يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
معشر الإخوة الكرام! إن الموضوع الذي سوف نتدارسه الآن يدور حول موضوع عظيم عظيم، ألا وهو أثر الاستجابة لربنا العظيم ولنبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه في حياة المسلمين، أثر الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم في حياتنا، وهذا الموضوع سنتدارسه من جهات ثلاث:
الأمر الأول: في مقدمة أبين فيها سبب مدارستنا لهذا الموضوع في هذا الوقت.
والأمر الثاني: أتكلم فيه عن أحوال هذه الأمة قبل مجيء الإسلام.
الأمر الثالث: أتكلم فيه عن أحوال هذه الأمة بعد نزول القرآن.
إخوتي الكرام! أما الأمر الأول، وهو الذي دعاني لاختيار هذا الموضوع في هذه المحاضرة فهما سببان عظيمان:
( فإن شفاه الله غسله وطهره )، أي: غسله من ذنوبه ونقاه من عيوبه، ( وكان هذا المرض حطة لخطاياه ) يحط الله بهذا المرض الذنوب عن العبد والعيوب، ( وإن توفاه غفر له ورحمه ).
هذا حال الإنسان عندما يصاب بمرض في جسمه، وبآفة في بدنه، يطلب الشفاء ويلجأ إلى الله جل وعلا في حصول ذلك، والإنسان إذا كان يطلب الشفاء لبدنه، فينبغي ويتحتم عليه ويلزم أن يطلب الشفاء لقلبه، وأن يطلب الشفاء لنفسه إذا حلت بها الآفات والأسقام والأمراض، فإذا أصيب بمرض الشبهات، وإذا أصيب بمرض الشهوات ينبغي أن يطلب العلاج، وعلاج هذان المرضان لا يكون إلا بما أنزله ربنا الرحمن: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82].
فلذلك لا يتطهر الإنسان من شبهة، ولا يبتعد عن شهوة خسيسة رذيلة إلا إذا زكى نفسه بشريعة الله الجليلة، فلأجل هذا بعث الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وامتن الله على المؤمنين بسبب ذلك: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
إخوتي الكرام ! هذا الأمر كما قلت: لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان، فكما أن الإنسان يطلب الشفاء والبرء لبدنه وجسمه، ينبغي أن يطلب العافية والشفاء والصحة لنفسه وقلبه.
فانغمست الأمة بجميع طبقاتها، فإذا كان هذا حال خاصة الخاصة، انغمسوا في الشهوات والشبهات، فترى في الجامعات ما يندى له جبين المؤمنين والمؤمنات، إذا كان هذا حال المسلمين في هذا العصر الهابط المتأخر، إذا كان هذا حالنا فقد سقطنا من عين ربنا سبحانه وتعالى، وترتب على سقوطنا من عين الله خسارة الدنيا وخسارة الآخرة، أما خسارة الدنيا فما أظن أنه يخفى على أحد من الناس مؤمنهم وكافرهم، لا يخفى عليه حال المسلمين، فصرنا في المرتبة الأخيرة وفي الحضيض نتطفل على موائد الكافرين لنأكل من فضلاتهم، ونرفع إليهم قضايانا، ونرجو عطفهم ورحمتهم بنا وعلينا، وهذا مع شناعته وقبحه أمر يسير، فإذا تأخر المسلم في هذه الحياة أمام الكافرين، فالمصيبة مهما عظمت زائلة، لكن المصيبة التي ستتبعها هي خسارة الآخرة، وأنا سنأخذ مقعداً في جهنم يلي مقاعد الكفار، كما تأخرت مرتبتنا في هذه الدنيا عن مرتبتهم، فنحن نتبعهم وهم المتبوعون، وسيتبرءون منا عندما يلقون ويلقى من تبعهم في نار جهنم، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166].
لهذا الأمر الذي يتفطر له الأكباد، أردت إقامة هذه المحاضرة لأعاهد الله قبلكم، ولتعاهدوا الله ربكم ثانياً أنتم على تنفيذ وتطبيق ما تسمعونه فيها، فبذلك يحصل لنا السعادة في ديننا وفي دنيانا، وإذا رجعنا إلى ذلك فقد سلمت لنا الآخرة، وستعاد لنا الدنيا، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].
فذهب من آمن إلى تلك البلدة إلى الحبشة حتى يجعل الله لهم فرجاً ومخرجاً، ومعلوم أن المسلمين الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة سيصبح لهم قوة وصاروا في مأمن وراحة، فلما علم المشركون بالأمر اختاروا رجلين منهم ليرسلوهما إلى النجاشي ليعيد هؤلاء الذين هاجروا من مكة إلى بلادهم، فاختاروا عمرو بن العاص ، وكان إذ ذاك مشركاً على دين قومه يعبد الأصنام، واختاروا عبد الله بن أبي ربيعة ، فذهبا إلى الحبشة وأخذا معهما من الهدايا ما أخذاه، وأعطيا لكل واحد من جلساء الملك وأصحابه هديته ليشفع لهم في هذا الأمر عند الملك، وارتقبوا من جلساء الملك وأصحابه وخواصه أن يعيد النجاشي هؤلاء إلى مكة، دون أن يبحث في أمرهم، ودون أن يسمع منهم شيئاً؛ لأنهم على الحق، والنفس الطيبة إذا سمعت الحق تقبله، ونفس النجاشي نفس طيبة طاهرة، فإذا سمعت هذا الحق فستقبله.
فلما دخل هذان الرجلان عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي وعمرو بن العاص على النجاشي ، وكلماه في الأمر وطلبا منه أن يعيد هؤلاء المهاجرين إلى بلدتهم مكة؛ لأنهم فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين النجاشي ، وكان على النصرانية إذ ذاك، وقال البطارقة وجلساء الملك وخواصه: نعم أيها الملك، أعد هؤلاء إلى أهلهم وإلى وطنهم، فقومهم أعلم بهم، وكان النجاشي عاقلاً، فقال: لا والله لا أعيدهم حتى أسمع منهم، هم اختاروني على من سواي، كيف أطردهم من بلادي؟! فدعاهم النجاشي ، فلما علم هؤلاء الصحابة بهذا الأمر، وقع في قلوبهم شيء من الرعب وقالوا: ماذا نقول؟ فقال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: والله ما نقول إلا ما علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم، نجهر بالحق والله يتولانا فهو ولي المؤمنين، فلما دخلوا على النجاشي قال لهم النجاشي : ما هذا الدين الذي فارقتم به قومكم ولم تدخلوا في ديني؟! فقال جعفر : أيها الملك! إنا كنا في جاهلية وشر -هذا حال الناس قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام- نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونقطع الأرحام، ونشرب الخمور، ونأتي الفواحش، ونسيء الجوار، ونقتل البنين، ونئد البنات، ويأكل القوي منا الضعيف.. سبحان ربي العظيم! لعل حياة العجماوات والبهائم خير من هذه الحياة، فبعث الله فينا نبيه نعرف صدقه ونسبه وأمانته، فدعانا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونبذ عبادة الأصنام وما كان يعبد آباؤنا، وأمرنا بصدق الحديث وصلة الأرحام، وأن نترك ما كنا نفعله من الفواحش.. وعدد عليه أمور الإسلام التي أمرهم بها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فعدا علينا قومنا وآذونا، فلجأنا إليك واخترناك على من سواك.
في نهاية المحاورة التي جرت بين النجاشي وبين هؤلاء المؤمنين المهاجرين، قال لهم: أنتم سيوم في أرضي، أي: أحرار تتصرفون كما تريدون كما تتصرف الدابة السائمة ترعى كما تريد، وتذهب أينما تريد، والله ما أحب أن لي تبراً من ذهب، أي: جبلاً عظيماً من ذهب، وأن واحداً منكم يؤذى.
ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه، قال: ( قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً ذات يوم فقال: إن الله أمرني أن أعلمكم ما جهلتم في يومي هذا، قال الله تعالى: كل مال نحلته عبداً فهو حل، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم على الفطرة، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ) .
والمقت إخوتي الكرام! هو أشد الغضب، وأعظم أنواع البغض، ( إن الله نظر إلى أهل الأرض )، أي: قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام، ( فمقتهم )، غضب عليهم غضباً عظيماً، ( عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب )، وهم الذين كانوا يتمسكون بدين الحق الذي أنزله الله على نبيه وعبده عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وقال الله: (إني مبتليك ومبتلٍ بك، وإني منزل عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقضان ).
حصلت لهم التقوى، وحصل لهم الرباط الوثيق فيما بينهم، حسنت الصلة فيما بينهم، وقويت صلتهم بربهم سبحانه وتعالى، وأما في منزلتهم وفي موقعهم وفي مكانتهم في الحياة الدنيا، فكانوا الأمة الأولى بعد أن كانوا أذناباً في ذلك العصر، فالدولتان العظيمتان في ذلك الوقت، دولة الفرس ودولة الرومان، أذن الله بزوالهما، وأذن الله باندحارهما على أيدي هؤلاء المؤمنين الذين كانوا مستضعفين يتخطفون من كل جانب، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، هذا حال الناس قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام، فلما بعث ونزل عليه القرآن صار له المنزلة الأولى في هذه الحياة، قويت صلتهم بالله، وحسنت صلتهم فيما بينهم.
إذا كانت حالتنا الآن تشبه حياة وحالة الناس قبل مبعث نبينا عليه الصلاة والسلام، ليس عندنا دنيا، ونحن متأخرون، ونحن أذلاء صاغرون، نسأل الله أن يلطف بنا في الأمر الثاني، ما الذي حصل للصحابة رضوان الله تعالى عليهم وللأمة في عصرها الأول حتى انتقلوا من تلك الحالة الرديئة إلى الحالة الفاضلة الطيبة التي صاروا بها قادةً سادةً؟
إخوتي الكرام! لو تأمل الإنسان في الأسباب التي غيرت أحوال هذه الأمة من ضعف إلى قوة، ومن ذل إلى عزة، لوجد أن الأسباب على كثرتها لا تخرج عن سببين، ينبغي أن نعي هذين السببين تمام الوعي، وكما قلت لإخوتي الكرام: إن الأمر عظيم وعظيم، فليعاهد الله كل واحد منا على تنفيذ ذلك، كما نفذه أئمتنا وسلفنا صحابة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهم أجمعين.
الأمور الأربعة التي صاحبت هذا القرآن ولازمته، وما تنشق آية من آيات القرآن عن هذه الأمور:
الأمر الأول: علم تام كامل، وكيف لا يكون هذا في القرآن، وقد أنزله ربنا الرحمن الذي يعلم كل شيء، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:6].
الأمر الثاني الذي صاحب هذا القرآن: حكمة تامة كاملة تضع الأمور في مواضعها، وكيف لا يكون هذا في القرآن وهو تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]؟! الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس:1].
وصاحب القرآن ولازمه أمر ثالث: أنه رحمة بهؤلاء الناس، كما قرر ربنا جل وعلا هذا بقوله: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:52]، فوالله الذي لا إله إلا هو! لو عقل الإنسان لعلم أن رحمة الله به في إنزال هذا القرآن أعظم بكثير من رحمة الله به في خلق بدنه، ومن تسخير ما سخر له من نعم وطيبات أعظم بكثير، وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:52].
والأمر الرابع الذي صاحب هذا القرآن ولازمه: أن هذا القرآن مستمد من الله جل وعلا، فهو كلامه، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على ما عداه سبحانه وتعالى، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41-42].
وعندما يقبل الإنسان على كتاب ربه يضع الأمر في نصابه، فأنت مخلوق اهتديت بنور خالقك، ولكن البلاء والذل والصغار عندما يقبل مخلوق على زبالة آراء مخلوق آخر، وعندما يعبد البشر بعضهم بعضاً، هذا هو البلاء، فأما أن الإنسان يعبد ربه، وأما أن العبد يتذلل لسيده، فهذا عز وشرف له في الدنيا والآخرة، وإنما الذل والاندحار والبلاء والصغار أن تأخذ بزبالة أفكار المخلوقين، وأن تعبدهم من دون رب العالمين، كما هو حال القوانين المزيفة التي تطبق في بلدان المسلمين في هذا الحين، فليس العار أن تأخذ بكتاب الله، فأنت عبد وذاك رب سبحانه وتعالى، ولا غضاضة أن يسترشد وأن يهتدي العبد بنور سيده، وبهدى سيده، وبعلم سيده، ففي ذلك وضع للأمر في نصابه: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41-42].
ولأجل تلك الأمور الأربعة ترتب عليها أمور ستة:
الأول: انتفى التضارب والتناقض والاختلاف في آيات القرآن، وكيف يكون فيه اختلاف وتضارب وهو منزل من الرحمن؟! أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، ليس هذا الكلام ككلام البشر المتهافت الذي ينقض بعضه بعضاً، فلا اختلاف فيه ولا تناقض ولا تضارب.
الأمر الثاني: كان هذا القرآن مهيمناً ورقيباً على ما عداه، فهو الذي يحق الحق ويبطل الباطل، وينبغي أن تعرض عليه علوم الأولين والآخرين ليبين أن هذا حق، وأن هذا باطل، فما شهد القرآن بصحته فهو الصحيح، وإلا فهو الباطل، كما قال الله جل وعلا: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48] أي: يبين الصحيح من الفاسد فيه، وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:48].
ولأجل تلك الأمور الأربعة ترتب أمر ثالث وهو السابع: كان هذا القرآن نوراً وهدى للناس، كما قال الله جل وعلا في أول كتابه: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2].
ولأجل تلك الأمور الأربعة المتقدمة ترتب عليها أمر رابع وهو الثامن: كان هذا القرآن كثير الخير والبركة، وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [الأنبياء:50]، وقد جرت سنة الله بين عباده أنه ما أقبل على هذا الكتاب أحد إلا حصل بركات الدنيا والآخرة، وما أعرض عن هذا الكتاب أحد إلا ووكله الله إلى نفسه فحصل نكد الدنيا وعذاب الآخرة، وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [الأنبياء:50].
وترتب على الأمور الأربعة المتقدمة أمر خامس وهو تاسع الأمور: كان هذا القرآن أحسن الحديث، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23].
ولأجل تلك الأمور الأربعة ترتب أمر سادس وهو العاشر: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، لأقوم طريقة، وأحسن خصلة، وأكمل فضيلة.
وباختصار: إن هذا القرآن لعقول الناس ضروري كضرورة الشمس لأعينهم، فإذا كانت أعين الناس لا ترى بدون الضوء الحسي، مهما قويت قوة الإبصار فيها، فهذه العقول لا تهتدي بدون وحي سماوي، بدون هذا القرآن، هذا القرآن لعقول الناس كالشمس لأعينهم، كما أنهم لا يبصرون إلا بالشمس، فسيتخبطون إذا لم يكن هناك نور، وإذا لم يكن هناك قرآن.
بل من رحمة الله جل وعلا أنه يسر حفظه وفهمه ومدارسته، ولو لم ييسر الله ذلك لما استطاع أحد من الخلق أن يحفظه، ولقد ذكر الله جل وعلا في سورة القمر أربع مرات أنه يسر هذا القرآن للذكر، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، جاء في تفسير ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: والله لو لم ييسر الله حفظ القرآن لما استطاع أن يحفظه أحد.
إخوتي الكرام! كما قلت: النبع لم يتغير ولن يتغير ما دامت السماوات والأرض: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، إنما هناك فعل فعله سلفنا الكرام فتغيرت أحوالهم، فما الذي فعله سلفنا نحو هذا النبع الصافي؟ وما الذي فعلناه نحن؟ حتى حصل فيهم أثر القرآن ونوره وبركته، وصاروا أعزة في الدنيا وهم سعداء في الآخرة، ونحن بعد ذلك صرنا أذلة في الدنيا وأشقياء في الآخرة، إلا إذا رجعنا إلى رشدنا وبصيرتنا، وأقبلنا على كتاب ربنا سبحانه وتعالى.
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، وقد أخبرنا الله جل وعلا أن الرشد والفلاح، والرشد والإصلاح لا يحصلان إلا لمن استجاب لله سبحانه وتعالى، يقول الله جل وعلا في سورة البقرة: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، ليحصل لهم الرشد، ليحصل لهم الفلاح، ليحصل لهم الخير والبركة، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
وقد حذرنا الله جل وعلا من عدم الاستجابة له، وبين لنا أن عاقبة ذلك وخيمة، وأنها تؤدي إلى نار الله الموقدة، يقول الله جل وعلا في سورة الشورى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [الشورى:47]، ما لكم مكان تلتجئون فيه وتحتمون، فهناك داران لا ثالث لهما، إن استجبتم فستعيشون في الجنة، وإذا أعرضتم فستكونون أذناباً للكفار في النار كما كنتم أذناباً لهم في هذه الحياة، مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [الشورى:47]، لا تستطيعون إنكار ذنوبكم، ولا تستطيعون جحود عيوبكم، ولا تستطيعون نكران عدم إجابتكم، فالملائكة قيدت هذا، والجوارح شهود، ورحمة الله على من قال:
هل يستطيع جحود ذنب واحد رجل جوارحه عليه شهود
وقد أخبرنا الله جل وعلا أن الجن عندما سمعوا هذا القرآن، استجابوا له على التمام، ورجعوا ينذرون قومهم ويحذرونهم من عدم الاستجابة، يقول الله جل وعلا في سورة الأحقاف: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ [الأحقاف:29-32]، من يهرب من الله جل وعلا؟! ولن يستطيع الإفلات منه، وسينتقم الله منه عاجلاً وآجلاً، وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:32]، بل أخبرنا الله جل وعلا عن عظيم منزلة من استجاب لدعوته، وعن شناعة من أعرض عن الاستجابة له، فقال جل وعلا في سورة الرعد: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [الرعد:18].
كما أخبرنا الله جل وعلا أن كل من أعرض عن الاستجابة لهذا القرآن، فإنما يتبع الهذيان، ويتبع هواه، يقول الله جل وعلا في سورة القصص: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].
إخوتي الكرام! الاستجابة حصلت في سلف هذه الأمة، وفي خير هذه الأمة عن طريق ثلاثة أمور، لعله لا يوجد واحد منها فينا، وكما قلت إخوتي الكرام: نتعلم لنعمل، وليعاهد كل واحد منا ربه على أن يفعل هذه الأمور الثلاثة كما فعلها سلف هذه الأمة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، كيف استجاب الصحابة؟! وكيف استجيب سلف الأمة لدعوة الله سبحانه وتعالى؟! تحققت استجابتهم لربهم عن طريق أمور ثلاثة:
الأمر الأول: أقبلوا على كتاب الله جل وعلا وعكفوا عليه، وجعلوا هذا الكتاب هو المصدر الوحيد لأفكارهم وآرائهم ومعتقداتهم، فإليه يردون وعنه يصدرون، والله جل وعلا قد أمرنا بذلك، وحذرنا من التطلع إلى غير كتابه، فقال جل وعلا: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:51]، أو لم يكفهم هذا القرآن؟ بل قال جل وعلا في سورة الأنبياء: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]، فيه شرفكم، فيه عزكم، فيه موعظتكم، فيه ذكركم لربكم، فهو أعظم الأذكار، أفلا تعقلون؟ فتتطلعون إلى غيره، وتريدون مصادر غير كتاب الله سبحانه وتعالى؟
إخوتي الكرام! هذا الأمر ضروري، كان صحابة النبي عليه الصلاة والسلام وسلف هذه الأمة المصدر الوحيد لثقافتهم ولأفكارهم ولعلومهم كتاب الله جل وعلا، فلما أقبلوا عليه أقبل الله عليهم، وتولى أمرهم، وأعزهم في الدنيا وأسعدهم في الآخرة.
ثبت في صحيح البخاري في كتاب العلم، وبوب عليه البخاري باباً غريباً في زماننا، ولعله لا يحصل بين خاصة الخاصة مفهوم هذا الباب ومدلوله -إلا ما رحم ربك وقليل ما هم- هذا الباب يقول عنه البخاري في كتاب العلم: باب التناوب في العلم، ثم ساق بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ينزل هو يوماً، وأنا أنزل يوماً، فإذا نزلت جئت لصاحبي بخبر ما نزل على النبي عليه الصلاة والسلام من وحي وغيره، وإذا نزل صاحبي جاءني بخبر ما نزل على النبي عليه الصلاة والسلام من وحي وغيره.
سبحان ربي العظيم! لما كادت أمور الحياة تأخذ منهم بعض الوقت، ولا يتفرغ كل واحد منهم لمجالسة النبي عليه الصلاة والسلام، ولتلقي العلم والهدى منه، لابد إذاً من حل مناسب بحيث نعيش في هذه الحياة، وتكون مطية لنا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فإذا لم يمكن اجتماعنا جميعاً عند النبي عليه الصلاة والسلام فنحن -معشر الجيران- نتناوب، أنت تذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم، فإذا نزل عليه شيء من الآيات تحفظها وتصحبها، فإذا عدت في المساء علمتني تلك الآيات فحفظتها، وكأنني حضرت النبي صلى الله عليه وسلم وشاهدته، وفي اليوم الثاني أنا أتفرغ لتلقي العلم، وأنت تتفرغ لأمر الدنيا.
وقد أورد البخاري في كتاب النكاح باباً.. كما أن الباب الأول غريب فينا فلعل الباب الثاني أغرب، يقول البخاري في صحيحه في كتاب النكاح: باب التزويج على القرآن وبغير صداق، سبحان ربي العظيم! امرأة مهرها آيات من القرآن بغير صداق، إي والله إن هذا أشرف المهور وأكرمها وأعلاها وأعظمها، ثم أورد الحديث بسنده إلى سهل بن سعد رضي الله عنه: ( أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله! إني أعرض نفسي عليك )، تعرض نفسها على النبي عليه الصلاة والسلام ليتزوجها، فطأطأ نبينا صلى الله عليه وسلم نظره، فلما أعادت الثانية والثالثة ولم يجبها، علمت أنه ليس للنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة، فقام رجل فقال: ( يا رسول الله إن لم يكن بك حاجة إليها فزوجنيها؟ فقال: وماذا تصدقها؟ ) ماذا تعطيها من المهر؟ قال: ( ما معي إلا إزاري، قال: ويحك ماذا تفعل بإزارك؟ إن أعطيتها إزارك بقيت بلا إزار، التمس ولو خاتماً من حديد، قال: والذي بعثك بالحق! ما عندي هذا )، خاتم من حديد لا أملكه، قال: ( ويحك! وماذا تحفظ من القرآن؟ قال: سورة كذا وسورة كذا، فقال نبينا صلى الله عليه وسلم: قد زوجتكها بما معك من القرآن )، فعلم هذه المرأة هذه السور، هذا هو مهرها.
قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في زاد المعاد: وإنما جعل الإسلام المهر ملكاً للمرأة تنتفع به، فإذا رضيت بالقرآن، ورضيت بإسلام زوجها مهراً لها، صح ذلك، بل هذا أعظم المهور وأفضلها! آيات من القرآن مهر هذه المرأة.
ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إني لأعرف رفقة الأشعريين، وأعرف بيوتهم ومنازلهم بالليل وإن لم أرها بالنهار من أصواتهم للقرآن )، والأشعريون رضي الله عنهم من اليمن، كان الصحابة إذا نزلوا في سفر، واستراح كل جماعة في مكان في النهار، وهو لم يعرفهم، فيستطيع أن يميزهم من غيرهم بالليل عن طريق سماع القرآن، فلما يقترب من هذه البيوت يسمع منها القرآن، فيميز هل هذا من صوت الأشعريين أو من صوت غيرهم؟! سبحان ربي العظيم!
هذا كان حال الصحابة إخوتي الكرام! ولنر بأي شيء نملأ به بيوتنا في الليل بدل القرآن؟! فإذا مر الإنسان بين بيوتنا فإنه يسمع -وليته لم يسمع- ما يصك الآذان من غناء حرمه الرحمن، أعظم من نهيق الحمار، أهذه بيوت المسلمين؟ أهذه بيوت الذين يعظمون كلام الله العظيم؟! لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]، صارت قلوبنا أقسى من الحجارة، زاد غلظ قلوبنا على قلوب بني إسرائيل، سبحان ربنا العظيم! والله لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام ربنا، ولكن لما كان في قلوبنا شهوة وشبهة، ملأنا بيوتنا بمزامير الشيطان، وملأناها بوسائل الإعلام التي حرمها الرحمن، وجلسنا في الليل نحارب الله، والله جل وعلا بعد ذلك حاربنا، وسقطنا من عينه، وأوكلنا إلى أنفسنا، فعشنا أذلة في الدنيا، ونسأل الله اللطف في الآخرة، هذا حال الصحابة! يميز بيوت الناس من سماع القرآن، لا يقترب من بيت إلا ويسمع صوت القرآن من هذا البيت، فنقول: هذا أنصاري، وهذا مهاجري، وهذا أشعري من اليمن، سبحان ربي العظيم!
سبحان ربي العظيم! نحن عندنا سورة البقرة لكننا نقرأ هذياناً، ونقول أوهاماً، ونقول كلاماً منمقاً لا وزن له ولا فائدة وعندنا سورة البقرة!
ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتمع أيضاً مرة مع لبيد فقال: أنشدني مما كنت تقول، فقال: يا أمير المؤمنين! لا أقول الشعر بعد أن أكرمني الله بسورة البقرة وآل عمران! كيف أقول هذياناً وشعراً؟! وما قال بعد أن أسلم إلا بيتاً واحداً من الشعر:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
إخوتي الكرام! هذا كان حال الصحابة نحو هذا النبع الصافي، ونحو هذا الدستور الإلهي، ونحو هذا المنهج الرباني، وكيف لا يقبلون عليه هذا الإقبال، وقد بين نبينا عليه صلوات الله وسلامه أن خير الناس من تعلم كتاب الله وعلمه، كما ثبت هذا في الصحيحين عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ).
وكيف لا يقبلون على القرآن هذا الإقبال، وقد جعل نبينا صلى الله عليه وسلم لقراءته أجراً عظيماً، ففي سنن الترمذي وقال: حسن صحيح، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف ).
وكيف لا يقبلون على كتاب الله جل وعلا، ويتدارسونه، ويجعلونه المصدر الوحيد لجميع ثقافاتهم وعلومهم، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن القوم إذا اجتمعوا لتلاوة كتاب الله، حصلوا من الأجر ما لا يحصل على ذلك أحد من خلق الله، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وكيف لا يقبلون على كتاب الله ويجعلونه المصدر الوحيد لحياتهم؟! وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن القلب الذي ليس فيه قرآن قلب خربان، قلب ميت، ففي سنن الترمذي بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب ).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر