يقول الله تبارك وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))، يقول
ابن عباس رضي الله عنهما: أي: لا تقولوا خلاف السنة.
تفسير ابن جرير لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)
وقال
ابن جرير : أي: يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله ونبوة نبيه صلى الله عليه وسلم! لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، محكي عن العرب فلان يقدم بين يدي الإمام.. بمعنى: يعجل الأمر والنهي دونه.
و(تقدموا) إما متعد حذف مفعوله لأنه أريد به العموم، أي: ليعم كل ما يصح تقديمه فيذهب الوهم فيه كل مذهب، والمعنى: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله ورسوله.
أو أنه فعل متعد لكن نزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى المفعول، كما تقول: فلان يعطي ويمنع، فأنت تريد أن تصفه بأنه يعطي ويمنع فقط، ولا تريد أن تعين ما تنتقد يعطي وما يمنع.
وفي هذه الجملة تجوزان: أحدهما: في قوله: ((بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) فإن حقيقته ما بين العضوين (اليدين) فتجوز بهما عن الجهتين المقابلتين لليمين والشمال، بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما، ولذلك لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم
معاذاً إلى اليمن قال له: (
بم تحكم؟ قال: بكتاب الله تعالى، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا رواه
أحمد و
أبو داود و
الترمذي و
ابن ماجة ، وقال
ابن كثير إنه جيد. لكنه في الحقيقة حديث منكر، فهو ضعيف ولا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام كما حقق ذلك كثير من الأئمة، لكن الشاهد هنا بفرض صحته أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام
ابن جرير رحمه الله تعالى: (لا تُقَدِّمُوا) بضم التاء هذه قراءة الأمصار، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها، لإجماع الحجة من القراء عليها، وقد حكي عن العرب: قدمت في كذا وتقدمت في كذا.
تفسير القرطبي لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)
لا دليل لأهل الظاهر في نفي القياس بالآية
وفي الإكليل: قال
الكيا الهراسي : قيل نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح.
وعموم الآية يدل على النهي عن التعجيل في الأمر والنهي دونه، ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل شيء، وربما احتج بها نفاة القياس، وهو باطل منهم.
يعني: هذه الآية يحتج بها الظاهرية الذين ينكرون القياس كأصل من أصول الشريعة؛ لأن الله قال: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ))، ولم يترك دليلاً آخر خلاف الكتاب والسنة، فهذا باطل من هؤلاء القوم، فإن القياس قامت دلالته، فليس في فعله تقديم بين يدي الكتاب والسنة؛ إذ قد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس هذا تقدماً بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم.
تفسير الشنقيطي لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)
يقول العلامة
الشنقيطي رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير هذه الآية الكريمة:
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((لا تُقَدِّمُوا)) فيه لعلماء التفسير ثلاثة أوجه:
الوجه الأول منها وهو أصحها: أنه مضارع (قدم) اللازمة بمعنى: (تقدم) كما تقول: وجه وتوجه، وبين وتبين، ومنه مقدمة الجيش وهي خلاف ساقته، ومقدمة الكتاب، و(مقدمة) اسم فاعل قدم بمعنى: تقدم، والعرب تقول: لا تقدم بين يدي الأبي، يعني: لا تعجل بالأمر والنهي دونه، ويدل على هذا الوجه قراءة
يعقوب من الثلاثة الذين هم تمام العشرة: (لا تَقَدَّموا) وأصلها لا تتقدموا بحذف إحدى التاءين، هذا هو أصح الوجوه.
الوجه الثاني: أنه مضارع (قدم) المتعدي، والمفعول محذوف لإرادة التعميم، أي: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله ورسوله، بل أمسكوا عن ذلك حتى تصدروا فيه عن أمر الله ورسوله.
الوجه الثالث: أنه مضارع (قدم) المتعدية، ولكنها أجريت مجرى اللازم،وقطع النظر عن وقوعه على مفعولها؛ لأن المراد هو أصل الفعل دون وقوعه على مفعوله كقولهم: فلان يعطي ويمنع، ونظير ذلك في القرآن الكريم قوله تبارك وتعالى:
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [غافر:68]، (يحيي) فعل فهو متعد، يحيى الموتى أو يحيى البشر وهكذا، لكن لما كان المقصود في هذه الآية إثبات اختصاص الله سبحانه وتعالى بالإحياء والإماتة، ولا يراد في ذلك وقوعهما على مفعول، فيقطع النظر عن المفعول.
وكذلك قول الله سبحانه وتعالى:
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، (يعلم) فعل متعد، أي: يعلم الفقه ويعلم التفسير ويعلم الطب، لكن لما أريد مجرد وصف القوم بالعلم، وأنهم لا يستوون مع غير المتصفين بالعلم أجري الفعل المتعدي مجرى اللازم، كذلك (لا تُقَدِّمُوا) يعني: لا تكونوا من المتصفين بالتقديم بقطع النظر عن وقوعه على مفعوله.
قال الله تبارك وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)) أي: إذا نطق ونطقتم فلتكن أصواتكم قاصرة عن الحد الذي يبلغه صوته؛ ليكون عالياً على كلامكم، لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبلغوا أصواتكم إلى أسماع الحاضرين قبل صوته، فإن ذلك من سوء الأدب بمكان النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا نهي عن أن تكون نبرة صوت أحد المؤمنين أعلى من صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد قال
لقمان لابنه وهو يعظه:
وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]، فتهذيب الأصوات وغضها من الآداب التي تكاد تكون مهجورة، فقد ذم الشرع رفع الصوت بغير عذر شرعي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب في الأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (صخاب في الأسواق) بالسين وبالصاد؟ من الصخب والجلد كالباعة الذين يرفعون الأصوات في الأسواق، فرفع الأصوات بهذه الطريقة المنكرة مما تنفر عنه الشريعة، فضلاً عن أن بعض الناس يقف يعلن عن بعض الكتب، ويرفعون الأصوات على أبواب المساجد، فهذا أيضاً مناف للآداب الشرعية.
إهمال الناس لأدب خفض الصوت في المساجد
وقول الله عز وجل على لسان
لقمان :
وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]، فيه تنفير شديد لرفع الصوت وأن هذا من شأن الحمير، وأنا سمعت من سنوات بعيدة أن أحد علماء الموسيقى في لبنان أسلم بسبب هذه الآية، قال: لأن هذه الآية لا يمكن أن ينطق بها إلا خالق الأصوات، فقوله: إن أشد الأصوات نشازاً هو النهيق الذي يصدر من الحمير، هذه حقيقة علمية في غاية الدقة، فأسلم بسبب هذه الآية!
وكان من صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة كما ثبت في بعض الآثار: (محمد عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق).
أيضاً: مما يناسب هذا مراعاة موضوع الآداب في السوق وفي المسجد، فهذا الأدب يكاد يكون مهجوراً، فلابد من مراعاة الأدب في المسجد بخفض الصوت فيه، فبعد الصلاة يحصل لغط وتشويش، وربما بعض الناس يريد أن يصلي أو يقرأ فيجد الأصوات مرتفعة وكأنه في ناد، ولا أحد يبالي بأدب المسجد.
فالمسجد له احترامه وأدبه، ولا بد من غض الصوت في المسجد احتراماً أو مراعاة لحرمة بيت الله عز وجل، فضلاً عما يحصل من بعض الناس من السلوك فتجده يرفع صوته ويتملكه الغضب، ويصرخ في المسجد بطريقة لا تليق أبداً مع آداب المسجد.
كذلك من الأشياء التي ينبغي الالتفات إليها ضبط السماعات، فأحياناً يكون القائمون على هذا الأمر غير متخصصين ولا يعرفون ضبط السماعات، فيكون الصوت مرتفعاً جداً، وأنا أحياناً أتواجد في بعض المساجد فأضطر أن أضع أصبعي في أذني؛ لأن هذا خطر على أعصاب الأذن، فالصوت العالي يؤثر على حاسة السمع، فلا ينبغي أن نهمل هذا الأمر؛ لأن هذا من أذية المسلمين وأحياناً يكون الإهمال في ضبط السماعات بحيث تصدر أثناء الصلاة صفارات تشوش على الناس الصلاة.
إذاً: هذا أيضاً مما يدخل في الأدب في التعامل مع الناس والأدب مع المساجد، فليبلغ السامع الغائب في أي مسجد، فالمكبرات تؤدي خدمة جليلة في توصيل الخطب خاصة عند ازدحام الناس في صلاة الجمعة أو العيدين، لكن أن تكون السماعات مرتفعة الصوت بهذه الطريقة فهذا يشبه ما يفعله الجهلة الذين يريدون أن يعملوا أفراحاً بأصوات مؤذية، فيؤذون الجيران، فضلاً عن أنها معاص كالأغاني وغيرها، ويسهرون حتى الفجر، ويتعبون جيرانهم، ولا يستطيع أحد أن ينام، ولا يستطيعون أن يفرحوا إلا بهذه الطريقة الفوضوية والغوغائية، كيف يكون هذا فرحاً؟
إن كان لا بد من فساد فاحصره في دارك.
كذلك الذي يتصدق على جيرانه بمزامير الشيطان، ويرفع الصوت فيسمعهم، وبعض الناس يحاول أن يواجه هذا بأن يرفع صوت القرآن، ويذهب الآخر فيرفع الأغاني أكثر، فتحدث عملية عناد بطريقة غير مرضية، فمن الذي أجاز رفع الصوت في القرآن بهذه الطريقة التي تحصل في المساجد؟ سواء كان في المقرئ الذي يأتون به يوم الجمعة أو بعد صلاة العصر، وهذه بدعة، فإذا أراد أحد أن يصلي السنة أو أن يقرأ سورة الكهف لم يستطع.
من قال: لا تقرأ القرآن؟ اقرأ القرآن فهو أفضل ذكر، لكن كل شخص يقرأ وحده دون أن يشوش على الآخرين فالتشويش على جميع المصلين بهذه الطريقة إهدار لحقهم في أن يصلوا صلاة خاشعة، فإذا أراد أحد أن يتنفل إلى أن يخرج الإمام يوم الجمعة فدعه يتنفل، لماذا تشوش عليه بالصوت العالي بالقرآن؟
فالرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى الناس يجهر بعضهم على بعض أمرهم أن يخفضوا أصواتهم، فقال: (
ألا كلكم مناج ربه، فلا يجهر أحدكم بصوته على أخيه)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يذهب الشخص إلى بعض المساجد فيندم أنه لم يحضر معه سدادات الأذن، لأن الصوت يكون مؤذياً إلى أقصى مدى، في حين يمكن أن تسمع الخطبة وتفهمها جداً عندما يكون الصوت هادئاً، وليس فيه هذه النبرة.
فالشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وعندنا عناء كثير بسبب هذا الأمر، وبسبب عدم الوعي بآداب الإسلام؛ ولذلك نقول دائماً: نحن لسنا متخلفين عن الكفار في اهتمامهم بحقوق الآخرين، لكننا متخلفون عن الإسلام الذي علم الدنيا كلها هذه الآداب قبل قرون عديدة ومديدة، فهذه الآداب هي في الحقيقة نابعة من ديننا ومن سنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
رفع الصوت عند النبي من الكبائر
قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)).
أي: بل تعمدوا في مخاطبته القول اللين القريب من الهمس الذي يضاد الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم.
وروي عن
مجاهد تفسيره بندائه، يعني: لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً: يا محمد! يا محمد! بل تنادوه: يا نبي الله! يا رسول الله! وقد قال تبارك وتعالى:
لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63].
((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ)) يعني: مخافة أن تحبط أعمالكم لرفع صوتكم فوق صوته، وجهركم له بالقول كجهركم لبعضكم.
((وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) أي: لا تعلمون ولا تدرون بحبوطها.
استدلت المعتزلة بالآية على أن الكبائر محبطة للأعمال لأن المذكور في الآية كبيرة محبطة، ولا فرق بينها وبين غيرها، وعمموا الأمر فقالوا: ما دام أن هذه كبيرة محبطة فكل كبيرة محبطة.
ولما كان المحبط للأعمال عند أهل السنة هو الكفر خاصة، تأول علماء أهل السنة هذه الآية بأنها للتغليظ والتخويف، إذ جعلت بمنزلة الكفر المحبط، أو هي للتعريض للمنافقين القاصدين بالجهر والرفع الاستهانة، فإن فعلهم محبط قطعاً لأنه يقصد به الاستهانة بمقامه الشريف، فهي ليست في حق المؤمنين إلا إن قلنا: إنها للتغليظ والتخويف، كوصف المعاصي مثلاً بالكفر.
وقال
الناصر : المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق، ومعلوم أن حكمة النهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذا هو حكم الله في التحذير من أن يقع إيذاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يجوز رفع الصوت عند الحرب
وهناك حالات للجهر لا يتناولها النهي باتفاق العلماء، مثل أن يكونوا في حرب، أو في مجادلة معاند، أو في إرهاب عدو، أو ما أشبه ذلك مما لا يتخيل منه تأذ واستهانة، قال صلى الله عليه وسلم
للعباس لما ولى المسلمون يوم حنين: (
ناد أصحاب السمرة)، وكان
العباس جهوري الصوت، فنادى بأعلى صوته، مع أنه كان في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هل هذا يدخل في قوله: (( وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ))؟
لا، لأن هذه حالة جهاد وقتال، ومطلوب فيها رفع الصوت من أجل تجميع الجيش الذي تبدد وتفرق.
والسمرة هي الشجرة التي بايعوا تحتها، وكان رجلاً صيتاً، يروى أن غارة أتتهم يوماً فصاح
العباس : يا صباحاه! فأسقطت الحوامل من شدة صوته، وفيه يقول
نابغة بني جعد:
زجر
أبي عروة السباع إذا أشفق أن يختلطن بالغنم
أبو عروة كنية
العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وذلك أنه زعمت الرواة أن
العباس كان يزجر السباع عن الغنم فتنفجر مرارة السبع في جوفه من قوة صوت
العباس رضي الله تعالى عنه، لكن كيف لا تفتق مرارة الغنم؟ قيل: لأنها ألفت صوته، لأنه مع الغنم دائماً فتعودت على الصوت، أما السباع فكان يحصل ذلك لها فجأة، والله أعلم من صحة ذلك.
المقصود: أن رفع الصوت هو من جنس ما يحصل به الإيذاء، وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة، حتى أن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه، فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الإجلال والإعظام!
ثانياً: نقول: إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر، وهذا أمر ثابت قد نص عليه الأئمة، وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفراً، ولا تقبل توبته، فما أتاه أعظم عند الله وأكبر. والله عز وجل الموفق.
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم..)
دلالة الآية على توقير النبي صلى الله عليه وسلم
كفر المستهزئ بالنبي صلى الله عليه وسلم
وجوب التمييز بين حقوق الله وحقوق النبي صلى الله عليه وسلم
ثم يذكر المسألة الثانية ويقول: وهي من أهم المسائل:
اعلم أنه يجب على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته التي لا يجوز صرفها لغيره، وبين حقوق خلقه كحق النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليضع كل شيء في موضعه على ضوء ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القرآن العظيم والسنة الصحيحة.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن من الحقوق الخاصة بالله التي هي من خصائص ربوبيته التجاء عبده إليه إذا دهمته الكروب التي لا يقدر على كشفها إلا الله سبحانه وتعالى، فالتجاء المضطر الذي أحاطت به الكروب، ودهمته الدواهي، لا يجوز إلا لله وحده؛ لأنه من خصائص الربوبية، فصرف ذلك الحق لله، وإخلاصه له هو عين طاعة الله ومرضاته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ومرضاته، وهو عين التوقير والتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أعظم أنواع توقيره وتعظيمه هو اتباعه والاقتداء به في إخلاص التوحيد والعبادة له وحده جل وعلا.
فبعض الناس تسول له نفسه أن يغالي ويفرط في تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام إلى حد يوقعه في الشرك، ويظنون أن حبهم للنبي عليه الصلاة والسلام وإرادة تعظيمه تشفع لهم في ذلك، فالرسول عليه الصلاة والسلام من أراد أن يمدحه فليمدحه بالعبودية؛ لأن سر ارتفاع مقام النبي عليه الصلاة والسلام عن العالمين أجمعين ما هو إلا إمعانه في تحقيق العبودية، والعبودية هي غاية الحب مع غاية الذل، فما ارتفع عند الله إلا لأنه بلغ غاية الذل وغاية الحب لله عز وجل التي لا يصل إليها أحد على الإطلاق، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (
من تواضع لله رفعه الله)، فهو كان أشد الناس تواضعاً لله، وهذا هو سر رفعة النبي عليه الصلاة والسلام.
فبعض الناس قد يظن لجهله أنه إذا مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمديح فيه غلو أنه تشفع له هذه المحبة،حتى لو كان هذا الأمر مما لا يجوز أن يصرف إلا لله، انظر مثلاً إلى قول
البوصيري في البردة:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وقول بعضهم:
محمد زينة الدنيا وبهجتها محمد كاشف الغمات والظلم
هل هذا حق ؟ كلا، هذه من خصائص الربوبية التي لا تُصرف إلا لله عز وجل.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا سمع بعض الناس يخطئ في بعض العبارات يغضب غضباً شديداً، كقول الرجل مثلاً: ما شاء الله وشئت، فغضب وقال: (
أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده).
براءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن يغالون فيه
بعض من ينتسب إلى الإسلام أسوأ حالاً من المشركين في الشرك
المغالي في تعظيم النبي عدو لله وإن ادعى المحبة
يقول
الشنقيطي : واعلم أن كل عاقل رأى رجلاً متديناً في زعمه، مدعياً حب النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وهو يعظم النبي صلى الله عليه وسلم، ويمدحه بأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنزل الماء من السماء، وأنبت به الحدائق ذات البهجة، وأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الأرض قراراً، وجعل خلالها أنهاراً، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزاً، فإن ذلك العاقل لا يشك في أن ذلك المادح المعظم في زعمه من أعداء الله ورسوله، المتعدين لحدود الله.
فلا فرق بين إجابة المضطرين وبين كشف السوء عن المكروبين، فعلينا معاشر المسلمين أن ننتبه من نومة الجهل، وأن نعظم ربنا بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وإخلاص العبادة له، وتعظيم نبينا صلى الله عليه وسلم باتباعه والاقتداء به في تعظيم الله، والإخلاص له والاقتداء به في كل ما جاء به.
وأثنى الله سبحانه وتعالى على نبيه وأصحابه لالتجائهم إليه وقت الكرب يوم بدر في قوله:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9].
ثم يقول
الشنقيطي : اعلم أنه يجب على كل مسلم أن يتأمل في معنى العبادة، وهي تشمل جميع ما أمر الله أن يتقرب إليه به من جميع القربات، فيخلص تقربه بذلك إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يصرف شيئاً منها لغير الله كائناً ما كان، والظاهر أن ذلك يشمل هيآت العبادة.
يعني: كما أن العبادة لا تصرف إلا إلى الله، كذلك هيآت العبادة، فبعض الناس يذهب إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، فيقف أمام القبر، ويضع يده اليمنى على اليسرى كما يفعل داخل الصلاة، وهذه هيئة من هيآت الصلاة، فينبغي أن تكون خالصة لله، كما كان صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه يخلصون العبادات وهيآتها لله تبارك وتعالى وحده.
والعبادة أنواع فمنها: عبادات قلبية، وبدنية، ومالية، وقولية:
فمثال القلبية: الحب والرجاء، والتوكل، والإنابة، واليقين ونحوها.
وهناك عبادات قولية مثل: الذكر والحلف والنذر وقراءة القرآن وهكذا.
والعبادات المالية كالزكاة والصدقة والنذر والحج ونحو ذلك.
والعبادات البدنية كالصيام والصلاة والجهاد ونحو ذلك، فكل هذه العبادات لا ينبغي أن توجه إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يحلف إنسان إلا بالله، فإذا حلف بغير الله فقد وجه العبادة إلى غير مستحقها حتى لو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال تعالى:
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:5].
يعني: لأن خروجه باستعجالهم ربما يغضبه، فيفوتهم فوائد رؤيته وكلامه صلى الله عليه وسلم، وإن صبروا استفادوا فوائد كثيرة مع اتصافهم بالصبر ورعاية الحرمة لنبيهم ولأنفسهم.
((والله غفور رحيم)) أي: لمن تاب من معصية الله، وراجع أمر الله فيه وفي غيره.
سبب نزول الآية
كلام الزمخشري في الآية
والحجرات بضمتين أو بفتح الجيم أو سكونها -قرئ بهن جميعاً- جمع حجرة، وهي الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها، كفعلة بمعنى: مفعولة كالغرفة والقبة والظلمة، فأصل كلمة الحجرة من الحجر والحجر المنع، وكل ما منعت أن يوصل إليه فقد حجرت عليه.
قال
الزمخشري : المراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لكل واحدة منهن حجرة.
ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرقوا على الحجرات متطلبين له، فناداه بعض من وراء هذه، وبعض من وراء تلك، أو أنهم قد أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها، أو أنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها، ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفعل وإن كان مسنداًً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم وكان الباقون راضين، فكأنهم تولوه جميعاً.
قال
الزمخشري : ورود الآية على النمط الذي وردت عليه، فيه ما لا يخفى على الناظر من بينات إكبار محل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله؛ منها: مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به بالسفه والجهل؛ لما أقدموا عليه ((أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)).
ومنها: لفظ الحجرات وإيقاعها كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه.
ومنها: المرور على نظمها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم.
ومنها: التعريف باللام دون الإضافة. فلم يقل: بحجرات رسول الله، وإنما قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ).
صفات الحجرات النبوية
عن
داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل، مغشى من خارج بمسوح الشعر.
وعن
الحسن قال: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة
عثمان بن عفان رضي الله عنه فأتناول سقفها بيدي، وقد أدخلت في عهد
الوليد بن عبد الملك بأمره في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكى الناس لذلك.
وقال
سعيد بن المسيب يومئذ: والله لوددت أنهم تركوها على حالها، ينشأ ناشئ أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق، فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى عليه وسلم في حياته؛ فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها.
ومن الأمور التي تبين تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الآية أنه شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات،تهويناً للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له.
لأنه عندما يقول:
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ، كأن الله سبحانه وتعالى يذكر له أن هؤلاء القوم جهلة، فهذه تسلية له ومواساة لتخفيف هذا الأذى وهذا الخطب، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجرفهم، وسوء أدبهم.
بيان تعظيم النبي في سياق سورة الحجرات
والسياق من أول السورة إلى آخر هذه الآية وارد في التأديب، فانظر كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير حصر ولا تقييد: (( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ))، في أي أمر من الأمور.
ثم أردف ذلك النهي ما هو من جنس التقديم؛ من رفع الصوت والجهر بالقول، كأن الأول بساط للثاني فقال: (( وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ )).
ثم ذكر ما هو ثناء على الذين يتجنبون رفع الصوت: (( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى )).
ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم، وهجنته أتم من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدراً، لينبه على فظاعة ما أجروا إليه وجسروا عليه؛ لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول حتى خاطبه جلة المهاجرين والأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغاً، ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب، وتقتبس محاسن الآداب، كما يحكى عن
أبي عبيد -ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى- أنه قال: ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه.
كراهة رفع الصوت عند القبر النبوي الشريف
قال
ابن كثير : قال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته؛ لأنه محترم حياً وفي قبره صلى الله عليه وسلم، وقد روينا عن أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب رضي الله عنه (أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فحصبهما -رماهما بالحصباء- ثم ناداهما فقال: من أين أنتما؟ فقالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً..).
وقال
سليمان بن حرب : ضحك إنسان عند
حماد بن زيد وهو يحدث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فغضب
حماد وقال: إني أرى رفع الصوت عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ميت كرفع الصوت عنده وهو حي. وقام وامتنع من الحديث ذلك اليوم.
فكيف لو رأى ما يحصل الآن من بعض الجهلة الأجلاف! تناقشه ثم تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيظل يرفع صوته ويجادل، وكان الأدب يقتضي أنك متى سمعته يقول: قال رسول الله لا بد أن تتأدب وتسكت إلى أن يتم كلامه، هذا من الأدب عند تلاوة حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
تعدد أسباب النزول وبيان وجه ذلك