الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أخوتي الكرام! سنتدارس في هذه الموعظة المباركة إجابة على سؤال يتساءله كثير من الناس، ويحق لهم أن يتساءلوا عنه، وهذا السؤال هو: لماذا كان سلفنا الكرام أعزةً في الدنيا وسيكونون بعون الله جل وعلا سعداء في الآخرة، ونحن ليس الأمر فينا كذلك، فنحن في المؤخرة في هذه الحياة، ويعتدى علينا من جميع الجهات؟ وكيف سيكون مصيرنا عند رب الأرض والسماوات؟ نسأل الله أن لا يجمع علينا ذل الدنيا وشقاء الآخرة إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
سؤال يتساءله الناس، وقد يجيب بعضهم على هذا السؤال بجواب عابر فيقول: أولئك كانوا مسلمين حقاً وجعلوا حياتهم للإسلام، فنصرهم الله في هذه الحياة، وسيسعدهم بعد الممات في نعيم الجنات.
وقد يقول قائل آخر: ونحن ندين بالإسلام، وإذا كان الأمر كما قلت بهذه الحالة أخذاً ورداً ومحاورة، سلفنا أعزهم الله في الدنيا وأسعدهم في الآخرة، ونحن حالنا لا يخفى على أحد، فإن السبب في ذلك إخوتي الكرام: مما لا شك فيه أن العرب كانوا في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، فأبدلهم الله جل وعلا بجهلهم علماً، وبظلمتهم نوراً، وبفقرهم غنى، وبذلهم عزاً، فصاروا خير أمة أخرجت للناس.
إذاً: كانوا في جاهلية فتغيرت أحوالهم، وهذا مما لا شك فيه يسلم به الكفار فضلاً عن المؤمنين الأبرار، كان العرب والناس في هذه الدركة فانتقلوا إلى أعلى وأفضل درجة، ونحن حالنا في هذه الأيام -وإن كنا نزعم أننا ندين بالإسلام- في جاهلية لعلها تزيد في الشناعة على الجاهلية الأولى، نعم، كان الظلم والضلال فوضى، فصار في هذه الحياة في هذه الأوقات ظلماً وظلالاً مقنناً مركباً مشرعاً.
قد كان هذا الظلم فوضى فهذبت حواشيه حتى صار ظلماً منظما
وهذا الظلم المنظم عن طريق القوانين والمراسيم التي تصدر ما بين الحين والحين، وكلها تخالف شريعة رب العالمين.
قد أفسدوا في الأرض باسم صلاحها إذ بدلوا أحكامه بنظام
فإذا قال قائل: ما المخرج؟ نقول: كيف خرج الصحابة من ضلالهم إلى الهدى؟ ينبغي أن نخرج أيضاً من ضلالنا إلى نور ربنا، فالهداية بين أيدينا، ولكن حالنا كما قال القائل:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
أخوتي الكرم! إذا كانت القضية كذلك، والسؤال في منتهى الوجاهة والإحسان والرجاحة، فينبغي أن نبحث قليلاً في الداء الذي كان يعيشه الناس قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام، وكيف أزالوا ذلك الداء عندما بعث الله خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، وإذا كان الأمر كذلك فنحن في داء، فلا ينفعنا أن ندين بالإسلام إذا لم نزل داءنا بالكيفية التي أزال بها الصحابة الكرام داءهم في الزمن الماضي عند مبعث خير الأنام عليه الصلاة والسلام، فلذلك نحن بحاجة في هذه الموعظة إلى تقرير كون الناس كانوا في جاهلية قبل مبعث نبينا عليه الصلاة والسلام، والأمر الثاني إلى بيان موقفهم نحو هذا الإسلام الذي بعث الله به خاتم النبيين عليه وعليهم جميعاً الصلاة والسلام.
ومحل الشاهد في الأمر: أن الصحابة عندما هاجروا إلى ذلك المكان، وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً، ثلاثة وثمانين رجلاً، وتسع عشرة امرأة رضوان الله عليهم أجمعين، ذهبوا إلى تلك البلدة ليعبدوا الله جل وعلا، ولا يفتنوا عن دينهم، فجن جنون قريش، وطارت عقولهم من رءوسهم، كيف خرج هؤلاء من بلادنا إلى مكان يأمنون فيه على أبدانهم وأرواحهم ودمائهم وأعراضهم ليعبدوا ربهم؟ وهذا الأمر إذا نظر إليه الإنسان نظرة بعيدة فإن هؤلاء بعد ذلك سيكون لهم قوة، وسيعودون إلى بلادهم فاتحين، فلا بد إذاً من مطاردتهم في كل مكان، وهذا الذي حصل.
فدبرت قريش المؤامرة وأرسلت رجلين داهيتين من رجالات قريش، أولهما: عمرو بن العاص، والثاني: عبد الله بن أبي ربيعة ، وهذا كان قبل إيمانهما بنبينا عليه صلوات الله وسلامه، وقد هدى الله كثيراً من المشركين الذين كانوا يصرون على العناد والضلال والغيّ في أول الأمر، ثم شرح الله صدورهم لاسيما بعد فتح مكة فدخل الناس في دين الله أفواجاً، فذهب هذان الرجلان وقد حملهما المشركون كثيراً من الهدايا للنجاشي ولأصحابه وبطارقته وجلسائه ووزرائه وأعوانه، فحملوا هدايا كثيرة من مكة إلى أرض الحبشة، وقبل أن يتصلوا بـالنجاشي اتصلوا بأعوانه ومستشاريه ووزرائه وأصحابه وأعطوهم الهدايا، وقالوا: يوجد أناس من قومنا من بني جلدتنا، نحن أعرف بهم منكم، فارقوا ديننا ولم يدخلوا في الدين الذي أنتم عليه وهو النصرانية، وقد أرسلنا قومنا من أجل أن تعيدوهم إلينا، ونحن أعلم بهم منكم، وهؤلاء قد أخذوا الهدية فحتماً سيوافقون، وإذا كان الإنسان قد أخذ فإنه يستحي بعد ذلك أن يرد الطلب، فقالوا: نعم صدقتم، أنتم أعلم بهم منا، ونحن نشير على الملك على هذا العبد الصالح النجاشي بأن يعيدهم إليكم، وأن لا يبقيهم في أرض الحبشة، ثم دخلوا بعد ذلك على هذا العبد الصالح رحمه الله ورضي عنه النجاشي ، وعرضوا عليه الأمر، وذكروا له ما ذكروا لأصحابه من أن هؤلاء الناس جاءوا إليك ولم يدخلوا في دينك، وفارقوا دين قومهم، فنريد أن تعيدهم إلينا، لكن العاقل عاقل في كل زمن، والجاهل جاهل في كل زمن، فقال: لا والله، قوم اختاروني على من سواي، وجاءوا إلى بلادي، لن أطردهم حتى أسمع مقالتهم! إن كانوا على الباطل طردتهم وعاقبتهم، وإن كانوا على الهدى والحق فكيف أطردهم؟!
فاستدعاهم النجاشي ليسمع منهم، ونعم هذا الملك العادل العاقل رحمه الله ورضي عنه، فاستدعاهم، ولما استدعوا كأنهم ارتاعوا وفزعوا من دعوة النجاشي ماذا سيقولون؟ فقال جعفر بن أبي طالب ابن عم نبينا على نبينا وآله جميعاً صلوات الله وسلامه: والله لا نقول إلا الحق، وما علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام، وبلاد الله واسعة، إذا ركب النجاشي رأسه وطردنا لن يتخلى الله عنا، يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56]، فدخلوا عليه فقال لهم النجاشي : ما هذا الدين الذي فارقتم به قومكم، ولم تدخلوا في ديني؟ فقال جعفر : أيها الملك! -استمع لحالة الناس قبل بعثة خير الناس عليه الصلاة والسلام- إنا كنا في جاهلية وشر نأكل الميتة، ونشرب الخمور، ونئد البنات، ونقتل البنين، ونسيء الجوار، ونقطع الأرحام، ويأكل القوي منا الضعيف، ونعبد الأصنام.. هل هذه حياة؟! هل هذه حياة بشر؟ لعل حياة الحمير والبقر أحسن منا، هكذا كان الناس، هذا من كلام جعفر ، قال: فبعث الله فينا نبياً منا نعرف صدقه ونسبه، فأمرنا بعبادة الله وحده لا شريك له، ونبذ ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، والعفاف، وحسن الجوار، ونهانا عن قذف المحصنات الغافلات المؤمنات.. وعدد عليه أمور الإسلام، فعدا علينا قومنا وفتنونا عن ديننا، فلجأنا إليك واخترناك على من سواك.
فقال لهم النجاشي رحمه الله ورضي عنه: أنتم آمنون، أنتم آمنون، أنتم آمنون. وطرد عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ، وقال: ردوا عليهما هداياهما، فلما ذهبا إلى منزلهما ذهبا خائبين خاسرين، فقال عمرو بن العاص لـعبد الله بن أبي ربيعة : والله لأذهبنّ إلى الملك غداً ولأوغرن صدره عليهم حتى يستأصل خضراءهم، ولا يترك واحداً منهم، فقال عبد الله بن أبي ربيعة -وكان أرق الرجلين-: أيها الرجل! بيننا وبينهم رحم، يعني لا داعي أن نحرض الملك على قتلهم، قال: والله لأستأصلنهم، فذهب في اليوم الثاني فقال: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- قولاً عظيماً، أنتم لا تقولونه، فكيف تسمح لهم أن يخالفوكم في دينكم وهم في أرضكم؟ فاستدعاهم النجاشي مرةً ثانية وقال: ما تقولون في عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه؟ فقال جعفر: والله لا نقول فيه إلا ما قال ربنا وما علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام، فقال: وهل عندكم شيء من ذلك الذي علمكم نبيكم عن ربكم على نبينا صلوات الله وسلامه في شأن عيسى؟ قال: نعم، فقرأ عليه صدر سورة مريم: كهيعص [مريم:1]، إلى أن وصل إلى قصة ولادة عيسى بن مريم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، ثم بعد ذلك: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:30-36]، وتلا عليه هذه الآيات فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته من بكائه، فلما وصل جعفر إلى قول الله: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ [مريم:30]، نخر القسس والبطارقة في مجلس النجاشي، فقال النجاشي: وإن نخرتم، ما أعجبهم ذلك، كأنهم همهموا، كيف تقول: إنه عبد الله في مجلس الملك؟ فقال: وإن نخرتم، ثم أخذ عوداً صغيراً من الأرض ورفعه وقال: والله ما زاد على وصف عيسى بمقدار هذا، هذا هو عيسى، عبد الله ورسوله: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم:35].
ثم طرد النجاشي مرةً ثانية عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ، وقال لـجعفر وأصحابه: أنتم سيوم، أنتم سيوم، أنتم سيوم، أي: أنت أحرار كالغنم السائمة تذهب أينما شاءت، لا يوجد إقامة محددة بيوم أو يومين ولا تجدد بعد ذلك، أنتم أحرار، من سبكم غرّم، من سبكم غرّم، من سبكم غرّم، أي: تحمل الغرامة والعقوبة وأوذي، فليس معنى إذا لجأتم إلى بلدي وإلى دياري وأنتم أحرار، أن أعراضكم متروكة لكل خبيث يرتع فيها، من اعتدى عليكم أقطع لسانه، قال: والله ما أحب أن لي دبراً من ذهب، والدبر بلغة الحبشة: الجبل العظيم، وأن واحداً يؤذى منكم، هذه البلاد تعبدون الله جل وعلا فيها كما تريدون، وأنتم على الحق والهدى، فعاد عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة خائبين ذليلين ما حصلا مرادهما من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
إذاً: هذه حالة الناس قبل بعثة نبينا خير الأسياد عليه صلوات الله وسلامه: أكل ميتة، شرب خمر، قطع رحم، إساءة لجوار، قتل للبنين ووأد للبنات، يأكل الضعيف القوي، هذه كانت حياة الناس قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام.
وأما النجاشي فهو لقب له، النجاشي بتخفيف الجيم، أو بتثقيلها النجّاشي ، وأما النون فمفتوحة أو مكسورة النَجاشي والنِجاشي، هذا العبد الصالح رحمه الله ورضي الله عنه عندما مات صلى عليه نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد آمن النجاشي بنبينا عليه الصلاة والسلام ولم يره، وكان موته على المعتمد في العام التاسع قبل موت نبينا عليه الصلاة والسلام بسنة بعد فتح مكة، وقيل: توفي في العام الثامن عند فتح مكة، وصلاة نبينا عليه الصلاة والسلام عليه صلاة الغائب عندما مات ثابتةٌ في الصحيحين وسنن النسائي من رواية جابر بن عبد الله، وثابتةٌ في صحيح مسلم والترمذي والنسائي من رواية عمران بن حصين رضي الله عن الصحابة أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي إلى أصحابه عندما مات، وقال: ( إن أخاكم
وثبت في سنن أبي داود بسند صحيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها، قالت: كنا نتحدث أنه لا يزال يرى نور على قبر النجاشي ، وقد بوب الإمام أبو داود على هذا الحديث باباً في كتاب الجهاد فقال: باب النور يرى على قبر الشهيد، ويريد أبو داود من هذه الدلالة: أن النجاشي حصل هذه المنقبة عندما مات ظهر على قبره نور، فالشهيد إذاً ينبغي أن تحصل له أيضاً هذه الكرامة وهذه المنقبة من باب أولى، فيستدل بما حصل للنجاشي على حصول ذلك للشهيد.
قال: ( وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال الله: إني مبتليك ومبتلٍ بك، ومنزل عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظاناً ) على نبينا الصلاة والسلام، (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم) والمقت: أشد أنواع الغضب والسخط، غضب عليهم غضباً عظيماً، وسخط عليهم سخطاً شديداً، العرب والعجم سواء في ضلالهم وبعدهم عن هدى ربهم، وما سلم من هذا إلا بقايا من أهل الكتاب ومنهم أصحمة هذا العبد الصالح النجاشي، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب.
هدوا للتي هي أقوم في جميع شئون حياتهم؛ في عقائدهم وفي عباداتهم وفي معاملاتهم وفي أخلاقهم وآدابهم، وفيما ينبغي أن يقوموا به في نظام الحدود والعقوبات، هداهم الله للتي هي أقوم في جميع شؤون الحياة، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
وقد ضمن الله جل وعلا لمن أقبل على القرآن علماً وعملاً أن لا يضل في هذه الحياة، وأن لا يشقى بعد الممات، وهذا الذي حصل للصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، قال تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:123-126]، ثبت في مستدرك الحاكم ومعجم الطبراني الكبير والأوسط، والحديث رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان وإسناده صحيح، عن حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تكفل لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا قول الله جل وعلا: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ [طه:123]، في هذه الحياة، وَلا يَشْقَى [طه:123]، بعد الممات.
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أجار الله قارئ القرآن إذا عمل بما فيه. لا إله إلا الله! أجاره الله جل وعلا من الضلالة في هذه الحياة، ووقاه سوء الحساب يوم القيامة، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123].
إخوتي الكرام! نحن أمام أمرين: أمام جاهلية، وإسلام، فلنتعرف على موقف الصحابة نحو الإسلام الذي اهتدوا به، ونحو الجاهلية التي كانوا عليها، ولننظر بعد ذلك إلى حالنا هل طبقنا موقف الصحابة نحو الإسلام؟ وهل طبقنا موقف الصحابة نحو الجاهلية التي كانوا عليها؟ فإذا تخلينا عن جاهليتنا وأخذنا بإسلامنا، فإن سنة الله تعالى تتغير، في قوله: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، هذا لن يتخلف، إنما إذا تخلف الإيمان وخشية الرحمن.
فنفسك لم ولا تلم المطايا ومت كمداً فليس لك اعتذار
فأنت المقصر، وأنت المفرط، ومعية الله لعباده الصالحين، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] لا تتخلف، لكن إذا حققوا هذين الوصفين، وأما إذا ابتعدنا عنهما فمعية الله لن تكون معنا، وإذا تركنا الله لأنفسنا هلكنا في جميع أحوالنا، وأعظم ذل للإنسان أن يكله الله إلى نفسه، وأعظم كرامة للإنسان أن يتولى الله أمره، يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث فأصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
لنتعرف إخوتي الكرام! على موقف الصحابة نحو القرآن نحو الإسلام، وعلى موقفهم نحو الجاهلية، ففي ذلك إيضاح لهذا السؤال الذي يتداوله الناس ما بين الحين والحين، لاسيما عندما يدخل في هذا بعض الكبار من المسئولين ويبحث عن هذه القضية: لماذا كان لسلفنا عز في الدينا مع ما لهم من السعادة في الآخرة؟ ونحن الأمر فينا ليس كذلك؟ لم نعد ذنباً، والله إن الذنب فيه رفعة قدر لنا، نحن الآن شعرة في مؤخرة الذنب! ليس لنا قيمة ولا اعتبار، فلم كان الأمر كذلك؟ لماذا هذا الإسلام الذي عزّ به سلفنا ما صار اعتزازنا به في هذه الأيام؟ ما الذي تخلف؟ لنبحث عن هذه القضية -إخوتي الكرم- لنعرف الجواب على هذا السؤال الذي يتداول ما بين الحين والحين في أماكن شتى.
الصحابة الكرام لهم موقف نحو الإسلام، ولهم موقف نحو جاهليتهم، أما موقفهم نحو الإسلام فتمثل في أمرين اثنين: الأول: موقف نظري، والثاني: موقف عملي.
أما الموقف النظري العلمي الخبري للصحابة الكرام نحو القرآن وهدى الرحمن فقد دار على ثلاثة أمور حسان: أولها: أقبلوا على كتاب الله جل وعلا تلاوة، وشغلوا أوقاتهم به، كلام الرحمن لا يوجد في هذه الحياة من أولها لأخرها شيء من الكلام ينسب إلى الرحمن إلا هذا القرآن، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على سائر الخلق، فأمة تشتغل بغناء وقلة حياء هل هذه تعظم القرآن؟! أمة إذاعاتها الغناء يجعجع وفي وسائل إفسادها مسلسلات لا نهاية لها، هل هذه تؤمن بالقرآن؟! وتعظم القرآن؟! أقل ما يجب نحو القرآن هو التلاوة، فضلاً بعد ذلك عن الحفظ، فضلاً عن تعلمه وتعليمه، فضلاً عن العمل به -وهو الجانب الثاني من الجوانب التي وقفها الصحابة نحو القرآن- إذاً أول المراتب وهي التلاوة ابتعدنا عنها, والأمة أصبحت لا تتلو كلام الله وترى البيوت عشعش فيها البلاء وقلة الحياء، وكان الرجل إذا مشى بين بيوت الصحابة في العصر الأول في الليل الذي هو وقت النوم فضلاً عن النهار، تسمع لبيوتهم دوياً كدوي النحل لقراءة كلام الله جل وعلا وتلاوة القرآن، ومرّ في شوارع المسلمين ليل نهار في هذه الأيام لتسمع ما يصك الآذان، تذهب أحياناً إلى بيت الشيخ العالم -دع ما سواه- تريد أن تزوره وعندما تطرق الباب تسمع قلة الحياء، هذا الشيخ العالم بيته فيه غناء من مذياع أو من تلفاز، فقل لي بربك كيف ستكون الأمة؟! وكيف سيكون من عدا الشيخ؟!
هذه الأمة عندما انحطت هذا الانحطاط وابتعدت عن التلاوة، ما آمنت بالقرآن حق الإيمان، وما بذلت موقفاً نحو القرآن تنصر به من قبل ذي الجلال والإكرام، الصحابة أقبلوا على تلاوته، وإذا طهرت القلوب لا تشبع من تلاوة كلام علام الغيوب، كلام الله من يشبع منه؟! ولذلك لا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق عن كثرة الترداد، كلما قرأته تزداد له حلاوة وتعلقاً به، هذا كلام الله، وهذا الاعتبار له أثر كبير، أنت عندما تقبل على تلاوة كلام الله أقل ما في ذلك من الفوائد أنك حصنت نفسك عن الرذائل، ما بقي للشيطان عليك سبيل، هذا الإناء إما أن تملأه بماء، وإما أن تملأه ببول، فإذا ملأته بالماء بشيء نافع انتهى لا محل للبول، وإن ملأته بالبول أصبح نجساً مستقذراً، وهذه القلوب جوالة، وهذه الألسن لا تفتر عن حركة، فإما أن تجول حول العرش وإما أن تجول حول الحش، لابد، وهذا اللسان لابد له من حركة، فإما أن تحركه بالقرآن، وإما أن تحركه بهوس الشيطان.
فالصحابة رضي الله عنهم هذا الموقف الخبري العلمي النظري وقفوه نحو كلام الله جل وعلا مباشرةً، وهو التلاوة، لا بد منه تجاه كلام الله، أقل الفوائد أنك شغلت نفسك عن السفاسف والرذائل والمنكرات، هذا فضلاً بعد ذلك عن النور الذي يخرج من فمك، والخير الذي يتحرك به لسانك، والأجر الذي تحصله، لكن أقل شيء أنه صار بينك وبين المنكرات حاجز منيع.
وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أنه أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يتلو القرآن، ومن كان من أمته وأتباعه فينبغي أن يقتدي به في ذلك، قال تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل:91-92]، في آخر سورة النمل: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ [النمل:92].
وأخبرنا الله جل وعلا في سورة فاطر أن الذين يتلون كتاب الله جل وعلا، ويتبعونه يرجون عند الله جل وعلا رجاءً محققاً خيراً ثابتاً، ومغانم كثيرة، يقول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29-30].
إذاً: هذه التلاوة أمرنا بها في كلام ربنا، وكم من أفراد الأمة الإسلامية اليوم لا أقول يمر عليه يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة، أحياناً سنوات ولا يتلو كلام رب الأرض والسماوات؟! ولا تخلو بعد ذلك أوقاتهم من غناء وبلاء وقلة حياء، إذاً هذه الأمة أول ما ينبغي أن تفعله نحو القرآن ابتعدت عنه وهو التلاوة.
إذاً: لابد من تلاوته ولابد من قراءته، وقد وعى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم هذا فكانوا يكثرون من تلاوته، وبلغ من حرص بعضهم كـعبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يختمه في أول الأمر في كل ليلة، فنهاه النبي عليه الصلاة والسلام خشية أن يكبر به السن وتمتد به الحياة فلا يستطيع أن يواظب على هذا، ( وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ )، وأما أن تشرع في عبادة ثم تقطعها أو تنقصها فهذا لا يليق؛ لأن من دخل في عبادة وبعد ذلك تركها فإنه حاله كالمعرض عنها، كالزاهد فيها، وهذا يدل على منقصة، فكان يقرؤه في كل ليلة، وحقيقة من هذا حال فإنه يقدر القرآن حق قدره، إذا كان في كل حرف عشر حسنات، ويشفع لنا عند رب الأرض والسموات، إذاً هو الشفيع وهو المشفع، الله يشفع لك عند نفسه، شفع وقبل الشفاعة سبحانه وتعالى، إذا كان كذلك، فلابد إذاً من أن نكثر من التلاوة، أن نقرأه في كل ليلة بكامله، لكن هذا بما أن فيه مشقة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال له كما في الصحيح: ( اقرأه في ثلاث ولا تزد, ولا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث )، كأنه يقول: أنت ينبغي أن تقرأ وتتدبر وتفهم، وقراءته بكامله في ليلة واحدة قد تتعبك وتشغلك عن التدبر والتفهم والتعقل لمعاني القرآن، فينقص أجرك، اقرأ عشرة أجزاء بتدبر أحسن من ثلاثين جزءاً بلا تدبر.
وإذا كان القرآن سيشفع لك عند الرحمن فشفاعته لك بمقدار أخذك منه وتلاوتك له، كلما كثرت التلاوة كانت الشفاعة أعظم.
وقد ثبت عن أمنا عائشة كما في تفسير ابن مردويه وشعب الإيمان للإمام البيهقي ، والحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وإسناد الحديث حوله كلام وله شواهد ترفعه إلى درجة الحسن، وقد نقل الإمام البيهقي في شعب الإيمان عن الحاكم أنه قال: إسناده صحيح غريب، ولفظ أثر أمنا عائشة موقوفاً عليها، وهذا الأثر له حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، قالت: ( عدد درج الجنة كعدد آي القرآن )، فكلما قرأ الإنسان آية رقى درجة، ويقصد بالقراءة قراءةً وحفظاً وفهماً وعملاً؛ لأن القراءة إذا أطلقت تنصرف لهذه الأمور، وأما أن يقرأ ولا يحفظ ولا يفقه ولا يعمل فرب تال للقرآن والقرآن يلعنه، فكلما قرأ الإنسان آية رقى درجة، وآيات القرآن ستة آلاف ومائتا آية وزيادة، فدرج الجنة كذلك، فإذا حفظت وتلوت وفهمت وعملت فأنت في أعلى درج الجنة يوم القيامة في جنات نعيم، وهذا الأثر -كما قلت- عن أمنا عائشة موقوفاً عليها، وله حكم الرفع إلى نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
وأنا أعجب إخوتي الكرام من أنه يوجد معاهد للغناء والموسيقى وقلة الحياء، والذي يتخرج يأخذ الراتب بآلاف الدولارات، وانظروا بعد ذلك لخريجي معاهد القراءات، والله إن الذي يتقن القراءات العشر لو قُبلت رجلاه لا رأسه لكان قليلاً في حقه، لأن معه كلام الله سبحانه بالقراءات، والله يستمع إليه عندما يتلو ويصغي, والله لو قبلنا رجليه لكان قليلاً، قارئ القرآن عندما يتقن قراءاته أتظن هذا يسيراً؟ أنا أعجب كيف نعطي لمدرس الإنجليزي الآلاف المؤلفة، وقارئ القرآن بالقراءات العشر ينبغي أن يكون بمقدار عشرة مدرسين للغة الإنجليزية، لأنه هل اللغة الإنجليزية تعلمها أصعب من القراءات العشر؟ لا والله! لكن كما قلت: نحن لا نعظم الله في هذه الأيام.
استشارني مرّة بعض الشباب ممن أخذ الثانوية في بعض البلاد في إكمال دراسته قال: ماذا ترى أن أكمل؟ قلت: أنصحك بإحدى الكليتين، ولا تخلو كلية من انحراف وبدع، لكن أنصحك إما بكلية الشريعة وأصول الدين، وإما بكلية اللغة العربية، اختر: علوم شرعية أو عربية، فقال: يا شيخ! أنا نفسي تميل إلى علم النفس، قلت: أخس العلوم، ما وجدت إلا هذه الكلية، حيث النقص ليس علم النفس، ما وجدت أخس من هذه؟! وكان والده وهو يزيد على السبعين حاضراً معنا، قال: يا ولدي! أنا أنصحك نصيحة لا تسمع كلام الشيخ, ولا تسجل في علم النفس، أيش علم النفس؟ سجل في اللغة الإنجليزية، قلت: لم يا عم؟ قال: يا شيخ! المستقبل للإنجليزي! ولذلك يسجل في اللغة الإنجليزية ويأخذ بعد ذلك رواتب خيالية، وهذا يتقن القراءات العشر، وهو يحتاج في ضبطها من الجهدـ وضابطها عنده ذكاء وذكاء، والله لو قدرته الأمة لقبلت رجليه، ومع هذا ينظر نظرة دونية: لقد نسخ القرآن كله ومضى زمانه، وأنت ما كفاك تقرأ على قراءة واحدة، ذهبت تتقن العشر أيضاً، أيامك ضاعت سدى لا فائدة منها، نعوذ بالله من هذا الضلال والشقاء!
فقوله: (لله أشد أذناً)، أي: استماعاً وإصغاء، فرحاً بقارئ القرآن وابتهاجاً به عندما يقرأ، (من صاحب القينة إلى قينته)، وعندما يجلس الإنسان يرتل القرآن بهذه القراءات العشر، وما فيها من أسرار وعجائب، وبها يظهر إعجاز القرآن، كيف أن هذا القرآن قل لفظه وكثرت تلاواته، واحتمل بعد ذلك معاني بهذه القراءات، والله إن من يتقن القراءات يلوح له من أوجه الإعجاز ما لا يلوح لغيره، ومن يطلع على قراءات القرآن يظهر له بلا شك أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون كلام إنس ولا جان، إنما هذا كلام الرحمن ذي الجلال والإكرام سبحانه وتعالى.
قال: ( والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة، طعمها طيب ولا ريح لها )، يعني لو وضعت كيساً من التمر في المجلس لا يشعر به أحد، وهكذا المؤمن الخامل، الذي لا يقرأ القرآن، كأنه في مغارة ومغلق عليه.
قال: ( ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن )، معدنه خبيث، لكنه يقرأ القرآن فتفوح منه هذه الرائحة ويخدع الناس بها، والمقصود أنه يظهر منه أثر طيب، ( كمثل الريحانة طعمها مرّ وريحها طيب )، إن ذقته وعاملته وجدته سماً قاتلاً، لكن عندما تسمع منه القرآن يخدعك، فخرج منه طيب، مع أن المعدن خبيث، فهو كالريحانة إن أكلتها شعرت بمرارة، وإن شممتها فرحت برائحتها.
( ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحنظل )، مرّ الطعم لكن لا ريح له، ( لا ريح له وطعمه مرّ ).
هذا أول ما ينبغي أن يفعله أهل الإسلام نحو القرآن من الجانب العلمي الخبري النظري وهو التلاوة.
إذاً: لابد من التدبر، والله قد أنزل كتابه لهذا فقال: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون:68]، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، فلابد -إخوتي الكرام- من تدبر القرآن وتفهمه، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن من منّ الله عليه بتدبر القرآن وفهمه، والفقه في دين ربه، فهذا ممن رضي الله عنه وأراد الخير به، ففي المسند والصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان ، والحديث رواه الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس ، ورواه الإمام ابن ماجه عن أبي هريرة ، ولفظ حديث معاوية في الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين، وإنما أنا قاسم ويعطي الله، ولن تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله )، إذاً لابد من أن ينال الإنسان هذه المرتبة ليكون من المنعم عليهم، ممن أراد الله بهم خيراً، وهو الفقه في الدين، أي: الفهم في الدين، التدبر في الدين، الوعي في الدين، فهم كلام الله جل وعلا، وأما أن يقرأ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد:1]، فيقال له: ما معنى تبت؟ يقول: ما أدري، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:5]، ما معنى في جيدها؟ يقول: لا أدري، هذا لا يصلح قراءة بلا فهم، أيضاً ويقرأ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، من المغضوب عليهم؟ من الضالون؟ يقول: لا أدري.
فلابد من قراءة يتبعها فهم.
وقد دعا نبينا صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بفهم القرآن فصار بذلك من خلاصة الأكياس رضي الله عنه وأرضاه، ثبت في المسند ومستدرك الحاكم ومعجم الطبراني الكبير، والحديث إسناده صحيح صححه الحاكم وأقره عليه الذهبي ، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( كنت عند خالتي
والجملة الأولى: (اللهم فقهه في الدين)، ثابتة في المسند والصحيحين، وأما رواية المستدرك ومن معه ففيها زيادة: (وعلمه التأويل) وصدر الحديث في الصحيحين: ( اللهم فقهه في الدين )، وزاد الحاكم كما قلت والطبراني والإمام أحمد وغيرهم: ( وعلمه التأويل )، ولذلك أثر عن العبد الصالح مجاهد بن جبر والحسن البصري عليهم جميعاً رحمة الله أنهم قالوا: ما أنزل الله آية إلا وأحب أن يعلم العباد أين نزلت وفيم أنزلت. لا يوجد آية من القرآن إلا والله يحب أن نعلم أين نزلت، مكية أو مدنية، وفيم أنزلت؟ في أي شأن؟ في أي قصة؟ ماذا تعالج؟ على أي شيء تحتوي؟ وهذا ما كان يعتني به سلفنا، ضبطوا مكيه من مدنيه، ناسخه من منسوخه، محكمه من متشابهه، عامه من خاصه، مطلقه من مقيده، أين نزل في الحضر وفي السفر، في الليل وفي النهار، في الصيف وفي الشتاء، كل هذا ضبط من قبل الصحابة الكرام الذين عظموا كلام الرحمن.
وأذكر لكم -إخوتي الكرام- حادثتين اثنتين من حوادث كثيرة لا أريد أن أسترسل فيها، هاتان الحادثتان تدلان على موقف الصحابة نحو القرآن موقفاً عملياً جاداً ينبغي أن نتحلى به بعد تلاوتنا وفهمنا وحفظنا لكلام ربنا.
الخمر عندما نزل تحريمها في آية المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91]، قالوا: انتهينا، ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس رضي الله عنه، قال: ( كنت أسقي
انظر لهذا المسلك من صحابة نبينا عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، صُب لهم الخمر في الكئوس وتناولوها بالأيدي، ورفعوها إلى الأفواه، والمنادي ينادي في الشوارع: ألا إن الخمر قد حرمت، إن الله ورسوله ينهيانكم عن الخمر، فطرحوا الكئوس من أيديهم، وقالوا: يا أنس ! أهرق هذه القلال، قلال الخمر الموجودة عندهم، وكان أطيبه أعتقه وأقدمه، كان كل واحد عنده قلال كثيرة فيها خمر، لأنه كلما تقادم يطيب عندهم، فليس هي مجرد زجاجات تراق وانتهى الأمر، بل قلال كثيرة، ولذلك صب الخمر في شوارع المدينة حتى سال عند نزول آية التحريم، حقيقة هذا هو الإيمان: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36].
التقيت مرة ببعض الإخوة الصالحين من باريس، وهو من أسرة كاثوليكية أسلمت الأسرة بكاملها، فأردت أن أتعرف على إسلامهم، هل هو كإسلامنا أم كإسلام صحابة نبينا عليه وعليهم صلوات الله وسلامه؟! هل إسلامه كإسلام المسلمين في البلاد العربية؟ فقلت: ماذا يعمل والدك؟ لأتعرف؛ لأن هذا إذا كان نصرانياً في بلاد باريس في أول الأمر فمعاملاتهم كلها حرام، وهم الآن في الإسلام فهل غير سلوكهم وواقعهم؟ قال: كان والدي مصوراً، يعمل في التصوير، قلت: والآن؟ قال: لما أسلم علم أن التصوير حرام فتركه! وهو في باريس، قلت: فماذا يعمل؟ قال: بدأ يبيع الزهور الصناعية التي تصنع من البلاستيك، قلت: أموره إن شاء الله ميسرة، قال: حتماً الدخل أقل من ذاك بكثير، لكن فيه بركة عظيمة، وقد قابلته في المدينة المنورة في الروضة المشرفة على منور المدينة ومشرف الروضة صلوات الله وسلامه نبينا محمد خير خلق الله عليه الصلاة والسلام، يقول: ما يأتينا يبارك لنا فيه، لكنه أقل من ذلك، قلت له: والدتك وأخواتك كيف وضعهن ومسلكهن؟ قال: يتحجبن حجاباً شرعياً، نحن -يا شيخ- أسلمنا، قلت: لم لا يدخل النصارى في الإسلام عندكم في باريس وقد هداكم الله ورأيتم أنتم نور الإسلام؟ قال لي: لا يوجد في فرنسا مانع من دخول النصارى في الإسلام إلا مانع واحد وهو المسلمون من العرب، الذين ذهبوا إلى هناك وشوهوا الإسلام، عُهر وزنا ومخدرات وسرقة وكذب وغش وخداع، عندما ينظر النصارى يقولون: هذا إسلام! هؤلاء مسلمون!
لكن إخوتي الكرام ماذا نعمل؟! ليت البلاء اقتصر على أنفسنا؛ فقد لوثنا دين ربنا، يقول: لا يوجد ما يمنع النصارى من الإسلام إلا المسلمون فقط، يقول: لو لم يوجد في تلك البلاد ناس مسلمون، لكانت الدعوة من قبل من اهتدى من النصارى الكاثوليك تقوم بالغرض ويهتدي الناس، لكن لما تنظر إلى حال هؤلاء، أحدهم يشرب من الخمر حتى يتغوط على ملابسه، النصراني عندما يشرب الخمر ما يشرب هكذا، يشرب نصف الكأس وانتهى الأمر إذا نزل الطرب، وأما إذا ذهب عربي ولاسيما في فترة السياحة عندما يذهب الناس إلى تلك البلاد لاسيما من دول الخليج، كل واحد يشرب مقدار سطل من الخمر، ولاسيما إذا اقترب وقت العودة إلى بلادهم، ولعل الخمر فيها ممنوعة، فيشرب كثيراً جداً ثم يذهب إلى الطائرة ويتغوط على ملابسه على سلم الطائرة من كثرة الخمر الذي شربه في باريس أو في بريطانيا؛ لأنه سيودع هذا المكان فينبغي أن يتزود بالإثم والعدوان.
وأخبرني بعض الإخوة الكرام المسئولين عن الخطوط في بعض البلدان، وهو مسئول عن محطة في خطوط تتبع لبعض البلاد، ونسأل الله أن يلطف بأحوال المسلمين، يقول لي: يا شيخ! والله الذي لا إله إلا هو! من الحوادث التي أقابلها، وأذكر لك حادثة لترى انحطاط الأمة الإسلامية، يقول: قابلت مرّةً واحداً يزيد عمره على السبعين سنة ويمشي على عكازين، والطائرة ركب الناس فيها وستقلع، وهذا جالس في صالة المطار في المطعم هناك، يقول: يشرب الخمر ويلعب مع النساء، فجئت وقلت له: يا والد يا عم الطائرة ستقلع، تفضل، قال: فشتمني بأبي وأمي وأسرتي، يقول: أنا أعمل كذا وكذا عند فلان وفلان، وفي شنطتي هذه ثلاثمائة ألف دولار، وأنت جاي كذا وكذا، يتكلم عليه. فهو في هذه السن ومع ذلك خمر وبلاء والطائرة ستقلع! هذه أحوال الأمة الإسلامية!
انظر إلى هذه الاستجابة: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، قالوا: انتهينا، التصوير حرام ترك العمل فيه، فلا يأتي الشيوخ يتفلسفون، ويقولون: هذا حبس ظل، هذا كاثوليكي كان مبتلى بالتصوير فأسلم وعلم أنه حرام فترك التصوير، لكن تأتي لشيخ أفنى حياته في دراسة الإسلام وتقول له: هل التصوير حرام؟ فيقول: يا شيخ! هذا ليس بتصوير، طيب ما هو؟ قال: هذا حبس ظل، حبسنا ظل الإنسان وظهر في الورقة.. سمه حبس ظل أو سمه ما شئت، أليس هو صورة؟! خذ هذه الصورة إلى نساء البادية وقل: يا خالتي ما هذه؟ سوف تقول: هذه صورة، وإذا قلت: لا، هذا حبس ظل، تقول: أنت مجنون، ولو حبسنا ظلك بيدنا وسمناه؟ قال: هذا حرام هذا رسم باليد، ولو اخترعنا آلة تعبت أيدينا فيها سنين وأشهر حتى عملناها، قال: هذا حبس ظل، سبحان ربي العظيم! يعني لو اخترعنا آلة لو ضغطنا عليها تخرج لنا أصناماً منحوتة على أشكال بني آدم، لكن دون أن نباشرها بأيدينا، وهذا موجود، يمكن أن تضع حجارة في معمل وتضغط على الأزرار فتخرجه بصورة إنسان، هل هذا حلال؟ بقول: هذا أيضاً عمل الماكينة وعمل الآلة، الصورة صورة، كل ما يدخل في هذا المعنى فهو صورة، كل ما فيه هذا المعنى فهو صورة، وهذا كاثوليكي أسلم وعلم أن التصوير حرام فيترك مهنته، أما الآن فكم من طلبة العلم من يجيزون التصوير لشبه غير مقبولة، ويأتيك فيلسوف آخر ويقول: التصوير حرام إذا كان سيعبد من دون الله، وأما الآن فإن العلم تقدم، والناس عقولها تفتحت، ولا يوجد صورة تعبد من دون الله، والعكس هو الصحيح فلا يوجد عصر تعبد فيه الصور كهذا العصر المنحط، فالصور عندما تعلق يعتبر هذا تعظيماً لها، هذه هي العبادة، وعندما تضع صورة فوق رأسك وتضرب لها التحية، وعندما تضرب رقبة من قطعها، أليس هذا من التعظيم؟! فلا يوجد عصر يعبد العباد فيه بعضهم بعضاً كهذا العصر، نعم قد يكون أكثر صور الشرك الساذجة ذهبت، من سجود لحجر أو لشجر أو لبقر مع وجودها، لكن بقي سجودٌ للبشر، والبشر أُلّهوا من دون الله في هذا الوقت وفي الأوقات الأخرى، فالشرك باقٍ وإن اختلفت الصور والأشكال، وهو أن تجعل لله نداً وأن تعظم غير الله جل وعلا فيما ينبغي أن يعظم به الله وحده لا شريك له.
فانظر لهذا البلاء الذي تعيشه الأمة، وانظر إلى السلوك العملي في الأمة الإسلامية في العصر الأول نحو كلام رب البرية.
فكان الأمر هكذا في البداية، ثم بعد العام الخامس للهجرة نزلت آية الحجاب، فماذا كان موقف نساء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؟ نساء الصحابة من مهاجرين وأنصار، المهاجرات الأول والأنصاريات رضي الله عنهن جميعاً، تثني عليهن عائشة رضي الله عنها وتذكر فضلهن لما نزلت آية الحجاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59]، تقول: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما نزلت آية الحجاب عمدن -أي: قصدن- إلى مروطهن، وهي أكثف وأثخن وأسمك وأغلظ ثيابهن، فاختمرن بها، وخرجن كأن على رءوسهن الغربان. لما نزل آية الحجاب ذهبت كل واحد إلى أسمك وأغلظ وأثخن وأمتن ثوب عندها من مروطها فشقته واختمرت به، أي: جعلته على رأسها من أجل أن لا يرى ما كان يظهر وهو الوجه، فآية الحجاب نزلت للأمر بستر ما كان يكشف من وجه ويدين، هذا الذي كان يكشف، وهو الذي أمرنا بستره، يعني ما كانت الصحابية تتهتك كتهتك النساء في هذا العصر، ولذلك قال الله تعالى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، يعني يسترن أبدانهن دون الوجه والكفين, فما كان يكشف إلا هذا، وهما اللذان رخص في إبدائهما للقاعد، وإذا استعفت عن إبدائهما فهو خير لها، كما قال تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ [النور:60]، أي: تكشف عن وجهها ويديها، لأنه قد صار وجهها أربعين طبقة، وإذا رأيتها أنت تعرض عنها فلا حرج، زادت على السبعين سنة، ظهرها تقوس، وأسنانها ذهبت من فمها، ووجهها طبقات، فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن، بشرط أن لا يكون على الوجه زينة أيضاً، فلا تضع مساحيق بحيث تعدله فلا يجوز، غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]، ومع ذلك وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60] يعني إذا سترت وجهها فهو أحسن لها، هذا في المرأة العجوز التي بلغت تسعين سنة.
أما الصبية فلا يجوز؛ لأن آية الحجاب أمرتها بستر ما كان يكشف قبل نزول الآية وهو الوجه والكفان، قال تعالى في سورة النور: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]، وفي سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، فلما نزلت عمدن إلى أكثف مروطهن فاختمرن بها، فخرجن كأن على رءوسهن الغربان، جمع غراب، وهو الطائر الأسود المعروف، يعني لبسن على رءوسهن حجاباً سميكاً ثخيناً غليظاً بلونٍ أسود لا يجلب النظر، كما هو الحال في المرأة الصالحة عندما تخرج من بيتها، وهذا كان عند نزول الآية مباشرة. وهذا الأمر والتوجيه الذي نزل على الأمة الإسلامية في العصر الأول، أليست الأمة مطالبة به في هذه الأيام؟ ما موقف النساء المسلمات نحو هذا التوجيه؟ كل واحدة تتفلت بتأويل وبمخالفة.
ومن حقق هذه الأمور فهذا من أهل الله وخاصته، وإذا كان من أهل الله فسينصر الله أهله في هذه الحياة وسيعزهم ويسعدهم بعد الممات، ثبت في المسند وسنن النسائي وابن ماجه ، والحديث رواه الحاكم في المستدرك والدارمي في سننه، من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، والحديث صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إن لله أهلين من الناس، قالوا: يا رسول الله! من أهل الله فينا؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ).
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن قارئ القرآن إذا قرأه وفهمه وحفظه وعمل بما فيه له منزلة عظيمة عند الله، بحيث ينفع نفسه، وينتفع به غيره بفضل الله ورحمته، ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه ، والحديث رواه الإمام الدارمي في سننه أيضاً عن علي رضي الله عنه، وفي إسناد الحديث ضعف، لكن له شاهد أذكره بعد رواية الحديث، ولا مانع من عرضه الآن، الشاهد رواه الطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله ، فالحديث مروي عن علي في المسند وسنن الترمذي وابن ماجه وسنن الدارمي ، وله شاهد في معجم الطبراني الأوسط من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ولفظ حديث علي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قرأ القرآن فاستظهره )، أي: حفظه عن ظهر قلب، ( من قرأ القرآن فاستظهره، وأحل حلاله، وحرم حرامه؛ أدخله الله الجنة، وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار )، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام لأهل الكبائر من أمته، وهكذا تالي القرآن، قرأ القرآن فاستظهره، أحل حلاله، وحرم حرامه، يشفعه الله في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار، أي: استحقوها ولزم دخولهم فيها لتفريطهم في حق الله ولقيامهم بالمعاصي، لكن هذا يشفع لهم، فالله يشفع له عنده عند نفسه ثم يشفعه في هؤلاء من خلقه، ورحمته واسعة.
ورد في سنن الترمذي ، والحديث فيه ضعف، ومثله في الفضائل يرخص في حكايته، وله شواهد كثيرة، عن معاذ بن أنس الجهني ، والحديث من رواية سهل بن معاذ عن أبيه معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه، وهو في سنن أبي داود من رواية معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس والداه تاجاً يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا، فما ظنكم بالذي عمل ذلك )، أي: فما ظنكم بقارئ القرآن، يعني إذا كان والداه يكسيان هذه الحلة، ويوضع عليهما هذا التاج وضوؤه أعظم من ضوء الشمس في بيوت الدنيا، فما هو جزاء ذلك القارئ؟ وهذا ما أشار إليه الإمام الشاطبي عليه رحمة الله في حرز الأماني ووجه التهاني بقوله:
فيا أيها القاري به متمسكاً مجلاً له في كل حال مبجلا
هنيئاً مريئاً والداك عليهما ملابس أنوار من التاج والحلا
فما ظنكم بالنجل عند جزائه أولئك أهل الله والصفوة الملا
أولو البر والإحسان والصبر والتقى حلاهم بها جاء القران مفصلا
إذاً: هذه كلها ينالها من حقق تلك الأمور، الجانب العملي تلاوة القرآن وفهمه وحفظه، والجانب العملي، ترجمة هذا في سلوك الإنسان وفي جوانب حياته.
استمع لهذه القصة المختصرة لحال الصحابة البررة نحو كلام الله، وهل كفاهم عن غيره أم لا؟ في عهد خلافة عمر رضي الله عنه كما في كتاب الاستيعاب لـابن عبد البر ، والأثر رواه الإمام البيهقي في تفسيره أيضاً، وفي كتاب فضائل القرآن وثواب قراءة القرآن للإمام القرطبي عليهم جميعاً رحمة الله، وأصل الأثر كما قلت في كتاب الاستيعاب للإمام ابن عبد البر ، وكتاب الإمام القرطبي في فضائل القرآن اسمه: التذكار في بيان أفضل الأذكار، وتفسيره معروف، في عهد خلافة عمر رضي الله عنه كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري الذي كان أميراً من قبله على بلاد البصرة، يكلفه أن يسأل الشعراء قبله: هل لا زالوا يقولون الشعر أم امتنعوا عنه؟ ما حال الشعراء بعد أن أكرمهم الله بالإسلام؟ فجمع أبو موسى الأشعري الشعراء ومن جملتهم لبيد الشاعر المشهور، فقال لهم أبو موسى : هل تقولون الشعر؟ فقام لبيد وقال: ما كنت لأقول شعراً بعد أن أكرمني الله بسورة البقرة، كيف أقول الشعر الذي أعذبه أكذبه، وكلها على المجازفات والخيال والتمويه؟! وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:224-227]، نقول الشعر وقد أكرمنا الله بسورة البقرة! كلام الله في هذه السورة نتركه ثم نقول الشعر، وما قال شيئاً من الشعر بعد أن أسلم إلا بيتاً واحداً:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
أسلمت واهتديت، وصار هذا الإسلام لي لباساً وحصناً وجُنة، ويروى أنه قال:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه والمرء يصلحه القرين الصالح
إخوتي الكرام! لقد حقق الصحابة الكرام هذا الأمر، الجانب العملي والجانب العلمي، العلمي بأنواعه الثلاثة: تلاوة وفهم وحفظ، والعملي ترجمة للقرآن في سلوكهم، وقد حذرنا الله تعالى من عدم الاستغناء بالقرآن وعدم الاقتصار عليه: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت:51]، من لم يكفه ذلك فلن تكفيه ولن تسعه إلا نار جهنم في الآخرة، والذل والشقاء في هذه الحياة، وأن يكون شعرة في الذنب.
وكلمة (يتغنى) تحتمل أربعة أمور كلها حق مقبول كما بين هذا الحافظ في الفتح، أولها: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)، أي: يستغني به، ويجعله غنى له عما سواه، يستغني به عما سواه، فهو الغنى الذي ما بعده غنى.
المعنى الثاني: يتغنى، من الغناء، وهو تحسين الصوت بما يوافق قواعد اللغة وأحكام التجويد، فعليه أن يحسن صوته كما قال سفيان بن عيينة لما قيل له: إن لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع، أقول: وهذا من نتيجة استغنائه بالقرآن؛ لأن الإنسان إذا استغنى به وعكف عليه، وجعله أعظم شيء عنده، فإنه يحسن صوته به، ويستحليه؛ لأن الشيء إذا كان محبباً إليك عندما تقرؤه تقرؤه بألفاظ فخمة حلوة حسنة، وكما أن الشيء إذا كان ممتهناً تقوله بألفاظ محقرة، وبصوت ضعيف.
إذاً: المعنى الثاني تابع للأول: أن تحسين الصوت تابع لتعظيمك للقرآن واستغنائك به، وحقيقة هو يستغنى به عما سواه، وإذا عرض علينا أفكار وآراء وقوانين ومبادئ فنقول: عندنا كتاب ربنا يهدينا للتي هي أقوم، ثم بعد ذلك هذا القرآن نترنم به، ونحسن به أصواتنا: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2]، فما أجمل هذا! وما أطربه! وما ألذه! وما أحسنه! تحسن صوتك به وتقرأ القرآن وأنت تقود السيارة، وأنت تمشي مع أهلك في بيتك فهو سهل، كما أن أهل العشق والفجور يتغنون بالكذب والخنا والزور، فنحن نتغنى بكلام العزيز الغفور.
المعنى الثالث: يتغنى بمعنى: يجهر، كما أن الغني يظهر غناه ويجهر به ويتبجح، فهنا كذلك، أنت تجهر بهذا القرآن، وتظهره، ولا داعي أن تسره وأن تخفيه، تقول: أنا حافظ للقرآن من فضل الله، وإذا اجتمعت في مجلس وأراد الناس أن يتكلموا بلغط فقل لهم: أنصتوا لكلام الله جل وعلا، ثم تجهر بالتلاوة والقراءة، أحسن من أن يخوض الناس في قيل وقال وهذر وكلام فارغ، أشغلهم بكلام الله جل وعلا واجهر به.
وقيل: التغني يأتي بمعنى: التحزن، أن يقرأه بحزن وخشوع، فالقرآن نزل لذلك.
والمعاني الأربعة كما قال الحافظ : كلها حق مراد، نستغني به عما سواه، ونطرب في قراءته تطريباً وتحسيناً شرعياً لا يخرج عن قواعد اللغة العربية وأحكام التجويد، فالإنسان يحسن صوته بحيث يحافظ على القراءة الشرعية، وهكذا إذا كان الصوت فيه عذوبة وحسن، فهذا مطلوب، استغنينا به، غنينا به غناءً شرعياً، وكفانا ذلك عن غناء الشيطان ومزامير الشيطان.
الأمر الثالث: نجهر به ونظهره ولا نستخفي به، الأمر الرابع: نقرؤه بحزن وخشوع عندما نتلوه، هذه الأمور الأربعة كلها مراده لقوله: ( ليس منا من لم يتغنى بالقرآن ).
إخوتي الكرام! إن الإعراض الذي حصل في هذه الأيام عن كلام الرحمن حقيقة إنه منذرٌ بكل سوء، وهذه الحالة سيشكو منها نبينا عليه الصلاة والسلام يوم القيامة أمام ربه فيقول: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، ما استغنينا به وهجرناه وأقبلنا على ما سواه، وهذا كما قلت نذير بكل سوء، ثبت في المستدرك ومعجم الطبراني الكبير بإسناد صحيح من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أشراط الساعة أن يرفع الأشرار، وأن يوضع الأخيار، وأن يفتح القول، وأن يخزن العمل، وأن يعمل في القوم، وأن يقرأ في القوم بالمسناس، ليس فيهم من ينكرها ولا من يغيرها، قالوا: وما المسناس يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: كتب غير كتاب الله )، الصحف التي تتطاير في بلدان العالم في هذه الأيام كلها من المسناس والباطل، صحف زور، وكلام باطل تحت ستار الإعلام، أخبار كاذبة، وآراء باطلة.
نظر امرأة ورأي امرأة وكلام امرأة فيما يتعلق بالتعدد، وأن هذا منكر، وأن بلدة كذا عندما حرمته أصابت، وصورة خطيب مع مخطوبته، أما تستحون من الله؟! تعرضون قلة الحياء على الناس، لكن هذا هو الزمن الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: (يقرأ في القوم بالمسناس)، تنشر فيهم كتب باطلة ليس فيهم من ينكرها ولا من يغيرها، اللهم اشهد أننا ننكر ذلك ونرده ولا نرضى به، ونسألك أن تعيننا على تغييره إنك أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر