إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فحديثنا عن علم مصادر الفقه، وقد اهتم أئمة الدين وعلماء كل منهج بمذهبهم تصنيفاً وتأليفاً وبياناً للمصطلحات، وتنويهاً على غوامض اللغة وأدلة الأحكام، ففرعوا وأصلوا وبينوا حتى لاقت هذه المذاهب قبولاً وعناية لدى العالم الإسلامي كافة. وكلما حظي العالم بطلبة علم يبينون أقواله، وينشرون مذهبه كلما كان لهذا المذهب انتشار واسع، ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله فيما يذكره بعض علماء السير: كان الليث بن سعد عالم أهل مصر أفقه من مالك إلا أن الليث لم يكن له طلاب ينشرون علمه ومذهبه، فهذا يدل على أن الله سبحانه وتعالى من نعمته لعبده أن يهيئ له طلاب علم ينشرون مذهبه وأقواله واختياراته، ولهذا كان أبو حنيفة رحمه الله والإمام الشافعي ، وكذا مالك، وكذا أحمد ممن أنعم الله عليهم بعلماء ينقلون مذهبهم ويبينون أصولهم، ويفرعون ويخرجون على أقوالهم، فنالوا قصب السبق في ذلك حتى إنه ربما لو سألت بعض صغار طلبة العلم عن زيد بن ثابت أو معاذ بن جبل الذي يأتي يوم القيامة وقد سبق العلماء برتوة فإنه لا يعرفه، ولربما علم مذهب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد ، ولهذا في زماننا هذا ما من العلماء ممن وفقهم الله سبحانه وتعالى بطلاب ينشرون أقوالهم ويصنفون ترجيحاتهم وينشرونها إلا كان لهذا الإمام ظهوراً وانتشاراً لأقواله، وإن كان ربما يكون من العلماء من هو أعلم منه بالسنة، وأقعد منه في الأصول والفقه والبيان إلا أنه لم يحظ بطلاب علم ينشرون مذهبه.
و مالك بن أنس أجمعت طوائف العلماء على إمامته وعلى جلالته وعظم سيادته، وتبجيله وتوقيره، والإذعان له في الحفظ والتثبت، وتعظيم حديثه، وتعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده، حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله: لولا مالك و سفيان -يعني ابن عيينة - لذهب إلى الحجاز، وكان مالك من شدة تثبته -كما سوف نبين ذلك- إذا شك في حديث تركه كله؛ تبجيلاً وتعظيماً وتثبتاً في أحاديث محمد صلى الله عليه وسلم، وكان متثبتاً في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يكاد يروي حديثاً إلا حينما يعلم حسن معتقد وعبادة الراوي وتثبتاً في حفظه ودرايته، ولهذا جاء أيوب بن أبي تميمة السختياني إلى الحج، وكان الناس إذا جاءوا إلى الحج يفدون إلى المدينة، وكان مالك رحمه الله كثر شيوخه بسبب ذلك حتى قيل: إنه أخذ العلم عن تسعمائة شيخ؛ ثلاثمائة من كبار التابعين، وستمائة من أتباع التابعين، فلما حضر أيوب السختياني إلى المدينة وكان أيوب معظماً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول مالك : حج أيوب مرتين و أيوب السختياني من أوثق الناس، ولم يسمع منه مالك إلا في السنة الثانية، أما السنة الأولى فجلس مالك يراقب أيوب ويترقب فعله وعبادته وحسن تثبته، يقول مالك : فكنت أرمقه -يعني: بذلك: أيوب- فكان حسن العبادة، وكان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده بكى حتى نرحمه، فكتبت عنه، وكان رحمه الله يعلم عن أناس بالمدينة يقول عنهم مالك: إن بالمدينة أقواماً ممن يتنجد بهم المطر -يعني: أتوسل إلى الله بدعائهم- لا أقبل منهم حديث واحداً. فكان لأجل هذا التثبت من مالك قال كثير من أهل العلم: كل راوٍ روى عنه مالك فهو ثقة، والأمر كما قالوا إلا في شيخين اغتر بهما مالك كما ذكر ذلك أئمة علم الجرح والتعديل منهم: عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف، وقد روى له مالك ، وقد ذكر كثير من أهل العلم أنه ضعيف، ولكن مالكاً احتج به، ولأجل تعظيم مالك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبجيله كان الناس يأخذون عنه، يقول وهب بن خالد: ما بين المشرق والمغرب رجل آمن على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من مالك ، حتى قيل للإمام أحمد رحمه الله: الرجل يحب أن يحفظ حديث رجل من الرواة، فما ترى؟ قال: عليك بحديث مالك ، قيل له: فالرأي؟ قال: رأيي رأي مالك .
وتميز الإمام مالك رحمه الله بمزايا:
قال ابن سلمة الخزاعي : كان مالك إذا أراد أن يخرج ليحدث -يعني: يُسمِع الحديث- توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، ومشط لحيته، فقيل له في ذلك، فقال: أوقد به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر القاضي عياض في ترجمته لـمالك رحمه الله شدة تعظيم مالك للنبي صلى الله عليه وسلم وحديثه، حتى إن مالك بن أنس كان إذا أراد أن يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتعد واقشعر جنبه وطأطأ رأسه وبكى حتى يرحمه الحاضرون، وربما خرجوا منه وهو ما زال يبكي شوقاً ولهفاً إلى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له، فقيل له: يا أبا عبد الله نراك إذا حدثت يوماً ما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبكي حتى لا نسمع حديثك؟
قال: أتستكثرون هذا مني؟! فإني رأيت أيوب السختياني -وحج أيوب مرتين- كان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده بكى ثم بكى حتى نرحمه، وهذا عامر بن عبد الله بن الزبير ، وكان من العباد إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم اصفر لونه حتى نرحمه، وهذا صفوان بن سليم وكان من العباد حقاً، كان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم اصفر لونه, ثم بكى حتى يقوم الناس عنه، وهذا محمد بن شهاب الزهري -والكلام لـمالك - وإنه لمن أهنأ الناس -يعني: من أحب الناس إلي- كان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده بكى حتى لا نسمع حديثه. فهذه سلسلة مشى عليها مالك بن أنس ، وينبغي أن يتحلى بها طالب العلم، نعم ينبغي أن يعرف طالب العلم أثر العلم الذي يحمله، وكلما عظمت سنة محمد صلى الله عليه وسلم في قلب العبد ازداد هيبة وخوفاً ووجلاً من الحبيب عليه الصلاة والسلام.
ولأجل مهابة مالك لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم قذف الله في قلوب خلقه مهابة وإجلالاً لـمالك رحمه الله, حتى يقول أبو مصعب الزهري وهو من تلاميذ مالك : كانوا يزدحمون على باب مالك بن أنس ، فيقتتلون على الباب من الزحام، وكنا نكون عند مالك فلا يكلم هذا هذا، ولا يلتفت هذا إلى ذاك، والناس قائمون برءوسهم هكذا -يعني: يطأطئون رءوسهم هيبة لـمالك- وكانت السلاطين تهابه، وهم قائمون ومستمعون، -والكلام لـأبي مصعب الزهري - وكان يقول في المسألة: لا، أو نعم، فلا يقال له: من أين؟ ولم؟ كل ذلك إجلال من الناس لـمالك رحمه الله.
وكان أبو مصعب يقول:
يدع الجواب فلا يناقش هيبة فالسائلون نواكس الأذقان
نور الوقار وعز سلطان التقى ذاك التقي وليس ذا سلطان
والباب في هذا عريض لـمالك بن أنس.
هكذا ينبغي أن يكون طالب العلم، وقد كان مالك رحمه الله هكذا، حتى إنه من عظم تبجيله لشيوخه كان إذا سئل يقول: سلوا أهل العلم، سلوا فلان سلوا فلان، فقال مالك مرة: لا ينبغي للطالب أن يفتي حتى يسأل شيوخه هل يصلح لذلك أم لا؟ فقد سألت فلاناً وفلاناً و يحيى بن سعيد ، و ربيعة بن عبد الرحمن هل يروني صالحاً لذلك؟ فكلهم قالوا لي: أنت تصلح لذلك، قال الراوي: يا أبا عبد الله أرأيت لو منعوك أكنت تنتهي؟ قال: نعم، لا ينبغي للمرء أن يفتي حتى يراه أهل العلم صالحاً لذلك، الله أكبر! لو طبق طلاب العلم هذا الأمر لسقط الخلاف كما يقول الغزالي .
ولأجل هذا الأمر وكثرة شيوخ مالك رحمه الله صار يتميز بمعرفته للسنن ومعرفته لآثار الصحابة أكثر من غيره ممن كان في وقته, حتى ضربت أكباد الإبل لأجل سماع حديث مالك ، ولأجل هذا كان رحمه الله لا يجتهد مع أنه أهل لذلك إلا أن يسمع في المسألة قولاً سبقه إلى ذلك، وهكذا صار أئمة الدين، قال أحمد : لا تقل بمسألة إلا وقد سبقك بها إمام.
جاء رجل من بلاد بعيدة إلى مالك بن أنس يقول الراوي: وكنا عند مالك ، فقال: يا أبا عبد الله ! جئت إليك من بلاد بعيدة قد حملني أهل بلدي مسائل جئت أسألك عنها، قال مالك: ادن, أي: اقترب, قال: فجثى على ركبته وكان معه كتاب فقرأه، قال مالك: لا أحسن، قال: فسكت الرجل.. كيف؟ قال مالك: لا أحسن يعني: لا أعرفها، وكانت من المسائل المستجدة العصرية، قال: أنت مالك بن أنس وتقول: لا أحسن، فسكت مالك ، قال: يا أبا عبد الله ماذا أقول للناس؟ الناس الآن خلفي ماذا أقول لهم؟ قال: قل لهم: يقول مالك بن أنس: لا أحسن، الله أكبر كلمة سهلة ميسورة, ولهذا قال أهل العلم: إذا ترك العالم قول: (لا أدري) أصيبت مقاتله.
وقد ذُكر أن الإمام الشافعي رحمه الله بعدما جلس مع محمد بن الحسن الحنفي ، فكان محمد بن الحسن يقول للشافعي: صاحبنا أعلم من صاحبكم بالقياس، فكان الشافعي يسكت، وكان إذا تحدث في مسألة من القياس قال: صاحبنا -يعني بذلك أبا حنيفة - أعلم من صاحبكم، يقول الشافعي : فلما أكثر محمد قلت له: سألتك بالله -وقد كان الشافعي رحمه الله تتلمذ على مالك بن أنس حتى قال: مالك بن أنس معلمي ومنه أخذنا العلم- يا محمد ! صاحبكم أعلم بكتاب الله أو صاحبنا؟ قال: فسكت محمد فقال: صاحبكم، ثم قال: فقلت له: سألتك بالله! أصاحبكم أعلم بسنة محمد صلى الله عليه وسلم أم صاحبنا؟ قال: فسكت، ثم قال: صاحبكم، ثم سألته -يقول الشافعي -: سألتك بالله أصاحبكم أعلم من صاحبنا بآثار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فطأطأ رأسه قال: صاحبكم، قال الشافعي : ولم يبق إلا القياس، وكل من قاس على فهم القرآن والسنة وأقوال صحابة محمد فهو أولى من غيره، والسلام.
مناظرة بسيطة بينت فضل كل عالم من العلماء وانتهت القضية، وطويت صفحة جديدة في مناظرة أخرى، والواقع أن مناظراتنا أحياناً تختلف كثيراً عن مناظرات سلف هذه الأئمة؛ لأن مناظرات أئمة الدين وعلماء الملة كان مقصودها إعذار الآخرين بوجود الخلاف، بمعنى: أن كل واحد يبين وجهة دليله ومنطق دليله حتى يعذره الآخر، والآخر يبين له حجته وتنبيه العلل التي اختارها حتى يعذره الآخر، أما اليوم فتجد أننا أحياناً في وقت مناظراتنا نقول: تعال يا فلان اجلس، أنا سوف أقنعك، ويقول الآخر: لا، بل أنا سوف أقنعك، فتجد أن كل واحد قد جمع رباط جأشه، واستجمع أدلته ليرد به على صاحبه، بغض النظر عن دليل صاحبه هل هو قوي أم لا؛ ولذا أصبحت ترى مع الأسف أن أحياناً أدلة الخصوم -كما يسميها علماء المناظرة- عندهم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير، ولكن المخالف يقول: وأما هذا الحديث فإنه قد تكلم فيه فلان وهو ضعيف، وفي اعتقادي أنه ربما يكون ليس ضعيفاً، ثم يقول: ويحتمل أن فيه كذا، ويحتمل أن فيه كذا، ويحتمل أن فيه كذا، ثم يقول: والحديث إذا تطرق إليه احتمال بطل به الاستدلال، وهذه قاعدة مغلوطة عند كثير من مصدقيها، ويقول أبو العباس بن تيمية رحمه الله في المجلد السابع: وينبغي أن يحمل كلام الله وكلام رسوله على ما أراده الله وأراده رسوله لا على ما أراده المجتهد في نفس الأمر، فإن كثيراً من أصحاب المذاهب -والكلام لـابن تيمية - ربما ترك الحديث؛ لأنه لا يوافق مذهب شيخه، وربما أول له التأويلات مع مخالفتها لظاهر كلام الله وكلام رسوله، أما الأئمة فإنهم رحمهم الله يقصدون بالمناظرة الإعذار عن كل واحد من الآخر.
ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله في القواعد النورانية: إن أصول مذهب مالك في المعاملات المالية أحسن الأصول؛ لأن مالك بن أنس أخذ المعاملات المالية من سعيد بن المسيب يقول: وكان لـأحمد رحمه الله الفوز في ذلك، فإنه أخذ في المعاملات المالية أصول سعيد ، وأخذ في الحج أصول عطاء ، وكان عطاء أفقه الناس في المناسك، ويقول ابن تيمية رحمه الله: وإذا تبين أن إجماع المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأياً, ولذا صار ما يسمى: بحجية عمل أهل المدينة، يقول ابن تيمية : ولم يذكر في مصر من الأمصار أن قوله حجة، وما ينقل عن أبي حنيفة أن إجماع أهل الكوفة حجة كذب عليه.
المرتبة الأولى: ما يجري مجرى النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كمعرفة الصاع والمد، وعدم الزكاة في الخضروات والأحباس يعني: الأوقاف, قال: فهذا حجة باتفاق الفقهاء، وهو مذهب مالك والمنصوص عن الشافعي ، وظاهر مذهب أحمد ، وهو قول أبي يوسف حينما رجع إلى مذهب مالك في الصاع.
المرتبة الثانية: العمل القديم في المدينة قبل مقتل عثمان فإذا رأيت أهل المدينة قد عملوا عملاً قبل مقتل عثمان وقبل افتراق الصحابة في الأمصار، فإن أقوالهم حجة، وهذا مذهب مالك و الشافعي وظاهر مذهب أحمد رحمه الله، وبعض محققي الأحناف، قال الإمام الشافعي : إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقف في قلبك ريباً أنه الحق، وقال أحمد : كل بيعة كانت في المدينة فهي خلافة النبوة، أشار إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين من بعدي ) والخلفاء هم: أبو بكر، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي وبيعاتهم كانت في المدينة، فهذا هو ظاهر مذهب أحمد .
المرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان، كحديثين أو قياسين، جهل أيهما أرجح، وأحد الدليلين يعمل به أهل المدينة، فهذا فيه نزاع؛ فذهب مالك و الشافعي إلى أن عمل أهل المدينة يرجح أحد الدليلين على الآخر، ولأصحاب الإمام أحمد رحمه الله قولان:
القول الأول: هو قول أبي يعلى ، و ابن عقيل أنه لا يرجح بهما، فعمل أهل المدينة كعمل غيرهم ممن لا يصل إلى المرتبة الأولى والثانية.
والقول الآخر: هو قول أبي الخطاب محفوظ الكلوذاني أنه يرجح به عمل أهل المدينة قال: وهو منصوص مذهب أحمد ، فإنه قال رحمه الله: إذا رأى أهل المدينة حديثاً وعملوا به فهو الغاية، وكان رحمه الله يدل المستفتي إلى علم أهل الحديث، وإلى عمل أهل المدينة، وكان يدل الناس على حلقة أبي مصعب الزهري رحمه الله.
والأقرب والله أعلم في هذه المرتبة هو أن عمل أهل المدينة يستأنس به ما لم يخالف ظاهر القرآن، أو ظاهر السنة.
مثال ذلك: نقل غير واحد من علماء المالكية أن مالك بن أنس يكره صيام الست من شوال، يقول: لم أره في بلادنا يعني: بذلك أهل المدينة مع أن الحديث ثابت، روي عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحها حديث أبي أيوب : ( من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر ) رواه مسلم في صحيحه، وروى أهل السنن و أحمد من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله، و أبي الدرداء كذلك، فهذا لا يعول على مذهب المدينة، بل الأقرب هو ظاهر السنة، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: وقد أجمع علماء الإسلام على أن من استبانت له سنة محمد صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يدعها لأحد من الناس كائناً من كان، وكذلك القول بخيار المجلس؛ فـمالك رحمه الله لا يرى الأخذ به؛ والحديث ثابت في الصحيحين من حديث حكيم بن حزام ومن حديث ابن عمر .
المرتبة الرابعة: هي العمل المتأخر بالمدينة يعني: عمل أهل المدينة بعد القرون المفضلة، يعني: بعد القرن الرابع أو الخامس، أو الخامس أو السادس على الخلاف في هذا الحديث، يقول ابن تيمية رحمه الله: فهذا الذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة، وهو قول جمهور الفقهاء من الشافعية والحنفية والحنابلة وقول المحققين من أصحاب مالك كـالقاضي عبد الوهاب المالكي وغيره، وإن كان كثير من متأخري المالكية يراه حجة، ولأجل هذا تجد أن كتب المالكية يقل فيها الاستدلال لما قاله أهل العلم؛ لأن أكثر المسائل التي لا يستدلون لها إنما هي عمل عمله أهل المدينة، فصار عمل أهل المدينة حجة؛ فلذا لا يستدلون لها، وغالب استدلالاتهم إنما هي في المسائل التي لم ير مالك عمل أهل المدينة فاجتهد, كما سوف نأتي إلى مصطلحات الإمام مالك في كتاب الموطأ، ولهذا صار بعض متأخري المالكية يرى أن قول أهل المدينة حجة، فبالتالي لا يحتاج إلى أن يستدل له، وقد أنكر القاضي عبد الوهاب هذا العمل.
قيل: هي سبعة، وقال بعضهم: ثمانية، وقال بعضهم: تسعة، وقال بعضهم: سبعة عشر دليلاً، وهذا الذي عليه العمل عندهم وسأذكرها على عجل:
أولاً: نص القرآن الكريم.
وثانياً: ظاهره، يعني: ظاهر القرآن من عموم وخصوص ونحو ذلك.
ثالثاً: دليله، ويقصد به: مفهوم المخالفة، وفحواه، ويقصد به: مفهوم الموافقة، وشبهه، ويقصد به: دلالة الإيماء والتنبيه في العلل، أو في علة القياس ونحوه، فهذه خمسة.
وقل مثل ذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم: نص السنة وظاهرها ودليلها وفحواها -أي: مفهومها- وشبهه, فهذه عشرة.
الحادي عشر: الإجماع، الثاني عشر: القياس، الثالث عشر: عمل أهل المدينة، الرابع عشر: قول الصحابي، الخامس عشر: الاستحسان، السادس عشر: الاستصلاح وهي المصالح المرسلة، السابع عشر: سد الذرائع، فهذه سبعة عشر دليلاً.
و مالك رحمه الله قد يوافق أبا حنيفة رحمه الله في بعض الأصول يعني: في نص القرآن وظاهر القرآن، ويوافقه في فحوى الخطاب، لكن لا يوافقه في دليل الخطاب؛ لأن أبا حنيفة لا يرى مفهوم المخالفة، وكذا لا يوافقه في الاستصلاح، فهو من أصول مذهب مالك رحمه الله التي فهمها من سلف الأمة، والاستصلاح هو المصالح المرسلة. والمصالح على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المصالح التي جاء الشرع بإثباتها فهي مقبولة باتفاقهم.
الثاني: المصالح التي جاء الشرع بضدها فلا تقبل باتفاقهم، ولا يعول على قول الطوسي الأصولي.
مثال ذلك: ما جاء في الصحيحين من حديث أبي رافع أنه قال: ( نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا فيه نافعاً، وطواعية رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أنفع لنا، نهانا عن الماذيانات -يعني: المزارعة- وأقبال الجداول، وشيء من الزرع، فيسلم هذا ويهلك هذا، ويهلك هذا ويسلم هذا، أما شيء مضمون معلوم فلم ينهنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
القسم الثالث: وهي المصالح التي لم ينص الوحيين على إثباتها، ولا على نفيها، ولأجل هذا سميت المصالح المرسلة، وقد عمل بها مالك بن أنس و أحمد بن حنبل و الشافعي رحمه الله، وإن كان بعض الحنفية يدخلها في الاستحسان.
أما الاستحسان فإن أبا حنيفة و مالك يقولان به، وإن كانوا يختلفون في بعض جزئياته، وبعضهم يجعل من أصول مذهب مالك مراعاة الخلاف، نعم مالك رحمه الله له بعض المصطلحات، لكنه لا يعمل بها دائماً, بل تارة وتارة، منها مراعاة الخلاف، وبهذا تصير الأدلة ثمانية عشر دليلاً.
ثم العمل بالقول المرجوح إذا جرى به العمل، فإن بعض متأخري المالكية كانوا يرون أنه إذا جرى به العمل يأخذون به وإن كان يخالف الدليل الراجح, مثال ذلك عند المالكية: أنهم رحمهم الله يشترطون في عقد السلم أن يكون تسليم رأس المال في مجلس العقد، ولهذا صار تعريف عقد السلم عندهم: هو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد، قال مالك في الرجل الذي يأتي إلى صاحب الملحمة فيأخذ منه كل يوم كيلو من اللحم، ثم بعد نهاية الشهر يحاسبه في ذلك، وقد حجز صاحب اللحم له وزناً من الأوزان: هذا على قاعدة السلم لا بد من تسليم رأس المال في مجلس العقد لمدة شهر، ثم يأخذ منه كل يوم جزءاً منه، لكن مالكاً رحمه الله جوز ذلك؛ لأنه جرى به العمل، والأمثلة في هذا الباب كثيرة خاصة في الشروط الجعلية التي يجعلها أحد المتعاقدين.
لـمالك رحمه الله أئمة أثبتوا مذهبه وقعدوا على قواعده، واستنبطوا من أصوله فاشتهروا بذلك، وهم كثير, ولكن لعلي أذكر أشهر المتقدمين والمتوسطين والمتأخرين:
الثاني: عبد الرحمن بن القاسم المتوفى بمصر سنة واحد وتسعين ومائة, هو صاحب الإمام مالك وراويته، ومن أعلم الناس بمذهب مالك رحمه الله، وأعظم من خدم المذهب المالكي، صحب الإمام مالك عشرين سنة. الواحد منا إذا جلسنا عند الشيخ ثلاث سنوات أو أربع سنوات وتخرجنا من الجامعة تخرجنا من الشيخ، وأصبح الطالب لا يرى حقاً عليه أن يأتي إلى شيخه في حلقته فيسلم عليه، ربما راسله برسالة وقال للشيخ: متى تكون فارغاً؟ لأنه يريد أن يزوره وحده، ومن عادة التلاميذ أنهم أحفظ الناس لشيوخهم في الوقت، فإذا لم يستطع أن يظفر بوقت ترك شيخه، وأصبحنا نعاني من قسوة على مشايخنا والعياذ بالله، ولهذا كان نصيحتي لنفسي ولكم أن نعرف لمشايخنا فضلهم، وقد كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: كنت أفتح الصفحة بين يدي مالك هوينة حتى لا يتأذى مالك من صوت الورقة، كانوا معظمين للعلماء. حتى الذين لم يهتموا بالعلم كانوا معظمين لهم، حتى قيل: إن هارون الرشيد رحمه الله دعا مالكاً لينظر من مالك بعد أن كثر صيته وارتفع، فقال الإمام مالك للرسول: قل يا أمير المؤمنين! وعليك السلام يا أمير المؤمنين! العلم يؤتى ولا يأتي، قال: فجاء هارون الرشيد ودخل على بيت مالك ، وأسند ظهره وقدم رجله، فقال مالك بن أنس -وكان مهيباً عظيم القامة شديد البيان-: يا أمير المؤمنين! إن من إجلال رسولنا صلى الله عليه وسلم إجلال العلم، وكان هارون سأله في المسألة وكان مستنداً، فقال: يا أمير المؤمنين! إن من إجلال رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلال العلم، قال: نعم، قال: فجلس، وتربع ثم أجابه مالك رحمه الله:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولهذا ينبغي للعالم أن يبين قدر العلم للسائل، وقد كان السلف على هذا المنوال حتى قال الشعبي كما في الصحيحين حينما سأله الراوي فلما أخبره قال: قل: هذا بغير شيء، فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة، وكان شامياً، وينبغي لطالب العلم أن يبين ثقل هذه المسألة، وقد كانوا -كما قلت- رحمهم الله يبينون هذا الأمر لتلاميذهم، ويذكر أن عبد الله بن مسلمة القعنبي -وهو من تلاميذ مالك رحمه الله- كان شاباً يافعاً، اشتهر في حيه وسوقه بنوع من اللكاعة الشبابية المستهترة، وكان قد ربط عصابة حمراء على جبهته، وكان جالساً في آخر السوق ينتظر أصحابه حتى يشربوا الخمر في ليلتهم -كما ذكر ذلك ابن قدامة في كتاب التوابين- قال: فرأى جلبة والناس خلفهم وارتفع الغبار فقال لأحد الذين يبيعون: السلام عليك! قال: وعليك، قال: من هذا؟ قال: فخرج البائع فنظر فالتفت، قال: هذا شعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث، قال: من؟ قال: شعبة بن الحجاج -مشكلة الناس أنهم لا يعرفون فضل العالم إلا إذا مات، وعلى هذا فقس في زماننا- فذهب عبد الله بن مسلمة القعنبي وهو على حالته ولبسته وهندامه فاستقبل شعبة بن الحجاج ، فقال: السلام عليك! قال: فجلس والناس خلف شعبة ، قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: أنت شعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث؟! قال شعبة: يقولون. قال: حدثني. قال شعبة: مثلك لا يصلح للحديث، فكبرت في نفس عبد الله ، فأخرج الخنجر الذي وضعه على منطقته، قال: فحدثني، وإلا مسستك بهذا -هذا نوع من الاستهتار- قال شعبة : نعم، حدثني منصور بن المعتمر حدثني ربعي بن حراش قال: حدثني أبو مسعود البدري قال: سمعت صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) -حديث عظيم- ثم تركه شعبة وذهب، فتأثر عبد الله بن مسلمة القعنبي وهو من تلاميذ مذهب مالك رحمه الله، وأفضل من روى عنه كتاب الموطأ وأوثقهم, وهو من رجال الشيخين، ووقع في نفسه، ثم دخل على أمه ورأت وجهه قد تغير، فتوضأ، ثم ذهب إلى المسجد، ثم قال لأمه: يا أماه! إذا جاء أصحابي فأخبريهم أني خرجت, وأخبريهم أن عبد الله قد كسر الحانة التي في البيت، فجاءوا في الليل فلم يجدوه فأخبرتهم الأم، فلما كان الغد إذا بـعبد الله قد تأثر، ففرحت أمه بذلك، فجلس أياماً يسأل: من أعلم أهل الناس في العلم؟ فقيل له: مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ، قال: فذهب إلى أمه وقال: يا أماه! أريد أن أذهب إلى مالك فأطلب العلم، فذهب إلى مالك فطلب العلم حتى جمع منه شيئاً كثيراً، ثم أراد أن يرحل إلى الكوفة ليسمع من شعبة غير هذا الحديث، قال: فلما دخل الكوفة قيل له: إن شعبة قد توفي في اليوم الذي دخل فيه، فبكى عبد الله بن مسلمة القعنبي رحمهم الله رحمة واسعة.
ابن القاسم الذي جلس مع مالك عشرين سنة فرع على أصول مالك ، وجمع بين الفقه والعلم، قال فيه الإمام مالك : مثله كمثل جراب مملوء مسكاً، وهكذا إذا رأيت الشيخ يقول لتلميذه هذا، وكان هذا الشيخ ثبتاً، فانتظر لهذا التلميذ شأناً ورفعة في العلم، وهكذا العلماء الذين أثنى عليهم شيوخهم منذ صغرهم، صار لهم قصب السبق وصيتاً عظيماً. كتب ابن القاسم المدونة على مذهب مالك فنقلها أسد بن الفرات فسميت بالأسدية، وسوف نأتي إليها مفصلة إن شاء الله.
الثالث من علماء مذهب مالك : أشهب بن عبد العزيز أبو عمرو القيسي العامري صاحب الإمام مالك ، وفقيه الديار المصرية في عصره، انتهت إليه رئاسة المذهب المالكي بمصر بعد عبد الرحمن بن القاسم المصري، قال الشافعي رحمه الله: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب لولا طيش فيه، يعني: لولا أن فيه عجلة، وحسبك بإمام كـالشافعي يتحدث عن شخص رحمهم الله جميعاً.
الرابع من علماء المذهب المالكي: أسد بن الفرات قاضي القيروان، وصاحب الإمام مالك رحمه الله، كان شجاعاً في الحق صاحب رأي وعبادة، وهو صاحب كتاب الأسدية التي هي أوائل كتاب المدونة، فإن أصل المدونة هي رواية أسد بن الفرات كان يسأل عبد الرحمن بن القاسم فيجيب عنه بما سمعه من مالك ، وما لم يسمعه يفرعه على مذهب مالك ، فأخذها أسد بن الفرات فذهب بها إلى المغرب فنشرها، وتسمى الأسدية، وتسمى المدونة، يقال: إن سحنون عبد السلام ذهب إلى أسد يريد منه هذه المجموعة من الأسئلة والرواية، ويقال: إن أسد أبى عليه، قال: فجعل سحنون يلاطفه ويلاطفه حتى أخذها، ثم ذهب إلى عبد الرحمن بن القاسم فهذبها ورتبها، وأعاد على عبد الرحمن بن القاسم فمنه رجع عبد الرحمن بن القاسم عن بعض أقواله التي كتبها عنه أسد بن الفرات ، واستدل لها سحنون بما رواه عن عبد الله بن وهب عن مالك بن أنس ، فالأحاديث الموجودة في المدونة إنما هي من زيادة سحنون التي رواها عن عبد الله بن وهب عن مالك رحمه الله، فكتب عبد الرحمن بعدما أصلح سحنون المدونة وزادها وترك بعض مسائلها، كتب إلى أسد بن الفرات ألا يفتي الناس بما كتب عنه وليرجع إلى ما في المدونة، فرجع إلى ما في المدونة، فتكون المدونة قد تعاقبها مالك بن أنس ثم عبد الرحمن بن القاسم ثم أسد بن الفرات ثم سحنون .
الخامس من علماء المالكية: يحيى بن يحيى الأندلسي، وهو راوي كتاب الموطأ، أقبل الناس عليه، واشتهر بالعقل، حتى قال مالك بن أنس : هذا عاقل أهل الأندلس.
ومن تلاميذه ابن حبيب فإذا رأيت في كتب المالكية ابن حبيب فهو عبد الملك بن حبيب السلمي الفقيه القرطبي انتهت إليه رئاسة المذهب المالكي بعد يحيى بن يحيى الأندلسي ، له كتاب من كتب المالكية الواضحة في الفقه والسنن.
والذي بعده هو سحنون راوي المدونة، وهو عبد السلام بن سعيد بن حبيب بن سعيد التنوخي الفقيه المالكي، كان رفيع القدر عفيفاً، كثير الخشوع والعبادة، وكان من أئمة الإسلام، ارتفع صيته فلا تكاد ترى أن ذلك بسبب ما حفظ من العلم فقط، بل بما جمع بين العلم والعمل، ومن أراد أن يسلك جادة أهل العلم فليقتد بهداهم، ولهذا ذكر ابن القيم رحمه الله أن من أوثق تفاسير السلف في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74] هو تفسير ابن عباس و الحسن و مجاهد : أي اجعلنا مقتدين للأئمة.
إذاً: (اجعلنا للمتقين إماماً) يعني: اجعلنا مقتدين للأئمة، قال ابن القيم : وذلك لأن المرء لا يكون إماماً حتى يقتدي بمن سبقه ليقتدي من بعده به، فاللهم اجعلنا للمتقين إماماً.
ومن علماء المذهب المالكي أيضاً: ابن المواز محمد بن إبراهيم بن زياد له كتابه المشهور الموازية، يقال: إنه من أجل كتب المالكية؛ وذلك لأن محمد بن المواز رحمه الله قصد بناء فروع أصحاب المذاهب المالكية على أصولهم، وهذا من دقيق العلم وهو بناء الفروع على الأصول، من أتقنه فقد أتقن العلم والفقه.
إذاً: للقاضي عبد الوهاب كتاب التلقين، والمعونة على مذهب عالم المدينة، وله الإشراف على مسائل الخلاف، وكل هذه الكتب مطبوعة.
من علماء المالكية أيضاً: يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر المتوفى سنة ثلاث وستين وأربعمائة, له عناية بمذهب مالك ، وبتنقيح أقواله، والاستدلال له، وكان رحمه الله ليس متعصباً فإنه أحياناً يذكر أقوال مالك ثم يقول: ولا أعلم دليلاً لـمالك فيما ذهب إليه، كما قال في مسائل في الزكاة حينما كان مالك رحمه الله يرى أن الزكاة تجب على المدير الذي يدير ماله كل سنة، ولا تجب على المتربص إلا إذا باع مرة واحدة.
قال أبو عمر بن عبد البر : ولا أعلم دليلاً لـمالك ، ويقصد ولا أعلم دليلاً لـمالك من الكتاب والسنة، وإلا فإن مالك بن أنس ذكر أنه قول عمر بن عبد العزيز، فقد كتب إلى ميمون بن مهران يخبره بذلك كما في التمهيد، ولـابن عبد البر كتاب الكافي وهو حسن جميل محقق، وكتاب الاستذكار ولا ينبغي أن تخلو مكتبة طالب العلم من هذا الكتاب، وكذا التمهيد, وما زال أبو العباس بن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم ، وسمعنا مشايخنا كشيخنا عبد العزيز بن باز ينصحون بكتب أبي عمر بن عبد البر ؛ لأن له عناية فائقة في السنة، وبيان أقوال سلف الأمة، وعلم ودراية في ذلك، رحمة الله على الجميع.
ومن علماء المالكية: عبد الله بن محمد بن شاس صاحب كتاب عقد الجواهر الثمينة على مذهب عالم المدينة، وهذا الكتاب من أنفس كتب المالكية؛ (عقد الجواهر الثمينة على مذهب عالم المدينة)، ولهذا الكتاب قصة؛ وهو أن علماء المالكية كانوا على كتب المالكية الأمهات الأربع: المستخرجة المدونة، والموازية والواضحة، وكتاب النوادر والزيادات لـأبي زيد القيرواني ، فلما ضعفت همة طلاب العلم، وصعب عليهم أن يقرءوا مثل هذه الكتب، فجاء ابن شاس فقرأ هذه الكتب ونقحها واختصرها وجعلها في هذا الكتاب، الآن الكتاب في ثلاثة مجلدات ضخمة لبيان مذهب مالك رحمه الله فقط من غير ذكر الدليل، فاجتمع علماء المذهب المالكي في زمانهم على ابن شاس ؛ لأنه يقتل الهمم حينما ألف هذا الكتاب وهو في ثلاث مجلدات ضخمة؛ لأنها تجعل طلاب العلم في زمانه يتقاعسون عن قراءة المدونات, والله المستعان.
وهذا الكتاب -كما قلت- يحسن بطالب العلم أن يقتنيه، وقد حقق بعناية من مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي.
ومن علماء المالكية ابن رشد الجد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد صاحب التصانيف، وهو صاحب (المقدمات الممهدات) في أوائل كتب المدونة، وله (البيان والتحصيل)، وله كتب عظيمة.
وأيضاً حفيده: محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الحفيد الفيلسوف صاحب كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد)، وأفضل طبعة لهذا الكتاب تقريباً هي طبعة صبحي حلاق وهي طبعة جيدة مخرجة الأحاديث، وإن كانت لا تخلو من بعض الملاحظات.
ومن علمائهم أيضاً -أذكره على عجل- الإمام: القرافي أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة أربع وثمانون وستمائة، صاحب كتاب (الذخيرة)، و(التنقيح) وشرحه، و(الفروق)، وأنصح طالب العلم بهذا الكتاب، أعني به: كتاب (الفروق)، و القرافي من قرأ كتبه علم سعة ذكائه وقوة باعه في العلم، وكان رحمه الله صاحب فنون ومواهب، يقال: إنه صنع رجلاً آلياً له يخدمه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن علماء الأمة بارعون في فنون كثيرة.
نحن مشكلتنا أن الشخص إذا لم يتخصص في علم الشريعة فإن لا يصبح عالماً، فإذا سألته لم؟ قال: لو كنت متخصصاً في الفقه أو في الحديث أو في كذا لبرزت، وهذه مشكلة؛ أن يكون اهتمام الإنسان في العلم لأجل تحضيره للطلاب فقط.
ومن علمائهم: أحمد بن يحيى الونشريسي وهو صاحب كتاب (المعيار المعرب عن فتاوى أفريقية والمغرب)، وهو مطبوع طبعتها دار الغرب، وهو يذكر النوازل الفقهية في ذلك، وله قواعد فقهية في مذهب الإمام مالك رحمه الله تسمى قواعد الونشريسي ، هؤلاء من أعظم علماء المالكية.
ومن المتأخرين الذين شرحوا مثل هذه الكتب التي ينبغي لطالب العلم أن يرجع إليها هو الحطاب محمد بن محمد الحطاب صاحب كتاب (مواهب الجليل في شرح مختصر خليل)، و الدرديري أحمد بن محمد العدوي صاحب (الشرح الكبير على مختصر خليل)، وله كتاب (أقرب المسالك لمذهب مالك).
وكذا محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي صاحب كتاب (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير على مختصر خليل)، ومن أراد أن يرجع إلى القول مع تقييدات وشروط للمذهب المالكي فلا ينبغي أن يترك هذا الكتاب، أعني: (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير).
وكذلك الشيخ: عليش المتوفى سنة تسع وتسعين ومائتين وألف للهجرة، وهو محمد بن أحمد بن محمد المعروف بالشيخ: عليش صاحب كتاب (فقه العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك).
وكذا الخَرشي أو الخُرشي كذا يقرؤها مشايخنا، له شرح على مختصر خليل، ولا ينبغي أن تخلو مكتبة طالب علم من كتب أئمة المذهب المالكي.
لعلنا نقف عند هذا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الجواب: في هذا الأمر مسائل:
المنكر الذي يجب إنكاره والذي جاءت الأحاديث النبوية في عظم تركه وخطورة نسيانه هو المنكر الذي دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على إنكاره، أو دل النص الشرعي على أنه منكر، وأما المسائل التي يسع فيها الخلاف, والتي لكل مذهب مستند في ذلك، فإنما الواجب فيها كما قال النووي: وأما مسائل الاجتهاد فإنما فيها النصيحة والتوجيه والإرشاد، أما أن ينكر فلا.
ومعنى النصيحة أن تبين له فضل مخالفة ما هو عليه بناء على الدليل، وليس المراد أن تعنف عليه، فإذا ما جابهك بذلك قلت: أنا أريد أن أنصحك، فهذا ليس بنصيحة، هذا هو المراد عند أهل العلم، وما زال المسلمون على هذا الأمر، ثم إن كثيراً من بعض الإخوة يقصر فهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إنكار المنكر فقط، فإذا رأى بعض الدعاة أو بعض المشايخ ينكر المنكر قال: لم أر أحداً قائماً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير هذا الشيخ، فقصر ذلك على إنكار المنكر فقط، مع أن الشارع الحكيم قال: ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإن الأمر بالمعروف أعظم من النهي عن المنكر؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، أما النهي عن الشيء فليس أمراً بضده، ثم إن من علمائنا الأجلاء، ومن علماء الدين من هو معروف في بيان الحق تدريساً وتعليماً وتوجيهاً ومحاضرة، فهذا له نصيب وافر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه حقق أحد أصلي هذه الشعيرة، فلا ينبغي أن نفهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه هو النهي عن المنكر فقط، بل إن من أعظم ما أوصى الشارع به هو الأمر بالمعروف، ولهذا تجدون أكثر بيان محمد صلى الله عليه وسلم في سنته إنما هو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن أمر بالمعروف فهو بطبيعة حاله قد نهى عن المنكر، لكن من نهى عن المنكر لا يلزم أنه يأمر بالمعروف، وهذه مفاهيم أحياناً تخفى على بعض الناس، ولهذا صار أئمة الدين وعلماء الملة عنايتهم بهذا الباب أعظم، أعني: باب الأمر بالمعروف؛ لأن الناس بطبيعة الحال تحب من يبين لها فإذا أنا بينت لك أوامر الله وبينت لك هذا الأمر، وبينت لك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فأحياناً أكتفي عن النهي عن المنكر، لكن إذا قلت: هذا حرام، وهذا لا يجوز، وهذا كذا, قال لك العامة لأن عقولهم صغيرة: كل شيء صار حراماً، لكن إذا أنت بينت له فسحة الدين، وأن الشريعة الإسلامية جاءت بأبواب واسعة من الحلال فإنه ربما يترك كثيراً من المنكر، ولهذا قال حذاق من أهل العلم: ينبغي للمستفتي إذا سئل عن أمر محرم أن يرشد السائل إلى ما هو مباح.
الجواب: أولاً: كتاب التمهيد لـابن عبد البر لم يشرح إلا الأحاديث المسندة من موطأ مالك ، فلم يشرح المقطوعات، ولم يشرح الموقوفات، ولم يشرح البلاغات، ولم يشرح الاجتهادات من مذهب مالك كما سوف يأتي بيانه، إنما شرح الموصولات المسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع بيان وجه الاستدلال والتوجيه مع ذكر الرواية في ذلك، وعلل الأخبار والأحاديث الواردة في الباب ونحو ذلك، أما كتاب الاستذكار فإن يوسف بن عبد البر قد تكلم في كل ما أشار إليه مالك ذاكراً أقوال الصحابة والتابعين وأدلة بعضهم ومستندها، وأحياناً يزيد كتاب الاستذكار في بيان مذهب مالك رحمه الله وتحريره أكثر مما يذكر في التمهيد، وهذا -أعني به: كتاب الاستذكار- من أعظم كتب أئمة الدين، ولو أن طالب العلم لا يعرف من كتب أئمة الدين إلا كتاب السنن الكبرى للبيهقي ، والمغني لـابن قدامة ، والاستذكار لـابن عبد البر ، والمحلى لـابن حزم ، وفتح الباري لـابن حجر، ومجموع الفتاوى لـابن تيمية، فإنه يكون إماماً من أئمة الدين. هذه ستة كتب، اجعلها نصب عينيك وحولهما تدندن, فإني أجزم أنك إذا عرضت عليك مسألة من مسائل الإسلام، أو من شرائع الدين فرجعت إلى مثل هذه الكتب, فإنك سوف تصل إلى بر الأمان مع قصر في الطريق وراحة في البال.
الجواب: والله يا أخي! سألتني عن الحد عند الأصوليين أن يكون جامعاً مانعاً، ولا أعلم كتاباً جامعاً مانعاً في هذا إلا أني أذكر لك بعض الكتب التي يستفيد منها طالب العلم.
وأنصح بكتاب: مصادر كتابة البحث العلمي ومصادر الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور: عبد الوهاب بن سليمان وهو كتاب نفيس في بابه.
ومن الكتب كتاب للدكتورة: مريم غضبان وهو كتاب نفيس، اطلعت على فهرسه، ولكن لم أظفر به؛ لأنه في الإمارات العربية المتحدة ولم أره، لكنه قد جمعت شيئاً كثيراً.
وهناك أيضاً كتاب: المدخل إلى المذاهب الفقهية للأستاذ الدكتور: علي جمعة وهو كتاب متأخر، كتاب لا بأس به في بابه. وكتاب: المدخل في الفقه الإسلامي لـمصطفى شلبي ، وكتاب: مرجع العلوم الإسلامية للأستاذ الدكتور: محمد زحيلي .
وأختم فأقول: هذا مذهب مالك رحمه الله على سبيل الاختصار، وإن كان من الكتب المحققة لكتب المالكية ما اعتنى ببيان مثل هذا، مثل: كشف المغطى في مصطلحات وأقوال الموطأ لـمحمد الطاهر بن عاشور وهو كتاب نفيس في بابه، ومقدمة بعض المحققين لكتب المالكية مثل مقدمة عقد الجواهر الثمينة، وبعض محققي مواهب الجليل للحطاب ، فإنهم تكلموا في هذا كلاماً نفيساً، وكتب المالكية مع الأسف لم تخدم كما خدمت كتب المذاهب الثلاثة، ويا حبذا ويا ليت أن تشمر همم الإخوة لإخراج بعض الكتب النفيسة من المخطوطات التي أصبحت رهين الركود في المكتبة الظاهرية، والمكتبة الظاهرية فيها مخطوطات جيدة، فيها كتب من كتب المالكية لكنها غير مرتبة بخلاف المذاهب الثلاثة، وأرى أن بعض الأكاديميين في الإمارات العربية المتحدة أصبحت لهم عناية في المذهب المالكي, ورسائلهم جيدة في هذا الأمر، وكذلك المغرب الإسلامي لهم كتابات نفيسة للغاية، وهم يمتازون في دقة البيان وروعة البيان في كتبهم، رحمة الله تعالى على أئمة الإسلام.
نقف عند هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر