إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد.
نبدأ بباب سجود السهو والأحاديث: حديث عمران، وحديث أبي سعيد .
الحديث الأول: حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد ثم سلم ).
وقال الترمذي كما في النسخة المطبوعة بعناية الشيخ أحمد شاكر، قال: هذا حديث حسن صحيح غريب، أو قال: هذا حديث حسن غريب صحيح.
فقول المصنف رحمه الله هنا: وحسنه يعني: الترمذي، هذا في نسخة، وفي نسخ أخرى أنه صححه، يعني: قال: حسن صحيح غريب، وكذلك أخرجه النسائي في كتاب السهو، والبغوي، والحاكم كما في المستدرك، وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وخرجه ابن حبان في صحيحه كما في الإحسان .. وغيره.
فيتضح من هذا التخريج أمران:
الأول: أن الحديث قد صححه الترمذي رحمه الله، والحاكم، والذهبي، وابن حبان .
الأمر الثاني: أن التراجم التي وضعها الأئمة على هذا الحديث أبرزت الحكم الذي تميز به هذا الحديث عن غيره من أحاديث السهو، ما هو الحكم الذي برز في هذا الحديث؟ التشهد بعد سجود السهو؛ لقوله: ( ثم تشهد ) كما في تبويب الترمذي، وأبي داود، والبيهقي، والنسائي .. وغيرهم.
وقد ضعف الحديث بالمقابل جماعة، منهم: الإمام البيهقي، وابن عبد البر .. وغيرهما، ولعل تضعيفهم لهذا الحديث من جهة شذوذه في متنه لا من جهة إسناده، فإن ظاهر إسناده الصحة والقوة، كما حكم عليه الأئمة السابقون، فالذين حكموا بشذوذه ربما حكموا بشذوذه لأنه من رواية أشعث بن عبد الملك الحمراني عن ابن سيرين، وقد خالف أشعث غيره من الحفاظ الذين رووه عن ابن سيرين ولم يذكروا فيه هذا الحرف: (ثم تشهد).
بل أكثر من ذلك أن السراج روى في مسنده -وهو مخطوط فيما أعلم- السراج روى في مسنده هذا الحديث من طريق سلمة بن علقمة عن ابن سيرين وقال: (قلت لـابن سيرين : فالتشهد؟ -يعني: هل تشهد أو ما تشهد؟- فقال: -يعني: ابن سيرين - لم أسمعه ذكر في التشهد شيئاً)، فهذا الإسناد الآن من طريق ابن سيرين نفسه في مسند السراج، ونفى أن يكون سمع في التشهد شيئاً، فهذا يقوي أن يكون أشعث بن عبد الملك قد وهم في هذا الحرف: (ثم تشهد)، وفي نسبته إلى ابن سيرين، هذا وجه.
وكذلك ابن سيرين نفسه روى الحديث عن خالد الحذاء، إذاً: فإسناد الحديث أشعث بن عبد الملك عن محمد بن سيرين عن خالد الحذاء، فـأشعث رواه عن ابن سيرين وتفرد فيه بحرف: (ثم تشهد) هذا أشعث، كذلك ابن سيرين روى الحديث عن خالد الحذاء، وقد روى هذا الحديث غير ابن سيرين عن خالد، فلم يذكروا هذا التشهد.
إذاً: فالمحفوظ عن خالد الحذاء بهذا الإسناد من حديث عمران بن حصين ليس فيه ذكر التشهد، وهذا موجود حتى في صحيح مسلم رحمه الله، فإنه روى حديث عمران من طريق خالد الحذاء، ولم يذكر فيه لفظ: (ثم تشهد)؛ ولذلك قال ابن المنذر كما نقله جماعة -نقله في المغني، ونقله النووي .. وغيرهم- أن ابن المنذر قال: لا أحسب التشهد في سجود السهو ثابتاً. يعني: إنما ورد في الغالب من حديث عمران بن حصين، وجاء من حديث المغيرة حديث آخر ضعيف أيضاً، لكن المشهور حديث عمران.
فالحديث إذاً قوي، ولكن هذا الحرف: (ثم تشهد) أشبه بأن يكون شاذاً.
أولاً: محل التشهد في سجود السهو في أي حالة يكون؟ هل كل سجود سهو يحتمل أن يكون بعده تشهد أم سجود خاص؟ الغالب أن الكلام في التشهد إذا كان السجود بعد السلام، هذا هو الغالب، وحديث عمران لا مانع أن يكون مختصراً هنا، يعني: ( فسها فسلم ثم سجد سجدتين، ثم تشهد ثم سلم ) هذا احتمال، لكن أكثر كلام الفقهاء على سجود السهو والتشهد بعده إذا كان بعد السلام؛ لأن موضعه بعد السلام، مثل: السجود عن زيادة، وحديث عمران هنا عن زيادة؛ لأنه نقص في الصلاة، فأكمل ثم سلم، ثم سجد ثم سلم.
فسواء كان السجود للسهو بعد السلام؛ لأن محله بعد السلام، أو لأنه نسي السجود ولم يذكر إلا بعدما سلم، وفي هذه المسألة أربعة أقوال أسوقها باختصار:
وهو أيضاً قول جماعة من التابعين، كـالنخعي وقتادة وحماد والثوري .. وغيرهم وقول بعض الأئمة المتبوعين كـالأوزاعي إمام أهل الشام، والشافعي، وأصحاب الرأي؛ أبي حنيفة .
ودليل هذا القول هو حديث الباب، وشواهده، وقد ذكرت منها: حديث المغيرة بن شعبة وهو ضعيف، وأثر ابن مسعود رضي الله عنه.
حديث المغيرة بن شعبة عند البيهقي .. وغيره، وهو حديث ضعيف، ومثله أثر ابن مسعود عند ابن أبي شيبة وهو صحيح، ولكنه موقوف عليه.
فاستدلوا بذلك على أن بعد سجود السهو جلوس وتشهد، ثم سلام بعد ذلك، وكأن المأخذ حينئذ ليس وجوب التشهد عندهم، وإنما يرون الاستحباب، يرون أنه مستحب، فإذا قلنا: إنهم يقولون: يتشهد ويسلم، ليس معناه وجوباً وإنما استحباباً والله أعلم، وإلا فقد نقل غير واحد الإجماع على أنه لم يقل أحدٌ بوجوب التشهد بعد سجود السهو، نقله غير واحد أنه لا يجب التشهد بعد سجود السهو، هذا قول.
ثم قال: ولأنه سجود مفرد -يعني: سجود السهو- فلم يجب له تشهد، فهو في ذلك كسجود التلاوة)، فكأن الإمام ابن قدامة رحمه الله يميل إلى هذا القول.
المصنف ساق حديث عمران الذي هو حديث الباب، لكن حديث عمران بن حصين الآخر في صحيح مسلم وغيره، فيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سلّم في صلاة العصر من ثلاث، فقيل له، فقام وأتم صلاته، ثم سجد سجدتي السهو، ثم سلم ) وهو في الصحيح.
وأما حديث ابن مسعود وهو أيضاً في صحيح مسلم , ففيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سها في الصلاة فسجد سجدتين ثم سلم )، ففيهما وفي حديث أبي هريرة أيضاً إثبات التسليم.
أما مسألة التشهد فإنما تثبت من حديث عمران، وهو حديث الباب، وقد سبق أن بينت أن هذه اللفظة شاذة، ولا يوجد ما يقويها من أحاديث صحيحة، فقد جاءت في حديث آخر عن المغيرة، وهو حديث ضعيف أيضاً.
فبناء عليه نقول: إن التسليم ثابت، أما التشهد فلا يثبت، فيكون القول الثالث حينئذ أنه يسلم ولا يتشهد، وهو قول ابن سيرين وابن المنذر والبغوي، ووجه عند علماء الشافعية، ورجحه ابن قدامة، فيكون هذا القول هو الأحرى بالقبول.
وكذلك رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة، والطحاوي وأبو عوانة والبيهقي وابن الجارود والبغوي وأحمد والدارقطني .. وغيرهم.
هو رواه مسلم، وصححه ابن حبان وابن خزيمة وغيرهما من أهل العلم.
طيب يطرح الأربع ويبني على الثلاث، إذاً قوله ( فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ) معناه أنه يأخذ بالأقل، فإذا شك لم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً؟ يعتبر أنه صلى ثلاثاً، فهذا هو اليقين، وما هو الذي يدل على أن هذا هو المعنى من الحديث نفسه؟
نعم قوله في آخر الحديث: ( فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته ) يعني: سجدتي السهو، ( وإن كان صلى أربعاً كانتا ترغيماً للشيطان ) .
فدل على أنه زاد ركعة، هو لم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، اعتبر أنه صلى ثلاثاً فأتى برابعة، فحينئذ يحتمل أن يكون صلى أربعاً فعلاً، فتكون هاتان السجدتان ترغيماً للشيطان، ويحتمل أن يكون صلى في الأصل أربعاً وشك فأتى بخامسة فتكون ركعاته خمساً، وتكون السجدتان حينئذ شفعاً لصلاته، فدل على أن المقصود بطرح الشك والبناء على ما استيقن حينئذ، أنه يأخذ بالأقل، وهذا مهم؛ لأنه سوف يأتي إن شاء الله في الدرس القادم مع ابن مسعود مزيد إيضاح لهذه النقطة.
وهذا المعنى جاء منصوصاً عليه في حديث رواه الترمذي وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنه عن عبد الرحمن بن عوف مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( إذا سها أحدكم فلم يدر كم صلى واحدة أو اثنتين؟ فليبن على واحدة ) ( إذا سها أحدكم فلم يدر كم صلى واحدة أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن سها فلم يدر كم صلى ثنتين أو ثلاثاً فليبن على اثنتين، فإن سها فلم يدر كم صلى ثلاثاً أو أربعاً فليبن على ثلاث ) هكذا ساقه الترمذي، ثم قال : ( وليسجد سجدتين قبل أن يسلم ) . وقال الترمذي عقب روايته قال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وقد رواه أيضاً غير الترمذي، رواه ابن ماجه وأحمد والحاكم .. وغيرهم، وصوب غير واحد من أهل العلم أن الحديث مرسل؛ لأنه من رواية محمد بن إسحاق عن مكحول، وفي روايته عنه نظر. قد حكم جماعة من أهل العلم أن الصواب أنه مرسل، ليس فيه ذكر ابن عباس رضي الله عنه.
طيب قوله: ( فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته ) أي: جعلن صلاته شفعاً؛ لأن الخمس وتر، وصلاة الظهر أو العصر أو العشاء رباعية، وهي موضوع الحديث؛ لأن الكلام على صلاة رباعية، فإذا صلى خمساً عن طريق السهو احتاج إلى أن يشفع صلاته، حتى ينصرف على شفع، فإذا سجد سجدتين شفعن له صلاته، هذا المعنى، فالشفع ضد الوتر.
ويحتمل أن يكون المعنى أن هذا الوتر كان عن طريق الخطأ، فإذا سجد سجدتين كانتا جبراً لهذا النقص الحاصل في الصلاة؛ لأنه وإن كانت زيادة، إلا أنه نقص في الواقع، فكأنه يزيل نقص هذا بزيادة هذا.
ثم قال: ( وإن كان صلى تمام الأربع كانتا ترغيماً للشيطان ) (ترغيماً للشيطان) أي: إرغاماً لأنفه من الرغام، بضم الراء بزنة غراب وهو التراب، فالرغام هو التراب، تقول: وضع أنفه في الرغام، أي: أذله ووضع أنفه في التراب.
وقوله هنا: ( ترغيماً للشيطان ) يعني: إذلالاً له، ومخالفةً لأمره، وذلك لأن في تينك السجدتين مخالفة لمقصود الشيطان، الذي أراد أن يلبس على الإنسان صلاته.
والمراغمة في الأصل هي المخالفة؛ ولذلك في الحديث المشهور: ( وإن رغم أنف أبي ذر
ولليقين أيضاً صورة أخرى في غير العدد هي شك هل فعل الشيء أو لم يفعله من أعمال الصلاة؟ كأن شك مثلاً هل سجد أم لم يسجد؟ هل ركع؟ هل قرأ الفاتحة؟ فهذا إذا لم يترجح لديه شيء؛ فإنه يعتبر أن اليقين أنه لم يفعل، وأن ذمته لم تبرأ بفعل هذا الشيء.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر