إسلام ويب

التوبةللشيخ : نبيل العوضي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التوبة للعبد ميلاد جديد، وهي مهمة لكل مسلم سواء أكان عالماً أم جاهلاً، رجلاً أم امرأة، كبيراً أم صغيراً، وقد فتح الله باب التوبة للعصاة والمذنبين، فحري بكل مذنب أن يتوب، ويستغل هذه الفرصة بتجديد العلاقة مع الله جل وعلا. وهناك أمور تعين على التوبة منها: الخوف من الله، فالخائف يسارع بالتوبة، وكذلك حب الله، وتذكر سعة رحمة الله جل وعلا وفرحه بتوبة عبده، وتبديله لسيئات التائب حسنات. كما أن هناك شبهة تدور في خلد المذنبين وهي: أنه لا يدعو إلى الله ولا يجلس مع الصالحين ما دام أنه يعصي الله جل وعلا، وهذا مدخل من مداخل الشيطان، فإن ارتكاب المعصية ذنب وترك الدعوة إلى الله ذنب آخر.

    1.   

    أصناف الناس تجاه المعاصي

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم.

    وبعــد:

    فإن موضوع التوبة موضوع عظيم وكبير، لا يكفي فيه كلمات تسمعها، وتظن -أخي العزيز- أنك بعد ذلك سوف يقبل الله توبتك، وتكون من التائبين، إن التوبة أمر كبير وعظيم جداً.

    أولاً: لا بد أن تعلم أن الذنب لا بد منه لا محالة، بل على الصحيح أن الأنبياء يذنبون وإن كانت صغائر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أنكم تذنبون، لذهب الله بكم ولأتى بقومٍ يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم) فلا بد من الذنب، وأنا لا أدعوك إلى الذنب ولكن أدعوك إلى ما بعد الذنب، أي الصنفين أنت؟

    الصنف الأول: من يبحث عن المعصية

    الصنف الأول من الناس من يبحث عن المعصية، ويتظاهر بالصلاح، يخطط في قلبه للمعاصي والذنوب، إن أذنب فرح، وإن عصى ابتهج، إن فاتته معصية حزن وتضايق وندم، يخطط لها، يبحث عنها، يتجول خلفها، يركض وراءها، فإذا ظفر بها كانت سعادته وفرحته الكبرى أنه عصى الله.

    الصنف الثاني: من يحاول الابتعاد عن المعاصي

    الصنف الآخر من الناس: صنفٌ صالح يبتعد عن الذنوب والمعاصي وأسبابها، لكن شهوته تغلبه فيعصي الله، فيتحسر ويندم ويخاف ويطرح نفسه بين يدي الله، يبكي ويندم، ثم يتوب، وتمر الأيام والليالي فتغلبه الشهوة، وتغلبه نفسه فيعصي الله، وهو خائفٌ وجلٌ نادمٌ، يبكي ويتحسر فيرجع ويتوب، ثم تمر الأيام والليالي فتغلبه شهوته فيعصي الله.

    أي الصنفين أنت؟

    أما الصنف الآخر: فهو الصنف الذي قال الله عزَّ وجلَّ فيه: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135] فاحشة، أي: كبيرة، يظن المسكين أنه لا توبة له، وأن الله لن يتوب عليه، قال الله عزَّ وجلَّ عن صفات المتقين أفضل البشر: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].

    أخي العزيز: من أي الصنفين أنت؟

    إن كنت من الصنف الأول: فالنجاة النجاة، والهروب الهروب، إن كنت من الذين يفرحون إذا عصوا، ويستبشرون إذا ارتكبوا الفواحش، بل يخططون لها، ويزحفون لها، فانقذ جلدك من النار، وفر إلى الله.

    وإن كنت من الصنف الآخر الذي يطيع الله ويتقيه، ويخاف من الذنوب، فإذا أذنب وفي قلبه خوف من الله؛ خوفٌ أن يفضحه الله، خوف أن يعاقبه الله، خوف من الجليل أن يطلع عليه.. في قلبه شيءٌ من الحياة، فإذا ارتكب الذنب والمعصية فر إلى الله عزَّ وجلَّ وخرَّ بين يديه.

    1.   

    أمور تدعو إلى التوبة

    اسأل نفسك وكن صريحاً معها.. ما الذي يدعوك إلى التوبة؟

    من دواعي التوبة: الخوف من الله

    أول أمرٍ يدعوك إلى التوبة: الخوف من الله.. هل حقاً أننا نخاف من الله؟ هل حقاً أن الواحد منا إن أذنب خاف من ذنبه وكأنه يلاحقه، يتفكره طوال حياته، ويبكي بسبب ذنب ارتكبه منذ سنوات؟

    الحق أن يُخاف من الله، الحق أن الواحد عندما يفتح المصحف ويقرأ عن عذاب الله: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً [النبأ:21-22] الحق أن نخافه.

    الحق أننا عندما نقرأ عن عذاب أهل النار، قوله تعالى: وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً [المزمل:13] يجب أن نخاف، إذا عرفت عن عذاب أهل النار أنهم يلبسون ثياباً من نار، ويأكلون طعاماً من نار، وينامون على فرش من نار، ويلتحفون بفرشٍ من نار، ويستظلون بظلل من النار: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16] أتعرف ما العبرة؟ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر:16].

    إن أول أمر يدعوك إلى التوبة: هو الخوف من الله.. خوفٌ من عذابه.. خوفٌ أن يعرض الله عنك، ألا تخاف -أخي العزيز- أن يعرض الحبيب عنك! وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] ألا تخاف أن تلقى في النار! كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] فأكبر عذابٍ لأهل النار أن يحجب العزيز عنهم، كما أن أفضل نعيمٍ لأهل الجنة أن يروا وجه الرحمن.

    ألا تخاف -أخي العزيز- مكر الله! كمن يرتكب الذنوب والمعاصي.. يختلي بنفسه.. يفتح الجريدة فإذا هو يتلذذ.. يتمتع بالأغاني والمسلسلات.. يذهب إلى الأسواق فينظر يمنة ويسرة إلى النساء الكاسيات العاريات، ألا تخاف مكر الله؟ أما سمعت ذلك الذي تعلق قلبه بصبي، فلما اقتربت ساعة وفاته قال:

    أَسَلْمُ يا راحة العليل      ويا شفاء المدنف النحيل

    رضاك أشهى إلى فؤادي       من رحمة الخالق الجليل

    قيل له: اتق الله! قال:

    رضاك أشهى إلى فؤادي       من رحمة الخالق الجليل

    اتق الله! فخرجوا من عنده، وصاح صيحة خرجت بها روحه، وقد كان يصلي ويصوم.

    ألا تخاف مكر الله.. أأمنت مكره؟! فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].

    من دواعي التوبة: حب الله

    أمرٌ ثانٍ يدعوك للتوبة إلى الله هو حب الله، قال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] تحب الله وتعصيه؟!

    ......................     إن المحب لمن يحب مطيع

    أخي العزيز: ينظر الله إليك يوم تفعل المنكر، ألا ترى أن الله عزَّ وجلَّ هدد المؤمنين أنهم إذا أفرطوا في المعاصي أن يستبدلهم بقوم آخرين، قال تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54].

    أخي العزيز! يدعوك للتوبة رجاء رحمة الله، فإذا أدركت، أظنك تقول في قلبك: إنني أرتكب ذنوباً كبيرة، ومعاصي عظيمة، لا أظن أن الله يغفرها لي؟!

    نقول: لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرت الله لغفر لك (قال الله عزَّ وجلَّ: لو علم عبدي أني على مقدرة على مغفرة الذنوب غفرت له).

    وأيضاً: لو أتيته بملء الأرض خطايا، ثم لقيته لا تشرك به شيئاً، لأتاك بقرابها مغفرة، فالله غفور رحيم، قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].

    يقول ابن عباس كما في صحيح مسلم: (إن أناساً من المشركين أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! قد قتلنا فأكثرنا، وزنينا فأكثرنا -لم يسألوا إلا عن هذه الذنوب، سفك وقتل وزنا وإكثارٌ منه- وإن الذي تدعو إليه لحسن، فهل لنا من توبة؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ من فوق سبع سماوات: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ [الفرقان:68] -التوبة تقتضي الإقلاع- وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68] -لعلها عشر دقائق ثم تنتهي اللذة، فماذا بعد هذا؟- وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:68-69] فيقول الله بعد ذلك -وانظر هذا الصنف من الناس، ما أرحم الله! وما أكرمه!-: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70]).

    الله أكبر! امتلأت الأرض بذنوبهم وخطاياهم ومعاصيهم، وبلغت عنان السماء، فيبدلها الله حسنات.

    1.   

    مواقف تدل على صدق التوبة

    موقف ماعز الأسلمي

    أتى ماعز بن مالك الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عنه، فقال: يا رسول الله! زنيت فطهرني -كان يعلم أنه سوف تحفر له حفرة ويجتمع عليه المسلمون ويأخذون الحجارة يرجمونه بها، وأ، رأسه سوف يتشقق، ويسيل منه الدم، وأنه سوف يموت معذباً بالحجارة- فصد عنه عليه الصلاة والسلام، فجاءه في اليوم الثاني، فقال: يا رسول الله! زنيت فطهرني، فصد عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه في اليوم الثالث، فقال: يا رسول الله! زنيت فطهرني -يخاف من الذنب- فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه، فقال: هل تعلمون به بأساً؟ قالوا: لا نعلمه إلا وفي العقل من الصالحين، فذهب عليه الصلاة والسلام فجاءه في اليوم الرابع، فقال: يا رسول الله! زنيت فطهرني -لا يتحمل الذنب، والمعصية تكاد تقتله، لا يهدأ له بال، ولا يقر له قرار، وتلاحقه المعصية، كما قال ابن مسعود: [كجبل خاف أن يقع عليه]- فأمر الصحابة أن يحفروا له حفرة ثم وضع فيها، فرجمه الصحابة حتى مات.

    موقف المرأة الغامدية

    وبعد لحظات أتته امرأة غامدية، فتقول له: يا رسول الله! لعلك تردني كما رددت ماعزاً، إني زنيت فطهرني -أي جيلٍ هذا! أي أناس أولئك! أي قلب هذا!- وإني حبلى -عندي دليل، فبطني قد امتلأ- فصد عنها عليه الصلاة والسلام فقال لها: اذهبي حتى تضعي -لعلها ترجع إلى رشدها- فذهبت وأتت بعد شهور وفي يديها خرقه عليها جنينٌ صغير، فقالت: هو ذا يا رسول الله، زنيت فطهرني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبي حتى تفطميه -القلب الرحيم الشفيق على أصحابه لعلها ترجع، ما قال: نرجمها- قال: اذهبي حتى تفطميه، فأتت بعد شهور بيدها كسرة من خبز، فقالت: يا رسول الله! هو ذا يأكل، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطفل فدفعه إلى أحد الصحابة، وأمر لها بحفرة، فحفر لها، ثم وضعت فيها، فرجمت، ورجمها خالد فسقط رأسها وتطاير الدم عليه، فسبها خالد، فقال له عليه الصلاة والسلام: (مه يا خالد! لقد تابت توبةً لو تابها صاحب مكس لتاب الله عليه، وفي رواية: لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم).

    هل رأيت أنها جادت بنفسها لله عزَّ وجلَّ: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135].

    أتدري ما الذي يدعوك إلى التوبة؟

    إنه قربك من الله، ورجاؤك رحمة الله، ومحبتك لله عزَّ وجلَّ.

    لعلك تتعجب ما بال بعذ أولئك الناس ينام على الفراش فيبكي ولا تشعر به زوجته! تتعجب ما الذي جعلهم يقومون من الليل! تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [السجدة:16] الواحد منا لا يستطيع أن يقوم لصلاة الفجر، بينما هم يقومون في منتصف الليل من الفراش، ما الذي أقامهم؟ الجواب في قوله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة:16].

    تقول بنية صغيرة لأبيها: يا أبتاه! ما لي أراك لا تنام مثل الناس؟

    قال: يا بنية! إن خوف أبيك من النار قد أذهب عنه النوم.

    1.   

    الذنوب والمعاصي وخطر استصغارها

    أخي العزيز! لا بد أن تستعظم الذنب، وإياك أن تحتقره.

    يقول بعض السلف: إن الاجتهاد في الذنب أشد من ركوبه.

    فرحك وسرورك وقلة خوفك من الله وأنت ترتكب الذنب أشد من الذنب نفسه.

    انتبه أخي العزيز! من فعل معصية ولو كانت صغيرة، قال ابن مسعود: [إن المؤمن يرى ذنبه كجبلٍ يخاف أن يقع عليه، وإن المنافق يرى ذنبه كذبابٍ وقع على أنفه، فقال به هكذا..].

    أرأيت الفرق بين من يعصي وهو يضحك، ومن يعصي وهو يبكي؟ أرأيت الفرق بين من يذنب وقلبه وجل خائف يخاف مكر الله، ويخاف عقوبة الله، يتبعها بالحسنات، يخاف ألا يقبل الله توبته، وبين ذلك الذي يذنب وهو يضحك ويفرح وهو مسرور.. إن فاته ذنبٌ تحسر وندم؟

    أخي العزيز! قف مع نفسك وقفات، واسأل نفسك: هل أنت تسير في طريق صحيح؟

    يقول أنس وهو يخاطب التابعين: [إنكم تعملون أعمالاً هي في عيونكم أدق من الشعرة إن كنا نعدها في عهد رسول الله من الموبقات المهلكات].

    يقول حذيفة: [إن كان الرجل منا ليتكلم بالكلمة كنا في عهد رسول الله نعده منافقاً] في كلمة نعده منافقاً، وهذا يسمعه في المجلس الواحد أربع مرات.. في مجلس من؟ مجلس التابعين.

    قل لأولئك الذين يسلطون ألسنتهم في أعراض المسلمين؟ يغتاب فلاناً، فإن انتهى فبفلان، فإن انتهى يأكل لحم فلان، يجلس كل مجلسٍ يتكلم في أعراض المسلمين.

    عظِّم ذنبك أخي العزيز! يا من يطلق نظره في الأسواق! يا من تفوته الصلاة وهو يضحك! يا من لا يصلي في الجماعة في اليوم والليلة مرات كثيرة!

    أخي العزيز: عظِّم ذنبك، واعرف أن أول طريق التوبة أن تعظم الذنب.

    يقول أحد السلف: [لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظم من عصيت] يقول صلى الله عليه وسلم: (استحي من الله كما تستحي من رجلٍ صالح من قومك) والله لو طرق عليك الباب رجلٌ صالح ودخل عليك وأنت على ذنب، لتغير وجهك وارتبكت .... إلخ، الآن وأنت بيننا في هذا المجلس هل تتجرأ على معصية؟ مستحيل.

    وإذا خلوت بريبة في ظلمةٍ      والنفس داعية إلى الطغيانِ

    فاستحي من نظر الإله وقل لها      إن الذي خلق الظلام يراني

    يراك الله.. يراك العليم الخبير: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة:6] يسجله رقيبٌ وعتيد.

    الحذر من المجاهرة بالمعاصي

    أخي العزيز: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14] ألا تعلم بأن الله يراك؟

    إياك والمجاهرة، فإذا أذنبت فاستر على نفسك، والأفضل أن تكتم ولا تعترف، فإن من المجاهرة أن يعمل الرجل الذنب في الليل فيصبح وقد ستره الله عليه، فيأتي في المجلس فيقول: فعلت البارحة كذا وكذا، يجاهر بالمعصية (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) وإن من المجاهرة: أن ترتكب المعصية أمام الناس وتفرح بها ولا تبالي، وإن من المجاهرة أن تأتي إلى صاحبك فتقول له: يا فلان! فعلت كذا وكذا، دلني على الطريق، إياك إياك أن تستغفل بهذا! فلا تخبر بمعصيتك إلا من اضطررت إليه، ولا تخبر أي أحد إلا عالماً أو ناصحاً.

    1.   

    سعة رحمة الله وفرحه بتوبة عبده

    أخي العزيز! يا من أذنبت وعصيت، أتعلم أن الله يفرح بتوبتك، تقول: أنا الذي أقلب المجلات، وأنظر إلى الصور، وطالما إذا صليت التهيت بالدنيا، وطالما أفتح التلفاز للأغاني والمسلسلات، وطالما اغتبت الناس وفعلت وفعلت.. هل إذا رجعت إلى الله عزَّ وجلَّ يفرح؟

    نقول لك: نعم. بل يحبك الله عزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].

    الله أفرح بتوبة عبده من فرح الوالدة بولدها

    يقول ابن القيم: خرج أحد العارفين إلى سكة من السكك، فإذا به ينظر إلى بابٍ يدفع دفعاً فيفتح، فيرى طفلاً صغيراً يخرج من البيت وأمه خلفه تسبه وتشتمه فهرب الصبي، يقول هذا الرجل: فإذا بالصبي يبحث يمنة ويسرة عن مكان يأوي إليه فلا يجد.. ماذا يفعل؟ لا يدري، إذا به لا يعرف طريقاً إلا بيته، فيرجع إلى البيت ويفتح الباب فإذا الباب مقفل، فيضع رأسه على عتبة الباب على التراب وينام، وفي منتصف الليل تفتح الأم الباب -الأم التي طردته من البيت- فتنظر إلى ولدها فتبكي وتضمه وتحضنه، وتقول له: يا ولدي! لم حملتني على مخالفة ما جبلت به لك؟ لم حملتني على ضربك وحبسك وقد جبلت على رحمتك؟

    يقول ابن القيم: سبحان الله! ما أحسن هذا الفعل بحديث رسول الله (الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها) والله إن الأمر لشديد لمن يعصي الله، فيطرده الله من رحمته، ويغضب ويسخط عليه، فعندما يرجع يفرح الله به ويحبه ويبدل سيئاته حسنات.

    تبديل السيئات حسنات

    كن من الأوابين

    أخي العزيز: لا تكثر على نفسك الذنوب والمعاصي، فإن الله عزَّ وجلَّ في كل يومٍ وليلة يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وفي النهار ليتوب مسيء الليل، فلماذا تعرض؟

    ألا تعلم أن الله في كل ليلة ينزل إلى السماء الدنيا ينادي: (هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟).. (الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها) قد يشغل قلبك أمرٌ طالما أخبر به الكثير من الناس، تقول: أذنب فأتوب ثم أرجع فأذنب ماذا أفعل؟

    أتى أ،اس إلى الحسن البصري فقاقوا له: يا أبا سعيد! إننا نرى في أنفسنا أننا نتوب ثم نعاود الذنب، ثم نتوب ثم نعاود الذنب، فقال الحسن رحمه الله: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه، ثم قال: إذا عاودتم الذنب فعاودوا التوبة، فإن الله لا يمل حتى تملوا: فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً [الإسراء:25] الأوابون: الذين إذا تابوا ثم عادوا وعصوا، ثم يتوبون، ثم يعودون يعصون ثم يتوبون: فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً [الاسراء:25].

    ما أرحم الله! وما أجوده وما أكرمه! حقاً إنه رحيمٌ غفور ودود يتقرب إلى عباده، فوالله لو تقربت إليه ذراعاً لتقرب إليك باعاً، وإذا أتيته تمشي لأتاك هرولة.

    ما أرحم الله! دمعة واحدة، تتوضأ، فتحسن الوضوء، فتقوم فتصلي ركعتين لا تحدث بهما نفسك، ثم تتوب من ذنبك، يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك.

    ما أرحم الله! لا تقل: أسرفت وأذنبت وفعلت، فإن الله أرحم منك؛ بل أرحم من الوالدة بولدها.

    1.   

    فائدة الجلوس مع الصالحين

    أخي العزيز! لعلك تقول: أنا مذنب، وعاص، ولا أستحق أن أجلس بين الصالحين.. إنهم صالحون.. متقون.. أهل صلاة وصيام وذكر ودعاء وعبادة، انظر إليهم ما أخشعهم، وما أكثر صلاحهم، وما أكثر عبادتهم، أما أنا فلا أستحق أن أجلس معهم، فأنا أعصي وأذنب كثيراً، ولا زلت مصراً على الذنوب والمعاصي؟ تقول: لا. إن الشيطان يأتيك فيقول لك: اتركهم، دعهم، لا تكن منافقاً، لا تضحك على نفسك، تأتيهم في الصلاح ثم ترجع إلى بيتك بالذنوب والمعاصي، اتركهم واجلس في بيتك.

    أخي العزيز! انتبه أن تقرب من مصيدة إبليس، قال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم -لم يعمل أعمالهم ولم يكن في مطافهم لكنه يحبهم ويحب جلساتهم وكلامهم ويحب أن يصل إلى ما وصلوا إليه ولكنه لم يصل- فنظر عليه الصلاة والسلام إليه، فقال: المرء مع من أحب).

    نقول: استمر معهم، واجلس معهم: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) إن الندم الذي دخل في قلبك هل يدخل قلبك لو كنت لوحدك؟ لا والله. لن يدخل قلبك إلا وأنت في هذا المجلس، مع الصالحين.

    أخي العزيز: ما يدريك؟! لعل جلوسك معهم يكفر سيئاتك.

    أتى رجلٌ المدينة يبحث عن رسول الله، يقول: أين محمد؟ فدل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! أتيت حائطاً، فلقيت امرأة ففعلت معها كل شيء إلا ما يأتي الرجل من امرأته -كل شيء إلا الزنا- هل من توبة؟ -والرجل خائف من الذنب، يفر من الذنب إلى الطاعة، ندم وعزم على ألا يعود- فسكت عليه الصلاة والسلام وذهب الرجل، ثم قال لأصحابه: ردوه عليَّ، فرد عليه الصلاة والسلام عليه، فقال له: قال الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]) لا بد من الذنب؛ لكن: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] كلما أذنبت ذنباً فاعزم على ألا تعود، أقلع عن المعصية، اندم على ما فعلت ثم أتبعها بالحسنة: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].

    يقول أحد الصحابة: (يا رسول الله! هي له أو للناس جمعياً؟! قال: بل هي للناس جميعاً) الله أكبر.. الله أكبر! يبسط الله يده، وينزل إلى السماء الدنيا، ويفرح بعودتك، ويحب التوابين والمتطهرين، فما بالك لا زلت مصراً على الذنوب والمعاصي؟ هل تظن أن الله لا يراك؟

    1.   

    وقفة مع محاسبة الله لعباده

    ألا تعلم -أخي العزيز- أن الظالمين إذا أتوا يوم القيامة لقوا الله عزَّ وجلَّ فيذكرهم بذنوبهم، يقول: عبدي! أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر تلك الليلة؟ أتذكر ذلك اليوم؟ أتذكر عندما قمت من الفراش وعدت إلى الفراش وسمعت الأذان؟ أتذكر تلك اللحظة عندما كنت في السوق وتظن ألا أحد يراك، وأخذت تتكلم معها وتتكلم معك؟ أتذكر يوم نادتك أمك فرددت عليها؟ يوم دعاك أبوك فعققته؟ أتعرف ماذا يقولون؟ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37] ينظرون إلى الكتاب! ما بال الكتاب؟ حتى النظرة ما تركها، حتى الكلمة.. الضحكة.. التفكير إذا كان هماً وعزيمةً كل هذا مكتوب: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] إصرارك على النظر صارت كبيرة، أتعرف أن إصرارك على استماع الأغاني كبيرة؟ أتعرف أن الغيبة كبيرة؟ أتعرف أن إصرارك على الذنوب الصغيرة كبيرة عند الله؟ أسمعت أن الكلمة يهوي بها صاحبها في النار سبعين سنة؟ ما بالك بالكلمتين؟ ما بالك بالثلاث الكلمات؟ ما أرحم الله وما أجوده! لكن نلوم أنفسنا على تقصيرنا.

    1.   

    ادع إلى الله وإن كنت مذنباً

    وهناك شبهة أظنها قد وردت على بعضنا: كيف أدعو إلى الله، وكيف أصلح الناس ولا زلت مقصراً، ولا زلت أعاود الذنب وأصر عليه؟ إن بيني وبين الله ذنوباً ومعاصي، كيف أدعو غيري؟

    أخبرك أخي العزيز: إن فعل المعصية ذنب، وترك الدعوة إلى الله ذنب آخر، فلا تجني على نفسك ذنبين، اكتفِ بذنبٍ واحد وحاول وجاهد نفسك أن تتركه، ولا تجمع على نفسك ذنبين:

    ولو لم يعظ في الناس من هو مذنبٌ     فمن يعظ العاصين بعد محمدِ

    كلنا مذنب.. لو قال المذنبون: لا ندعوا إلى الله، فمن يدعو إلى الله؟ فجاهد نفسك على ترك الذنب والمعصية.

    إن أول طريقٍ لترك الذنب والمعصية: أن تبتعد عن أسبابها، لا تقل: أستغفر الله وأنت لا زلت تحمل الدخان في جيبك.

    لا تقل: أستغفر الله، ولا زلت تذهب إلى أماكن الزنا والخنا.

    لا تقل: أستغفر الله، ولا زلت تحتفظ بالصور وبالأرقام وبالأسماء والمواعيد.

    لا تقل: أستغفر الله، ولا زلت مصراً على الذنوب والمعاصي: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].

    اعزم على ترك الذنب والمعصية، فإن عدت إليها فاندم وأقلع عنها، واعزم على عدم العودة لها، فإن غلبتك شهوتك ورجعت إليها فاندم وليتكسر القلب، وانطرح بين يدي الله ، وابكِ من خشية الله، واعزم على عدم العودة إلى الذنب وإن غلبتك شهوتك، يقول الله جل وعلا في الحديث القدسي: (أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قال: أي رب! اغفر لي، قال الله عزَّ وجلَّ: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت له، ثم عاد فأذنب -لا إله إلا الله! قبل أسبوع تبت إلى الله وعاهدت الله، لكني عدت الآن إلى الذنب، أنا لا أدري- ثم قال: يا رب! اغفرلي، فقال الله عزَّ وجلَّ: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، -أي: يرحم ويأخذ بالذنب- قد غفرت له، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب! اغفر لي، فقال الله عزَّ وجلَّ: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، عبدي! اعمل ما شئت قد غفرت لك) أي: لو كنت كلما أذنبت ندمت، وتكسر قلبك، وخشعت ولجأت بين يدي الله، وعزمت على ألا تعود، ثم أتبعتها بالحسنات وبالصالحات، ثم غلبتك شهوتك وعدت وكنت على هذا الحال، اعمل ما شئت فإن الله عزَّ وجلَّ قد غفر لك.

    أقول هذا القول، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    1.   

    الأسئلة

    .

    قبول التوبة ولو تكرر الذنب

    السؤال: إذا تاب العبد ثم أذنب، ثم تاب ثم أذنب، فهل التوبة الأولى مقبولة أم لا؟

    الجواب: إذا حقق شروط التوبة.. ندم، وعزم على ألا يعود، وأقلع، ثم بعد فترة غلبته شهوته ورجع فإن التوبة الأولى مقبولة، وذنبك الآخر يحتاج إلى توبة أخرى، فإذا حققت الشروط قَبِل الله التوبة، ولا عليك، واعزم على ألا تعود، وكن صادقاً، لا تعزم على أن تعود وأنت تقترب من المعاصي، واعزم على ألا تعود بأن تقطع جميع الأسباب، فإن رجعت فاعلم أن الله كان بالأوابين -أي: الرجاعين- غفوراً، والله أعلم.

    أهمية حضور القلب عند سماع القرآن

    السؤال: نحن نسمع القرآن من بعض القراء فنخشع، ونسمع من البعض الآخر فلا نخشع، فما هو السبب؟

    الجواب: أولاً يا إخواني: المصيبة ليست في قراءة القرآن، القرآن قراؤه كثير.. ألم تصل العشاء؟ لقد قرأ الإمام فهل تذكر ماذا قرأ؟ كم صلاة صليتها وأنت لا تعرف ماذا قرأ الإمام؟ إنه يقرأ كلام الله، سواء سُمِعَ مني أو من غيري، لكن يحتاج الكلام إلى قلبٍ يستمع.. قلبٍ حاضر إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ [ق:37] القضية هي القلب أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].

    أما الواحد منا -والله- لو يسمع رسول الله يقرأ عليه القرآن والقلب غافل ما استفاد منه، وإذا استمع من طفل صغير والقلب حاضر -والله- لخشع القلب، ألم يسمع عليه الصلاة والسلام من جبريل؟ ومع هذا طلب من ابن مسعود قال: (اقرأ علي، قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: اقرأ علي فإني أحب أن أسمعه من غيري، فأخذ يقرأ من سورة النساء فوصل إلى قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41] -أي: يوم القيامة- يقول ابن مسعود: نظرت وإذا عيناه تذرفان) يبكي.

    ما الفرق بين قلوبنا وقلوبهم؟

    يقول عليه الصلاة والسلام عن أبي بكر: (مروه فليصل بالناس، فتقول ابنته عائشة: إنه رجل أسيف لا يتحمل، إذا قرأ بكى).

    هل كل الناس هكذا؟ متى آخر مرة بكيت وأنت تقرأ القرآن؟ متى آخر مرة خلوت بنفسك وذكرت الله وبكيت؟

    صلى عمر ذات يوم بالناس، ولما وصل إلى قوله تعالى: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] فإذا به يبكي حتى سمع نشيجه من وراء الصفوف، وكان قبل سنوات يدفن ابنته حية في الرمال، أما الآن فها هو يبكي.. فانظر إلى القلب الحي!

    انظر إلى غيره! بعض السلف قرأ قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ [الأنعام:27] فتوقف، فنظروا إليه فإذا هو قد مات، لم يتحمل هذه الآية.

    قام عمر بن عبد العزيز يصلي وحده في الليل -إن العبد أمام الناس قد يبكي، أما إن كان وحده، فهنا تكون العبرة، وهنا يكون الإخلاص (ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)- قام يصلي وإذا به يقرأ، سورة القارعة -كم مرة قرأناها؟ كم مرة تلوناها؟- الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة:1-5] فإذا به يبكي ويبكي حتى خرَّ على الأرض صريعاً، ثم قام من بكائه يتجول في الغرفة، وهو يقول: [ويل لي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث] أتعرف من هو؟ لقد أمضى ليله صلاة، ونهاره صياماً وعبادة وذكراً وجهاداً في سبيل الله، وهو يبكي ويخاف على نفسه، فماذا نكون نحن أيها الإخوة؟! (مر عليه الصلاة والسلام في الليل على الناس، فإذا به يسمع امرأة تقرأ وتردد: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] وهي تبكي، فيقول عليه الصلاة والسلام: نعم أتاني، نعم أتاني، ويبكي معها عليه الصلاة والسلام) هل كنا مثلهم أيها الإخوة؟!

    يقول أحدهم لصاحبه: اقرأ، فيقرأ له قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح:1-3] ينظر إليه فإذا به يبكي كما يبكي الصبي، يقول: هذا فعل برسول الله ذنبه أنقض ظهره.. فكيف بذنوبنا نحن؟

    وأي ذنبٍ فعله رسول الله؟ إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله فيه: الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح:3] وزره وذنبه، فكيف نكون نحن أيها الإخوة الأعزاء؟!

    يعرف الواحد منا عندما يقرأ القرآن كيف يقرأ؟ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] آية واحدة تفتح أن تفك قلبك، وترجعك إلى الله، آية لو تنزلت على الجبال الصم لتصدعت، فما بال قلبك؟

    القضية أنه لا يوجد تدبر، ولا خشوع ولا تفكر، القلب منشغلٌ بالدنيا، فلا يأبه بكلام الله ولا يستفيد ولا يخشع ولا يلين، هذه القضية ليست قضية فلان يقرأ أو فلان لا يقرأ، وإن كان سبباً ضعيفاً، لكن السبب الأقوى والأعظم هو قلبك أخي العزيز: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].

    وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756616842