عرفنا أن القدر على درجتين، وكل درجة -كما قال الشيخ رحمه الله- تتضمن شيئين، والدرجة الأولى: علم الله جل وعلا، وأنه عليم بكل شيء.
والثانية: كتابته لعلمه المتعلق بالمخلوقات، وسبق أن قلنا: إن منكر هذه الدرجة كافر، وأنه كان هناك من ينكر أن يكون الله جل وعلا عليماً بكل شيء، وأنه كتب كل شيء؛ لأنهم يقولون: إن الله يعلم الأشياء إذا وجدت، ولا يعلمها سابقاً، ويقول الشيخ: منكر ذلك اليوم قليل. يعني: أنه يوجد أناس من هذا النوع، وهؤلاء لا شك في كفرهم، وهم ينكرون العلم والكتابة، وقد جاءت النصوص في كتاب الله جل وعلا بإثبات أن الله كتب كل شيء، وكذلك في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
الدرجة الثانية: وهي تتضمن شيئين: وهي مشيئته الشاملة، وخلقه لكل شيء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهذا في كلا الدرجتين خلاف قول أهل البدع من المعتزلة ونحوهم، فالمعتزلة لا يؤمنون بعموم المشيئة، ولا يؤمنون بعموم الخلق، ولكن هل يحكم بأن هؤلاء كفار لأجل ذلك؟
لا شك أن النصوص ظاهرة وجلية في أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا يقع شيء إلا بمشيئته، وكذلك كونه الخالق وحده وما سواه مخلوق، وإنما وقعوا في شبه من باب القياس والمرض الذي في قلوبهم، فقالوا: إن الله لا يشاء الشرور، ولا يشاء الكفر، ولا يشاء المعاصي، وزعموا أن هذا من باب التنزيه، فالسبب الذي منع من تكفيرهم أنهم قصدوا -بزعمهم- أن ينزهوا الله جل وعلا، وإن كانوا لم يفهموا ذلك، إلا أن يكون داعية إلى بدعته، وقد سبق أن قلنا: إن من أئمة هؤلاء ومؤسسي بدعتهم زنادقة، أرادوا هدم الإسلام، فمثل هؤلاء لا شك في كفرهم، أما الذين أرادوا مقاصد حسنة وإن أخطئوا فهؤلاء لا يكفرون، وهؤلاء هم الذين رد عليهم العلماء في وجوه الشبهة حيث قالوا: (إن الله لا يشاء الكفر، وإنما الكفر بمشيئة الإنسان، فالله يشاء من الإنسان أن يؤمن، ولكن يلزم على هذا أن مشيئة الكافر هي التي وقعت، ومشيئة الله لم تقع، وهذا نقص لا يجوز أن يكون).
ومثل ذلك يقال في المعاصي، وكذلك قولهم في الخلق، وأن الإنسان يخلق أفعاله، وأنها لم تدخل في عموم خلق الله، وهذا أيضاً ضلال؛ لأن الله أخبرنا أنه خالق كل شيء، وأنه خلق الإنسان وخلق صفاته وأعماله، وسبق أن عرفنا الدليل على ثبوت ذلك بالعقل والنص.
بقي أنهم يقولون: إننا إذا قلنا: إن الله قدّر على الإنسان عمله وعذبه عليه، فإن هذا يكون داخلاً في باب الظلم، والظلم من حيث هو اختلف الناس في تفسيره.
كيف ينفي الرب جل وعلا عن نفسه شيئاً لا يقع، كما قال جل وعلا: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112]، يقول المفسرون في هذه الآية: الظلم هو أن تكتب عليه سيئة لم يعملها، والهضم: أن يؤخذ من حسناته التي عملها، وكذلك يقول جل وعلا في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)، فهل يحرم شيئاً لا يمكن وقوعه، هذا لا يمكن!
وقالوا: إذا قال الله جل وعلا: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8] يعني: إنه يسميه ضالاً، أو يسميه مهتدياً!!
وهذا كلام سخيف جداً وتأويل بارد غير مقبول! فهم يقولون: إنما هي مجرد تسمية، وقالوا في قوله جل وعلا: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7]، التزيين والتحبيب: هو أن يبين لهم الرغبة فيه وما يترتب عليه، هذا هو التزيين والتحسين عندهم، وهو خلاف الواقع، وهذا ليس تأويلاً، بل هو تحريف لكلام الله جل وعلا؛ لأن اللفظ لا يحتمل ذلك، وإنما التزيين والتحسين هو أن يُخلق في القلب تحبيبه وتزيينه له، فيصير محباً له، ويصير مزيناً في عينه، وراغباً فيه، فالعمل يتبع ذلك، ولهذا قال: فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات:8] فبين أن هذا من فضله.
فإذا قالوا: إذا كان منعه ذلك فعذبه عليه يكون ظلماً.
فنجيبهم بقولنا: إن كان منعه حقه كان ذلك ظلماً، ولكنه منعه فضله، وفضل الله يؤتيه من يشاء، وقد أعطاه القدرة والعقل والاستطاعة على العمل، ولكن هو في نفسه امتنع من العمل، فاستحق بذلك العذاب، فهو يعذب بعمله، والله لم يمنعه من العمل، وإنما هو امتنع باختياره، وكل أحد يعرف ذلك من نفسه، فهو إن عمل فهو يعمل باختياره وبقدرته، وإن أحجم عن العمل وامتنع فهو يحجم باختياره وبقدرته.
أما توفيق الله وتزيينه الإيمان لعبده، أو عدم ختمه على قلبه فهذا فضل الله، والله أعلم حيث يضع فضله، فإنه لا يضعه إلا في موضعه؛ لأنه حكيم، وليس كل أحد يصلح أن يكون محلاً للفضل.
ولهذا لما دخل أبو إسحاق الإسفرايني على عبد الجبار المعتزلي ، وكان في مجلس الصاحب ابن عباد، وفيه جمع من الأدباء والعلماء، قال عبد الجبار في نفسه: إنه سوف يخزي أهل السنة في شخص أبي إسحاق، فلما وقف عليهم وسلم قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، وقول عبد الجبار هذا يعني به أن أهل السنة يقولون: إن الله قدر على الكافر وعلى العاصي الكفر والمعاصي ثم عاقبه على ذلك، فهذه فحشاء، وقد فهم مراده أبو إسحاق فرد على الفور: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء، وكان هذا الجواب مسكتاً له. وهذا القول يعني: أنت وأصحابك تقولون: إنه يقع في الكون ما لا يشاؤه الله من الكفر والمعاصي، ونحن ننزه الله عن ذلك، حيث إنكم صرتم كالمجوس عندما جعلتم مع الله خالقين، تعالى الله وتقدس. فأيهما أخزى؟
عند ذلك قال عبد الجبار : أيريد ربنا أن يعصى؟
فقال له أبو إسحاق : أيعصى ربنا قسراً -أي: وهو لا يريد- فيحدث في ملكه ما لا يشاء؟
فقال له عبد الجبار : أرأيت إن حكم عليّ بالردى، ومنعني الهدى؛ أحسن إلي أم أساء؟
فقال له أبو إسحاق : إن كان منعك حقك فقد أساء، وإن كان منعك ما هو له، فهو يؤتي فضله من يشاء!
عند ذلك قال الحاضرون: والله ليس عن هذا جواب، فكأنما ألقم المعتزلي بحجر فسكت، فصار الخزي له وليس لـأبي إسحاق .
فالمقصود: أن حجة هؤلاء داحضة؛ لأنهم مبتدعون، وليس معهم إلا مجرد القياس أو الشبهات والهوى، وهذا يبطله الحق إذا جاء، والله جل وعلا يقول: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء:18]، قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49]، فإذا جاء الحق ذهب الباطل وزهق وانتهى، فهذه الشبهة داحضة، وليست في الواقع شبهة تستحق الوقوف عندها، ومع ذلك فهم قد ضلوا فيها.
فلم يفرقوا بين العقلاء الذين لهم اختيار وبين المسخر المدبر الذي لا اختيار له ولا عقل، وإنما سخره الله جل وعلا بتسخيره وقدرته، لم يفرقوا بين هذا وهذا، وهذا ضلال كبير، وهؤلاء قابلوا أولئك تماماً، وقالوا: إن الإنسان لا اختيار له ولا قدرة، ويعنون: أن أفعاله كحركة الشجرة التي تكون في مهب الريح، واستدلوا على أقوالهم بشبهات، وكلا الطائفتين ضالة، ولكن من هؤلاء فريق هم أخبث الطوائف وأضلها؛ حيث وجد من هؤلاء طائفة تقول: إن الإنسان لا يخرج عن الطاعة إن تحرك، فهو في طاعة سواء عصى أو أطاع! لأنه إن عصى الأمر الشرعي فقد أطاع الأمر القدري، فجعلوا الأمر الشرعي معارضاً للأمر القدري؛ ولهذا يقول أحدهم:
أصبحت منفعلاً لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات
يعني: أن كل ما يصدر منه فهو طاعة، وهذا كفر ما وصل إليه كفر إبليس -نسأل الله العافية- لأنه لم يفرق بين الإيمان وبين الضلال.. بين الكفر وبين الهدى، إذ جعله كله مطلوب، وكله طاعة! والإنسان إذا لم يتقيد بهدى الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ضلاله لا يمكن أن ينتهي عند حد، والشيطان قال لربه جل وعلا: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي [الأعراف:16]، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [النساء:119]، والله جل وعلا أمره أن يسجد لآدم، فهل سجوده لآدم ممتنع لا يستطيعه أم أنه تركه باختياره؟ تركه مختاراً مريداً؛ ولهذا غيره من الملائكة سجدوا، وهو امتنع، وقال: أنا خير منه؛ وكأنه يقول: ليس هذا بعدل، إنما العدل أن تنعكس القضية، فيكون آدم هو الذي يؤمر أن يسجد لي؛ لأني خير منه، فإني مخلوق من النار، وهو خلق من الطين، والطين وضيع يوطأ بالأقدام ويمتهن، أما النار فهي تعلو وترتفع، ولها قوة الإحراق، فلهذا يقولون: إن أول من قاس إبليس.
والمقصود: أن إبليس هو الذي غوى مختاراً بإرادته، والإنسان لم يكلف إلا ما يستطيعه، والحق وسط بين هاتين الطائفتين الباطلتين اللتين ضلتا، وهو أن الله جل وعلا عليمٌ بكل شيء، وكتب كل شيء، وأن مشيئته نافذة فلا يقع في الكون إلا ما يشاء ويريد، وأنه الخالق وحده، وقد خلق الإنسان، وخلق له أعمالاً، وجعله يفعلها باختياره وإرادته، فجعل له اختياراً، وجعل له قدرة، فإذا وجدت الإرادة والقدرة مع الاختيار، فلا يتخلف المراد، والله هو الذي خلق له هذه الأشياء، وهذا هو الحق الذي يفصل بين الضلال، ودائماً الحق يكون وسطاً بين ضلالتين.
الجواب: أولاً: لوم القدر لا يجوز بحال من الأحوال، كما في الحديث القدسي الذي في الصحيحين يقول الله جل وعلا: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب ليله ونهاره)، ومسبة الدهر هي لوم القدر.
يقولون -مثلاً- أصابتنا الأيام، والسنين نحوس وكذا، وقد يلعنون الأيام والساعات كما يحدث لبعض الناس اليوم.
الجواب: الشبهة من عدم العلم في الواقع، والسائل ما تصور المسألة كما ينبغي، والواجب أن الإنسان يبحث ويقرأ ويسأل حتى يعرف وإلا الأمر واضح في هذا، فعلم الله جل وعلا نوعان:
علم أن هذا المخلوق سيوجد في وقت كذا، وأنه سيعمل كذا وكذا فكتب علمه فيه، وعلم الله لم يرغمه على عمل المعصية؛ لأن عمل المعصية وقع باختياره، وهو الذي اختار العمل، ولا أحد أجبره على أن يعمل المعصية أو أن يترك الطاعة، وإنما هو أحب ذلك وقصده باختياره وإرادته، فيعاقب على هذا، وكون الله جل وعلا قدر عليه فهو -كما قلنا- علمه وكتابته لعلمه وكونه خلقه مختاراً لهذا الفعل، ومريداً له باختياره وفعله، فإذا عذبه فهو يعذبه بفعله وبإجرامه.
مثال ذلك: لوكان لرجل ولد فأمره بإصلاح ماله، وهو يستطيع ذلك بكل سهولة، فذهب وأحرقه، ورماه في البحر، فهل يقتنع الوالد بأن هذا الشيء مقدّر مكتوب ويسكت عنه أو أنه يحنق عليه، ويؤدبه، ويلومه، ويضربه لأنه فعله باختياره؟
إذاً: الفعل فعل الإنسان، فلا يجوز أن يكون الإنسان مع الطاعة مرجئاً، ومع المعصية قدرياً، ويقول: هذه مكتوبة عليّ بقدر؛ بل ينظر إلى عمله هو.
أما كونك تقول: (لماذا ما وفقت؟)، فلا يجوز أن تقول هذا؛ لأن التوفيق فضل الله، وعليك أن تسأله إياه، وترغب إليه به، أما إذا منعته فهو من جراء أفعالك، وإنما أوتيت من نفسك فيكون اللوم عليك، وليس اللوم على الله جل وعلا ولا على الأقدار.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر