ومعلوم أن الإنسان إذا وجب عليه أمر تعين أن يعرف الدليل عليه، فالله تعالى قد أقام الأدلة على عظمته وجلاله، وعلى استحقاقه للتبجيل والإعظام، ووصف نفسه بقوله: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] .. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء:34] فيجب أن نعتقد أن أنواع العظمة لله، فهو المستحق للتعظيم وأنواع الكبرياء، وأنواع العلو لله وحده.
قد يقول قائل: ما الفائدة التي أحصل عليها إذا وصلت إلى هذه العقيدة؟
والجواب: أن نقول: لا شك أنك متى قمت بهذا واعتقدته عقيدة صحيحة عظم قدر ربك في قلبك، فصعب عليك أن تعصيه، وعظم عليك أن تدين لغيره بالعظمة، وكذلك كبر عليك أن تترك طاعته، وعرفت أن له عليك حقوقاً كثيرة لابد أن تدين بها، ولابد أن تحرص على أدائها، وهذه من فوائد هذه المعرفة.
وقد مر بنا أن من صفات الله تعالى الغنى، فهو غني ومستغنٍ عن العرش وما دونه، فهو الذي خلق الخلق وليس بحاجة إلى عبادة الخلق، وليس بحاجة إلى شيء من المخلوقات، بل هو الغني عنهم: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ [محمد:38].. (وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن:6]فإذا دان العبد لله بالغنى، علم أن هذا الغنى عام، وأن الله مستغنٍ عن العرش، ومستغنٍ عن السماوات، ومستغن عن الأرض، ومستغنٍ عن المخلوقات كلها، ومستغنٍ عن جميع ما في الكون، فهو الخالق وحده، وقد وصف الله نفسه بأنه استوى على العرش، وبأنه علا على خلقه، ولا يدل ذلك على حاجته إلى أي مخلوق.
فيكون استحضاره ذلك زاجراً له عن اقتراف المآثم.
ودليل إحاطته بكل شيء قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق:12] ونفى ذلك عن المخلوقين بقوله: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، وقال: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20]، وقال: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً [النساء:126] فالإحاطة: هي السيطرة والاستيلاء التام، والولاية الكاملة التي لا ينقصها شيء، وهي لله وحده، فهو محيط بالأشياء كلها علويها وسفليها، وعالم بها ومتصرف فيها، ولا يخفى عليه شيء من أمرها، وذلك لأنها مخلوقة، وهو الخالق وحده.
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه:
[ومن المعلوم -ولله المثل الأعلى- أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاطت قبضته بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عال عليها، فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف؟! فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد له إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته أو يدني إليه من يشاء من خلقه؟ فمن نفى ذلك لم يقدره حق قدره.
وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الرب تعالى، فقال له أبو رزين : (كيف يسعنا -يا رسول الله - وهو واحد ونحن جميع؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله: هذا القمر آية من آيات الله، كلكم يراه مخلياً به، والله أكبر من ذلك)، وإذا قد تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء، فهذا يزيل كل إشكال، ويبطل كل خيال.
وأما كونه فوق المخلوقات، فقال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) [الأنعام:18]يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال المتقدم: (والعرش فوق ذلك، والله فوق ذلك كله).
وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره على ما قال وضحك منه. وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله:
شهدت بإذن الله أن محمداً رسول الذي فوق السماوات من عَلُ
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما لـه عمل من ربـه مـتقبل
وأن الذي عادى اليهود ابن مريم رسول أتى من عند ذي العرش مرسل
وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم يجاهد في ذات الإله ويعدل
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا أشهد).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، وفي رواية: تغلب غضبي) رواه البخاري وغيره. وروى ابن ماجة عن جابر يرفعه قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا إليه رءوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه).
وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ) [الحديد:3]بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)].
الكلام الأول يتعلق بإحاطة الله بالمخلوقات، وقد تقدم الاستدلال على عظمة العرش والكرسي، وصغر المخلوقات بالنسبة إليهما، وأن السماوات السبع والأرضين السبع للكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس، وما الكرسي بالنسبة إلى العرش إلا كحلقة ألقيت في أرض فلاة، فماذا تشغل الحلقة من هذه الفلاة؟!
وذكر ابن كثير أحاديث عند قوله تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، وأن هذه السماوات والأرضين صغيرة بالنسبة إلى قبضة الرب عز وجل، فهي مطويات بيمينه، والأحاديث التي فسرت ذلك فيها الدلالة على أن الله يقبض المخلوقات كما يشاء، وقد ورد في الأحاديث أنه يقبض السماوات والأرض، وأنه يهزهن ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ذكر ذلك ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16].
وكذلك نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما -وهو من أجل علماء الصحابة- أنه قال: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كحبة خردل في يد أحدكم) كمثل حبة خردل في يد العبد، وماذا تشغل حبة الخردل من اليد؟!
معلوم أن الحبة صغيرة وحقيرة في القبضة، فقد يقبض ألفاً أو أكثر من ألف في كفه ولا يمتلئ الكف بذلك، فكيف بحبة واحدة؟
فهذه المخلوقات التي نشاهد عظمتها، ولا يعلم سعتها إلا الله تعالى، قد أخبرنا الله ورسوله بأنها سبع شداد، وأنها سبع طباق، وأن المسافات التي بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة سنة، ومتى تقطع هذه المسافة؟ وكل ذلك صغير بالنسبة إلى عظمة الرب تعالى!!
فهذا ونحوه دليل على عظمته، ودليل على إحاطته بكل شيء.
والأدلة على الفوقية كثيرة، فمنها ما هو صريح لا يحتمل التأويل، فالآية التي سمعنا في سورة النحل لا تحتمل التأويل: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] قيدت بـ(من) حتى لا يتأولها المتأول، وأما الآية الثانية في سورة الأنعام وهي قوله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18] في موضعين، فهذه الآية قد يقال: إن المراد بالفوقية: فوقية الغلبة، وفوقية القهر، كما قال فرعون: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127] يعني: فوقية القهر، ولكن يؤخذ منها فوقية الذات، وفوقية الغلبة، فهي دالة على المعنيين؛ فتكون من الآيات الدالة على وصف الله تعالى بالفوقية، وهو العلو الذي يقتضي العظمة.
أما الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: (والعرش فوق ذلك، والله فوق العرش) فالفوقية هنا صريحة، ومن ذلك قوله: (إن الله كتب كتاباً فهو مكتوب عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي) وهذا دليل واضح على أن الرب تعالى فوق العباد، وفوق العرش.
كذلك الحديث الذي فيه تفسير الآية الكريمة من سورة الحديد: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3] وهو الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر) فسر قوله تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) بأنه العالي الذي ليس فوقه شيء، فهو فوق المخلوقات، ومع ذلك هو قريب منها؛ ولذلك فسر الباطن بالقريب الذي ليس دونه شيء، فعلوه سبحانه وتعالى وفوقيته لا تنافي قربه ومعيته، فيستحضر المؤمن الوصفين معاً القرب والعلو.
وذكر المؤلف شعر أمية وشعر عبد الله بن رواحة وشعر حسان ، وكلها تذكر العلو والفوقية، فيقول ابن رواحة:
شهـدت بأن وعد الله حـق وأن النار مثـوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طـافٍ وفوق العرش رب العـالمينا
فصرح بالفوقية وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا أيضاً في البيت الذي لـحسان :
شهدت بإذن الله أن محمداً رسول الذي فوق السماوات من عَلُ
يعني: فوق السماوات وفوق العرش، ثم وصفه بأنه من علُ، فهذا دليل على أن الصحابة كلهم يدينون بهذه الفوقية، وأنهم قد تلقوها من نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت مسألة العلو من المسائل الاعتقادية بالغ أئمة السلف في إثباتها، وكتبوا فيها الأدلة التي توضح قول السلف، وقول من سار على طريق السلف، فنجد في كتب المتقدمين من السلف أنهم أوفوها حقها، ككتاب التوحيد لـابن خزيمة الذي هو شجىً في حلوق الأشاعرة والمعتزلة ونحوهم، حتى قرأت لبعضهم أنه يسميه: كتاب الشرك، مع أنه استدل بآيات وأحاديث صحيحة رواها بالأسانيد، ولكن لما خالف معتقدهم أساءوا به وصاروا يحذرون منه.
كذلك كتب السنة التي كتبها أئمة السلف كـالإبانة، وكتاب التوحيد، وكتاب الإيمان، وكتاب السنة وغيرها من كتب السلف، فمنهم من رد على الجهمية، وسمى كل من خالف ذلك جهمياً، ومن السلف الذين كتبوا في ذلك ابن مندة وعثمان بن سعيد الدارمي وابن أبي عاصم ، وكذلك القاضي أبو يعلى ، والإمام الذهبي له كتاب العلو للعلي الغفار، وصفه بهذا الوصف، وكأنه لما رأى كثرة الذين دانوا بعقائد باطلة ممن سموا أنفسهم أشاعرة، أراد أن يفصح بما يعتقده ولو خالف مشايخه، ولو خالف زملاءه، ولو خالف المنتمين إلى مذهبه، لا يبالي بذلك ما دام أنه يعتمد الدليل، ويقول الحق.
مسألة العلو لم ينكرها في المائة المتأخرة إلا أفراد قلة كالأشاعرة والمعتزلة والشيعة والخوارج والجبرية ونحوهم، كلهم ينكرون هذه الصفة، ولا عبرة بإنكار من أنكرها مادامت الأدلة واضحة صريحة في إثباتها، فلا يعتبر بمن أنكر الحق مع وضوحه.
وأهل السنة يثبتونها على ما يليق بالله تعالى، ويذكرون الأدلة ويعتمدونها، ثم يجمعون بينها وبين آيات القرب وأدلة المعية ونحو ذلك، ولا يفهمون منها تجسيماً ولا تشبيهاً، ولا جهة ولا حصراً، ولا تحيزاً ولا غير ذلك، أما أولئك المنكرون فيقولون: إن هذه الكلمات تدل على حصر الخالق، وأنه متحيز، إلى غير ذلك، ولا عبرة بتلك الأقوال التي يموهون بها، وعلى المسلم أن يعتقد الحق ولو خالفه من خالفه.
وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله! جهدت الأنفس، ونهكت الأموال؛ فاستسق لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته، وقال بأصابعه مثل القبة عليه، وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب).
وفي قصة سعد بن معاذ يوم بني قريظة، لما حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات) وهو حديث صحيح، أخرجه الأموي في مغازيه، وأصله في الصحيحين.
وروى البخاري عن زينب رضي الله عنها أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: (زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات).
وعن عمر رضي الله عنه: (أنه مر بعجوز فاستوقفته، فوقف معها يحدثها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين! حبست الناس بسبب هذه العجوز؟ فقال: ويلك! أتدري من هذه؟ امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه
وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ [الأعراف:17] قال: (ولم يستطع أن يقول من فوقهم، لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم).
ومن سمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر.
ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك، فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم، لكان متصفاً بضد ذلك؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية: السفول، وهو مذموم على الإطلاق؛ لأنه مستقر إبليس وأتباعه وجنوده].
سرد المصنف رحمه الله هذه الأدلة التي تدل على الفوقية، فذكر حديث الأعرابي لما قال: (نستشفع بالله عليك)، ولا شك أن هذا تنقص لله، فكأنه يقول: نجعل الله شافعاً عندك، وهل الله يشفع عند الخلق؟! هذا فيه شيء من التنقص، أما قوله: (نستشفع بك على الله)، فهذا لم يستنكره، لأنه يقول: اشفع لنا إلى ربك، فأنكر عليه الأمر الثاني وهو الاستشفاع بالله؛ فشأن الله أعظم، وذاته أجل، ووصفه وجلاله وكبرياؤه أعظم من أن يكون شفيعاً عند أحد من خلقه، بل هو الذي يشفع إليه، ولا يشفع إلى أحد، بل لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، كما ذكر ذلك في القرآن: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255] وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى [الأنبياء:28] ولما أنكر عليه ذلك بين له عظمة الرب تعالى فقال: (أتدري ما الله؟) يعني: أنك ما عرفت قدر ربك، وما استحضرت عظمته، ولو استحضرت ذلك لما قلت هذه المقالة، شأن الله أعظم، وذكر أن الله تعالى فوق العرش، وأن العرش يئط به أطيط الرحل، وهذا من باب التمثيل يعني: أن الله تعالى فوق العرش، وأن العرش مع كبره وعظمته وإحاطته بهذه المخلوقات، فإنه يسمع له هذا الأطيط، فيقال: إن هذا من ثقل الرب تعالى، وقد ذكر الله أن العرش محمول، وأن حملة العرش ما حملوه بقوتهم وإنما حملوه بقوة ربهم، ومع ذلك فإن الرب تعالى غني عن العرش، وغني عن حملة العرش، ولكن ذلك كله من باب إظهار العظمة والكبرياء ونحو ذلك.
ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم لـسعد بن معاذ : (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات) يعني: وافقت حكم الله، والله فوق سماواته.
وكذلك قول زينب : (زوجني الله من فوق سبع سماوات) تريد قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37] أي: أن الله تعالى هو الذي زوجها، فصرحت بالفوقية، وأن الله تعالى فوق سماواته.
وبالجملة فهذه أمثلة من الأدلة التي تثبت صفة الفوقية لله سبحانه.
فإذا قيل: إن هذه أدلة نقلية، والمخالفون لا يقبلون الأدلة النقلية التي في زعمهم أنها تخالف العقل، ويزعمون أنهم ما عرفوا صدق الرسل إلا بالعقول، فإذا جاء الرسل بما ينافي العقول لم يقبلوه، هكذا عللوا.
والجواب: إن العقول التي ردت هذه النقول عقول فاسدة مضطربة، لا تصلح أن تكون ميزاناً لقبول شيء دون شيء، فعقولكم التي رددتم بها هذه النصوص، ورددتم بها هذه الصفات، وزعمتم أن هذا مستنكر ومستبشع على النفوس ولا تقبله العقول، نقول: هذه العقول كثيراً ما يكون فيها الاضطراب، وكثيراً ما تأتي بشبهات لا تثبت عند الحق، وكثيراً ما يبطل بعضهم شبهة الآخر التي يدلي بها، وكثيراً ما يبطل أحدهم دليله بنفسه، فيذكر دليلاً ثم يأتي بما يناقضه، وكذلك يأتي الآخر بدليل يناقض دليل شيخه ونحو ذلك، فكيف يعتمدون ذلك ويقولون: إنها أدلة عقلية؟!
وقد ذكر لهم الشارح دليلاً عقلياً فقال: هب أنه ليس هناك دليل نقلي، أو هب أنكم تأولتم تلك النصوص، وقلتم مثلاً: الفوقية هنا: فوقية العظمة أو فوقية الغلبة، أو فوقية القهر، وأنها لا تدل على أن الله تعالى فوق المخلوقات، بل إنه ليس فوق العرش ولا فوق السماوات، وجميع الأماكن بالنسبة إليه سواء، وليس له مكان، تعالى الله عما يقولون! نقول لكم: العقول السليمة تشهد بإقرار الفوقية؛ لأن من لم يثبت الفوقية لزمه أن يثبت ضدها، فمن لم يوصف بالفوقية لابد أن يوصف بالسفل، وهذه صفة نقص، والله تعالى أحق أن يوصف بالفوقية، وقد ذكر أن السفل والتحتية أماكن الشياطين، وأن إبليس وجنوده هم الذين يوصفون بأنهم في السفل لا في الفوقية، وقد دان أهل السنة والمسلمون عموماً بوصف الله تعالى بالفوقية، وأقروا بذلك في عقولهم، ووافقوا على ذلك الأدلة الصريحة الصحيحة، وعلموا أن من لم يكن موصوفاً بالعلو فهو موصوف بالسفل، ومن لم يكن موصوفاً بالفوق فهو موصوف بالتحت، واستدلوا على ذلك بهذه النصوص، وأقروا على ذلك بعقولهم.
ولا عبرة بمن خالفهم في ذلك ولو كثر عددهم، وقد قرأت لبعض هؤلاء المبتدعة لما نقل أثراً يخالف معتقده في تفسير قوله تعالى في سورة الشورى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ [الشورى:5]فنقل عن ابن عباس أنه قال: (تتفطر السماوات من ثقل الرب) فكبرت هذه الكلمة عند هذا المبتدع، فقال: المراد: من هيبته. انظروا كيف صرف هذا الأثر عن ابن عباس وجعل المراد أنها تتفطر من هيبته؛ لأنه لا يدين بأن الله فوق السماوات، وأن السماوات تتفطر من ثقله، وكذلك العرش، ويكذب ما ذكر في الحديث من أن العرش يئط به ونحو ذلك.
فعلى كل حال: يقال لهم: العقول السليمة تدل على أن من لم يتصف بالعلو اتصف بالسفل، ومن لم يتصف بالفوقية اتصف بالتحتية، فأنتم يلزمكم إذا نفيتم الفوق أن تثبتوا التحت، وذلك وصف نقص، وهذا لا يجوز. فأصبح العقل والنقل كلاهما متفقان على وصف الله تعالى بالفوقية وهي وصف كمال، وأصبحت عقلياتهم متهافتة كما وصفها شيخ الإسلام بالبيت الذي استشهد به:
ججج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكلٌ كاسر مكسور
شبهها بالزجاجتان إذا ضربت إحداهما بالأخرى تكسرت الزجاجتان، فهكذا شبه هؤلاء وشبه هؤلاء.
وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال، لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصاً، ولا يوجب محذوراً، ولا يخالف كتاباً، ولا سنة، ولا إجماعاً، فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلاً. فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله إلا بذلك؟ فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عباده، التي تقرب من عشرين نوعاً؟!].
هذه مجادلة مع أصحاب البدع بالعقليات، ويستحسن عدم التوسع فيها؛ وذلك لأن التوسع فيها قد يؤدي إلى عدة مفاسد، منها:
أولاً: فيه مضيعة للوقت.
ثانياً: فيه إثارة لشبهات لا ينبغي الخوض فيها.
ثالثاً: لا شك أنه يسبب التشويش على الإنسان والتفكر في أشياء لا يحتاج إلى التفكر فيها، وقد ورد في بعض الآثار: (تفكروا في المخلوق، ولا تفكروا في الخالق) يعني: انظروا في مخلوقات الله عز وجل فإنكم تأخذون منها عبرة على عظمة خالقها، وأما ذات الخالق وكيفية ذاته وصفاته فاصرفوا عنها الأفكار، واستحضروا بأذهانكم عظمته وكبرياءه، وجلاله وعلوه على خلقه، وتفرده بالملك، وتفرده بالتصرف، واستحقاقه للعبادة على خلقه، فإذا اعتقدتم ذلك كفيتم عن الخوض في الأشياء الباطلة.
ومعلوم أن كلامهم في وصف الله تعالى يفيد أنه ليس له حقيقة ولا وجود إلا في الأذهان، فهم يقسمون الوجود إلى وجودين: وجود في الأذهان، ووجود في الأعيان، وهو الذي يمكن للعيان أن يصل إليه، وإذا تأملنا ما يقوله المعتزلة وما يقوله سلفهم -وهم الفلاسفة- من ذلك المحض الذي لا أتجرأ أن آتي به، إذا تأملناه وجدناه يقود إلى النفي المحض، وعدم الاعتراف بخالق مدبر متصرف في الخلق، فيقال لهم: إما أن تعترفوا بوجود رب خارج الأذهان -ليس مجرد وجود في الأذهان- أو لا تعترفوا، فإذا كنتم معترفين لزمكم لزوماً لا محيد لكم عنه أن تعترفوا بأنه ولابد فوق العباد أو تحت أو عن يمين أو عن يسار، وجهة الفوقية أشرف الجهات فاعتمدوها واعتقدوها، ولا يلزم منها محذور، ولا يقال: إنها تدل على حصر أو إنها تدل على تحيز أو على تجسيم، أو على غير ذلك من المحذورات التي يلتزمون بها.
فالواجب أن ندين بذلك، ونترك الخوض فيما يقولونه مما هو في الحقيقة نفي محض، ولا فرق بين ما يقولونه ويعتقدونه وبين العدم المحض، الذي هو حقيقة المعدوم الذي لا مدح له ولا وجود له أصلاً فيمدح.
هذا هو معتقد أهل السنة، وتلك هي أقوال الفلاسفة التي أخذها عنهم المعتزلة.
ومن أقوالهم أن الله إنما يتصف بالسفل لو كان قابلاً للعلو، فإذا لم يكن قابلاً للعلو لم يلزم اتصافه بالسفل، ويقولون: إنه لا يقبل السمع ولا البصر، فلا يوصف بها، فهم يلتزمون نفي صفة السمع والبصر، وإذا قيل لهم: إذا نفيتم عنه السمع والبصر فقد لزمكم أن تشبهوه بفاقد السمع وهو الأصم، وفاقد البصر وهو الأعمى، فيقولون: هذا لو كان قابلاً، أما إذا لم يكن قابلاً فلا، ثم يقولون: الجدار مثلاً لا يقبل الاتصاف بهما، فلا يقال للجدار: حي ولا ميت؛ لأنه لا يقبلهما، ولا يقال للجدار: إنه أصم ولا سميع ولا أعمى ولا بصير؛ لأنه ليس بقابل لواحد منهما، وهذا ليس بصحيح بل هو قابل لهما، فيوصف بأنه جماد، ويوصف بأنه ميت لا حركة فيه، فهو يقبل ذلك، فهم يتمسكون بهذه الشبهة التي تلقوها من الفلاسفة، وهي شبهة باطلة ضالة.
الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة: كقوله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18].
الثالث: التصريح بالعروج إليه: نحو تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم).
الرابع: التصريح بالصعود إليه: كقوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) [فاطر:10].
الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه: كقوله تعالى: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) [النساء:158]، وقوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ آل عمران:55].
السادس: التصريح بالعلو المطلق، الدال على جميع مراتب العلو، ذاتاً وقدراً وشرفاً، كقوله تعالى: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) [البقرة:255] (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) [سبأ:23] إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى:51].
السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه: كقوله تعالى: (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) [غافر:2] (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) [الزمر:1] (تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) [فصلت:2] (تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) [فصلت:42] (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) [النحل:102] حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان:5].
الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ) [الأعراف:206] (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ ) [الأنبياء:19] ففرق بين (من له) عموماً وبين (من عنده) من مماليكه وعبيده خصوصاً. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: (أنه عنده فوق العرش).
التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين: إما أن تكون (في) بمعنى (على)، وإما أن يراد بالسماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز الحمل على غيره.
العاشر: التصريح بالاستواء مقروناً بأداة (على) مختصاً بالعرش، الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحباً في الأكثر لأداة: (ثم) الدالة على الترتيب والمهلة].
أنواع الأدلة على علو الله تعالى كثيرة، ويمكن أن تصل فروع بعضها وأفرادها إلى أكثر من مائة أو مائتين.
وردت بصيغة (العلي) كقوله تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] ، وقوله إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى:51]، وقوله إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].
ووردت بصيغة (الأعلى) كقوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] ، وكقوله: إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [الليل:20].
ووردت بصيغة (كان) كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34] ، ولا شك أن العلو يلتزم ثلاثة أنواع: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات.
وأما في الأحاديث فكثير جداً، كقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟) وكقوله: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) ، وقوله للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. فقال: اعتقها فإنها مؤمنة) .
وتفسر (في) هنا بتفسيرين:
التفسير الأول: أن (في) بمعنى (على)، ( في السماء) يعني: على السماء، ولا يلزم أن تكون السماء تحيط به أو تحصره تعالى الله، فيكون معنى (في السماء): على السماء، قال تعالى عن فرعون: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71] أي: على جذوع النخل، وقال تعالى: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ [التوبة:2] أي: على الأرض، فكذلك (في السماء) يعني: على السماء.
التفسير الثاني: أن السماء اسم للعلو، وكل ما علا وارتفع فهو سماء، فيكون قوله: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] أي: من في العلو.
في سورة الأعراف: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] ، وكذا في سورة يونس، وفي سورة الرعد، وفي سورة طه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وفي سورة الفرقان: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ [الفرقان:59] ، وفي سورة السجدة، وفي سورة الحديد، وكلها ذكر فيها لفظ (استوى)، والعرب إذا ذكرت الاستواء متعدياً بـ(على) فإنها تقصد بذلك العلو.
ودليل ذلك قوله تعالى في سفينة نوح: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود:44] يعني: استقرت مرتفعة عليه، وقوله تعالى في الإبل: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ [الزخرف:13] يعني: تركبوها مرتفعين على ظهورها، فهذا الاستواء بمعنى الارتفاع، وهكذا قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، وقد فسرها السلف رحمهم الله، وإن كانوا يفوضون حقيقتها وكيفيتها، كما ذكر عن مالك أنه قال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول)، وصف الاستواء بأنه معلوم، أي: معروف من جهة اللغة، فالقرآن كلام عربي فصيح، نزل على قوم يعرفونه ويفهمونه، فهو معروف، ولكن الكيفية هي المجهولة والخفية، وهذا تفسير السلف رحمهم الله، والإمام مالك إمام دار الهجرة، وشيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وأم سلمة رضي الله عنها إحدى أمهات المؤمنين، كلهم روي عنهم هذا التفسير.
أما المعتزلة والنفاة فقد حرفوا هذه اللفظة، وجعلوها بمعنى: الاستيلاء. فقالوا:(استوى) أي: استولى.
ورد عليهم بعض علماء أهل السنة فقالوا: الاستيلاء عام، وليس خاصاً، فالله مستول على جميع المخلوقات لا على العرش وحده، وإنما خص الله الاستواء بالعرش، وأنتم تجعلون الاستواء بمعنى الاستيلاء، ولا خصوصية للعرش بذلك، وبذلك يبطل تأويلهم، فعرفنا بذلك أن هذه الأنواع صريحة بأن الله سبحانه وتعالى فوق عباده كما أخبر في هذه الأنواع من الأدلة، وغيرها كثير.
الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا: والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل.
الثالث عشر: الإشارة إليه حساً إلى العلو: كما أشار إليه من هو أعلم بربه، وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر، لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله في اليوم الأعظم، في المكان الأعظم، قال لهم: (أنتم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع أصبعه الكريمة إلى السماء رافعاً لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء، قائلاً: اللهم اشهد) فكأنا نشاهد تلك الأصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لما رفع أصبعه إليه: (اللهم اشهد) ، ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين، وأدى رسالة ربه كما أُمر، ونصح أمته غاية النصيحة، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين، وحذلقة المتحذلقين! والحمد لله رب العالمين.
الرابع عشر: التصريح بلفظ: (الأين): كقول أعلم الخلق به، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح، بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه: (أين الله؟) في غير موضع.
الخامس عشر: شهادته صلى الله عليه وسلم لمن قال: إن ربه في السماء. بالإيمان.
السادس عشر: إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء؛ ليطلع إلى إله موسى، فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السماوات، فقال: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر:36-37] ، فمن نفى العلو من الجهمية فهو فرعوني، ومن أثبته فهو موسوي محمدي.
السابع عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم أنه تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج؛ بسبب تخفيف الصلاة، فيصعد إلى ربه ثم يعود إلى موسى عدة مرار.
الثامن عشر: النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة له تعالى من الكتاب والسنة، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، ولا يرونه إلا من فوقهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رءوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] ثم يتوارى عنهم وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم) رواه الإمام أحمد في المسند وغيره من حديث جابر رضي الله عنه].
هذه -أيضاً- أنواع من الأدلة على علو الله وفوقيته، وكل نوع قد يكون تحته عدة أسرار، فمنها:
النوع الحادي عشر: رفع الأيدي، وقد ورد في أكثر من ستين موضعاً أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا رفع يديه، وكذلك صرح بذلك في قوله: (إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً).
ولا شك أن الذي يرفع يديه إنما يرفعهما إلى الله؛ لأنه بذلك يستعطي ويستجدي ويسأل ويطلب، فلو لم يكن ربه فوقه لما رفع يديه، فهذا دليل على ذلك.
وكذلك أيضاً لما قالت الجارية: (في السماء) شهد لها بالإيمان، فأفاد أن أهل الإيمان هم الذين يعترفون بأن الرب تعالى فوقهم، وأنهم يعتقدون ذلك، وأن هذه فطرة الله.
وبكل حال: فالأدلة التي سمعنا وغيرها كثيرة، وهي دالة على أن الله تعالى موصوف بأنه فوق عباده، وبأنه هو العلي الأعلى، ومتى اعتقد المسلم هذا الاعتقاد -الذي هو علو الله تعالى وفوقيته- فإنه يستحضر دائماً أنه فوق عباده، وأنه مع ذلك يسمعهم ويراهم ويطلع عليهم، ويعلم مناجاتهم وأحوالهم؛ فبذلك يعرف كيف يطيعه، ويعرف أنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر