إسلام ويب

القواعد لابن اللحام [25]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اختلف علماء الأصول في دلالة الأمر بعد الاستئناف، فعال بعضهم: إنه يفيد الإباحة. والأمر بماهية مخصوصة بعد سؤال التعليم يفيد الإباحة ولا يفيد الوجوب كما قال الجمهور. وينبغي مراعاة سياق اللفظ عند تقيد الأمر بمرة أو تكرار، وإذا لم يقيد فقد ذكر بعض الأصوليين أنه يفيد التكرار، والقول الثاني أنه يفيد المرة لا التكرار، وقول ثالث أنه يفيد المرة فقط.

    1.   

    القاعدة الخامسة والأربعون: دلالة الأمر بعد الاستئذان وسؤال التعليم

    الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد.

    كنا قد توقفنا عند القاعدة الخامسة والأربعين من كتاب القواعد لـابن اللحام.

    الملقي: قال المؤلف رحمنا الله وإياه: [القاعدة الخامسة والأربعون: الأمر المطلق إذا ورد بعد الاستئذان فماذا يقتضي؟ قاعدة: إذا فرعنا على أن الأمر المجرد للوجوب، فوجد أمر بعد استئذان فإنه لا يقتضي الوجوب، بل الإباحة، ذكره القاضي محل وفاق، قلت: وكذلك ابن عقيل ، وإطلاق جماعة: ظاهره يقتضي الوجوب، والأمر بماهية مخصوصة بعد سؤال تعليم شبيه في المعنى بالأمر بعد الاستئذان والله أعلم.

    إذا تقرر هذا فلا يستقيم قول القاضي و ابن عقيل في استدلالهما على نقض الوضوء بلحم الإبل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم ( لما سئل عن التوضؤ من لحوم الإبل، فقال: نعم، فتوضأ من لحوم الإبل )، ومما يقوي الإشكال أن في الحديث الأمر بالصلاة في مرابض الغنم، وهو بعد سؤال، ولا يجب بلا خلاف، بل لا يستحب، فإن قلت: إذا كان كذلك فلم تستحبون الوضوء منه؟ والاستحباب حكم شرعي يفتقر إلى دليل، وعندكم الأمر يقتضي الإباحة؟

    قلت: إذا قيل باستحبابه فلدليل غير هذا الأمر، وهو أن الأكل من لحوم الإبل يورث قوة نارية؛ فيناسب أن تطفأ بالماء كالوضوء عند الغضب، ولو كان الوضوء من لحوم الإبل واجباً على الأمة -وكلهم كانوا يأكلون لحم الإبل- لم يؤخر بيان وجوبه حتى يسأله سائل فيجيبه، فعلم أن مقصوده أن الوضوء من لحومها مشروع، وهو حق، والله أعلم.

    وقد يقال: الحديث إنما ذكر فيه بيان وجوب ما يتوضأ منه، بدليل ( أنه لما سئل عن الوضوء من لحوم الغنم قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ )، مع أن التوضؤ من لحوم الغنم مباح، فلما خير في لحوم الغنم وأمر بالتوضؤ من لحوم الإبل دل على أن الأمر ليس هو لمجرد الإذن، بل للطلب الجازم والله أعلم.

    وأما الأمر بماهية مخصوصة بعد سؤال تعليم فإنه لا يقتضي الوجوب على ما سبق في إلحاقه بالأمر بعد الاستئذان، وحينئذ لا يستقيم استدلال أصحابنا على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: ( يا رسول الله! قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد... )، الحديث.

    نعم إن ثبت الوجوب من خارج فيكون هذا الأمر للوجوب؛ لأنه بيان لكيفية واجبة والله أعلم].

    دلالة الأمر بعد الاستئذان

    الشيخ: نحن تحدثنا عن الأمر المجرد، هل يفيد الوجوب أم الاستحباب أم الإباحة أم مطلق الأمر الذي يسمى مشتركاً؟

    وقلنا: الذي يظهر والله أعلم أنه يفيد الوجوب، فعندنا الآن مسألة أن القرائن ليست موجودة في الأمر المجرد، فمن ذلك: إذا ورد الأمر بعد استئذان، يعني: استأذن في السؤال على لفظة الشارع، فأمر به، فهل الأمر به يقال عنه: إن هذا الأمر في حكم الأمر المجرد، أم إن هذا الأمر خرج بعد استئذان فكان السؤال للإباحة من عدمها، فمجيء الأمر بها دليل على الإباحة، أو لا؟ يقول المؤلف: ذكره ابن عقيل محل وفاق؛ أنه للإباحة، وذكر ابن عقيل في كتاب العدة في مسألة الأمر بعد الحظر وأنه يقتضي الإباحة، وقال في الحاشية..

    الملقي: [حيث أجاب على بعض المخالفين في مسألة الأمر بعد الحظر، وأنه يقتضي الإباحة بقوله: قيل: ليس نقول: إن لفظ الحظر أفاد الإباحة، وإنما حصلت الإباحة به، وبما بعده من صيغة الأمر، كما إذا استأذنه عبده في فعل شيء، فقال له: افعل، حملناه على الإباحة بالأمرين جميعاً: الإذن والاستئذان].

    الشيخ: هذا هو الإشكال الوارد، بمعنى: هل السؤال معاد فيه الجواب، أم العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟ بمعنى: إذا قلنا: إن السؤال معاد فيه الجواب؛ فإنما السؤال يأخذ حكم الجواب، فالسؤال كان عن ماذا؟ هل كان عن الوجوب؟ أم كان عن الإذن في الأكل أو الإذن في الوضوء، أو الإذن في غير ذلك؟

    فإن قلنا: إن السؤال معاد فيه الجواب؛ فإن جواب النبي صلى الله عليه وسلم لا يفيد العموم، وإنما يفيد مطلق ما سئل عنه، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن مسألة فأجاب، فمن قال: إن السؤال معاد فيه الجواب؛ قال: إن الأمر من الشارع الذي خرج بعد سؤال إنما يفيد الإباحة؛ لأن السؤال لمطلق الإباحة، ولهذا عده القاضي و ابن عقيل محل وفاق.

    ثم قال المؤلف: (وإطلاق جماعة ظاهره يقتضي الوجوب)؛ لأنه إنما اعتبر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والذي يظهر والله أعلم أن يقال: إن الجواب إذا خرج بعد استئذان فإن كان الجواب فيه التفصيل من الشارع فهذا يفيد أكثر من الإباحة، وإن كان الجواب ليس فيه التفصيل صار يطلق على الإباحة.

    مثال: في حديث جابر بن سمرة ، وحديث البراء بن عازب ( قال: يا رسول الله! أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم توضأ من لحوم الإبل )، فكانت نعم هي جواب السؤال، وكان الأمر بعدها يفيد مطلق عموم اللفظ، وقوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل: ( أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: نعم، إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ )، فجواب النبي صلى الله عليه وسلم هو بحد ذاته يفيد مطلق الإباحة.

    وهذا يدل على أن الأمر بعد استئذان إن كان قد خرج ابتداءً قلنا: يفيد الإباحة، وإن كان خرج مع التفصيل؛ بمعنى أنه: أجاب على سؤاله وزاد، فإنما يفيد مطلق الأمر، فعندما قال: ( أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، فتوضأ من لحوم الإبل )، فصار هذا الثاني أمراً كأنه بلا قرينة، فيدخل في قاعدة الأمر المطلق، ولهذا قال: (وإطلاق جماعة ظاهره الوجوب)، وهذا هو الذي يظهر والله أعلم.

    دلالة الأمر بعد سؤال التعليم

    ثم قال المؤلف: (والأمر بماهية مخصوصة بعد سؤال تعليم، شبيه في المعنى بالأمر بعد الاستئذان)، بمعنى: إذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر وعن صفة فهذا الأمر بماهية مخصوصة بعد سؤال تعليم قالوا: يفيد الإباحة، مثل: ( قالوا: يا رسول الله! أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نسلم عليك؟ )، هذا معناه بماهية مخصوصة للتعليم، ( قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد )، فقال الجمهور: إن هذا لا يفيد الوجوب.

    ولكن عدم الأخذ بالوجوب ليس فقط لأن الأمر بماهية مخصوصة بعد سؤال يفيد الإباحة، ولكن لأن الصحابة سألوا عن كيفية الصلاة، فالسؤال مطلق، ولم يقولوا: وكيف نصلي عليك في صلاتنا في التشهد الأخير؟ وإلا فقد جاء عند ابن خزيمة أنهم قالوا: ( في صلاتنا )، لكن كلمة (في صلاتنا) يحتمل أن تكون في الصلاة المعروفة، ويحتمل أن تكون في دعائنا، وأما أن تكون الصلاة المأمور بها في التشهد الأخير فهذا لم يكن في الحديث، فقلنا: بأنه لا يدل على وجوب الصلاة الإبراهيمية أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير.

    الإشكال عندي: عندما قال المؤلف: (إذا تقرر فلا يستقيم قول القاضي و ابن عقيل في استدلالهما على نقض الوضوء بلحم الإبل)، هو يقول: إن القاضي عنده أن الأمر بعد سؤال استئذان يفيد الإباحة، يقول: مع العلم أن الحنابلة يرون نقض الوضوء من لحم الإبل، فلا يستقيم لهم الاستدلال بقوله: ( نعم فتوضأ من لحوم الإبل )، وقلنا: إن الجواب على هذا: إن كان الجواب قد خرج بعد استئذان، إن كان ليس فيه تفصيل فإنه يفيد الإباحة، وإن كان فيه تفصيل -بمعنى أنه أجاب وزاد- فإنه لا يفيد الإباحة، بل يرجع الأمر إلى مطلق الأمر.

    وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( نعم فتوضأ من لحوم الإبل ).

    ثم قال المؤلف: (ومما يقوي الإشكال أن في الحديث الأمر بالصلاة في مرابض الغنم، وهو بعد سؤال، ولا يجب بلا خلاف، بل لا يستحب)؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي قال ذلك، قال: ( إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ )، فليس فيه أمر مطلق، بل فيه الإباحة.

    الإشكال عند المؤلف يقول: (فإن قلت: إذا كان كذلك فلم تستحبون الوضوء منه والاستحباب حكم شرعي يفتقر إلى دليل، وعندكم الأمر يقتضي الإباحة)، الوضوء من لحم الإبل ليس بمستحب بل هو واجب.

    وقوله: (إذا قيل باستحبابه فبدليل غير هذا الأمر)، هذا يفيد الحكمة من التشريع، الذي نحن نسميه فلسفة التشريع، وهذه الحكمة لا يلزم منها الوجوب، أن لحوم الإبل تورث قوةً نارية، كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله، فالمناسب أن تطفأ بالماء، لكن هذا من باب الحكمة والفلسفة في التشريع، لكن أنى يفيد الوجوب؟ فهذا لا يفيد.

    والذي يظهر والله أعلم: أن الأمر إذا خرج بعد سؤال ابتداءً؛ فيقال فيه على الخلاف، وأما إن جاء الأمر ليس معقباً بعد السؤال فهذا لا يفيد الإباحة: ( نعم فتوضأ )، فهل جاء الأمر متعقباً السؤال؟ لا، ( نعم فتوضأ )، إذاً التعقيب جاء بعد ( نعم فتوضأ )، فهذا هو الأصل، والله أعلم.

    وأما قول المؤلف: (وقد يقال: الحديث إنما ذكر فيه بيان وجوب ما يتوضأ منه)، هذا أحسن ما يقال فيه، إن السؤال إنما جيء به لبيان ما يجب أن يتوضأ منه، ولهذا لما سئل عما يجب أن يتوضأ منه، قال: ( فإن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ في لحوم الغنم )، مع أن التوضؤ من لحوم الغنم مباح، فلما خير في لحم الغنم وأمر بالتوضؤ من لحم الإبل دل على أن الأمر ليس هو لمجرد الإذن، بل للطلب الجازم.

    وهذا يفيد ما قلناه: وهو أن الأمر لم يأت تعقيباً للسؤال، أو إن شئت فقل: إن جواب الأمر لم يأت متعقباً للسؤال، بل جاء تال على جواب آخر، ما هو الجواب الآخر؟ ( نعم فتوضأ ).

    يقول المؤلف: (وأما الأمر بماهية مخصوصة بعد سؤال تعليم، فإنه لا يقتضي الوجوب على ما سبق في إلحاقه بالأمر).

    لكني أقول: إن هذا المثال لا يستقيم على هذه القاعدة، وذلك لأن مطلق الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة، لازم نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن متى؟ إما أن يكون بعد ذكره؛ لقوله: ( البخيل من ذكرت عنده ولم يصل عليّ )، أو نصلي عليه مطلقاً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، فلازم أن نصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن لم يحدد زمناً ولا مكاناً.

    وهذا الحديث لا يفيد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، وبالتالي فلا يستقيم هذا المثال لهذه القاعدة والله أعلم، ولهذا قال المؤلف: (نعم، إن ثبت الوجوب من خارج فيكون هذا الأمر للوجوب؛ لأنه بيان لكيفية واجبة)، ( أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك في صلاتنا؟ ) ، ومن المعلوم أن الله قال له: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب:56]، وهذا لا يفيد مطلق الوجوب؛ لأنك لا يلزم أن تصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم في كل وقت، إنما يفيد أن من حق النبي صلى الله عليه وسلم عليك أن تصلي عليه، ولهذا قال: ( ثم سلوا لي الوسيلة )، والله أعلم.

    1.   

    القاعدة السادسة والأربعون: دلالة الأمر المطلق على العدد

    الملقي: [القاعدة السادسة والأربعون: الأمر المطلق إذا لم يقيد بمرة أو تكرار فماذا يقتضي؟

    قاعدة: الأمر إذا ورد مقيداً بالمرة أو بالتكرار حمل عليه، ولم أر فيه خلافاً، وإن ورد مقيداً بشرط فسيأتي، وإن كان مطلقاً؛ لم يقيد بشيء فماذا يقتضي؟ في ذلك مذاهب].

    الشيخ: يقول المؤلف: (الأمر إذا ورد مقيداً بالمرة أو بالتكرار حمل عليه، ولم أر فيه خلافاً)، وهذا يسمى عند العلماء: تحرير محل النزاع، وإن ورد مقيداً بشرط فسيأتي، وإن كان مطلقاً هل يفيد التكرار أم لا؟

    الملقي: [في ذلك مذاهب: أحدها وهو الذي ذكره ابن عقيل : مذهب أحمد وأصحابه، وحكاه القاضي في كتاب الروايتين والوجهين عن شيخه أبي عبد الله بن حامد أنه يقتضي التكرار، وهذا أشهر قولي القاضي، وقول أكثر أتباعه، وحكاه في المسودة عن أكثر أصحابنا، وهو رأي الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني ، لكن بحسب الطاقة والإمكان كما قال أبو البركات و الآمدي ، وبالغ القاضي في ذلك، حتى منع حسن الاستفهام عن التكرار، ثم سلمه.

    قلت: وفي منعه نظر؛ إذ قد ثبت في السنة الصحيحة؛ ولأنه قد يستفهم عما الظاهر دخوله، كأفراد العام.

    والمذهب الثاني: لا يقتضي التكرار، ولا يدل على المرة ولا على التكرار، بل يفيد طلب الماهية من غير إشعار بتكرار أو مرة، إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة، فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به، واختاره أبو محمد المقدسي ، وذكر أبو محمد التميمي : أن مذهب أحمد أن الأمر لا يقتضي التكرار إلا بقرينة، ولم يفرق بين مطلق ومعلق بشرط، لكن قد يكون التعليق عنده قرينة، واختاره الإمام فخر الدين و الآمدي و ابن الحاجب ، و البيضاوي وغيرهم].

    الشيخ: الأمر المطلق هل يفيد التكرار؟

    نسب إلى القاضي وإلى مذهب أحمد أنه يفيد التكرار إذا لم توجد قرينة، فإذا قال الله سبحانه وتعالى: افعلوا؛ فإنك مأمور أن تفعل أكثر من مرة، ومن المعلوم أن الأمر المجرد يخرج منه المكلف من عهدة الطلب بما يطلق عليه فعل الأمر. هذه قاعدة، أقل ما يتناوله اسم اللفظ.

    فهذا يدل على أن الأمر لا يفيد التكرار، وهو اختيار أبي محمد ، وهو أظهر والله أعلم؛ لأنه لو أفاد التكرار للزم منه عدم ذكر الوقت؛ لأنك مأمور به بلا وقت، والذي يظهر والله أعلم: هو القول الثاني، ولهذا كان أكثر علماء الشافعية من علماء الأصول عليه، وكذلك المالكية.

    المذهب الثالث قال: إنه يدل على المرة، واختاره أبو الخطاب ، والذي يظهر لي والله أعلم أنه لا يفيد المرة ولا مرتين ولا شيئاً، وإنما يفيد أقل ما يتناوله اسم الفعل أو اللفظ، فإذا قال: افعل، أو اشرب، فيدل على أقل ما يتناول اسم لفظ الشرب؛ فيحصل به هذا الأمر، ولا يلزم أن تفعل مرة ثانية.

    لكن تكراره إن كان مقصوداً به التعبد فلا حرج والله أعلم.

    فإن قيل: ولماذا لا نقول: إنه يدل على المرة؟

    نقول: إذا قلت: إنه يدل على المرة، فكأن مطلق الأمر يدل على عدد، والأقرب أنه لا علاقة له بالعدد، إنما علاقته بدلالة اللفظ.

    إذاً: إذا قصرته على المرة الواحدة؛ دل على أن الفعل يدل على الأمر المطلق وليس مطلق الأمر، فإذا قلت: إنه يدل على المرة أو المرتين؛ فكأن مطلق الأمر يفيد عدداً، والأقرب أنه لا علاقة له بالعدد، إنما علاقته بدلالة اللفظ، ودلالة اللفظ يطلق عليه بما يفيد ما يتناول اسم ذلك اللفظ.

    فمثلاً: الله قال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، هل الإقامة مرة، بما يطلق عليه اسم الإقامة، أم هي الإقامة المطلقة؟

    لا يوجد ما يدل على هذا، فدل ذلك على أنه ليس له علاقة بالعدد، ولكن له علاقة باللفظ.

    الملقي: [المذهب الثالث: أنه يدل على المرة، واختاره أبو الخطاب، ثم أكثر كلامه يحتمل التكرار، وهو قول أكثر أصحاب الشافعي ، كما حكى الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع، ونقل القيرواني في المستوعب عن الشيخ أبي حامد : أنه مقتضى قول الشافعي .

    المذهب الرابع: التوقف، وعلى هذا قولان: أحدهما: التوقف؛ لكونه مشتركاً بين المرة والتكرار، والثاني: أنه لأحدهما ولا نعرفه. وقال أبو البركات في المسودة: إن إمام الحرمين نصر التوقف فيما زاد عن المرة الواحدة، وقال: لست أنفيه ولا أثبته، قال أبو البركات : وحقيقة ذلك عندي يرجع إلى قول من قال: لا يقتضي التكرار].

    الشيخ: نعم، لا يقتضي التكرار.

    الملقي: [قلت: ذكر بعضهم أن على قول الوقف يمتنع إعماله، وليس بصحيح على ما ذكره أبو البركات ، وعلى قول من قال: إنه لأحدهما، ولا نعرفه، فلا يمتنع إعماله أيضاً؛ لأنه يفيد طلب الماهية، لكن هل هي ماهية متكررة؟ أو ماهية واحدة؟ والله أعلم].

    الشيخ: طلب الماهية هل تفيد الماهية المطلقة أم مطلق الماهية؟

    إذا قلنا: تفيد الماهية المطلقة فإنك مأمور أن تفعل هذا المأمور بالواجب والركن والمستحب، وليس كذلك، ولهذا قال: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج:77]، والخير منه ما هو ركن، ومنه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، وقد ذكرنا هذه المسألة: أنه لا معنى إلا مطلق الأمر، فلا علاقة له بالوجوب من عدمه كما مر معنا، فكذلك هنا: أن الأمر إن كان محدداً فيه فإنما يفيد عدم التكرار، ولا نقول مرةً ولا مرتين؛ لأن العدد لا علاقة له باللفظ فيما يظهر والله أعلم.

    ولعل مراد من قال: يفيد المرة، هو هذا، وبالتالي فإن نسبة هذا القول إلى أكثر المالكية أو أكثر الشافعية، إنما أرادوا به التوضيح، ولم يريدوا به معنى العدد والله أعلم.

    الأمر المعلق على شرط ومدى دلالته على التكرار

    الملقي: [مسألة: الأمر المعلق على شرط.

    وإن ورد معلقاً على شرط؛ فإن قلنا: المطلق يقتضي التكرار فالمعلق على شرط عند تكرار شرطه يقتضي].

    الشيخ: المعلق على شرط المقصود به: المعلق على شرط، أو على صفة، أو على أمر، فهذا هل يفيد التكرار من عدمه؟ فإن قلنا: المطلق يقتضي التكرار؛ فالمعلق على شرط عند تكرار شرطه يقتضي التكرار بطريق الأولى.

    الملقي: [وإن قلنا: المطلق لا يدخل التكرار ولا يدفعه، فهل يقتضي هنا أم لا؟

    في ذلك مذهبان: أحدهما: لا يقتضيه، أيضاً اختاره ابن الحاجب تبعاً للآمدي .

    المذهب الثاني: يقتضي التكرار بتكرار شرطه، وحكاه في المسودة عن بعض الحنفية وبعض الشافعية، واختاره هو وحفيده].

    الشيخ: هذا الذي يظهر والله أعلم، أن الأمر المعلق على شرط يفيد التكرار، (وحفيده) يعني: ابن تيمية .

    الملقي: [وعلى هذا المذهب مذهبان: أحدهما: أن إفادة التكرار من جهة اللفظ، أي أن هذا اللفظ وضع للتكرار، والثاني: أن إفادة التكرار من جهة القياس لا اللفظ، قال في المحصول: هذا هو المختار، وجزم به البيضاوي ، وإن علق على علة ثابتة وجب تكراره بتكرارها اتفاقاً، قاله ابن الحاجب تبعاً للآمدي ].

    الشيخ: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول )، فهل هذا معلق على شرط السماع وبالتالي كلما سمع المؤذن ردد معه، أو لا يفيد التكرار؟ إذا قلنا: إن (إذا) ليست شرطية؛ فإنها غير داخلة في المسألة، وإن قلنا: إنها شرطية، لكنها ليست جازمة، ظرف لما يستقبل من الزمان رجعنا إلى قاعدة الأمر المطلق هل يفيد التكرار من عدمه، ولا شك أن إجابة المؤذن لكل من سمع ليس هو المقصود، بدليل أنك لو سمعت المؤذن في غير وقته فإنك لا تجيبه، فدل على أن هذا ليس مقصوداً به الأمر المعلق على شرط، والله أعلم.

    إذاً: هل إذا قال: حي على الصلاة، تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، كأنك تجيبه؛ لأجل أن تذهب، لكن ليس كل مؤذن تجيبه. هذا الإشكال.

    والأذان عند الفقهاء على قولين: فقائل يقول: إعلام بدخول الوقت، فيلزم منه ألا تؤذن إذا دخل الوقت، وهذا مراد، ولكن الصحيح أنه الدعاء والنداء للصلاة، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يؤذن بعد ما طلعت الشمس، وليس هذا إعلاماً بالوقت، ففرق بين أنه إعلام بدخول الوقت، وأنه الدعاء والنداء إلى الصلاة، والأقرب أنه الدعاء والنداء إلى الصلاة.

    فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا )، إنما هو دعاء ونداء إلى الصلاة، فهذا لا يلزم منه أنه يفيد التكرار؛ لأنه لو أفاد التكرار فمعناه أن تذهب تصلي في المسجد هذا والثاني والثالث، إذا دعاك إلى الصلاة، فالذي يظهر والله أعلم أن أكثر القواعد الأصولية في مثل هذه المسائل لا تستطيع أن تمثل لها مثالاً صريحاً، قد تجد مثالاً واحداً أو مثالين، لكن ليس لأجل هذه القاعدة، ولكن لأجل مفهوم ورد في الدليل، فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ )، وقوله: ( توضأ من لحوم الإبل )، هذا معنى غير المعنى الثاني تماماً، فهذا ليس فيه أمر، وهذا فيه أمر.

    دلالة الأمر المكرر بين التأكيد والتأسيس

    الملقي: [وإذا تكرر لفظ الأمر، وقلنا: الأمر المطلق لا يقتضي التكرار، فهل يقتضي التأكيد أم التأسيس؟].

    الشيخ: ما معنى هذا؟ (إذا تكرر لفظ الأمر) كأن يقول: افعلوا كذا، ثم قال: افعلوا كذا، فهل لفظ الأمر الثاني يفيد التأسيس يعني معنىً جديداً، أم يفيد التأكيد لمعنىً أول؟

    مثال: الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أمر أن يخرج الصحابة إلى بني قريظة، ثم قال: ( لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة )، هل الأمر الثاني أفاد تأسيساً أو أفاد تأكيداً على سرعة الخروج؟ من قال: إنه أفاد تأكيداً قال: إنه إذا جاء الوقت نصلي، ومن قال: إنه أفاد تأسيساً قال: حتى لو حان الوقت فإننا لا نصلي إلا في بني قريظة.

    الملقي: [فيه مذهبان: أحدهما وهو الذي اختاره أبو الخطاب وأبو محمد المقدسي وأبو بكر الصيرفي والبصري: أنه لا يقتضيه، قال ابن عقيل : وهو قول الأشعرية فيما حكاه بعض الفقهاء عنهم، والثاني: أنه يقتضي التأسيس، وقاله القاضي في كتاب الروايتين مع اختياره فيه أو الواحد لا يقتضي التكرار، واختاره في المحصول و الآمدي في الإحكام. قال أبو البركات : وهو الأشبه بمذهبنا، ونقله القيرواني عن عامة أصحاب الشافعي ، وفي المسألة قول ثالث بالوقف.

    ومحل الخلاف إذا كان الثاني غير معطوف على الأول، فأما إذا كان الثاني معطوف على الأول بغير تعريف، كقوله: صل ركعتين وصل ركعتين، فإنه يفيد التكرار، وإن كان المعطوف معرفاً مثل: صل ركعتين، وصل الصلاة فإنه محمول على الصلاة الأولى، قاله القاضي وغيره. وقال أبو الحسن في المعطوف المعرف: الأشبه الوقف؛ لأن العطف يعارضه لام العهد، حكاه عنه الإمام فخر الدين ، وخالفه وقال: الأشبه حمله على التغاير؛ لأن لام الجنس كما تستعمل للعهد تستعمل لبيان حقيقة الجنس، كقول السيد لعبده: اشتر لنا الخبز واللحم، فما تعينت معارضتها للعطف].

    الشيخ: كل هذا ليس فيه دليل واضح من الشارع، ولهذا المؤلف لم يذكر هذا، كل علماء الأصول يذكرون هذا، لكن ليس فيه كلام أو مثال صريح، وبالتالي فهذا نوع من تحريك الذهن والله أعلم.

    الملقي: [قلت: والمثال الثاني الذي ذكره الرازي في قول السيد لعبده ليس مطابقاً لمحل النزاع؛ لأن قول السيد لعبده: اشتر لنا الخبز واللحم، فالألف واللام في اللحم ليس ثم معهود حتى نصرفهما إليه؛ فتعينت للجنس، وأما: صل ركعتين وصل الصلاة، فثم معهود يصرفها؛ فتعين، ولم ينازع الرازي أحد في صحة استعمال الألف واللام للجنس، بل نقول: إذا احتمل كون (أل) للعهد وكونها لغيره كالجنس أو العموم فإنا نحملها على العهد؛ لأن تقدمه قرينة مرشدة إليه، كقوله تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل:15-16]، هكذا ذكره جماعة من الأصوليين، وقاله ابن مالك في التسهيل.

    فإن كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً].

    الشيخ: ومعنى: عاماً وخاصاً أن الأمر الأول عام، والأمر الثاني خاص.

    الملقي: [نحو: صم كل يوم، صم يوم الجمعة، قال في المحصول: فإن كان الثاني غير معطوف كان تأكيداً، وإن كان معطوفاً فقال بعضهم: لا يكون داخلاً تحت الكلام الأول، وإلا لم يصح العطف، قال: والأشبه الوقف للتعارض بين ظاهر العموم وظاهر العطف.

    قلت: لا نسلم التعارض بين ظاهر العموم وظاهر العطف؛ لأن ذكر الخاص مع العام هل يكون إفراده بالذكر يقتضي عدم دخوله في العام، أو أنه دخل وأفرد بالذكر اعتناءً به وتفخيماً؟ وفي المسألة مذهبان، كما سيأتي في العموم إن شاء الله تعالى.

    فإن قلنا بالأول فعدم التعارض واضح، وإن قلنا بالثاني فلا يمتنع أن ينص على بعض أفراده اعتناءً به وتفخيماً، ومنعاً لإخراجه من الحكم والله أعلم، وحكى القرافي عن القاضي عبد الوهاب في مسألة العطف: أن الصحيح بقاء العام على عمومه، وحمل الخاص على الاعتناء، قال: وسواء تقدم أو تأخر، والله أعلم].

    الشيخ: الذي ذكره القاضي عبد الوهاب هو الذي يظهر، كما قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [البقرة:160]، فالبيان نوع من التوبة، فلا يمكن أن يقول شخص: أنا تبت، والناس يفهمون عنه شيئاً لم يصرح به ولم يبينه، وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [ص:24]، فالعمل الصالح نوع من الإيمان، وهذا من باب، -كما قال- حمل الخاص على الاعتناء، والله أعلم.

    وأكثر المسائل كما قلت: لم يذكر لها مثالاً، إنما هي نوع من المسائل اللغوية التي ربما يصعب أو يندر وجود مسألة شرعية فيها دليل شرعي، ولو وجد فإنما هو نوع مما ثبت وجوبه بدليل آخر، ( صم من كل شهر ثلاثة أيام، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: صم يوماً وأفطر يومين، قال: إني أطيق أكثر من ذلك )، فأمره صلى الله عليه وسلم بهذا ثم هذا، كل حكم مستقل، والله أعلم.

    ولهذا نحن نقول للذين يريدون الصيام: صم من كل شهر ثلاثة أيام تحصل على السنة، وإن صمت من كل شهر عشرة أيام فصم يوماً وأفطر يومين، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( وددت أني طوقته )، فهذا أمر وهذا أمر، هذا يفيد الاستحباب، وهذا يفيد الاستحباب، وبالتالي فإن الأمر إذا جاء مستقلاً عن الثاني فإنه يفيد التأسيس، وأما إذا أفاد المعنى الأول فإنما يفيد التأكيد، والله أعلم.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756258328