عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه، ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي قاعداً، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعية افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم)].
أول ما يكبر يأتي بالاستفتاح، وأصح الاستفتاحات ما في هذا الحديث أن يقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
إذا قلت هذا فكأنك تعترف بالخطايا، وتطلب من ربك إزالتها وإزالة أثرها، فأنت تطلب أموراً:
الأول: الإبعاد، أن تبعد عنك حتى لا يضرك أثرها، فإذا كان بينك وبينها بعد المشرقين دل على أنها لا تضرك.
الثاني: الغسل منها بأنواع ما يغسل به: الماء والثلج والبرد.
ويقول بعض العلماء: اختيار الثلج والبرد مع أنه شديد البرودة؛ ليطفئ حرارة الذنوب، فكأن الذنوب لها حرارة على البدن وعلى القلب، فإذا استعمل الثلج خففت تلك الحرارة وأزال أثرها.
والثالث: التنقية، كأنه يقول: إن الذنوب تدنس صاحبها وتوسخه، فهي تكسب صاحبها قذراً ووسخاً ودنساً كثيراً، فهو بحاجة إلى ما يزيل ذلك الدنس، مع طلبه من ربه أن ينظفه منها ويطهره كتطهير الثوب الأبيض شديد البياض من الدنس، يعني: إذا طهر زال عنه أي دنس وأي وسخ وأي قذر، فهكذا طلب من ربه إزالة آثارها.
هذا الاستفتاح متفق عليه يعني: رواه البخاري ومسلم ، فهو حديث صحيح.
والثناء يقوم مقام الدعاء، فقد روي في بعض الآثار القدسية أن الله يقول: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)، فهذا سبب اختيار الإمام أحمد للاستفتاح الذي فيه الثناء: سبحانك اللهم وبحمدك.. إلى آخره.
هناك استفتاح أيضاً في السنن، مبدوء بقوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض..) إلى آخره، مروي عن علي رضي الله عنه، وهو استفتاح طويل يستحبه أيضاً بعض العلماء.
وهناك استفتاح رابع لكن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم استعماله في التهجد إذا قام من الليل وهو قوله: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل..) إلى آخره.
هذا الدعاء استفتاح وتوسل.
هناك أيضاً أدعية أخرى عن الاستفتاحات وقد كتب فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة مطبوعة بعنوان: أنواع الاستفتاحات، ورجح أن الكل صحيح، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تارة يستعمل هذا وتارة يستعمل هذا، وأنه لما لم يعلم الأمة واحداً منها ويقصرهم عليه؛ دل على أن الأمر فيه سعة.
وقد استحب شيخ الإسلام وكثير من العلماء أن يأتي بهذا تارة وأن يأتي بهذا تارة، يعني: أن تستعمل قوله: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي ..) حيناً، وتستعمل حيناً آخر قوله: (سبحانك اللهم وبحمدك ..) إلى آخره، وتارة تستعمل قوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ..) إلى آخره، وحيناً تستعمل قوله: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل ..) إلى آخره، يقولون: حتى لا يبقى شيء من السنة مهجوراً.
إذا عملت هذا حيناً وهذا حيناً عملت بالسنة كلها.
فتعلمها وحفظها سهل، وهي ميسرة، وفي سنن النسائي أوردها متوالية تحت عنوان: الدعاء بين التكبير والقراءة، ثم قال: نوع آخر من الدعاء بين التكبير والقراءة، ثم قال: نوع آخر، وهكذا حتى أورد عدة أنواع، وغيره من الأئمة سردوها تحت هذا العنوان.
فإذا حفظها الإنسان وأتى بها كلها أحيا بذلك السنة، ولكن مع ذلك إذا كان يريد أن يختار فيختار واحداً يكثر منه، يكون أكثر استعمالاً له، والبقية يأتي بها أحياناً، في كل أسبوع مرة أو في كل أسبوع مرتين أو نحو ذلك، حتى يعمل بما بلغه من الشريعة.
وقد عرفنا أنه من السنة وليس من الواجب ولا تبطل الصلاة بتركه.
بل يبدأ الصلاة بقول: الله أكبر، كما أنه يستعمل التكبير في التنقل، الذي هو تكبير الانتقال، فهذا هو المشهور عنه، وهذه التكبيرة ركن، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، فجعل التكبير تحريمها، فأخذوا من ذلك أن هذا التكبير ركن، فتكبيرة الإحرام ركن لا تتم الصلاة إلا بها.
تقول عائشة: (والقراءة بالحمد لله) يعني: ويستفتح القراءة بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، هذا هو الذي يسمع المأمومين أول ما يسمعون منه: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] ثم يتم الفاتحة، وليس المراد أنه يستفتح القراءة بالفاتحة، بل المراد أنه يأتي بكلمة: الحمد لله رب العالمين مبدأ لقراءته، أي: يبدأ القراءة بهذه الكلمة.
ويأتينا أنه لا يستعمل البسملة، فإن هذا الحديث دليل على أنه لم يكن يأتي بالبسملة -يعني بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم- وقد خالف في ذلك الشافعية فاستحبوا البداءة بالبسملة.
وأجابوا عن حديث عائشة هذا أن المراد: (يستفتح القراءة بالفاتحة) ولكن هذا في الحقيقة كلام لا حقيقة له ولا معنى له، لقد كان يقرأ الفاتحة قبل السورة وكان ذلك معلوماً من صلاته بالضرورة، ولا حاجة إلى ذكره؛ لأنه أشهر من أن يذكر، فكيف يجعل محملاً لهذا الكلام؟!
بل الصواب أن محمله أنه يأتي بالقراءة مبدوءة بقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].
فهذه الجملة الثانية، يعني: في حديث عائشة عشر جمل:
والجملة الثانية: بداءة القراءة بالحمد لله يعني: بقول: الحمد لله، دون أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم.
الجملة الثالثة: صفة الركوع، تقول: (إنه إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه)، فالتصويب: الرفع، والتشخيص: الخفض، (لم يصوبه) يعني: لم يجعل رأسه مرتفعاً كرأس الطائر، ولم يصوب رأسه ولم يخفضه يعني: التدنية، يعني: أنه يجعل رأسه في أعلى ظهره، فلا يشخصه ولا يصوبه، فالإشخاص: أن يدنيه، والتصويب: أن يرفعه.
بل كان يجعله محاذياً لظهره، ويجعل ظهره مستوياً، فلا يجعله محدودباً، وقد ورد النهي عن تحديب الظهر، فالتحديب هو أن يقوس ظهره كأنه قوس، وقد كان يجعله مستوياً بحيث لو وضع عليه إناء لركد، هذا الصواب.
الجملة الرابعة: الطمأنينة في الرفع: (إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً) يستوي قائماً: ويقف ويعود كل عضو إلى مكانه، ومعلوم أيضاً أنه يطيل هذا القيام حتى يقول القائل: قد نسي.
الجملة الخامسة: إذا رفع من السجدة الأولى جلس ولم يسجد السجدة الثانية حتى يستوي جالساً ويطيل أيضاً، حتى يقول القائل: قد نسي، يطيلها بين الركنين، وقد ابتلي كثير من الناس بتخفيفهما، كثير من الناس تشاهده أنه أول ما يرفع وإذا به ساجد، وكذلك يفعل في القيام إذا ركع ثم رفع، فأول ما يرفع وإذا به ينزل.
ومن كان جالساً ثم سجد وإذا به يسجد للسجدة الثانية دون طمأنينة، فمثل هذا خالف السنة ولم يأت بالطمأنينة المطلوبة، ولم يأت بالفاصل المعروف بين السجدتين، ولم يأت بهذا الدعاء الذي ورد فيها من قولها: (رب اغفر لي وارحمني..) إلى آخره.
فهذه خمس جمل.
الجملة السادسة: تقول: (وكان يقول في كل ركعتين التحية) يعني: كل ركعتين يتشهد بينهما ويسلم، ويأتي بقوله: (التحيات لله..) إلى آخره، وهو التشهد المعروف.
وقد ورد في حديث أبي حميد : (أنه يتورك في التشهد الأخير) أي: التشهد الذي قبل السلام وهو الذي يسلم بعده، ولكن أبا حميد وصف الصلاة الرباعية، فذكر أنه في التشهد الأول يفترش، وفي التشهد الأخير يتورك، فيخرج رجليه من تحته ويجلس بمقعدته على الأرض، هذا إذا كان هناك متسع.
ومن العلماء من يقول: لا يتورك إلا إذا كان محتاجاً لكبر أو مرض، فهو الذي لا تحمله رجله، كما روي: (أن ابن عمر صلى ومعه ولده، فلما صلى تورك، فتورك ابنه ونهاه، قال: لماذا تتورك وتخرج رجليك من تحتك؟ فقال: إن رجلي لا تحملاني) يعني: أنه لكبر سنه يشق عليه أن يجلس جلسة المفترش.
وبعض العلماء يقول: يفترش في صلاته كلها، في التشهد الأول والتشهد الأخير، وسواء كانت الصلاة ركعتين أو أربعاً، فلا يتورك.
وبعضهم يقول: يتورك في كل تشهد بعده سلام، كتشهد صلاة الفجر، وصلاة الجمعة، وصلاة النفل الركعتين ونحو ذلك.
وبعضهم يقول: لا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان، يتورك في التشهد الأخير منهما، وهذا هو الذي اختاره الإمام أحمد .
هذا صفة جلوسه أنه يجلس مفترشاً يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى.
وهكذا لو نصب إحدى رجليه عن يمينه والأخرى عن يساره وجلس بينهما وهما منتصبتان، يصدق على ذلك أنه عقبة الشيطان.
الجملة التاسعة: ذكرت أنه ينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، يعني: إذا سجد لا يبسط ذراعية على الأرض كافتراش السبع، فالسبع أو الكلب يبسط يديه إذا أقعى فإنه يمد يديه أو يمد رجليه على الأرض فنهي عن التشبه به.
والمأمور أنك إذا سجدت تسجد على الكفين وترفع الذراعين ولا تبسطهما على الأرض حتى تكون بذلك ساجداً سجوداً حقيقياً، فيدل ذلك على صدق الرغبة وعلى محبة العبادة وعلى النشاط فيها والبعد عن الكسل، فهذه الصفة التي هي بسط الذراعين صفة المتكاسلين.
الجملة العاشرة والأخيرة: ذكرت أنه (يختم الصلاة بالتسليم)، وقد دل على ذلك الحديث الذي ذكرنا: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) فيختم بقوله: السلام عليكم ورحمة الله .. السلام عليكم ورحمة الله.
وبالجملة فهذا الحديث اشتمل على صفات عديدة، والتوسع فيها وذكر الخلاف فيها والكيفية وما إلى ذلك يحتاج إلى وقت طويل، ولكنها -والحمد لله- واضحة، والمسلمون يعرفون كيف يبدءون صلاتهم وكيف يختمونها وكيف يفعلون، يشاهدون ذلك من أئمتهم سواء بالأفعال التي يرونهم يفعلونها، أو بسماع ما يسمعونه من الأدلة ومن شروحها ومن توجيهاتهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين) متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في صلاته كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس)].
هذه الأحاديث في صفة الصلاة، الحديث الأول في رفع اليدين ومواضعه.
والحديث الثاني: في أعضاء السجود وأسمائها وعددها.
والحديث الثالث: في تكبيرات الانتقال وعددها.
ذكر في هذا الحديث أنه إذا استفتح الصلاة رفع يديه، يعني: عندما يكبر تكبيرة الإحرام، فابتداء الرفع مع ابتداء التكبير، وانتهاؤه إلى المنكبين، وتكون كل يد محاذية لمنكبها.
وورد في بعض الروايات: أنه يرفع يديه إلى أذنيه، وجمع بينهما بأن أصابعه تحاذي الأذنين، وأن الكف يحاذي المنكب، فيكون بذلك رفعاً متوسطاً عند استفتاح الصلاة، يعني: عند تكبيرة الإحرام، وهذا الرفع هو آكدها، وهو متفق عليه بين الأئمة الأربعة، الأئمة كلهم يرون أن هذا الرفع من سنن الصلاة، ولم يقل أحد إنه من الواجبات.
عرفنا أن رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام آكد ما روي في الرفع وأنه متفق عليه.
والحكمة فيه كما قال بعض العلماء: رفع الحجاب، إشارة إلى أنه يرفع الستر والحجب ويدخل على ربه، فعند ذلك يخشع، كأنه إذا رفع هذه الحجب لم يبق بينه وبين ربه ما يستره، وبكل حال فهو من سنن الصلاة، وابتداء الرفع وتحريك اليدين يكون من ابتداء التكبير، وانتهاؤه بانتهاء التكبير.
وبعد ذلك يضع يديه على صدره وهو أقوى ما ورد في وضعهما، وهناك من يقول: تحت سرته، ومن يقول: فوق سرته، ولكن الأصح أنهما على صدره، هذا هو الأرجح.
أما عند الركوع وعند الرفع من الركوع فقد ثبت في هذا الحديث وعدة أحاديث كثيرة صريحة بأنه يرفع يديه إذا ابتدأ تكبير الركوع، قبل أن ينحني، ثم ينحني بظهره ويمد يديه ويكون تكبيره في حالة انحنائه، يعني: أنه قبل أن يتحرك يرفع يديه حتى يحاذي منكبيه، ثم يكبر حال كونه منحنياً للركوع، فيضع يديه على ركبتيه مفرقتي الأصابع، فهذا أيضاً رفع مسنون.
كذلك إذا تحرك من الركوع رافعاً للقيام رفعهما، فإذا استتم قائماً وإذا هو قد انتهى من رفعهما محاذياً لمنكبيه، فعند ذلك أيضاً يردهما إلى صدره، وفي حالة وقوفه ومعلوم أنه يقول: سمع الله لمن حمده، في حالة حركته وارتفاعه من الركوع، ويقول في حالة قيامه: ربنا ولك الحمد، هذه المواضع الثلاثة.
أما حالة انحطاطه إلى السجود، أو رفعه من السجدة الأولى إلى الجلسة، أو خروره إلى السجدة الثانية، أو قيامه من السجدة الثانية إلى الركعة، فلا يفعل ذلك؛ لأن ابن عمر ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يفعل ذلك فقال: (كان لا يفعل ذلك في السجود) أي: لا في الانحطاط إليه ولا في الرفع منه، هذا هو المشروع.
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه أيضاً إذا قام من الركعتين .. أي: إذا قام من التشهد الأول للركعة الثالثة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما يفعل إذا افتتح الصلاة، فيكون هذا أيضاً موضعاً رابعاً في الصلاة الرباعية أو الثلاثية بعد التشهد الأول وعند نهوضه يكبر ويرفع يديه.
وهكذا أيضاً يرفع يديه لتكبيرات العيد الزوائد، فإنه يكبر في الركعة الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً على اختلاف في عدد التكبير، ويرفع يديه في كل تكبيرة.
وكذلك في تكبيرات صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، يرفع يديه في التكبيرات الزوائد التي في كل ركعة، فهذه أيضاً مواضع رفع في حالة القيام.
وقد استنبط من ذلك أن رفع اليدين يكون في الحالات التي ليس فيها حركة كثيرة، فإن حركة القيام إلى الركوع، أو الركوع إلى القيام، أو حركة التكبير في حالة القيام عند التحريمة: حركة قليلة، وكذلك حركة القيام من الجلوس في الركعة الثانية حركة أيضاً قليلة وليست كحركة السجود، سواء للانحطاط له أو للجلوس أو للرفع منه.
فيكون رفع اليدين خاصاً بالانتقال الذي حركته قليلة، هذا هو المعتمد.
وقد ورد في رواية: أنه يرفع يديه أيضاً في تنقلات السجود، ولعل ذلك أحياناً .. لعله فعله مرة أو مرتين، ولكن المعتاد والأكثر أنه لا يفعله في السجود كما نص على ذلك ابن عمر .
الجبهة معلوم أنها الجبين الذي ليس عليه شعر، وحدها منابت الشعر، ونهايتها شعر الحاجبين، ولكن الأنف أيضاً متصل بها، فتكون عضواً واحداً أي: أن الجبهة والأنف يكونان عضواً واحداً، فلا بد أن يسجد عليهما، فلا يسجد على الجبهة ويرفع الأنف، ولا يسجد على رأس الأنف فقط ويرفع الجبهة، بل السجود عليهما معاً، ويعتبران عضواً واحداً.
والوجه هو أشرف أعضاء الإنسان وأعلاها، والوجه هو مجمع المحاسن، والوجه هو مجمع الحواس، فإذا وضع وجهه على الأرض فقد حصل منه التواضع والتذلل، وقد ظهرت فيه العبودية، ويحمله ذلك على أن يخشع، وعلى أن يخضع، وعلى أن يتواضع وعلى أن يتذلل، وعلى أن يستحضر أنه خاشع لربه واقف بين يديه، متذلل له، عابد له غاية العبودية، فيكون هذا السجود أعظم أركان الصلاة وأشرفها بهذه الميزة، وهذه الخصوصية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، حيث إنه في هذا السجود قد ذل لربه، وقد خضع له وخشع.
فلا شك أنه بهذه الحال قد قرب منه قرباً معنوياً، فهو أقرب إلى أن يجيب دعوته وإلى أن يسمعها سماع قبول، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) أي: حريٌ وقريبٌ أن تستجاب دعوتكم، حيث إن الساجد خاضع وخاشع لربه ومتواضع.
وقد تقدم أنه ينهى عن أن يبسط ذراعيه، فإذا سجدت فضع يديك وارفع مرفقيك، والمرفق: هو المفصل الذي بين الذراع والعضد، وارفع أيضاً ساعدك، والساعد: هو الذراع، ولا تبسطه كانبساط الكلب: (لا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب).
وقد أمر بأن يضم أصابعه حتى تكون رءوس الأصابع إلى القبلة، فلا يميل بها ولا يصرف يديه فيجعلها إحداهما شمالاً والأخرى جنوباً، أو يفرق الأصابع فيكون بعضها لغير القبلة، بل يضمها حتى تكون رءوسها كلها للقبلة.
أما الركبتان فالسجود عليهما ضروري؛ وذلك لأن الاعتماد عليهما.
روي في بعض الأحاديث: (أن العبد إذا ترك عضواً لم يسجد عليه لم يزل ذلك العضو يلعنه)، حيث إنه أخل بالسجود عليه، وحيث إن السجود عليه عبادة، فعليه أن يحرص على السجود على وجهه كله يعني: جبينه وأنفه، ولا يسجد على أنفه فقط ولا على جبهته فقط، ويسجد على قدميه فيجعل بطونهما إلى الأرض، ولا يرفعهما ولا يسجد على رأس الأصبع مثلاً، ولا يجعل إحداهما على الأخرى، ولا يجافيهما أو يميلهما بحيث لا يكون ساجداً عليهما السجود الحقيقي، هكذا أمر الساجد بأن يمكن أعضاءه من السجود؛ ليكون بذلك محققاً لهذا الاتباع.
وهذا التكبير من واجبات الصلاة، فإذا ترك تكبيرة أو ترك أكثر من تكبيرة كان قد ترك واجباً، فإن كان سهواً فإنه يسجد للسهو، وإن كان عمداً بطلت صلاته.
وإذا عددته وجدت في كل ركعة خمس تكبيرات، ووجدت في الصلاة الرباعية اثنتين وعشرين تكبيرة، وفي الثلاثية سبع عشرة تكبيرة، وفي الصلاة الثنائية إحدى عشرة تكبيرة، كل ركعة فيها خمس تكبيرات، التكبيرتان الزائدتان في الظهر هما: تكبيرة القيام من الجلوس للتشهد الأول، وتكبيرة الرفع من السجدة الثانية التي يجلس بعدها للتسليم، فإنهما زائدتان على الخمس.
ففي الركعة الأولى: التكبيرة الأولى: للإحرام، التكبيرة الثانية: للركوع، الثالثة: للسجود، الرابعة: للرفع من السجود، الخامسة: للسجدة الثانية، هذه خمس، وفي الركعة الثانية: تكبيرة القيام من السجدة الثانية إلى القيام، ثم تكبيرة الركوع، ثم السجود، ثم الرفع من السجود ثم السجدة الثانية، وهذه خمس تكبيرات، وكل ركعة فيها خمس تكبيرات، وابتداء الخمس: إما تكبيرة الإحرام وإما تكبيرة القيام من السجدة، فيزيد على ذلك في الظهر تكبيرة القيام من التشهد الأول وتكبيرة القيام من السجود الأخير للجلسة بين السجدتين.
أما بقية الصحابة فإنهم يكبرون جهراً، ويرفعون التكبير حتى يسمعهم المصلون، والمصلون يعتمدون على تكبير الإمام، فإذا سمعوه كبر للتحريم كبروا، وقد أكد بذلك في المتابعة.
تقدم لنا قوله صلى الله عليه وسلم في الاقتداء: (إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا)، فدل على أنه يكبر وأنهم يوافقونه في ذلك التكبير، الإمام يكبر والمأمومون يكبرون.
أولاً: تنبيه المأمومين حتى يسمعوه، وحتى يتابعوه، فليس كلهم يرونه، فقد يراه أهل الصف الأول أو بعضهم والباقون لا يرونه، فينبههم بهذا التكبير.
ثانياً: التكبير ذكر يشتمل على التعظيم، فإذا قلت: الله أكبر، فمعناه: الله أجل وأعظم من كل شيء، ولا شك أنك إذا قلت ذلك معتقداً بقلبك كان ذلك أرسخ لهذا التكبير ولهذه العظمة في قلبك، ولا شك أن من استحضر عظمة الله سبحانه في صلاته وفي كل حالاته، واستحضر أنه أعظم وأجل من جميع المخلوقات خضع له وذل، وتواضع له واستكان، أي: الله أكبر وأجل من كل شيء.
علمنا أن تكبيرة الإحرام عندما يريد التحريم للصلاة وفي الحديث: (تحريمها التكبير) فعندما يسوَّي الإمام الصفوف وينتهي من تسويتها يكبر، فيتبعونه في التكبير، ثم يبدأ بعد ذلك في القراءة، ثم تكبيرة الركوع عندما يتحرك منحنياً للركوع، فيأتي بها في حالة تحركه وينتهي بها في حالة انتهائه.
أما المأموم إذا رفع من الركوع واستوى قائماً فإنه يأتي بالحمد، لأنه لما ذكرهم الإمام وقال: سمع الله لمن حمده، فكأنهم انتبهوا، فقالوا: مادام أن الله يسمع من يحمده فلماذا لا نحمده؟! فنبادر فنحمده فنقول: ربنا ولك الحمد، فالتسميع يأتي تنبيهاً على أن هذا موضع الحمد.
كذلك تكبيرته عندما يتحرك رافعاً رأسه من السجدة فإنه يكبر بعدما يرفع رأسه وينتهي إذا جلس، فتكون نهايته إذا جلس بين السجدتين، وكذلك تكبيرته إذا سجد للسجدة الثانية، فإنه يكبر عندما يتحرك نحو الأرض فيقول: الله أكبر، وينتهي بنهاية سجوده، وتكبيرته عندما يرفع رأسه من السجدة الثانية ناهضاً للركعة الثانية يأتي بها أيضاً، وكذلك تكبيرته إذا قام من الركعتين، أي: إذا جلس للتشهد الأول وانتهى منه كبر حالة ما يتحرك، هذا بالنسبة إلى الإمام.
أما المأموم فإنه أيضاً يتابع الإمام في هذا التكبير كله، إلا التسميع فلا يقول: سمع الله لمن حمده، بل يقتصر على التحميد؛ وذلك لأن قصد الإمام من التسميع تنبيه المأمومين، أما التكبير فإنه ذكر، فيوافق الإمام في تكبيره فيقول: الله أكبر كما يقوله الإمام.
والمنفرد كالإمام يسمع كما يسمع ويكبر كما يكبر، فهذا التكبير هو من واجبات الصلاة، وكذلك التسميع والتحميد وأذكار الركوع والسجود، وهي التسبيح في الركوع والسجود ونحو ذلك، هذه من الواجبات التي تتم الصلاة بفعلها والمحافظة عليها.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريباً من السواء) ، وفي رواية البخاري : (ما خلا القيام والقعود: قريباً من السواء).
وعن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إني لا آل أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، قال
هذه أحاديث في صفة الصلاة، الحديث الأول في تكبيرات الانتقال، تكبير النقل هو أن يكبر عندما ينتقل، وقد تقدمت أحاديث في ذلك.
وذكرنا أن في كل ركعة أربع تكبيرات، وأن للرباعية ثنتين وعشرين تكبيرة، وفي الثلاثية سبع عشرة تكبيرة، وفي صلاة الفجر إحدى عشرة تكبيرة، وذلك لكونها تزيد بتكبيرة الرفع التي للجلوس.
وهذه التكبيرات قد خفيت على بعض المتقدمين، وذلك أن بعض الأئمة كانوا يصلون وهم كبار السن فيصعب عليهم رفع الصوت بالتكبير، ويصير انتقال المأمومين بسماع الحركة، ولكن تحققوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر عندما ينتقل، إلا إذا رفع من الركوع فإنه يقول: سمع الله لمن حمده، وإذا انصرف التفت للخروج من الصلاة فإنه يقول: السلام عليكم ورحمة الله.
أما بقية انتقالاته فإنه يستعمل التكبير، والحكمة في ذلك والله أعلم: تذكير المأمومين الذين يسمعون، وتذكير المنفرد نفسه، وتذكير الإمام نفسه بهذا الوصف لله تعالى وهو كونه أكبر، فإنك كلما كررت أو كلما سمعت: الله أكبر، كان ذلك مذكراً لك بكبرياء الله، ومن عظّم الله وكبّره واعتقد أنه أكبر من المخلوقات كلها، عظُم قدر ربه في قلبه، وصغرت المخلوقات عنده واستحقرت مهما كان مقدارها، سواء كانت موجودة على قيد الحياة أو فانية فكلها تصير حقيرة ولا يبقى في قلبه لها قدر، وإنما القدر العظيم لله تعالى الذي هو أكبر من كل شيء، وكل شيء فهو حقير فقير ناقص أمامه، فهذا هو السبب في تكرار التكبير.
وإذا مشينا على الرواية الأولى فإنه ليس المراد التسوية بين القيام والركوع، بل المراد التقارب، وأنه إذا أطال في ركن أطال في بقية الأركان، وهذا هو السبب في الطمأنينة، وفي حضور القلب، وفي الإتيان بالأفعال التي يأتي بها وحصول الحكمة من ورائها.
وحفظ أنهم صلوا خلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما كان أميراً على المدينة وحسبوا تسبيحات الركوع وتسبيحات السجود: عشراً عشراً، فكان يقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، حتى يقول عشراً، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى حتى يعد عشراً.
هذا مما حفظ في الركوع وفي الرفع من الركوع.
وسمع مرة رجلاً لما رفع من الركوع قال: (ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فأخبر بأنه رأى أن ملائكة يبتدرونها ليكتبوها)، مما يدل على أنه أقر هذا الحمد.
وروي أيضاً أنه كان يقول: (ربنا لك الحمد كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعلم جلاله)، وبكل حال فإنه موطن فيه الثناء، أي: يندب فيه أن يشتغل بالثناء على الله، وبحمده وبتكرار هذا الحمد.
ويمكث فيه بقدر ركوعه أو بقدر سجوده كما ذكرنا.
وحفظ أيضاً أنه قال في الركوع: (عظموا فيه الرب) يعني: أكثروا من تعظيم الله والثناء عليه.
وقال في السجود: (اجتهدوا فيه في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) يعني: حري أن تستجاب دعوتكم؛ لأن: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، فحث على الدعاء في السجود، ولم يحدد لهم دعاءً معيناً، بل أطلق الأمر لهم.
هذه الأركان التي هي الركوع والرفع منه والسجود والاعتدال والجلسة بين السجدتين والسجود الثاني هذه من أركان الصلاة كما هو معروف.
والأدعية فيها والأذكار فيها تعتبر من واجبات الصلاة، فالتسبيح في الركوع واجب، والتسبيح في السجود واجب، وقول: ربنا ولك الحمد واجب، وقول: رب اغفر لي واجب، فلا بد أن يأتي المصلي بقدر الواجب، فإذا أتى بقوله: سبحان ربي الأعلى، مرة كفى، ولكن قد لا تحصل الطمأنينة التي هي الركود، وإذا أتى بقول: رب اغفر لي، مرة كفى، ولكن لا بد من الطمأنينة التي هي الركود، وهكذا يقال في بقية أفعال الصلاة.
كذلك القيام أطول من الركوع؛ وذلك لأن فيه قراءة الفاتحة، ثم قراءة ما تيسر من القرآن، فهو أطول من جنس الركوع، وجنس السجود، بل قد يطيله إطالة كبيرة.
وأما الأحاديث التي فيها أن ركوعه بقدر قيامه، فالمراد أنه يطيل الركوع إذا أطال القيام، ويقصر الركوع إذا قصر القيام، فإذا قام في الصلاة وقرأ قراءة طويلة يعني: قدر عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة فإنه يطيل الركوع نحو دقيقتين أو ثلاث دقائق، وإذا خفف القراءة فجعل القراءة قدر خمس دقائق، أو سبع دقائق، خفف الركوع وجعله دقيقة أو ثلثي دقيقة، أو ما أشبه ذلك، فالمعتاد أنه إن أطال ركني القيام والقعود أطال بقية الأركان، وإن قصر قصر.
والإطالة لها أسباب، فقد يطيل بعض الصلوات كما أطال صلاة الكسوف إطالة زائدة، وكما أطال صلاة التهجد التي هي قيام الليل.
وفي ليلة في رمضان قرأ في ركعة واحدة أكثر من خمسة أجزاء، البقرة ثم النساء ثم آل عمران، ثم ركع فأطال الركوع، فهذا دليل على أنه كلما أطال القيام أطال ما بعده، ولكن لا يلزم التساوي، فلا يلزم أن قيامه إذا كان نصف ساعة يكون ركوعه نصف ساعة، بل يطيله بقدره.
وبكل حال فإن الأذكار قد وردت، فورد في الركوع قوله: سبحان ربي العظيم، وورد أنه يعظم فيه الرب لقوله: (عظموا فيه الرب) وتعظيم الرب يكون بالألفاظ الدالة على العظمة سواء من القرآن أو من غيره، فإذا قال في الركوع: اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض، وما أشبه ذلك، أو قال: اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء إلى آخره، فهذا يعتبر تعظيماً يكون مناسباً في الركوع.
وإذا أتى في السجود بالدعاء أو بالتسبيح فقد امتثل ما أمر به؛ لأنه مأمور في السجود بأن يكثر من الدعاء، سواء أدعية قرآنية كأن يقول: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا [آل عمران:8]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، أو أدعية من الأدعية النبوية الواردة كقوله: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً..، أو اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت..، وما أشبه ذلك من الأدعية فيعتبر أيضاً ممتثلاً.
فالحاصل أنه يشرع أن يشغل هذه الأركان بالذكر وبالتسبيح وبالثناء على الله تعالى وبالدعاء حتى يأتي فيها بروح الصلاة وبلبها وهو الخشوع والخضوع وحضور القلب.
فكيف يكون أنس مطيلاً لهذين الركنين حتى يقول القائل: قد نسي؟ الجواب: أنهم رأوا كثيراً من الناس يخففون هذين الركنين تخفيفاً زائداً، فصاروا إذا رأوا من يطيلهما ظنوا أنه قد نسي، أو قد أوهم، أو قد سها، وإلا فالإطالة ليست إطالة غريبة.
ومثل ذلك أيضاً تخفيفهم للجلسة بين السجدتين، فتراه مثلاً ساجداً مطمئناً في سجدته، ولكن إذا رفع رأسه للجلسة بين السجدتين لم يجلس، إنما يرفع قليلاً وقبل أن يعتدل جالساً يخر للسجدة الثانية، ولا يفصل بينهما بجلسة فيها طمأنينة.
فكأن الذين كانوا يصلون في وقت أنس كانوا يخففونها بين الركنين تخفيفاً زائداً عن غيرهما من الأركان، فأنكروا عليهم بفعل أنس حيث كان يطمئن فيمكث في الرفع بعد الركوع وفي الرفع بعد السجدة الأولى مكثاً زائداً على ما يفعلونه، فإذا صلوا معه ظنوا أنه قد نسي في زيادته لهذا الفعل.
فالحاصل أنا نلاحظ وتلاحظون هؤلاء الذين يخففون هذين الركنين أو يخففون غيرهما من الأركان، فإذا لاحظت فعليك التنبيه، وإخباره بأن هذه الصلاة ناقصة؛ وذلك لعدم الطمأنينة فيها، فإن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة.
والمسيء صلاته لماذا أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصلِّ) ثلاث مرات، ما الذي أنكره عليه؟ أنكر عليه تخفيف الصلاة وترك الطمأنينة فيها، ولهذا نبهه وقال له: (اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً) فأكدت كلمة (تطمئن) الطمأنينة وهي: الثبات والركود، فمن لم يطمئن في أركان صلاته فإنه يقال له كما في هذا الحديث: (ارجع فصل فإنك لم تصلِّ)، فانتبهوا وفقكم الله.
وكذلك نبهوا إخوانكم الذين يخففون هذه الأركان حتى تكون صلاتهم مجزئة ومقبولة إن شاء الله.
قال المصنف رحمه الله: [عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري .
وعن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي البصري قال: جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال: إني لأُصلي بكم وما أريد الصلاة، أصلي كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فقلت لـأبي قلابة : كيف كان يصلي؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا، وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض، أراد بشيخهم أبا بريد عمرو بن سلمة الجرمي ، ويقال: أبو يزيد .
وعن عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه)].
فيذكر أن الذين صلى خلفهم لم تكن صلاتهم مثل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الخفة والتمام، والحاصل أنه يفيد أنها تامة وكذلك خفيفة، تمامها: أنه يتم الأركان، فيتم الركوع والسجود ويطمئن فيها اطمئناناً كاملاً، ويأتي فيها بالأذكار التامة.
وثبت في حديث عن أنس نفسه رضي الله عنه: أنه صلى خلف عمر بن عبد العزيز عندما كان أميراً على المدينة، يقول: شهدت لـعمر بأنه كان أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فحسب تسبيحاته في الركوع والسجود عشراً عشراً، أي: أنه إذا ركع سبح عشراً بقوله: سبحان ربي العظيم، وإذا سجد سبح عشراً بقوله: سبحان ربي الأعلى، فهذا هو التمام.
قوله: (أتم): التمام كونه يأتي بها باطمئنان، ووجد بعده من يطيل في القراءة ويخفف في الركوع وفي السجود، أو يطيل في الجميع إطالة مملة، أو نحو ذلك، فأنكر عليهم أنس وقال: خففوا وأتموا لا تنقروها نقراً فتكونوا مخالفين للطمأنينة، ولا تطيلوها إطالة طويلة فتكونوا منفرين، بل استعملوا الوسط الذي هو التمام، والتخفيف الذي ليس بمنفر.
وقد تقدم أن بعض النقارين استدل بحديث معاذ في النهي عن الإطالة على النقر، فيقال: ليس الأمر مع هؤلاء النقارين الذين ينقرون الصلاة نقراً، ولا مع أولئك المنفرين الذين يمكث أحدهم في الصلاة ساعة أو أكثر فيكون بذلك منفراً، بل الوسط هو خير الأمور.
وكان مالك بن الحويرث ممن تأخر إسلامه، وقد وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة، أي: في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وكان من أهل البحرين أي: من أهل الشرق في ذلك الوقت، وكانوا يأتون من أماكن بعيدة، ويبذلون جهداً كبيراً، ويقطعون مسافة طويلة في زمن طويل.
يقول مالك بن الحويرث : (إننا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأقمنا عنده عشرين يوماً، فلما رأى أنا قد اشتقنا إلى أهلنا، قال: لو رجعتم إلى أهليكم وعلمتموهم ما تعلمتم، وقال لهم: إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم)، وأمرهم بقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
فأخبرهم بأن عليهم أن يقتدوا به في هذه الصلاة التي تلقوها بالفعل، وكذلك تعلموا بقية الأحكام بالقول، فأمرهم بهذه الحال بأن يقتدوا به.
فجاء ابن الحويرث إلى مسجد أبي قلابة وبين لهم الصلاة فصلى بهم، ثم إن الذين رووا عن أبي قلابة سألوه: عن كيفية صلاة مالك بن الحويرث ؟ فأخبرهم بأنه يصلي بهم كما يصلي بهم شيخهم في ذلك الوقت، والشيخ يراد به الطاعن في السن، هذا هو الشيخ في اللغة، وليس المراد به العالم، فأطلق عليه شيخاً لكونه كبير السن.
وأبو بريد عمرو بن سلمة هذا هو أبو بريد عمرو بن سلمة الجرمي، وكان قد أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يره ولم تثبت صحبته لكونه صغيراً.
ذكر أنه كان في صغره يتلقى الركبان ويتعلم منهم القرآن الذي تعلموه فحفظ قرآناً أكثر من غيره، فلما جاء وفدهم من عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: (إنه يقول: يؤمكم أقرؤكم أو أكثركم قرآناً) لم يجدوا أكثر من أبو بريد عمرو بن سلمة ، فقدموه إماماً لهم مع صغر سنه، وقد ذكر في بعض الروايات أنه كان صغير السن ولكنه كان أكثرهم قرآناً فقدموه، ثم ذكر أنه ما صحب قوماً بعدهم إلا صار إماماً لهم، فكل من صحبوه قدموه ورضوا بإمامته.
فكان يصلي في المسجد الذي فيه أبو قلابة، وأبو قلابة تلميذ لـأنس وتلميذ للصحابة، وهو من الأجلاء التابعين.
وقد اختلفوا في مشروعيتها: هل تشرع جلسة الاستراحة التي فعلها أبو بريد عمرو بن سلمة أم لا؟ وهل أبو بريد عمرو بن سلمة تلقاها عن أحد أو فعلها استحساناً؟ وهل إقرار أبي قلابة أو تشبيه أبي قلابة لصلاته بصلاة مالك بن الحويرث في جميع الصلاة كلها حتى هذه الجلسة، أو في معظم الصلاة وفي حسنها وفي طولها وفي قصرها وما أشبه ذلك؟
الأقرب أن أبا قلابة يقول: إن صلاة أبو بريد عمرو بن سلمة أقرب إلى صلاة مالك بن الحويرث وأشبه بها في كونه يطمئن، وفي كونه يتم الركوع والسجود، وفي كونه يقرأ كما يقرأ، وفي كونه يخشع فيها، ويمكن أنه لم يذكر أن من فعله هذه الجلسة وإنما ذكرها الذي روى عن أبي قلابة يعني: نقل عن أبو بريد عمرو بن سلمة أنه كان يجلس هذه الجلسة، فبعض العلماء ذهب إلى استحباب جلسة الاستراحة كالشافعية، ورأوا أنها من سنن الصلاة، فإذا قام من الركعة الأولى قبل أن ينهض جلس ثم قام، وإذا قام من الركعة الثالثة قبل أن ينهض جلس ثم قام.
وأكثر الأئمة لم يستحبوها ورأوا أنها ليست مستحبة ولا مشروعة، وقالوا: إنها لم تذكر في الأحاديث، وإن الأحاديث كثيرة والسنة التي فيها صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لم تذكر فيها هذه الجلسة، فدل على أن أبو بريد عمرو بن سلمة ما فعلها عن دليل وإنما فعلها عن كبر؛ لأنه كان قد طعن في السن، ففعلها لأجل أن يرتاح قبل أن ينهض، فكان هذا هو السبب في فعله لها.
وعلى هذا: لا تكون من سنن الصلاة.
وبعض العلماء قال: لما شبه أبو قلابة شبه صلاة أبو بريد عمرو بن سلمة بصلاة مالك ومالك صحابي فإنا نثبتها كما أثبتها، ولكن نقول: لعلها خاصة لكبير السن، أو بمن احتاج إليها لضعف أو نحو ذلك، فهي لمن كان كبير السن كحال عمرو بن سلمة أو لمن هو مريض يشق عليه أن ينهض من السجود سريعاً.
وإلا فالثابت المتواتر في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يجلس، بل كان إذا قام من السجدة الثانية نهض واعتمد على ركبتيه، واستتم قائماً، هذا هو المعتاد.
فإذاً عرفنا أن فيها ثلاثة أقوال:
قول الشافعية أنها تستحب؛ لأجل فعل أبو بريد عمرو بن سلمة .
وأكثر الأئمة لم يستحبوها.
وتوسط آخرون وقالوا: يفعلها من هو عاجز لكبر أو مرض، ومن ليس كذلك لا يفعلها.
وهذا هو القول الوسط الذي جمعوا به بين القولين.
وقد ورد التعبد بالسجود وحده، مما يدل على أنه أفضل، وذلك كسجود التلاوة وسجود الشكر، سجدة واحدة يسجد فيها من غير أن يسبقها تحريم ولا ركوع ولا غير ذلك.
كذلك أيضاً جعل السجود جابراً للصلاة كما في سجود السهو مما يدل على أهمية السجود.
وورد أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) وأمر في السجود أن يُكثر فيه من الدعاء كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيها الرب، وأما السجود فأكثروا من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) أي: حريٌ أن يستجاب إذا دعوتم الله في حالة السجود؛ وذلك لأنكم في تلك الحالة متواضعون، فالعبد غاية تواضعه إذا وضع وجهه على الأرض؛ وذلك لأن وجه الإنسان هو أشرف أعضائه، وهو أرفعها، وهو مجمع حواسه، فإذا تواضع ووضع وجهه على الأرض كان ذلك غاية التواضع وغاية التعبد.
ولأجل ذلك ورد في صيغة السجود ما يحقق كمال الخشوع، وكمال الذل، فمنها: أنه يسجد على سبعة أعضاء، ويمكن هذه الأعضاء من الأرض.
ومنها: أنه يرفع ذراعيه، وتقدم أنه عليه الصلاة والسلام كان يرفع ذراعيه عن الأرض، ونهى أن يبسط الرجل ذراعيه في السجود كانبساط الكلب.
ومنها: أنه كان عليه الصلاة والسلام يتجافى في السجود، فكان ينصب رجليه ويسجد على بطون أصابعه، وكان يرفع فخذيه عن ساقيه، ويجافي بطنه عن فخذيه، ويجافي عضديه عن جنبه حتى يبدو بياض إبطيه، لأنه أحياناً لا يكون عليه إلا رداء، فإذا فرج يديه ظهر إبطه من وراء الرداء، فظهر بياض إبطيه من تفريجه ومن شدة مجافاته يديه عن جنبيه.
وهذه الصفة هي الصفة المتميزة بالاعتدال، يعني: أنها الوسط.
أما بالنسبة لمجافاة البطن عن الفخذين، والفخذين عن الساقين فإنها تكون متوسطة، وقد وصفت في بعض الروايات: بأن ينصب فخذيه، أي: أن تكون فخذاه منتصبة يعني: قائمة، فيعتمد على ركبتيه، ويكون فخذه شبه مرتفع أي: قائم، فلا يميل إلى جهة الساق ولا يميل إلى جهة الأرض، فإن في ميله إلى جهة الأرض شيئاً من المشقة والصعوبة عليه، وفي ميله إلى جهة الساق شيئاً من الكسل أو نحو ذلك.
فنرى أن بعض الناس إذا سجد أبعد موضع جبهته بعداً زائداً كمتر أو نحوه! ففي ذلك شيء من المشقة، حيث يشق على نفسه حتى ربما تجاوز الفراش الذي يصلي عليه، أو سجد على الفراش الثاني وربما ضايق الصف الذي أمامه إذا كان هو في الصف الثاني ونحو ذلك.
ونرى آخرين يسجد أحدهم بين ركبتيه! فيجعل رأسه أو وجهه أو ذقنه قرب ركبتيه فلا تحصل بذلك مجافاة.
والوسط هو المشروع، فإذا جعلت بين رأسك وبين ركبتك قدر نصف متر أو نحو ذلك كان فيه شيء من الاعتدال، وليس فيه شيء من المشقة، هذا هو التفريج الذي ذكر في هذه الأحاديث.
قال المصنف رحمه الله: [عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: (أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم).
وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)].
هذه من أحاديث صفة الصلاة، فصفة الصلاة -كما عرفنا- متلقاة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله ومن فعله، وأكثرها أخذت من أفعاله، حيث إنه القدوة عليه الصلاة والسلام، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) والله يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وقال: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7].
والشسع: هو السير الذي يمسك النعل من الخلف فوق العقب، والشراك: هو الذي يمسك النعل فوق الأخمص وبين الأصبعين، ويربط فوق الأخمص الذي هو وسط القدم، والمنخفض من القدم، ويحتاجون إلى شدها بتلك السيور وإحكامها وعقدها من خلف القدم وفوق الأخمص، فإذا لبسها فمن المشقة عليه أن يخلعها؛ فلأجل ذلك كان يصلي بها، وكان يدخل بها المجالس، ويجلس بها وكذلك صحابته كانوا يصلون بالنعال؛ وما ذاك إلا لأنه يصعب لبسها ويصعب خلعها في كل حين، لما ذكرنا من أنها تحتاج إلى ربط وعقد فوق الأخمص، وكذلك فوق العقب بتلك السيور التي من أسمائها الشراك والشسع، فلأجل ذلك رأى أن من الأسهل عليهم الصلاة فيها.
كذلك ثبت أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم أباح الصلاة فيها، أو أمر بذلك مخالفة لليهود، فقال: (إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم)، أي: فصلوا في نعالكم مخالفة لهم، فجعل ذلك مقصداً من مقاصد الشريعة.
وكان اليهود يتشددون في أمرها، فيخلعونها ولو كان في خلعها صعوبة، ولو كان أيضاً في لبسها شيء من الصعوبة ومن الثقل، فلذلك أمر بمخالفتهم، وأمر بأن يصلى فيها؛ وكل ذلك لأجل المشقة التي ذكرنا في خلعها وفي تجديد لبسها.. وما أشبه ذلك.
ذكرنا أن هذا خاص بأحذيتهم الموجودة عندهم، أما أحذيتنا هذه الموجودة فإن خلعها وكذلك لبسها ليس فيه شيء من الصعوبة، بحيث يمكن أن يخلعها وهو قائم ويلبسها وهو قائم، ويمسك شراكها المقدم بأصابعه ولا تسقط منه، فلأجل ذلك قالوا: لو خلعها وهو في هذه الحال فلا إثم.
ولو صلى بغيرها فلا إثم، ورأوا أيضاً أن كثيراً من الناس يتساهلون في تفقد الأحذية عند دخولهم المساجد، ورأوا أيضاً أن المساجد فرشت بهذه الفرش، وأنها تتلوث بذلك الغبار الذي تحمله الأحذية، وكذلك ما تحمله من الرطوبة ونحوها فقالوا: لا بأس والحال هذه أن يخلعها عند الأبواب وأن لا يصلي فيها.
وبكل حال فلا ينكر على من صلى في نعليه، بل إن ذلك من السنة، بشرط أن يتفقد نعليه، وأن يتأكد من نظافتهما، ولا يشدد في طلب الخلع، ولا يقال: إن من دخل المسجد بنعليه مع نظافتهما إنه فاجر وإنه عاص وإنه.. وإنه.. ، ما دام لم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل: لا تلبسوها في البيوت المفروشة أو نحوها.
فبكل حال لا ينكر على من خلعها؛ لأنا رأينا أن الناس يتساهلون في تفقدها، وكذلك لا ينكر على من لبسها وصلى بها لما ورد من الأحاديث، وذلك بعد أن يتأكد من صحتها ونظافتها.
ومنهم من يتشدد وهو الغالب الكثير، وتشدد هؤلاء لا شك أنه تقليد لليهود كما ذكر في الحديث: (إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم)، فجاء هؤلاء واستقبحوا هذه الأحذية، واستقذروها واستنقصوا من يدخل المساجد بها، ومن يجعلها أمامه ولو مقلوبة، ورأوا أن الحذاء أقذر الأشياء، ورأوا عيباً كثيراً على من يدخله أي مجلس ولو كان نظيفاً أو نحو ذلك.
وصاروا يضربون المثل بالحذاء ودنسه ووساخته فيقولون: فلان لا يساوي أحذيته أو مواطئ النعال، أو ما أشبه ذلك تحقيراً له وازدراء به.
نقول: هذا التشدد لا ينبغي، بل الحذاء إذا كانت نظيفة فلا مانع من دخول المساجد بها والمرور فيها بشرط التنظيف ونحو ذلك.
وإنما جعلت عند الأماكن وعند الأبواب ونحو ذلك لما رئي من التساهل من بعض الناس أو كثير منهم في تفقد نظافتها.
ففي هذا الحديث أنه عليه السلام كان يصلي في نعليه قياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً، وحدث مرة أنه خلع نعليه في الصلاة فخلع الصحابة نعالهم، فأخبرهم بأن جبريل أخبره بأن فيها قذراً أو أذى فخلعها، فدل على أنه إذا صار فيها شيء من القذر فإنه يخلعها، ويستمر في صلاته، هذا ما يتعلق بصلاته بالنعال.
وبقيت عند النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن أسلم أبو العاص فردها عليه، وماتت في حياة النبي صلى الله علي وسلم.
والحاصل أنه كان لها هذه الابنة التي هي أمامة (وعندما جاءت أمها من مكة مهاجرة كانت طفلة، وكان عليه الصلاة والسلام يلين مع الأطفال، ويحملهم، ويقبلهم، ولا سيما من له صلة وقرابة، وذلك دليل على كمال شفقته وكمال رقة قلبه مع الأطفال.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي فقال له الأقرع : (إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً! فقال: من لا يَرحم لا يُرحم أو قال: أوأملك أن نزع الله من قلبك الرحمة).
لا شك أن هذا شيء من العمل، ولكنه عمل يسير فيتسامح به، فاستفاد العلماء من ذلك:
أولاً: شفقة النبي صلى الله عليه وسلم، ورقته ورحمته بالأطفال والصغار.
ثانياً: جواز حمل الصبي إذا كانت ثيابه وبدنه طاهرة، ولا شك أنه تأكد من طهارة ثيابها ومن طهارة بدنها؛ لأنه لا يجوز حمل شيء فيه نجاسة في الصلاة، بل لا يحمل النجاسة حتى ولو كانت في قارورة أو في خرقة في جيبه أو نحو ذلك.
أما إذا كانت طاهرة فلا بأس، فهذه لا بد أنه تأكد من نظافتها، ومعلوم أن الطفل لا يملك أن يحدث أو مثل ذلك، فحدث الطفل الذي ينقض الوضوء لا يبطل بذلك صلاة من يحمله، فلذلك حملها والحال هذه.
ثالثاً: إباحة العمل اليسير في الصلاة، وعمله هنا أنه إذا أراد أن يقوم حملها، وقام وهو حامل لها، وإذا أراد أن يركع وضعها على الأرض بيديه أو بيده، هذا أيضاً شيء من الشغل، وشيء من العمل، فمثل هذا العمل اليسير يتسامح فيه، ويعرف منه أنه لا ينافي الخشوع في الصلاة، وليس في هذه الحركة ما يبطل الصلاة.
ثبت أن حذيفة رضي الله عنه رأى رجلاً يكثر الحركة، فقال: منذ كم تصلي؟ قال: منذ أربعين سنة، فقال له: (لو مت مت على غير الفطرة)
وفي حديث أنه عليه السلام رأى رجلاً كثير الحركة فقال: (لو خشع قلب هذا لسكنت جوارحه).
فأما الحركة اليسيرة مثل هذه الحركة فلا تنافي الصلاة، فقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام في صلاة النفل إذا طرقت عائشة الباب تقدم وفتح الباب لها، يعني: خطوة أو نصف خطوة ومد بيده، وفتح الباب لها، هذا أيضاً عمل يسير.
وثبت أيضاً أنه عليه السلام كان مرة يصلي وقد بعث أحد أصحابه يلتمس خبراً، فجعل يلتفت إلى ذلك الشعب الذي بعثه إليه، وينظر هل جاء؟ فمثل هذا الالتفات اليسير لا يبطل الصلاة.
فأمر المصلي بأن يجعل يديه على صدره، فيمسك إحداهما بالأخرى، ويضعهما على صدره حتى يسكن حركته، ويصف قدميه ولا يراوح بينهما إلا لضرورة.
وأمر أيضاً بأن ينظر إلى موضع سجوده؛ ليكون ذلك أجمع لقلبه حتى لا يتشتت عليه إذا رفع بصره، ونهي عن رفع البصر، وعن النظر إلى السماء، حتى هدد على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء أو لتخطفن)، وفي رواية: (أو لا ترجع إليهم أبصارهم).
وذلك كله محافظة على أسباب حضور القلب، وعلى الخشوع في الصلاة.
ومعلوم أن الذي يحمل شيئاً ثقيلاً كحمل الطفل أو نحو ذلك، أنه غالباً يحمله بيد، فاليد الأخرى لا يمكنه أن يقبضها، فدل على أن قبض اليدين ووضعهما على البطن من السنن، وتسقط إذا اشتغل الإنسان بمثل هذا، أو إذا لم يتيسر له ذلك لبعض الأسباب، هذا عند الجمهور.
والمذهب المالكي أنه لا يسن، فتجد المالكية يسبلون أيديهم في صلاتهم: يدلون أيديهم، ولا يرفعونها ولا يقبضونها، ويزعمون أن ذلك هو مذهب مالك .
وقد ذكر العلماء أن مالكاً رحمه الله لم يكن يقبض يديه لعذر، لا أن ذلك من السنة، وذلك لمرض في يديه؛ لأنه لما أوذي وضرب بأمر بعض الخلفاء كانت الضربات في عضديه وفي يديه وفي ذراعيه وتأثر منها، هذا هو الظاهر، فرأى أن الأيسر والأسهل عليه أن يدلي يديه ويسبلهما في حالة الوقوف بعد الرفع من الركوع.
فأخذ ذلك بعض أصحابه وجعلوا ذلك سنة له، واقتدوا به في ذلك، هكذا اعتذر بعضهم، وإلا فقد ثبت في الحديث الذي في الموطأ نفسه أنه نقل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبض يده اليسرى بيده اليمنى)، ولا يليق أن يروي ذلك ويترك العمل به.
فعلى كل حال هذا من سنن الصلاة، أو من صفات الصلاة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر