيم على شرع الله، فهو يستقيم في الظاهر لتتحسن معاملة المدير له، أو يعطيه مزيداً من المزايا لمصلحته الشخصية، وهذا ملاحظ، لو جاء مدير مستقيم في أي مكان تجد بعض الناس يتغيرون تلقائياً وبسرعة .. عجيب! كيف تغيروا؟ هل الإيمان دخل قلوبهم؟ وبسرعة انقلبت شخصياتهم؟ سبحان الله!
إذاً: المسألة فيها سر، وشيء وراءها، وهذه القضية -المصلحة- صار التدين الآن لها.
بعض الدارسين في كليات العلوم الشرعية قد يلتزم ظاهرياً؛ لأنه يدرس الشريعة، كيف لا يطلق اللحية؟! وكيف لا يظهر الناس بمظهر المستقيم وهو يدرس الشريعة؟ وقد يصبح في المستقبل قاضياً، أو مدرساً للمواد الدينية.
إذاً: طبيعة الدراسة تفرض عليه أن يتدين، فهو يتدين لا لله لكن لأن مجال الدراسة يفرض عليه هذا؛ لأنه يصبح في مكان قد يكون مظهره مخالف لما هو مفترض أن يكون عليه، فيفرض عليه الواقع أن يستقيم في الظاهر وهو في الحقيقة غير ذلك.
وقد يحس البعض في البداية بأن حياة الاستقامة والالتزام حياة جميلة؛ لأنها جديدة عليهم، وقد يحس الواحد في أول أمره بفيض من المشاعر يغمره، مثل: مشاعر الأخوة في الله، أو المشاعر التي تنتج عن عمرة، أو حجَّ في البداية يكون له طعم خاص، وبعض جلسات العلم في بداية أمرها يكون لها طعم خاص، وبعض المناسبات الإسلامية مثل الرحلات وغيرها تحتوي على أمور لم يكن يألفها من قبل، ولم تقع عينه عليها، فتلعب عوامل الإثارة دوراً مهماً في انجذاب هذا الشخص في البداية وتحمسه، ولكن بعد ذلك يدب التعب والملل، وتذهب تلك الإثارة؛ لأن الشيء الذي كان جديداً عليه قد أصبح معتاداً، وحب الاستطلاع الذي دفعه في البداية لأن يفعل ما فعل قد أصبح الآن زائلاً؛ لأنه -الآن- قد عرف كيف يعيشون.. فهو يخرج كما دخل، تأثرات في البداية ثم تنتهي، وهذا من فساد الابتداء.
وبعضهم يدخل في طريق الاستقامة على أن هذه تجربة جديدة فليجرب التدين، ويكون في نهاية أمره يعود منحرفاً كما كان، ومن الناس من يكون فساد ابتدائه بأن يقبل منه في بداية أمره بقاؤه على نوع معين من المنكرات، أو يقبل منه أن يلتزم بجوانب من الدين في المظهر مثلاً ولكن لا بأس أن يفعل بعض المنكرات الأخرى، فهذا لا يلبث أن يستمر طويلاً؛ بل سرعان ما ينتكس ويسقط.
والحديث الصحيح الوارد في قصة الصحابي الذي كان بعد إسلامه يهرب المسلمين من مكة إلى المدينة ، يذهب إلى مكة ويدخل خفية ويحمل بعض الضعفاء المسلمين الذين لا يستطيعون الهجرة بمفردهم، هذا الرجل كان على علاقة بامرأة في الجاهلية قبل أن يسلم، ولما دخل مكة سراً ليحمل بعض المسلمين ويهاجر بهم إذا بالمرأة التي كانت على علاقة معه تراه، فلما رأته هشت له وبشت، ودعته إلى ما كان منهما من الوصال المحرم في الماضي، ولكن هذا الصحابي الذي عصم الله قلبه بالإيمان لم يستجب لدعوة تلك المرأة، بل رفض العرض، فهددته أن تصرخ بكفار قريش ليأتوا به فيأخذوه، وقد يقتلوه فرفض، فصرخت تنفيذاً للتهديد الذي هددته به، فاجتمع كفار قريش فهرب ذلك المسلم فدخل مغارة، فدخلوا يبحثون عنه، يقول: فأعمى الله أبصارهم فلم يروني؛ جزاء الاستقامة، ثم خرجوا فخرج هو وعاد إلى المدينة وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الزمر:61].. إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38].
فقد تعاود الشخص المستقيم أشياء من الماضي لا بد أن يقف لها بالمرصاد؛ وإلا فإن السقوط سيكون عاقبة طبيعية لاستجابته للمحرمات.
ويدخل في ذلك عدم قطع الصلة بالرفقة من أصحاب السوء القدامى، فهو لا يزال يجلس مع هؤلاء ومع هؤلاء، لا يزال يجالس أصحاب السوء الذين كان على علاقة بهم، ولا يزال يجالس -أيضاً- أصحاب الاستقامة الذين تعرف عليهم الآن، فهو كالشاة العائرة بين الغنمين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلا يلبث أن يغلب جانب الشر في نفسه، ولا يجتمع في قلب عبد محبة الله ومحبة الشيطان، وكما يقول ابن القيم رحمه الله:
حب الكتاب وحب ألحان الغناء في قلب عبد ليس يجتمعان |
كيف يجلس مع هؤلاء فيسمع آيات التنزيل، ويسمع أحكام الله وأوامره، ويسمع الرقائق والمواعظ، ثم يجلس مع أولئك الناس الآخرين فيسمع الغناء والموسيقى والطرب ويلعب الورق .. كيف يجتمعان؟ فلا بد أن يكون عاقبة هذا السقوط عاجلاً أم آجلاً.
ولذلك كان لا بد من هجر أهل السوء بالكلية عند الدخول في طريق الاستقامة، ومن شواهدنا على هذا: حديث قاتل المائة نفس الذي ورد في الصحيح، هذا الرجل الذي قتل مائة نفس عندما ذهب إلى عالم فسأله: هل لي من توبة؟ قال: نعم، وما الذي يحول بينك وبين التوبة؟ ماذا قال له العالم؟ اذهب إلى القرية الفلانية فإن فيها أناس صالحون يعبدون الله فاعبد الله معهم، قال له: لا تبقى هنا؛ لأن الناس الذين يشجعونك على الشر يوجدون هنا؛ ولذلك فإن بعض العلماء قد عدوا من شروط التوبة: مفارقة مكان المنكر.
وهذه الأمور -أيها الإخوة- التي سردناها آنفاً تؤكد أهمية التربية وتهذيب النفس وتخليصها من كل شوائب الجاهلية، وأهمية التربية الإسلامية المركزة لا التربية القطيعية.
وستبقى المعضلة عند المخلصين: الموازنة بين التربية الإسلامية المركزة وبين استقبال الجموع الوافدة بسلبياتها وإيجابياتها إلى الأوساط الإسلامية واستيعابها وفتح الباب أمامها على مصراعيه.
دائماً في بداية دخول الناس في بداية التوبة تكون توبة حارة، ويكون الإقبال شديداً، وتكون العبادة عظيمة، وبعد فترة من الزمن تبرد هذه الأشياء، ويخف تأثر الإنسان بالمواعظ، وقد لا يسمع موعظة مطلقاً، ويقول: دع المواعظ لغيري ممن دخلوا في الطريق الآن، أنا أمري أعظم من سماع المواعظ؛ فيترك سماع المواعظ وينشغل بغيرها، فيضعف واعظ الله في قلبه.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان من منهجه أن يحافظ على المواعظ على أصحابه حتى لو تقدم بهم العمر في طريق الاستقامة، ولذلك يقول الصحابي: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون) بعد كم سنة وعظهم؟ لا يزال يعظهم، مضت عليهم سنوات في طريق الإسلام، لكن موعظة مهمة، وترقيق القلب مهم حتى في آخر لحظات الحياة؛ ولذلك -أيها الإخوة- لا بد أن نركز على قضية الوعظ الرقائق، وعلى قراءة كتب الرقائق والمواعظ، ولا بد أن يركز الدعاة إلى الله بين الناس على الوعظ، وبين أنفسهم كذلك على وعظ أنفسهم بأنفسهم، لا بد أن يتعظوا.
وورد في صحيح البخاري في قصة الخضر: (أن موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل، فوعظ الناس وذكرهم، فسالت الدموع، ووجلت القلوب فولى) فاختصر الموعظة، وعظ الناس بشيء مناسب، ولما تأثروا مشى حتى لا يترك المجال لفتح مواضيع أخرى تذهب أثر الموعظة.
فعلينا التركيز على قضية الوعظ والرقائق، وعدم إهمالها أو تركها لمن نعتقد أنهم دوننا في المستوى الإيماني.
إذاً: لا بد من استغلال الفرص والاندفاع والتأثر في لحظات التأثر الأولى؛ لتغذية وتنمية الإيمان في النفس، والمبادرة بالاستمرار لعمل الطاعات والخيرات، ولزوم الرفقة الصالحة حتى يقوى الإيمان، ويصبح على أساسات، لا يصبح مجرد حماسة حدثت بعد حادث ثم انطفأت.
إن انتكاس بعض الناس راجع إلى أن التزامهم بأحكام الدين كان بطريقة فردية، لم تُحط بسياجٍ من الإخوة الإسلامية، وما دامت الشاة بعيدة عن القطيع فإن تسلط ذئاب الشبهات والشهوات عليها يجعلها فريسة سهلة.
إن الحياة الفردية الباردة على شفا جرفٍ هار من الحياة الإسلامية الجماعية التي يغذي بعضها بعضاً، ويدفع بعضها بعضاً، ويحمس بعضها بعضاً، ويستفيد بعضها من بعض، ويكمل بعضها بعضاً.
فاعتقاد الناس أنه يكفيهم الالتزام أو الاستقامة بعيداً عن إخوانهم الآخرين المسلمين اعتقاد خاطئ، وإذا بقي وحيداً فلا بد أن يكون السقوط حليفه يوماً من الأيام ما لم تدركه رحمة الله عز وجل.
وأحياناً يكون انتقاله من منطقة سكنية إلى منطقة أخرى لا يلقى فيها مستقيمين كما كان حاله في سكنه الأول، يكون سبباً مباشراً من الأسباب التي تجعله ينحرف عن الطريق المستقيم.
والمقصود: أن الكبرياء والتعالي من أعظم الأسباب، وهذا الكبر والغرور يؤدي بالإنسان إلى السقوط في مهاوي لا يعلمها إلا الله، ولعل من أشهر الأمثلة على ذلك: أن عالماً من العلماء ألف كتباً في العقيدة السلفية ندر أن يؤلف مثلها، ومن أعظم كتب هذا الرجل كتاب: الصراع بين الإسلام والوثنية ، الذي رد فيه على أناس كثيرين من أهل الضلال، وتجد فيه من قوة الحجة والجودة في الرد ما لا تجده في مكان آخر.
على سبيل المثال: احتجاج البعض بآية: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء:64] الذي احتج بها بعض المبتدعة على إتيان قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ميت وطلب الاستغفار منه وما يتبع ذلك من الانحرافات استدلوا بهذه الآية، تجد هذا الرجل قد رد في كتابه رداً عظيماً مفحماً على أولئك.
وكذلك له عدة مؤلفات في نصرة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وهذا الرجل بعد فترة من الزمن أصبح ملحداً من الملاحدة، وذهب إلى بلاد الكفار وعاش عندهم، وهو قريب العهد جداً بتاريخنا، كان بداية انحرافه ظهرت في كتاب له يسمى: هذه هي الأغلال، هذا الرجل درس في الهند ورحل إلى مصر، وكان رفيق رحلته في إحدى الرحلات الشيخ عبد الله بن يابس رحمه الله، هذا الرجل كان يعيش في القصيم، ويسمى عبد الله بن علي القصيمي ، وقصته معروفة مشهورة، وكان أبوه مصرياً من جيش محمد علي ، وأمه من البلاد التي عاش فيها من القصيم ، ثم إن الرجل ترعرع ونشأ وطلب العلم ونبغ فيه، فألف هذه المؤلفات العظيمة حقيقةً مثل كتاب: الصراع بين الإسلام والوثنية ، ولكن الرجل كان عنده من الكبر في نفسه شيئاً كبيراً جداً لدرجة أنه يقول:
ولو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع في الآفاق لأغنى عن الرسل |
يقول: لو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع على الناس كلهم في الآفاق لأغنى عن إرسال الرسل.
ويقول في مواضع: أنا عندي من الطاقات والإمكانيات والنبوغ والذكاء ما يبرر لي تكبري واستعلائي، بدأ ينحرف وألف كتاب: هذه هي الأغلال ، ورد عليه مجموعة من خيرة العلماء، منهم الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة ، والشيخ صالح السويع في كتاب: بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال ، والشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، وكان أجود من رد عليه الشيخ عبد الله بن يابس رحمه الله رفيقه في رحلته، وهو يعترف بهذا، يقول: ولم يرد علي أحد مثل عبد الله بن يابس .
هذا الرجل تطورت به الأمور أكثر فأكثر حتى ألحد وألف كتباً، منها: "العالم ليس عقلاً"، "هل لهذا العالم من ضمير"، "الكون يحاكم الله" ... وكتب أخرى فيها الكفر والزندقة والإلحاد الواضح، وذهب إلى بلاد الكفار؛ لأنه لا يمكن أن يعيش بين المسلمين.
ما هو سبب ردة هذا الشخص؟
قضية الكبر والعجب، هذا الكبر الذي وقر في نفسه، مع أنه لا ينقصه العلم، لكن هذا الذي حدث.
وبعض الناس الآن من صغار طويلبة العلم تجد أنهم يطلقون عبارات عجيبة في أثناء كلامهم، قد يكتب كلاماً بسيطاً، ثم يقول: فاظفر بهذا التحقيق، أو هذا عزيز نفيس قلما تجده، وهذه الجمل قد تعاب على بعض كبار العلماء، فكيف ببعض الصغار الذين ما تمكنوا بعد.. وكيف يطيروا ولما يريشوا؟! ما نبت لهم ريش على أجنحتهم حتى يطيروا في سماء العلم، فهذه العبارات التي تنبئ عن العجب والغرور، وهي تعبير عن العجب في النفس وهو سبب مباشر للسقوط.
ومن الأمراض القلبية: الحسد، وتكرر صورة قابيل وهابيل، عدم الصبر على تفوق الآخرين في شتى المجالات، ويأكل الغيظ كبد الحاسد فلا يستطيع الاستمرار في الوسط الذي هو فيه؛ فيخرج من الوسط الإسلامي، ويخرج إلى أناس من البلهاء يعيش بينهم ليرى نفسه أنه المتميز فيهم، يعني: يرى من حوله طاقات مشتعلة لا يستطيع أن يجاريها ولا يستطيع أن يتفوق عليها وهو حاسد؛ فيترك هذا الوسط ويذهب إلى وسط آخر فيه ضعفاء أو بلهاء يعيش بينهم حتى يشعر بمجد العظمة.
هذه من الطباع السيئة التي تبقى في النفس بعد دخول هذا الشخص في عداد المستقيمين.
ومنها -أيضاً-: اللؤم والحقد وعدم التسامح من الأخطاء، هذه الخصال إذا بقيت في نفس صاحبها بغير تهذيب فإنها ستتفاعل وتظهر على السطح مكونة مشاكل عظيمة بعد مدة قصيرة، وتبدو المواقف التي تنم عن سوء النية وخبث الطوية، فلا يلبث أن يحدث بعدها الانقلاب ويرتد على عقبيه.
ويدخل في ذلك مخالطة العامة بغير تحفظ، والأقرباء غير المستقيمين والاستئناس إليهم، والرضا بالمنكر الذي هم عليه وعدم إنكاره، ومجاراتهم في الحديث، وربما استهزءوا بالدين وهو جالس فلا يلبث أن تضعف عظمة الله في نفسه حتى تتلاشى فيسقط!
وكذلك مدخل شيطاني يدخل منه أحياناً على الشخص من باب الدعوة: فيقوم الرجل يزعم أنه يريد أن يدعو امرأة أجنبية مباشرة فيكلمها وتكلمه، أو امرأة تريد أن تدعو رجلاً أجنبياً فاسقاً مباشرةً فتكلمه -بزعمها- تريد أن تدعوه إلى الله.. ماذا نتوقع أن يحدث بعد ذلك إلا العلاقات المحرمة التي تنتهي إلى نهاية سيئة.
وقد يجلس في مكان يعرض فيه فيلم علمي -مثلاً- تصحبه الموسيقى، فيأتيه الشيطان، ويقول: كيف تخرج من هذه القاعة؟ وماذا يقول الناس عنك؟
وقد يحدث أن بعض الطلاب في موضع الدراسة قد يضعف واقعه الدراسي، وقد يحصل نتائج سيئة وهو مستقيم، فيبدأ يضع سبب الانتكاس الدراسي على التدين، والدعوة إلى الله، والمستقيمين، وأنهم السبب في نكسته الدراسية، ويقول: إن هؤلاء أشغلوني، وإن الدعوة إلى الله قد أشغلتني، وطلب العلم أشغلني؛ فوصلت إلى هذه الحالة الدراسية السيئة، فما هو الحل حتى يحسن وضعه الدراسي؟ إنه لا بد أن يتخفف من هذه المهام، ولا بد أن يخرج من هذه الأوساط حتى يصبح حراً طليقاً يدرس كما يشاء حتى يتفوق.
ومن المعلوم أن مثل هؤلاء الناس إنما أوتوا بسبب عدم ترتيبهم وتنظيمهم لوقتهم، وعدم استغلال الأوقات في الأشياء النافعة التي يريدون عملها، فعندها يُحمِّل الدين والاستقامة والدعوة إلى الله وطلب العلم والناس المستقيمين السبب في انتكاسته الدراسية، فيترك كل هؤلاء وينحدر بعد ذلك في طريق الغواية.
أيها الإخوة: أنتم ترون في الواقع كثيرين من أولئك الذين جذبهم بريق المال وطمع التجارة عن تعلم العلم الشرعي وأداء الوظائف الدينية والدعوة إلى الله عز وجل، والمال فتنة وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28] ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (وما قل وكفى خير مما كثر وألهى).
فالضغط النفسي الذي يسبب الطوق الذي فرضه أولئك من الحصار عليها إذا ما اعتصمت بالله ولم تصبر، فإنها قد تعود وتسقط نتيجة لهذا الظرف النفسي الشديد الذي تواجهه.
والحبس وقطع المصروف، والحرمان من العطية والهبات، أو الطرد من البيت، هذه أمور يفعلها بعض أولي القرابة اضطهاداً للمستقيمين من أبنائهم في البيوت، وسلمان الفارسي رضي الله عنه قد حصل له شيء من هذا، فإنه عندما أراد أن يبحث عن الحق وعلم أبوه أن الابن سيذهب ويخرج ليبحث عن الحق قيده في البيت، وكبله بالسلاسل حتى لا يخرج، ولكن الله أنجاه، فاستطاع الهرب حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عنده في قصة طويلة صحيحة، رواها الإمام أحمد وغيره.
وقد تصل الدناءة ببعض الأقارب أن يضعوا المغريات والفتن أمام المستقيمين من أبنائهم وبناتهم، فيجلبون الأفلام السيئة إلى غرف المستقيمين من العائلة، ويضعون الصور والمجلات الخليعة داخل غرفهم.
ويصل الأمر كذلك ببعض الفجرة أن يحرم ابنته من الحجاب، وبعض الأمهات كذلك تحرم ابنتها من الخروج بالحجاب، وقد تسحب الحجاب، وقد تخفيه، وقد تستهزئ بالبنت وهي تسير في الشارع أمام الناس بحجابها.
وبلغ الأمر ببعض النساء أنها كانت لا تخرج ابنتها من البيت إلا وهي كاشفة عن وجهها وشعرها عنوة وبالقوة، فتضطر أن تخرج من باب البيت كاشفة، حتى إذا خرجت من البيت بالكلية أو من العمارة أرخت على وجهها الحجاب مرة أخرى، ولكن الدناءة تصل بتلك الأم أن تجلس على الشرفة لترى كيف تخرج البنت إلى الشارع: هل هي قد تحجبت بعد أن كشفت عن الحجاب أم لا؟ فإذا كانت قد تحجبت فإن الويل والثبور وعظائم الأمور بالانتظار بالمرصاد عند عودة البنت إلى البيت.
وقد يصل الاضطهاد بهؤلاء إلى حالة أن يخجل الأب أو الأم أو الأقارب المستقيمين والمستقيمات أمام الجيران والجارات، وأمام أصدقاء العائلة، ويقولون على مرأى ومسمع: انظروا إلى ابني، والأم تقول: انظروا إلى ابنتي فعلت كذا وكذا، إنها متشددة.. إنها تتحجب رغماً عني، والأب يسخر من لحية ولده ومن ثوبه أمام الآخرين في المجالس.
وقد يكرهون الولد أو البنت على السفر معهم في الإجازة حتى يعرضوه لأجواء المحنة والفتنة، وقد يصل بهم الأمر إلى منعه من زيارة إخوانه في الله، أو منعه من حضور حلقات العلم حتى ينقطع عن وسط التأثير والهداية..!
وقد يحاكم الوالد ولده أمام الأقارب في المجلس، ويتهمه بالجنون والوسوسة، ويقول له: إن عاقبة التدين إلى الجنون، ويقص القصص الخيالية أمام الناس في المجلس يقول: انظر إلى فلان إمام المسجد الفلاني، كان حافظاً للقرآن، عالماً، انحرف وصار يستعمل المخدرات وترك الصلاة.
وعلى فرض أن بعض هذه القصص صحيحة وهي نادرة جداً والحمد لله؛ لأن الذين جاهدوا في سبيل الله لا بد أن يهديهم الله السبيل، فيشعرونه بأن التدين وسوسة، وأن عاقبته إلى الخسارة، وأنه سيجن بعد فترة، وأنه سيصيبه الوسوسة، وهكذا.. ويقولون له: انظر إلى فلان التزم بالإسلام فحصل له كذا وكذا من الجنون، وفلانة التزمت بالحجاب وكذا وامتنعت عن الغناء وسماع المنكرات فحصل لها كذا وكذا من الخبط والانفصام الشخصي والمرض النفسي والعصبي، وكانت نهاية فلان في مستشفى الأمراض العصبية، كن وسطاً مثل أبيك.
وقد يصل الأمر بالاضطهاد إلى الضرب والشتم، وأب كان يتفل ويبصق على ولده وهو خارج من الدار وهو عائد إليها، وربما كنا نظن أن قضية التعذيب والتنكيل مثل الصحابة خاصة بالصحابة أو شيء، قد لا يتصور البعض، حتى سمعنا أن بعض الآباء وبعض الأهالي قد يحمي حديدة ويضرب بها على جسد ابنته مثلاً أو ابنه حتى يرغمه على ترك الاستقامة، وذكرنا كذلك أمثلة بعض الأباء قد يغلق الباب حتى لا يخرج الولد لصلاة الفجر، يغلق الباب بالمفتاح ويأخذ المفتاح معه، وبعضهم قد يضع مزيل الشعر على لحية ولده وهو نائم عداءً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم!
الشاهد -أيها الإخوة-: أن هذه الضغوط شديدة، إذا ما يكن هناك صبر وإحساس بقول الله عز وجل: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3].. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة:214].
إذاً: احتساب الأجر في هذه الأشياء مهم، وكثير من الذين صبروا نجوا والحمد لله؛ لأن الذين من حولهم يئسوا لما رأوا الثبات واستسلموا للواقع، بل إنهم بعد فترة هم الذين يتأثرون بهؤلاء المستقيمين، ويتندمون على تلك الاضطهادات والإيذاء التي أوقعوها بهم.
ومن أشكال الضغط -كذلك-: الرجل يهدد زوجته بالطلاق إذا هي تحجبت، أو تكون المرأة بعد الخطبة غير متحجبة، ثم يهديها الله عز وجل للحجاب، فتتحجب ولما يدخل بها زوجها بعد، فعندما يعلم الزوج الفاسق أن المرأة تحجبت يقول: إما أن تتركي الحجاب أو أفسخ الخطوبة..! فهناك إذاً ضغوط كثيرة تمارس.
وهذه قد تؤدي في أحيان كثيرة إلى السقوط وإلى ترك الاستقامة وترك التدين نتيجة هذا الإيذاء النفسي والجسدي:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند |
والزوجة قد تكون فتنة لزوجها، فقد تشغله عن طاعة الله وذكر الله والعمل لدين الله، وتشغله بشراء الحاجات والاستغراق في لذات الدنيا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تعس عبد الزوجة، تعس عبد الدينار وعبد الدرهم) وبعض الأولاد يكونون نكبة على آبائهم وأمهاتهم ويشغلونهم عن طاعة الله.
هذه طائفة من الأسباب التي تؤدي إلى الانحراف والانتكاس والسقوط، وهي تقريباً أسباب داخلية للنفس، وكذلك استجابات داخلية لأشياء خارجية تقع، وهناك أسباب أخرى مع طريقة العلاج، ووصف الحالة النفسية التي يعيش بها المنتكس أو الساقط؟ وكيف يكون وضعه؟ وكيف يمكن أن يعود؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عنه في الدرس القادم إن شاء الله في الجزء الثاني من هذه المحاضرة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياكم.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
اللهم إنا نعوذ بك من الزيغ والزلل والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم واجعل باطننا صالحاً، وأصلح ظواهرنا، اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأصلحنا ظاهراً وباطناً، واجعلنا من المستقيمين على شرعك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر