أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن سورتنا الليلة لسورة مباركة ميمونة، إنها سورة المسد.
وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1-5].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما المقصود بالمسد؟
الغالب أنه حبل من الليف، قد يكون من ليف النخل التي يصنع منها الحبال، وقد يكون من شجر آخر معين ولا بأس في ذلك.
ولم سميت السورة بسورة المسد؟ الجواب: لذكر لفظ المسد فيها.
والسورة مكية، وسبب نزول هذه السورة الكريمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه أمر إلهي، وطلب منه أن يبلغه، وذلك في سورة الشعراء، وهو قول الله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214].
وَأَنذِرْ [الشعراء:214]، أي: خوف.. حذر. عَشِيرَتَكَ [الشعراء:214] ، أي: ممن تعاشرهم ويعاشرونك من أقربائك، وابدأ بالأقرب فالأقرب.
ويكفينا أن نسمع أنه قال للزهراء : ( يا
ثم صعد إلى جبل الصفاء مع الصباح ونادى بأعلى صوته: ( واصباحاه! ) ودوى صوته في جبال مكة.
صوت عجب! إنه صوت محمد صلى الله عليه وسلم، دوى صوته في ذلك الوادي فهرع الرجال والأبطال إليه؛ لأنهم إذا صبحهم عدو أو مساهم -لم يكن عندهم لا سلكي ولا كاشفات الأجواء- يصعد النذير العريان فوق جبل وينزع ثوبه ويبقى أحمر عار ويلوح بثوبه.. إذا فعل أحد الناس هذا فمعنى ذلك: أن العدو أقبل؛ فيتدفقوا.. لم يبق تردد أو تساؤل -ليس هناك إعلام هابط- يسرعون.
ولهذا قال: ( إني النذير العريان )، وحاشاه لم يتعر ولن يتعرى، ولكن نظراً إلى ما عليه العرب والبشر.
كيف ينذرون أقوامهم؟
فلما اجتمع عليه أهل مكة قال: ( أرأيتم إن أخبرتكم أن جيشاً قد صبحكم ومساكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك الكذب. قال: قولوا: لا إله إلا الله، كلمة تملكون بها العرب، وتسودون بها العجم )، فنطق أبو لهب الجهنمي في وقاحته: ألهذا دعوتنا يا محمد؟! تباً لك. فـأبو لهب حاقد؛ مكتوب من أهل النار. فأنزل الله تبارك وتعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد:1] دافع الله عن رسوله. أي: أنت تدعو على رسولنا ونحن المالكون القادرون ندعو عليك، والله لن يفلح أبو لهب.
من القائل: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد:1]؟ الله. إذاً: فلن يفلح بعد اليوم.
وما هي إلا أيام وقد أصيب بوباء ومرض يسمونه مرض العدس -ولا أدري هل هو معروف عندكم أم لا- حتى أصيب به فتعفن وأنتن، ووالله ما استطاعوا أن يقربوه ويغسلوه، فصبوا عليه الماء بالأسطال من بعد.. وهذا من أعلام النبوة المحمدية.. حكم الله تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1].
والتباب: الخسران، والتتبيب كذلك.
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد:1]، وأبو لهب اسمه: عبد العزى بن عبد المطلب ، عم للنبي صلى الله عليه وسلم، هذا أخو عبد الله وأبي طالب والعباس وحمزة .
ولم كني بـأبي لهب ؟ قيل: لأنه كان ذا جمال ومنظر وطلعة كأن وجهه لهب النار. ولكن وراء ذلك أنه أبو جهنم.
كان جميلاً فكناه أبوه أو أمه: أبا لهب ، لكنه في حقيقة صاحب جهنم، أو أبو اللهب كاملاً.
وهذه كقضية الشيوعية: اليسار واليمين، لم تكن البشرية تعرف اليسار أبداً، وإنما كانت تعرف اليمين فقط، فجاءت الشيوعية الحمراء فأصبحت أصحاب الشمال، وسبق أن القرآن صرح بحكم ذلك فيهم: أَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة:41-44]. عجائب القرآن! كنته أمه بـأبي لهب وإذا به هو أبو اللهب.
ولما نزلت هذه السورة وإذا بـأم جميل العوراء وتسمى أروى بنت حرب .. هذه سيدة من سادات نساء قريش وإن كنا لا نمدحها، لكن ابن كثير أثنى عليها، ذكر أنها من سادات نساء قريش وهي أخت أبي سفيان ، هذه بنت حرب الأموية ، واسمها أروى ، وكنيت بـأم جميل ؛ لأن ابنها جميل مثلاً، وهي زوجة أبي لهب.
لما نزلت هذه السورة وتلاها المؤمنون وسمعت قالت: محمد يهجوني، فحملت صخرة -حجر- وجاءت تطلبه كالمجنونة تبحث عنه، والرسول صلى الله عليه وسلم جالس حول الكعبة كسائر أهل قريش منتداهم حول الكعبة، فجاءته والحجر في يدها، فعثرت على أبي بكر . فقالت له: أين صاحبك يا أبا بكر؟ فقال: مالك؟ قالت: يهجوني. قال: يا أم جميل والله ما ينشد الشعر رسول الله، ولا يعرف الشعر. قالت: أصدقت؟ قال: نعم ما يعرف الشعر. كيف يهجوك؟ فرجعت، وقالت: لو وجدته هنا لفلقت رأسه. فلما ذهبت قال أبو بكر للرسول: أرأيت أنها رأتك يا رسول الله؟ قال: ( لا. ما رأتني، الله أعمى بصرها ). والله ما رأته وهو جالس مع الصديق جنباً إلى جنب، وكانت تتكلم مع أبي بكر وتتعنتر وتبحث والرسول بين يديها. وجاء مصداق هذا من سورة بني إسرائيل: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [الإسراء:45]، قرأ شيئاً من القرآن فأعماها الله فلم تره.
ولعل الآية تشير إلى أنه كان ذا مال فهل أغنى عنه ماله؟ لا. ولذلك قال: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:2].
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4] ونصبت حَمَّالَةَ [المسد:4] أذم حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4] أبلغ في الذم.
من هذه المرأة؟ إنها امرأة أبي لهب. هذه أروى أم جميل بنت حرب .. أخت أبي سفيان سلطان مكة.
إذاً: هنا إشارة إلى أنها كانت تمشي بالنميمة، وما زال الناس يقولون: فلان حمال الحطب.. فلانة حمالة الحطب. لم تحمل الحطب؟ لتوقد النار، والنمام -سلمكم الله- يوقد نار الفتنة.. يفرق بين الأحبة.. يمزق بين الإخوان.
حمال الحطب: ذاك النمام الفتان الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه آخر؛ لإيقاد النار وإشعالها، وكانت هذه الزعيمة كذلك، والقرآن حمال الوجوه، فافهموا هذا الوجه على حقيقته.
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4] أذم حمالة الحطب؛ لأنها كانت تمشي بالنميمة.
وفي نفس الوقت حمالة أي: كثيرة الحمل للحطب.. هذا شوك السعدان، هل تعرفه يا أبا عبد الله ؟ شوك السعدان تأتي به من البر خارج مكة على شكل حزم، وإذا جاء الظلام ونام الناس تضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قام لصلاة الصبح في المسجد الحرام يطأه برجليه فيلتصق به.
ما وجدت ما تمكر به إلا هذه وإلا لكانت تفعل.. هذه هي حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4].
إذاً: كيف تحمل حزمة؟ الجواب: على ظهرها وتحمل الحبل على عنقها كما يفعلن نساء البادية عندنا، تحمل الحزمة على ظهرها والحبل على عنقها.
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:5] من ليف، أو شجر آخر.
هذا واقع أخبر الله به، وفي نفس الوقت سوف يكون حالها هكذا يوم القيامة، وتعذب زوجها بأن تفرغ عليه الحطب وتوقد النار فيه، كما كانت تمكر في الدنيا فإنها في الآخرة تمكر بنفسها وبزوجها.
تكلف بهذه المهمة.. تحمل الحطب في جهنم وترمي به على زوجها وعلى نفسها.
وهناك كلمات كانت تقولها أم جميل ولا أريد أن أذكر كلماتها، لكنها موجودة في الكتب، كانت تقول:
مذمماً أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا
تشفي صدرها.. كيف يهجوني محمد صلى الله عليه وسلم ؟ إذاً فأنا أهجوه.
قالت: (مذمماً أبينا). فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الحمد لله ما قالت: محمداً ). نعم قالت: مذمماً، وأنا لست مذمماً وإنما عاد عليها هي وزوجها.
(مذمماً أبينا ودينه قلينا) أي: تركنا.
(وأمره عصينا)، وكانت تغني بهذه.
ولكن أين هي الآن وأين بعلها؟ في سجين. وأين رسول الله؟ في عليين.
من سعد؟ أهل الإيمان والتقوى، أهل الإيمان والصلاح. من خسر وهبط في جهنم؟ أهل الشرك والكفر والعصيان.
هذه السورة بعض الغافلين أو المتنطعين يقولون: ما نصلي بها، وإذا صلى بهم الإمام بسورة المسد يغضبون عليه، ويتهمونه بأنه ينال من الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه لا يستحي؛ إذ كيف يذكر بلاء يصيب عم النبي صلى الله عليه وسلم؟!
وهذا من الجهالة، وإنما صلوا بسورة المسد؛ لأنها كلام الله ووحيه أنزله على رسوله، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيها المؤمنون لا تجرحوا فؤادي.. لا تنالوني.. لا تقرءوا بسورة المسد فإن عمي التهب، لقلنا: سمعاً وطاعة، أما الوسواس فقط والجهل لا يحملنا على هذا.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أنتم على علم! أما تذكرون حكم الله في الناس؟
حكم الله معروف: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] .
كن ابن من شئت.. هل شفع نوح لـكنعان ولده؟ هل نفع نوح امرأته؟ هل نفع لوط زوجه؟ هل نفع إبراهيم أباه؟
قد يقولون هذا ليس أبو إبراهيم وإنما عمه، وها أنتم تقولون: العم لا يحترق أيضاً، أو تتخبطون؟
ما الذي حملنا على هذا؟
إن القضية واضحة وضوح الشمس أيضاً، نفسك الآدمية التي تعلو جسمك وضع الله لك مواداً عجيبة في التطهير والتزكية، فإن استعملت ذلك وطهرت نفسك لأنك تريد السماء والملكوت الأعلى تدخل الجنة وإن كان أبواك مجوسيين كافرين يهوديين مشركين كيفما كانا، وإن أنت ما زكيتها ولا طيبتها ولا طهرتها وتريد أن تدخل السماء وتناجي الأبرار هذا مستحيل. إذاً: فاذكروا هذا ولا تنسوه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر