أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة الأحقاف: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف:24-27].
ذكر الله عز وجل في هذه السورة قصة عاد الأولى، وكيف أن الله سبحانه وتعالى أهلكهم من حيث ظنوا أنهم آمنون، من حيث ظنوا أنهم يأتيهم الرزق (المطر)، فكان عذاباً أليماً، وريحاً شديدة تدمر كل شيء بأمر ربها، فقد أرسلوا وافدهم ليدعو ربه سبحانه وتعالى، فلما ذهب إلى جبال مكة ليدعو هنالك رأى سحابات في السماء، فقيل له: اختر، فاختار سحابة سوداء، فكانت هلاكاً ودماراً على قومه، وقيل له: خذها رماداً رمدداً لا تبقي من عاد أحداً، فكان فيها العذاب، وأرسل الله عز وجل عليهم الرياح الشديدة التي اقتلعتهم من الأرض، ورفعتهم ثم هوت بهم على رءوسهم، فكانوا كأعجاز نخل خاوية، فلم يبق الله لهم باقية سبحانه.
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [فصلت:18]، فأنجى الله سبحانه وتعالى هوداً والمؤمنين الذين معه، وهذا من الأمر العجيب، أن تأتي الرياح الذي فيها العذاب الأليم والشديد فتختار أناساً فترفعهم إلى السماء، وتهوي بهم إلى الأرض، فتشدخ رءوسهم وتتركهم جثثاً هامدة، وتدفنهم الرمال، وتترك أناساً لقوة إيمانهم وقوة يقينهم فلا تؤثر فيهم شيئاً، فالريح هبت على القوم جميعهم، فأنجى الله عز وجل الذين آمنوا وكانوا يتقون، فهذا هود عليه السلام اجتمع معه المؤمنون الأتقياء في مكان، والريح هبت فأهلكت من شاء الله عز وجل من هؤلاء.
فهنا الرياح دمرت كل شيء أراد الله عز وجل تدميره، أما ما لم يرد تدميره فلم يدمر، ولذلك في الآية نفسها يقول الله: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ فالمساكن لم تدمر، ولو أراد الله عز وجل لدمر كل شيء، ولكن دفن هذا كله بالرمال، فالرمال تؤمر لتدفن هؤلاء ولا تدفن المؤمنين، فالله عز وجل فعله عظيم، ومثل هذا الشيء شاهده أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه في يوم الخندق، فكان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الرعب والفزع من الكفار، وقد تجمع عليهم الأحزاب من كل مكان، فما كان من أهل المدينة إلا أن أخذوا برأي بعضهم في حفر خندق يمنع وصول المشركين إليهم؛ لأنهم لا يستطيعون مواجهة هذا العدد الضخم من الكفار، ويبقى اليهود من ورائهم يحمون ظهورهم، لكن اليهود نقضوا العهد مع المسلمين، فأصبح المؤمنون في غاية الخوف والرعب، وفي هذه الظروف الحرجة تأتي ريح شديدة، وبرودة شديدة، والصحابة ما زالوا يرتعشون ويرتجفون، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يأتينا بخبر القوم؟ -وهو على يقين أن الله سينصره- فلا أحد يجيب من شدة البرد ومن شدة الخوف، ثم قال: قم يا
وفي يوم بدر لما أنزل الله عز وجل المطر جعله تثبيتاً للمؤمنين، وتخويفاً لهؤلاء الكافرين، وجعله أمنة للمؤمنين ليطهر به قلوبهم، ويثبت به أقدامهم، ويذهب عنهم الرجز والآلام التي في أنفسهم، وأما الكفار فيخزيهم ويكبتهم سبحانه وتعالى.
قال تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فكل شيء راجع إلى أمره سبحانه، فهو الذي أمر الرياح بتدمير هؤلاء، فدمرت هؤلاء، فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ فأصبح الذاهب إلى هنالك لا يرى إلا المساكن، وأما الأقوام فقد دفنوا تحت الأرض.
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [الحاقة:7] صُرع القوم، ثم دفنوا تحت الرمال هم وبيوتهم.
قال سبحانه: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي: هذا حكمنا فيمن كذب رسلنا وخالف أمرنا، و(ذلك) اسم إشارة للبعيد، وقد يكون للشيء العظيم الذي حدث، وهو أن هؤلاء كانوا في غاية القوة فأهلكهم الله هلاكاً عظيماً، وكذلك هو إهلاكنا وعقابنا لكل مجرم يحاد الله ورسوله.
وتحتمل أن تكون: شرطية، فيكون المعنى: إن أعطيناكم مثل ما أعطيناهم من القوة وعظم الأجساد فإنكم ستفسدون وتعثون في الأرض مثل ما فعلوا، وأنتم الآن على ضعفكم تفسدون في الأرض، فكيف إذا كنتم مثلهم!
وتحتمل (إن) معنىً آخر وهو: النفي، فيكون المعنى: (ولقد مكناهم فيما لم نعطكم مثله).
فقوله: (فيما إن مكناكم فيه) أي: في الشيء الذي أعطيناكم مثله، وهذا صحيح، وتفسير: فيما لم نعطكم مثله أيضاً صحيح، فتفسير: (أعطيناكم مثله) أي: أعطيناهم أرضاً وأعطيناكم أرضاً، وأعطيناهم رزقاً وأعطيناكم رزقاً، لكن لم نعطكم ما كانوا فيه من قوة عظيمة، (( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ )) فكان هؤلاء الأقوام ذو طول وقوة في البدن، فكان أحدهم ينحت الجبل فيعمل منه بيتاً فارهاً له.
إذاً: فقد أعطيناكم مثل ما أعطيناهم في بعض الأشياء، فأعطيناكم رزقاً وعقولاً تفكرون بها، ورسالة جاءتكم تدعوكم إلى الله سبحانه، وأعطيناهم شيئاً لم نعطكم إياه، فأعطيناهم القوة العظيمة التي لم نعطكم مثلها في أبدانكم، وإن كنا عوضناكم بشيء آخر مكانه، فأعطيناكم عقولاً تفكرون بها كيف تصنعون الطائرات والدبابات، والآلات التي تخرقون بها الأرض، والتي تبنون بها العمائر، وأما الأبدان فلم نعط أحداً مثل هؤلاء الأقوام.
فالمنكر: قد يظن في نفسه أنه صادق في ذلك، فتقول له: أنا أعطيتك حاجة كذا وكذا، فيقول لك: لا، ما أعطيتني، فلعله يكون ناسياً، لكن إذا نفى ذلك وكان ذاكراً فهو جاحد، فالجاحد هو الذي ينكر مع معرفته في نفسه وإقراره في قلبه أنه أخذ هذا الشيء.
فهؤلاء جحدوا بآيات الله وكذبوا رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فهم يعرفون أن هذا النبي حق ومع ذلك كذبوا، وهم مقتنعون وموقنون أنه على الحق، لكن جحدوا وكذبوا، فاستحقوا العقوبة الشديدة، ولذلك طبع الله على قلوبهم فلم تنفعهم النذارة، ولم يخافوا من عذاب الله عز وجل، حتى بغتهم العذاب فلم ينفعهم شيء.
قال سبحانه: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ وهنا نرجع لقضاء الله وقدره، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فأولئك هم الغافلون، وأولئك هم الظالمون، فالله سبحانه تبارك وتعالى يهدي فضلاً منه سبحانه، ويضل بعدل منه سبحانه، فهؤلاء استحقوا أن يطبع الله على قلوبهم، وألا ينتفعوا بما يشاهدون من الآيات، وألا ينتفعوا بما يسمعونه من الحكم والعبر؛ لأنهم كانوا يجحدون بآيات الله، ويكذبون بالحق الذي يعرفون، فلا يستحقون أن يبصروا، ولا أن تنار قلوبهم، فلذلك طمس الله عليها وأظلمها، فقال: إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ أي: أحدق بهم ونزل بهم نزول إحاطة، فنزل العذاب نزولاً فظيعاً عظيماً محيطاً بهم، فلم يفلت منهم أحد.
قال: وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون فحاق بهم نتيجة ما طلبوه، فهم طلبوا من رسولهم عليه الصلاة والسلام، فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [هود:32] ضحكوا منه، وسخروا به، فجاءهم العذاب من عند الله سبحانه.
قوله: (وصرفنا الآيات) أي: بيناها وأوضحناها بالحجج التي في القرآن، والتي يقولها الرسل، والدلالات، وأنواع البيانات والعضات من الله عز وجل، وقد بينا لكل قوم ولكل قبيلة ما ينذرون به، وما يخوفون به، ومع ذلك لم يرجعوا عن غيهم، قال: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ , فلم يرجعوا، فجاءهم عذاب رب العالمين سبحانه.
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ [الأحقاف:28]، فالآلهة ضلت عن أقوامهم، والأقوام ضلوا عن آلهتهم، بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ففي وقت الشدة والضيق، ونزول العذاب ما نفعتهم هذه الآلهة التي يدعونها من دون الله، فلم تكشف عنهم العذاب وقت مجيئه، ولم يقولوا: يا آلهتنا! وإنما قالوا: يا الله! فلم ينفعهم ذلك، قال: بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ ، وضل بمعنى: تاه وبعد، والإفك: الكذب، وكأنه يقول: هذا إفكهم إن افتروا واتخذوا آلهة من دون الله، فكانت النتيجة عقوبة الله سبحانه، وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأحقاف:28]، فزعموا أن الآلهة تنفع وتضر مع الله، فلم تنفعهم شيئاً، وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [هود:8].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر