إسلام ويب

ألا لله الدين الخالصللشيخ : عبد الرحمن السديس

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الدين على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمره بالإخلاص له في الدعوة؛ لكي تثمر دعوته ويكثر الله أتباعه، ثم إن الله عز وجل أمر المؤمنين أن يخلصوا في طاعتهم لربهم في شتى العبادات، كالعلم والدعوة والعبادة وغير ذلك.. وقد تعرض الشيخ في هذا الدرس لأهمية الإخلاص وتعلقه بالدين قولاً وعملاً واعتقاداً.

    1.   

    الإخلاص وجوانب أهميته

    إن الحمد لله، نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

    فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعــد:-

    أيها الإخوة في الله! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك في مدينة جدة عبر هذه الكلمة المتواضعة التي منّ الله بها عليّ، فالتقيت بإخوة فضلاء نُحبهم في الله، جمعنا بهم طريق الهدى، ومنهج الإسلام والتقى، والدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فإنها لنعمة عظيمة أن نلتقي في هذا المكان الطيب المبارك، قرب بيتٍ من بيوت الله، ولعل هذا من نشاط إخواننا في جدة -وفقهم الله- الذين لم تقتصر محاضراتهم على المساجد فقط، وإنما شملت حتى الميادين، ويذكرنا هذا اللقاء برحلة برية نلتقي فيها عبر الهواء العليل، والظل الظليل، والمكان المناسب.

    كيف لا؟! وكل اجتماع خير تحفه ملائكة الرحمن، ويذكر الله الحاضرين فيمن عنده، نسأل الله أن يشملنا وإياكم بمنه وكرمه.

    وليس المراد المكان بقدر ما يكون المراد اللقاء والتوجيه والمشاركة والذكرى، فإن الذكرى تنفع المؤمنين.

    أشكر الله تعالى أولاً وآخراً على جميع مننه وآلائه، ثم أشكر المنظمين لهذه المحاضرة في مركز الدعوة وغيرهم من إخوة نذروا أنفسهم لله، ويعملون وينظمون المحاضرات التعاونية بتوجيه ومعونةٍ لإخوانهم في المراكز الرسمية، فأثابهم الله وبارك في جهود الجميع، ثم نشكر جميع الحاضرين الذين آثروا اللقاء في هذه الليلة المباركة، رغم أنها ليلة من الليالي التي يكثر فيها انشغال الناس، لا سيما والوقت عشاء، فلعل صاحبكم لا يطيل عليكم بالكلمة المختصرة التي تشمل موضوعاً غايةً في الأهمية، لا يستغني عنه كل مسلم؛ بل يحتاجه كل إنسانٍ في هذه الحياة؛ لأن مصيره الأخروي وحياته الدنيوية وصلاحها واستقامتها وسعادتها، مرهونةٌ بتحقيق هذا الأمر المهم، ألا وهو أمر الإخلاص لله تعالى.

    أيها الإخوة! ما أهمية هذا الموضوع، وما جوانب أهميته؟

    وما تعريف الإخلاص عند أهل اللغة، وما أقوال أهل العلم في تعريف الإخلاص؟

    وما هي الآيات والنصوص الدالة على هذا الأمر المهم؟

    وما هي الأحاديث النبوية الشريفة التي جاءت في هذا الجانب؟

    وما هي أقوال السلف في هذا الأمر المهم؟

    ثم ما هي أحوالنا وما أوضاعنا تجاه هذه القضية المهمة؟

    لننظر في أحوالنا وفي واقعنا، هل حققنا الإخلاص لله، أم أن هناك شوائب أُخرى أثَّرت على إخلاصنا، وإيماننا وتوحيدنا وعقيدتنا؟

    ما هي أسباب وجود الإخلاص في نفس العبد، وما دوافع ذلك، وما مجالات الإخلاص التي تحول دون تحقيق الإخلاص؟

    ما هي الأسباب التي تؤثر على الإخلاص، وما الآثار النافعة التي يُحققها الإخلاص في الدنيا والآخرة؟

    هذه بعض الجوانب التي يحتاجها المتحدث والسامع لهذه القضية المهمة.

    إن هذا الموضوع المهم -الذي هو موضوع الإخلاص- تأتي أهميته من ثلاثة أمور:

    الإخلاص شرط لقبول الأعمال

    الأمر الأول: أن هذا الموضوع يعتبر من الأهمية بمكان، حيث إنه شرطٌ لقبول الأعمال، فالأعمال لا تُقبل إلا إذا كانت خالصةً لله عز وجل، صواباً على سنة الحبيب المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرٌ هذه مكانته، جدير بنا أن نتواصى به! ألا يجدر بنا أن نذكر به؟! ألا يجدر بنا أن نعرفه وأن نربط أنفسنا به؟ لأن هذا أمرٌ مهم! ولا تُقبل الأعمال إلا إذا حققت هذا الشرط.

    اعتناء الشريعة بموضوع الإخلاص

    الأمر الثاني: أن هذا الموضوع المهم قد جاءت به نصوص الشريعة، من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فعشرات الآيات والأحاديث تركز على هذا الموضوع المهم، وما ذاك إلا لأهميته، وأنه أساس متين ينبغي على كل عاملٍ وعالمٍ ومسلمٍ أن يعرفه ليطبقه.

    إهمال الناس لجانب الإخلاص

    الأمر الثالث: تفريط كثيرٍ من الناس في هذا الجانب المهم... إي والله! تفريطٌ عظيم، وتقصير كبير، فكم من الأمور التي تزاحم الإخلاص؟! وكم من الاهتمامات التي تعوق مسيرة الإخلاص؟! وكم من الأمور التي تخالط النفوس والقلوب؛ فتؤثر في مجراها الصحيح، لتصرف العمل لغير الله، أو تصرفه لله مع ما يلحقه من الشوائب المنقصة للعمل، أو المحبطة له والعياذ بالله!!

    إننا في زمانٍ غلبت فيه الماديات، وكثرت فيه المغريات، وأصبح الإخلاص عزيزاً عند كثيرٍ من الناس، وأصبح الإخلاص قليلاً في اهتمامات كثير من العاملين، ومع الأسف الشديد!!

    ولهذا قال بعض السلف : "إن الناس كلهم هلكى؛ إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى؛ إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى ؛ إلا المخلصون، والمخلصون على خطرٍ عظيم!".

    هناك أعداء ضد تحقيق الإخلاص، من داخل النفس ومن خارجها، أمورٌ زيَّنها الشيطان لكثيرٍ من الناس؛ في العلم والدعوة والإصلاح.. في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. في العبادة.. في السلوك، حتى انحرفت بهم الجادة إلى غير الطريق المستقيم، عافانا الله وإياكم: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:103-104].

    1.   

    تعريف الإخلاص

    الإخلاص في اللغة

    الإخلاص في اللغة: من خلص يخلص خلوصاً، وأخلص يخلص إخلاصاً، وهذه اللفظة ذات ا لحروف الثلاثة (الخاء.. واللام.. والصاد) تدل على السلامة، وعلى الصفاء والنقاء من الشوائب.

    تقول:(ذهب خالص) إذا كان سالماً من الشوائب التي تؤثر على صفائه ونقائه، وتقول: عمل خالص: إذا كان محققاً للشروط التي تجعله مقبولاً وصالحاً ومتبعاً فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    الإخلاص في الشرع

    عرَّف عُلماء السلف الإخلاص بأنه: العمل لله دون شوائب محبطة له، أو دون الشوائب التي تنقصه وتؤثر عليه.

    حقيقة الإخلاص

    إخلاصٌ لله بأن الله هو الخالق الرازق الرب المحيي المميت المعبود، فلا معبود بحقٍ سواه، الذي يجب أن تصرف له العبادة: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

    هذا هو الإخلاص، أن تكون الحياة.. وأن يكون الممات.. وأن تكون الصلاة.. وأن يكون النسك والعبادة كلها خالصة لوجه الله، لا تصرف لأحد، ولا لبشر، ولا لحجر، ولا لبقر، ولا لطاغوت، ولا لوثن، ولا لأحد من الناس كائناً من كان، هذه هي العبادة لله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وهذا الأمر هو حقيقة دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، فالرسل عليهم صلوات الله وسلامه إنما بُعثوا لدعوة الناس إلى الإخلاص في عبادة الله وحده لا شريك له ، وترك ما يعبده الآباء والأجداد والأهل.. ترك ما يعبده كل الناس من عبادةٍ ما سوى الله وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء:36]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

    وكل نبيٍ يُبعث إلى قومه يقول: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فلا دعوة إلى أشخاص، أو إلى زعامات، أو جماعات، أو أحزاب، أو مناصب، أو للدنيا وكل أمرٍ وجانبٍ منها، بل دعوة لله وإلى الله؛ يقول تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

    هذه هي القضية التي ينبغي أن يرتبط بها الناس والأجيال، ويرتبط بها الدعاة.. قضية العقيدة.. والإيمان.. والتوحيد لله، وإخلاص العمل لوجه الله تبارك وتعالى، هذا هو الأمر الذي ينبغي أن نهتم به.

    أيها الشباب... أيها الدعاة.. أيها الإخوة الأحباب! أينما كنتم وحيث ما حللتم، نحن أمة نرتبط بمنهج وبتوحيد، ونرتبط بعقيدة صحيحة، وبإيمانٍ بالله الواحد القهار، فيجب أن نعلمه ونعمل به، وأن ندعوا إليه، وأن نصبر لما يصيبنا من الأذى فيه، وأن تكون حياتنا ومماتنا كلها في هذا السبيل، هذه هي حقيقة الإخلاص.

    أيها الإخوة الذين نحسبكم مخلصون ولا نزكي على الله أحداً! وما هذا الموضوع إلا للتذكير بهذه القضية، في وقتٍ زاحمت فيه كثيرٌ من الاهتمامات الجانب الرئيس في الإخلاص، وأصبح ولاء الناس -بل كثيرٌ من الناس- لغير الإخلاص عياذاً بالله، فينبغي أن يراجع الإنسان نفسه، وأن يحاسبها، وأن يقومها على منهج السلف الصالح رحمهم الله ورضي عنهم.

    1.   

    الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الإخلاص

    أيها الإخوة! حديثٌ عظيم -كلكم يعرفه- يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات! وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ).

    حديث عظيم في النية ومكانتها، والنية: هي التي ينبني عليها الإخلاص لله عز وجل، فالعمل بلا نية -كما قال أهل العلم- عناء، وعمل بلا إخلاص هباء، والعياذ بالله، يقول الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23].

    وقاعدة النية قاعدة عظيمة ، اعتنى بها علماء الإسلام، وصدر كثيرٌ من أهل العلم في الحديث وغيرهم كتبهم بهذا الأمر المهم ، تذكيراً بشأن النية، وأن على المسلم أن يكون ذا نية، وأن يكون مخلصاً نيته لله تبارك وتعالى، يقول الله عز وجل: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر:2] أمرٌ بالعبادة؛ والعبادة لا تكون عبادة إلا إذا كانت خالصة لوجه الله: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2-3].

    بلى والله! لله الدين الخالص، وتعالى الله عما يُشرك به المشركون علواً كبيراً.

    الله سبحانه هو الذي منّ علينا في هذه الحياة وخلقنا ورزقنا، وما بنا من نعمة فمنه وحده، ومن قلة الحياء عقلاً أن تتوجه إلى غيره، فكيف وقد جاءت النصوص الشرعية، وأصبح إيمان العبد لا يصح إلا بتحقيقه لله وحده.

    الله سبحانه يجب أن تُصرف له العبادة بكل ما تحمله كلمة (العبادة) من معنى، فكل تحرك ينبغي أن يكون لله، ولهذا ينبغي على المسلم المحب نجاته أن يعرف خطواته.. كم منها لله؟ وكم منها لغير الله؟

    وأن يعرف لقاءاته وجلساته، وأن يعرف اهتماماته، هل هي لله أو تشوبها شوائب من العمل للدنيا أيَّن كانت؟

    يقول تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [ الزمر:11-15].

    إن يرضى عني الناس أو إن يسخطوا      أنا لم أعد أسعى لغير رضاك

    على المسلم أن يلتمس رضا الله وإن سخط الناس كل الناس، عليه أن يسير على منهج كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وفهم السلف الصالح ، المأخوذ من العلماء الربانيين الذين يبينون للناس ما خفي عليهم، ويبينون الحق عند التنازع والاختلاف من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.

    أما الذين يعملون لغير الله؛ فإن أعمالهم وبالٌ عليهم والعياذ بالله! أو من يعملون أعمالاً لكنهم يقعون في الرياء الذي يُناقض الإخلاص أو ينقصه، والعياذ بالله.

    أن ينظر الإنسان إلى أعمال الناس وإلى أقوالهم، وأن يلتمس مدحهم وثناءهم وإعجابهم ، فالناس هم الذين يوجهونه، وهم الذين يريدون منه أن يفعل كذا فيفعل، ويلتمس رضاهم ويبحث عن ثنائهم، ويسأل عن مدى إعجابهم، هذه هي البلية التي تناقض الإخلاص، والعياذ بالله!

    مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].

    مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20] مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء:18-19].

    أيها الإخوة! فلنكن ممن يريد الآخرة بعمله، فالدنيا سوف تأتيك وهي راغمة ولن يأتيك من الدنيا إلا ما كُتِبَ لك، فلا تنظر إلى الناس ولا إلى مدحهم، كباراً كانوا أو صغاراً، بل يجب عليك أن تسلك رضا الله وإن سخط الناس.

    نعم! المسلم يأتيه مدح الناس وثناؤهم؛ لكنه لا يتطلع إليه إن جاءه شيء، فذلك مشجعٌ له على الخير؛ كما قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح حينما سُئِلَ عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليعمل بالعمل ابتغاء وجه الله فيمدحه الناس، قال: تلك عاجل بُشرى المؤمن ).

    لكن الخطر كل الخطر! أن يلتمس الإنسان رضا الناس على معنى أنه يعمل فيما يرضيهم، وإن سخط الناس أحجم عن العمل وإن كان عملاً شرعياً، ولهذا يقول بعض السلف : "ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك".

    أن تعمل لأجل أن يراك الناس، أو لأجل الناس فهذا شرك.. والعياذ بالله!!

    أما أن تترك العمل الصالح للناس فذلك من باب الرياء؛ لأنك لم تنظر إلى ما يريده الله، وإنما نظرت إلى آراء الناس وكلامهم ورضاهم، وليس معنى ذلك: أن الإنسان يضرب بآراء الناس عرض الحائط، لكن يسمع كلام الناس ويأخذ منهم، ويفتح قلبه وصدره لهم، ويناقشهم ويجادلهم بالحسنى، لكن الحق أحق أن يُتَّبع، أما إذا رضي الناس إلا أن تترك الخير، أو تترك السنة، أو تترك المعروف، فليسخط الناس كلهم، ولكن على الإنسان أن يبين لإخوانه في الله، ويبين للناس ما ينبغي أن يعرفوه من أمور دينهم، ولا ينبغي أن يعرفوه عند الاختلاف والتنازع، وأن يكون معروفاً مأخذه ورأيه، ومستنداً إلى دليل من كتاب أو سنة، ويكون أهل العلم هم الذين يبينون النزاع فيما وقع فيه النزاع: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83].

    1.   

    علاقة الاعتقاد بالإخلاص

    أيها الإخوة! إن قضية الاعتقاد والإخلاص، ينبغي أن نتنبه لها لا سيما في هذا الزمن، لأننا نشهد ما يزاحمها من الأعمال، ونشهد أن الناس في تفريط، الذين يذهبون إلى غير الله، أو يتوجهون إلى غير الله، في طلب نفع، أو دفع ضر، أو شفاء مرضى، أو طلب حاجات، أو رد غائب، أو سؤال للنجاح، أو التوفيق من غير الله، أو الذين يعملون لغير الله، أو يذهبون إلى القبور ومن يسمونهم بالأولياء، أو الأضرحة، أو السحرة، أو المشعوذين، أو الدجالين.. ماذا تطلبون منهم؟ أين الإخلاص لله عز وجل؟!

    لو كان هؤلاء عندهم إخلاصٌ لله لعلموا أن الشافي هو الله: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80] وأن الناس لا يستطيعون جلب نفع، أو دفع ضر إلا بإذن الله، هذا ينبغي أن يعرفه المسلمون؛ لأننا نلمس قصوراً كبيراً في جانب التطبيق عند كثير من المسلمين.

    ولا يقلل في هذه القضية من يعرف العقيدة أو من يعرف الواقع على حقيقته، فليس الواقع يُعرف من الناحية السياسية، ويغفل من الجانب العقدي الذي هو القضية الأساس وأصل الأصول كلها، وقضية القضايا باتفاق، وأهم القضايا على الإطلاق، والعقيدة لا قائل: إنها في هذا الزمن ليست مهمة، أو إن الناس على عقيدة صحيحة!! هؤلاء الذين يقولون ذلك، ليعرفوا ما عليه حال كثير من الناس في كثيرٍ من البلاد الإسلامية.

    وإذا كان الله عز وجل بمنِّه وكرمه طَهر بلاد الحرمين، فليس فيها وثنٌ يعبد ولا صنمٌ يقصد، فإن في كثيرٍ من البلاد ما يشتكى إلى الله من التقصير في هذا الجانب المهم.

    فينبغي على الدعاة إلى الله وعلى طلبة العلم أن يعنوا بهذا الأمر غاية العناية، وأن يعلموا أن هذه هي القضية الأساس، فلا يدعى الناس إلى فكر ولا إلى سلوك ورقائق، ولا يدعى الناس إلى مناهج ومذاهب ومشارب، وإنما يدعى الناس إلى ما دعا إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

    لكن على المسلم ألا يقلل من جهود إخوانه الدعاة، وأن يعرف لهم فضلهم وسبقهم، وليكن عوناً لهم في الخير (كل ابن آدم خطاء) وكل بني الإنسان يُخطئ، لكن علينا أن نتواصى ونتعاون على الحق وبيانه والإرشاد إليه، وأن يتناصح الدعاة إلى الله فيما بينهم، ليرجع من ضل منهم إلى الهدى -هذا هو الواجب- بلا تشهير وبلا تتبعٍ للسقطات، ولا نشر للسوءات، بل ينبغي أن يكون برفقٍ وحكمة، ليكون ذلك أدعى إلى القبول، وأقرب إلى الإخلاص .

    إن من القواعد المقررة في الشريعة: (الأمور بمقاصدها).

    عمدة الدين عندنا كلمات      أربع من كلام خير البرية

    اتق الشبهات وازهد ودع      ما ليس يعنيك واعملن بنية

    النية ينبغي أن نتواصى في حسنها وإخلاصها وصدقها، وأن تكون خالصة لوجه الله عز وجل، فو الله لن تصيب من الدنيا إلا ما كتب لك، ولن تبلغ الكراسي، ولا المناصب، ولا الزعامات يوم أن تعمل لغير الله، ووالله لن تصيب المكانة والشهرة يوم أن تدعو لغير الله، ولا يكون لدعوتك ولا لعلمك قبولٌ عند الناس، ولا أثرٌ في الدنيا ولا في الأخرى إلا بقدر إخلاصك لوجه الله.

    1.   

    حالنا مع الإخلاص

    وانظر -أيها اللبيب- إلى أحوال الناس في ذلك، واعلم أنَّ تعثر كثيرٍ من طلبة العلم ومن الدعاة إلى الله، ووقوع كثيرٍ من الناس في مآزق... كلُّ ذلك قد يكون ابتلاءً وامتحاناً من الله، وقد يكون لحظوظ النفس شيء وأثرٌ في ذلك، ولا يتهم أحدٌ من المسلمين، ولا نخوض في مقاصد الخلق، لكن هذه سنة ماضية، وسنة جارية، منذ بزوغ فجر الدعوة وإلى اليوم.

    وانظروا! إلى الأثر البارز لرجالٍ ودعاة وعلماء في هذه البلاد وفي غيرها، نفع الله بهم البلاد والعباد، وظلوا سنين بل عشرات من السنين والله ينفع بهم، ولدعوتهم وعلمهم أثرٌ وصدىً وقبول، وهذا دليل إخلاصهم وصدقهم ولا نزكي على الله أحداً؛ لكن ينبغي أن نعلم أن قضية الإخلاص قضية مهمة.

    فحاسب نفسك يا عبد الله! ويا طالب العلم! ويا أيها الداعية إلى الله! ويا أيها المسلم! ويا أيها التاجر الثري! ويا أيتها المرأة المسلمة! ويا أيها الشاب! ويا أيها العامل للإسلام في أي موقع! ويا أيها المسلم أياً كان مكانك! انظر في نفسك.. وانظر في إخلاصك وحاسبها في هذا الجانب المهم أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3].

    واعلم أن الله لا يقبل منك علماً، ولا عملاً، ولا عبادةً، ولا دعوةً، ولا سلوكاً ولا أخلاقاً؛ إلا إذا كنت مخلصاً فيه لوجه الله تبارك وتعالى، مبتعداً فيه من الرياء الذي هو محبطٌ للعمل: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر! فُسئل عنه؟ فقال: الرياء ) أخرجه مسلم في صحيحه .

    فنحن على خطر أيها المسلمون.. أيها العلماء.. أيها الدعاة.. أيها الخطباء.. أيها القراء! علينا أن ننظر إلى إخلاصنا لله، وإلى تعاملنا مع الله.

    لننظر هل الذي يدفع في العلم والعمل والدعوة هو رغبة الناس.. كثرتهم.. جمهرتهم ، ليقول الناس عني كذا وكذا.. أم أني أعمل ابتغاء وجه الله رضي الناس أم سخطوا ؟

    أين الأسئلة التي يسألها الإنسان نفسه في هذه القضايا المهمة؟

    وما أحوجنا -والله- في وقتٍ أصبحت نيات كثيرٍ من الناس مدخولة، يُطلب العلم لكن للشهادات، وللوظيفة! أين العلم لوجه الله؟

    أين الذين يثنون ركبهم، ويحنون ظهورهم، ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى؟

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ) أي: ريحها، خرّجه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فالأمر خطير.

    وكذلك العقيدة.. والإيمان، والتوجه إلى غير الله، وما يفعله كثيرٌ من الناس عند حلول المرض، أو عند حلول فتنة أو بلية أو مصيبة.. أن يذهب إلى الدجالين والمشعوذين يسألهم من دون الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ) أخرجه أهل السنن.

    ويقول في حديثٍ عند مسلم : (من أتى كاهناً أو عرَّافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوما ) الأمر خطير جدُّ خطير، أن ينعم الله عليك وأن يرزقك ويكلأك بالنعم وتتوجه إلى غيره، وتعلم أن هؤلاء لا يجلبون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فكيف يملكون ذلك لغيرهم؟ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6].

    والعبادة من صلاة، وزكاة، وحج، وصوم، وفرائض، ونوافل، لا تصح إلا إذا كانت خالصة لوجه الله، فكم هم الذين يصلون لأجل أن يراهم الناس في المساجد!

    وكم هم الذين يُحسنون صلاتهم لما يرون من نظر الناس إليهم!

    وكم هم الذين يتصدقون ليقال: تصدق التاجر الفلاني بكذا! وكم من يعمل الأعمال الصالحة لغير وجه الله تبارك وتعالى! فالأمر خطير.

    أيها الإخوة! وكم هم طلبة العلم لغير الله؟ يطلبون العلم ليقال علماء، ليقال: طلبة علم.. ليقال: متحدثون.. ليقال: عندهم علمٌ، وعندهم قدرة، وعندهم فصاحة وطلاقة، ليظهر أمرهم عند الناس.. يتعلمون ليقال: الدكتور الفلاني، يتعلمون لأجل منصبٍ أو وظيفة أو عملٍ من الأعمال، يتعلم العلم ليُجاري به العلماء، وليُماري به السفهاء، ليُجادل، ليقال عنه كذا وكذا.

    أما الدعوة فأمر الإخلاص فيها مهم غاية في الأهمية، لأن الدعوة دين وقربة، ويجب أن تكون خالصة لوجه الله، فالداعي لا يدعو لكثرة أتباعه، ولا لكثرة أفراده، ولا لجماعته ولا لحزبٍ ما، ولا لمذهب ولا لمشرب ، إنما يدعو إلى الله وكفى بالله سبحانه وتعالى، فينبغي أن يدعو إلى الله وعلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وكم هم الذين يسعون للشهرة أو للتحدث أو ليقال؟! قالوا: كذا وكذا... وعملوا كذا وكذا.

    فينبغي أيها الإخوة أن نتواصى ومنا الدعاة وطلاب العلم، والشباب، والأجيال، ينبغي أن نتواصى في شأن الإخلاص، وأن نحرص عليه، وأن نذكر به، وأن نربي عليه أبناءنا وإخواننا، وأن ندعوا دائماً إليه، لأنه لا قبول للعمل إلا به، فالثلاثة الذين تُسَّعر بهم النار يوم القيامة " عالمٌ قارئ، ومجاهد، ومتصدق منفق" لكنهم عملوا لغير الله، فهم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة والعياذ بالله!

    أحاديث ونصوص، ينبغي أن تذكر الغافل وأن تنبه الجاهل، وأن تبين لكل ذي لب، أنه ينبغي أن يعاود نفسه، كذلك ينبغي أن يكون الإخلاص رائدنا في كل أحوالنا.

    1.   

    مجالات الإخلاص

    أما مجالات الإخلاص: ففي العلم، والعقيدة، والدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والبيت، والأسرة، والوظيفة، والعمل... وكل مجالات الحياة كلها ينبغي أن تكون خالصة لوجه الله، حتى الأمور العادية ينبغي أن يُخلص الإنسان فيها لوجه لله، لتنقلب من عادة إلى عبادة، يأكل ابتغاء ثواب الله، للتقوي على الطاعة، ينام ليستريح فيقوم نشيطاً لأداء العبادة.

    وهكذا.. يتزوج لقضاء الشهوة؛ وليعف نفسه ابتغاء وجه الله في بضع ذلك الرجل حسن النية صدقة، كما قال الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام حينما قال لهم: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أفرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر ) فينبغي على المسلم أن يحتسب الأجر، وأن يستصحب النية الصالحة الخالصة لوجه الله في كل عملٍ من الأعمال.

    ولهذا كانت النية الصالحة عزيزة على النفوس، وتحتاج إلى مجاهدة ، كما قال بعض السلف لما سُئِلَ عن أهم الأعمال قال: "الإخلاص ولا تستطيعه النفوس إلا بالمجاهدة".

    وكان معروف الكرخي يقول: [[يا نفس! أخلصي تتخلصي ]].

    أخلصي اليوم لله عز وجل؛ تتخلصي في هذه الدنيا من المتاعب، وتتخلصي غداً من العذاب الأليم عند الله تبارك وتعالى، وكيف ونتيجة عدم الإخلاص النار والعياذ بالله؟! ولهذا ذكر الله عز وجل عن المنافقين أنهم لا يُخلصون وإنما يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]، وذكر أن عقابهم النار وأنهم فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً * مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً [النساء:145-147].

    المنافقون يعملون أعمالاً صالحة فيما يظهر للناس، ولكن أمرهم إلى وبال؛ لأنهم أعداء للمسلمين، فهم وإن صاموا وصلوا وزعموا أنهم مسلمون! فنتيجة عدم إخلاصهم أن صار لهم العذاب الأليم في الدنيا والآخرة... والعياذ بالله.

    فينبغي علينا -أيها الإخوة- أن نسلك سبيل المخلصين والمؤمنين، وأن نبتعد عن طريق المنافقين، وينبغي علينا -أيضاً- أن تكون كل تحركاتنا لله... فعلمنا لله، وإخلاصنا لله، وأدبنا مع إخواننا، وأخلاقنا ينبغي أن تكون لله -الأخلاق والسلوك -أيضاً- ينبغي أن تكون لله- لا تكن أخلاقاً تجارية كما يراه بعض الناس لتسويق بضاعة، أو ليقال: فلان خلوق، لكنه يتخلق بالأخلاق الحسنة؛ لأنه يعلم أن الخلق الحسن مما يُثقِّل الموازين، وأنه ما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق، وأن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم، وأن تبسمه في وجه أخيه صدقة، وأن الأخلاق عبادة يتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى، هذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم، أن يكون بيته بيت إخلاص، لا يذكر فيه غير الله، ولا يُربى فيه الأبناء إلا على منهج الله.

    المرأة المسلمة! أين الإخلاص من المرأة المتبرجة التي تريد أن يرى الناس زينتها وأن تفتن الناس؟

    إنها تعمل للناس، ولو عملت لله لأخلصت لله بحجابها وعفافها وحشمتها.

    وهكذا الرجل.. وهكذا الشاب المسلم.. وهكذا التاجر المسلم.. وهكذا الموظف المسلم يعمل لا ليقال: إداري ناجح، وإنما يعلم أن عمله أمانة، وأن عليه أن يخلص لله قبل كل شيء، عمله عبادة إذا أخلص فيه لله.

    ولهذا ينبغي علينا أن نحتسب، وأن نعلم أن وظائفنا وأعمالنا ودراستنا وطلبنا للعلم عبادة إن أخلصنا فيه النية لله تبارك وتعالى.

    فيا أيها الرجل! الذي يقوم من الساعة السابعة ، وقبل ذلك يقوم لأداء ما افترض الله عليه من الصلاة وبعد الصلاة، يقوم ليستعد هو وأولاده للعمل والمدرسة! عليك أن تُخلص، وأن تدرس الأبناء لا ليأخذوا امتيازاً ولا لينالوا الشهادة، ولا ليكونوا غداً موظفين مرموقين.

    ولهذا أسأل هذه الأفواج الهائلة من أبنائنا وشبابنا وطلابنا في المدارس والجامعات: لماذا تدرس يا أخي؟ وما هوايتك؟

    يريد أن يكون أحسن طبيب، وهذا يريد أن يكون أحسن مهندس، وهذا يريد أن يكون دكتوراً يُشار إليه بالبنان، وهذا وهذا وهذا ... اهتمامات.

    أين الذي يقول: أنا أريد أن أعمل ابتغاء وجه الله، أخلص لله، أطلب العلم لرضا الله، ثم أعمل فيما يُرضي الله -عز وجل- ولأخدم الإسلام وديني قبل كل شيء، ولأكون جندياً في ميدان الإسلام، وأن أخدمه عن طريق عملي وعلمي ووظيفتي؟

    وليس معنى ذلك أننا لا ندرس أو لا نأخذ الشهادات العليا، أو لا نمتهن مهنة الطب أو الهندسة! لا ، الأمة بحاجة إلينا؛ لكن علينا -نحن- أن نخلص، ولا ينافي الإخلاص أنك تطلب هذا العلم أو العمل الدنيوي لوجه الله.

    لكن عليك أن تحسن النية، أن تعمل لكن ابتغاء ثواب الله، وما يأتيك من أمور الدنيا: من الشهادة، والعمل، والمرتبة، والوظيفة، والترقية؛ فهذا من حظك ومن نصيبك ومن توفيق الله لك، لكن لا يكن قصدك هو هذا، على معنى أنه إن لم يحصل هذا فإنك تحجم.

    فيا أيها الإخوة! علينا أن نتواصى بهذا الأمر، وفهم الإخلاص يجب أن يكون دقيقاً، وليس معنى الإخلاص ترك العمل، أو ترك الدنيا!! لا، نريد من الإنسان أن يعمل في الوظيفة... في التجارة... في الطب، وأن يأخذ الشهادات العليا؛ لكن مع ذلك نذكره بإخلاص النية، والعمل لوجه الله، وما يأتي من أمور الدنيا فإنه تبع، ووسيلة وليس هذا هو الهم الأول والأخير، وإنما من وفق:

    ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا     وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل

    1.   

    أمور مهمة نحتاجها في الإخلاص

    أيها الإخوة! إن موضوع الإخلاص موضوعٌ مهم وأنا لن أطيل عليكم في هذه الكلمة ويكفي أني أشرت إلى أمورٍ مهمة ينبغي أن نتواصى فيها.

    أولاً: ينبغي أن يُعنى بهذه القضية المهمة على جميع المستويات في أمور الدعوة، ليست القضايا -فقط- قضايا أخلاق، ولا قضايا سلوك، ولا قضايا فكرية معينة، وإنما القضية قضية إخلاص منهج، وعقيدة خالصة لوجه الله تبارك وتعالى، وهذا هو المنهج الصحيح يوم أن تعثَّرت المناهج الوافدة، ويوم أن أصبحت كثيرٌ من الاهتمامات يقع فيها الناس تعثراً ووقوعاً فيما لا يرضي، فينبغي على المسلم أن يكون على منهجٍ سليم، وأن يتواصى طلبة العلم، والدعاة إلى الله، والشباب المسلم، والآباء، والأمهات، والتجار، والأغنياء، والفقراء، والمأمورون، والأمراء، كلٌ في عمله، إخلاصاً لوجه الله تبارك وتعالى.

    هذا الأمر المهم! أن يُخلص العمل لوجه الله كلٌ في موقعه، أنا لا أعمل للأمير الفلاني أو للوزير أو للمسئول عني في العمل، وإنما أبتغي قبل كل شيء رضا الله تبارك وتعالى، ثم مع إخلاص المسلم لله عز وجل لا يُنافي هذا أن يكون مُخلصاً في عمله، فيكون له النصيب الأكبر والقدح المُعلا في وظيفته وعمله، وتكون له السمعة الطيبة والشهرة، لكنها ليست مقصودة، هذه أتت وهي راغمة عندما أخلص العبد لوجه الله عز وجل.

    ولهذا ينبغي أن نتواصى في هذا الأمر، وفي أنفسنا، وأن نحسن النية في إخواننا المسلمين، وألا نسيء الظن بأحدٍ من المسلمين، فلا نقول: هذا إنسان منافق، أو هذا إنسان يقصد بكلامه كذا وكذا، أو هذا إنسان يريد دنيا أو يريد منصباً، أو يريد جاهاً؛ لأن المقاصد علمها عند الله، ولا يجوز لنا أن نحكم على مقاصد المسلمين.. أو على نياتهم، فالنيات لا يعلمها إلا الله، والناس يقعون في الأعراض، لكن يجب على المؤمن ألا يقع في الأعراض، وإن وقع فليستغفر لإخوانه المسلمين، وليدع لهم بظهر الغيب ، وليحسن النية، وليحسن القصد في إخوانه المسلمين، لا سيما طلاب العلم والدعاة إلى الله.

    1.   

    الإخلاص في الدعوة والعقيدة

    كذلك على الدعاة إلى الله أن يسلكوا السلوك الصحيح في الدعوة، وكذلك الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؛ وليكون أقرب لهم إلى الإخلاص أن يدعو لا ليقول الناس: فلان قويٌ في الحق، أو شجاع، أو أنكر ما لم ينكره غيره، أو تكلم بكذا، أو عُدت أشرطته، أو عد من يحضروه في الحلقة! فهذه ليست هذه مقاييس، وإنما المقياس هو المنهج الصحيح على الكتاب والسنة، وعلى فهم السلف الصالح ، والأخذ من العلماء الربانيين، ذوي العمق العلمي، والعقيدة الصحيحة، والتجربة الطويلة في الدعوة إلى الله.

    أيضاً: على المسلم أن يكون مخلصاً في عمله وفي وظيفته، ومخلصاً في جوانب العقيدة كلها، ومن جوانب العقيدة: أن يكون إخلاصه لله، مبنياً على متابعة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالإخلاص وحده لا يكفي بل لا بد من المتابعة، ولا بد أن يكون العمل على وفق السنة، الأقوال والأعمال لا بد أن تكون على وفق السنة... العلم والدعوة إلى الله تبارك وتعالى، أن يكون على منهجٍ سليم وعلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم... الذكر والعبادة ينبغي أن يكون على وفق السنة، فما نفع كثيراً من الناس إخلاصهم لمبادئهم لما لم يتابعوا فيها السنة.

    فانتبهوا أيها الإخوة! لأن هذين الأمرين شرطان في قبول العمل؛ فإخلاصٌ بلا متابعة لا فائدة فيه، ومتابعة بلا إخلاص لا خير فيها، ولا تكون متابعة إلا إذا توفر فيها الإخلاص لله، كما قال الله عز وجل: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2].

    قال الفضيل بن عياض في تفسير قوله تعالى: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] قال: [[أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي ! وما أخلصه وأصوبه؟ قال: أخلصه: أن يكون لله، وأصوبه: أن يكون على منهج محمدٍ صلى الله عليه وسلم ]].

    وقد قال الله عز وجل: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110]، ويقول سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125] قال المفسرون: (أسلم وجهه لله): بإخلاص العمل لله. (وهو محسن) أي: متبعٌ للسنة.

    فيا أيها الإخوة! حياتنا كلها لا خير فيها إن لم يتحقق فيها جانب الإخلاص.

    ويا أيها العلماء! عليكم أن تخلصوا لله ،ولتجمعوا قلوبكم على منهج محمد بن عبد الله.

    ويا طلبة العلم! إنه ليس من الإخلاص أن تُعمر المجالس للوقيعة في بعضكم بعضاً، فالإخلاص إخلاصٌك في الدعوة أن تنكر المنكر على أيٍ كان بينك وبينه، ولا تشهر بأحد ولا تدعو إلى اتباع السوءات والنقصات وتكبر وتضخم الهِنات، فالناس بشر كلهم يخطئون ويصيبون؛ لكن عليك أن تناصح إخوانك -في الله- فيما بينك وبينهم، وإن لم يرضوا فالحق يسع الجميع في المسائل الاجتهادية.

    أما في مسائل الأصول وفي قضايا الاعتقاد فالحق فيها واحد، ينبغي أن يجتمع الناس عليه، ولا يسع الخلاف في القضايا الأصلية وقضايا الاعتقاد.

    وإننا لنحمد الله -تبارك وتعالى- أن هيأ في هذه البلاد العلماء الصادقين المخلصين -نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً- فينبغي على شبابنا أن يلتحموا معهم، وعلى طلابنا أن يستفيدوا منهم، ومن منهجهم، أعمارهم كلها في الدعوة، ستون سنة، وخمسون سنة، ومع ذلك مخلصون فيها لله، ينصحون لله ولرسوله ولكتابه ولولاة الأمر وللعامة، كلٌ في مجاله؛ ليكون ذلك أقرب وأدعى إلى الإخلاص وقبول النصح وأدعى إلى إنكار المنكر.

    أما الإنكار العلني فإنه في الحقيقة له أضرار ومفاسد، وليس من الحكمة أن ينبه على أخطاء الناس في المجامع العامة، فالسنة أن يقال: ما بال أقوام؟ لكن فيما بينك وبين ولي الأمر، وفيما بينك وبين المنصوح أياً كان؛ فإنك تنبهه على خطائه بالحكمة والموعظة الحسنة على درجات الإنكار المعروفة، لكن في المجامع العامة يُحذِّر الناس عن الشرك، وعن الرياء، ويحذرون عن ترك الصلاة، وعن كل ما يخالف العقيدة، يحذرون من المحرمات: كالقتل، والربا، والزنا، والمفاسد الأخلاقية... كلها يحذرون منها، لكن ينبغي أن يضع الحكيم نفسه، وأن يضع في كل موضعٍ موضعه، وفي كل مقامٍ مقال، ليكون أدعى لقبول عملك وإخلاصه لله، لأن هؤلاء الكثرة الذين يأتون إليك وينظرون إليك كلهم ينظر ما تقول، وبعد ذلك يخرج ليقول: قال فلان كذا، وفلان اليوم لم يُقصِّر في كلمته وتكلم بكذا! لا ، ليس المراد هذا؛ بقدر المراد ما يكون منهج صحيح وسليم يحق الحق ويبعد الضرر عني وعنك وعن الدعوة وفيه -أيضاً- إخلاص لله ولرسوله ولولاة أمر المسلمين، بالدعاء لهم بالإخلاص والصلاح والهداية، لأن المسلم لا يدعو لهم لما عندهم من الدنيا، فالدنيا يأتي بها الله، رضي أولئك أم لم يرضوا، ولكنه يدعو لهم قربة إلى الله، عقيدة يعتقدها، وديناً يدين لله به، فإذا صلح ولاة أمر المسلمين صلح الناس.

    وهكذا ينبغي علينا أيها الإخوة! أن نتواصى في هذا الطريق، وأن نسلك طريق الإخلاص، وأن نعلم أن كثيراً من المشكلات والفتن والمحن التي حلت بأمة الإسلام ما هي إلا نتيجة لمؤثراتٍ جانبت الإخلاص، ولا ينبغي أن يحكم على أحدٍ بعينه، فليتنبه لهذا جيداً، ولكن وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] وقد يبتلي الله العبد، فالابتلاء سنة وتمحيص ورفعة في الدرجات، وتكفيرٌ في السيئات، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لما ابتلي، والصحابة لما وقع منهم ما وقع في غزوة أحد قال لهم الله عز وجل: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] لم يقل: هذا من بطش العدو، وهذا من كيدهم، وإنما قال: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] .

    1.   

    الأسباب الباعثة على الإخلاص

    فينبغي علينا أن نعود إلى أنفسنا وأن نحاسبها ونسأل الله دائماً الإخلاص وهذه -أيضاً- من الأمور المهمة.

    ما هي الأسباب الباعثة على الإخلاص ؟

    الدعاء بالإخلاص في كل قول وعمل، تسأل الله وتلح عليه سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً؛ أن يرزقك الإخلاص، وهذا أمر مهم، الدعاء والالتجاء إلى الله، والاعتصام به، ومجالسة الأخيار الذين يُذكرونك بالله، ويبينون لك ضعف نفسك.

    كذلك من البواعث والأسباب التي تقوي الإخلاص: الرفقة الصالحة، وطلب العلم من أهله، ومجالسة الصالحين، والذكر والدعاء والعبادة، كلُّ ذلك مما يقوي الإخلاص لله عز وجل.

    أيضاً: ينبغي على الإنسان أن يعرف مداخل الشيطان، وهذه من الأمور المهمة التي تُنافي الإخلاص وتُنقصه أو توقع صاحبه في الرياء، على الإنسان أن يحذر عدوه الشيطان بالاستعاذة بالله منه، وأن يبتعد عن الرياء ويدعو الله دائماً أن يُعيذه من الرياء، لكن عليه ألا يترك العمل الصالح لأجل الناس.

    هناك شبهة: بعض طلبة العلم يترك طلب العلم، ويترك تعليم العلم، ويترك الدعوة إلى الله، ويترك إمامة المساجد، ويقول: هذا أقرب إلى الإخلاص؟! وليس هذا بصحيح، ادع الله! واسأله الإخلاص وأخلص نيتك لله، وقم بهذا العمل.

    فلا تترك العمل لأجل الناس، ولا تعمل لأجل الناس، بل اعمل ابتغاء وجه الله واترك العمل إذا كان غير صالح وغير خالص، أما إذا كان العمل صالحاً فأقبل ولا تتردد أبداً، واعلم أن ترددك إنما هو من الشيطان.

    وعلينا أيها الإخوة! أن نتواصى في هذا ونتناصح؛ لنكون أقرب إلى الإخلاص بالأسلوب الحسن وبالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نعود إلى أنفسنا.

    إلى متى يظل الإنسان يتبع الهوى؟!

    وإلى متى يظل الإنسان يُعجب برأيه؟!

    وإلى متى يضرب الإنسان بآراء إخوانه عرض الحائط؟

    وإلى متى يجر الإنسان لنفسه ولأمته ولإخوانه الشر والفساد؟

    لا بد من النظر في نصوص الشريعة ومقاصدها ولا بد من عرض أمورنا على القواعد الشرعية، وألا نتحرك كل التحرك ولا نعمل كل عمل إلا وأمامنا أهل العلم الربانيون المخلصون.. هكذا نحسبهم ولا نُزكي على الله أحداً.

    نسأل الله تعالى أن يمنَّ علينا وعليكم بالإخلاص، وأن يجعلنا وإياكم من المخلصين في أقوالنا وأعمالنا ونياتنا، وأن يرزقنا وإياكم صلاح النية، وصلاح الذرية، وصلاح القول والعمل، وأن نكون فيه مخلصين لله، متبعين فيه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يعيذنا من الرياء والسمعة، وأن يرزقنا رضاه وإن سخط الناس.

    نسأله تعالى أن يرزقنا الحق ويحببنا فيه، ويرزقنا اتباعه، ويجنبنا الباطل ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعلنا وإياكم متآخين متعاونين على البر والتقوى، ونشهد الله تبارك وتعالى أننا نحبكم في الله، وأننا ندعو لكم وأن حضوركم هذا ما هو إلا دليل على إخلاص وحسن نية إن شاء الله، وما هو إلا دليل على الرغبة في الخير.

    نسأل الله تعالى أن يجمعنا وإياكم على الخير، وأن يرزقنا وإياكم التآخي والمحبة فيه، مخلصين فيه لوجه الله، فأنتم لا تحبوننا لدنيا عندنا، ونحن لا نحبكم لدنيا عندكم، فالذي يأتي بالدنيا ويصرفها هو الله، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، هذا هو الاعتقاد الذي نعتقده، وأنه لا ينفع إلا الله، ولا يضر إلا الله كائناً من كان ذلك الإنسان أو ذلك الأمر.

    فينبغي علنيا أن نتآخى في الله عز وجل وأن نتواصى فيه، وأن نخلص النية لله عز وجل، وأن نستحضرها في كل أعمالنا، في بيوتنا.. وأعمالنا.. ومدارسنا.. وطلبنا للعلم.. ودعوتنا.. وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، في ولائنا لولاة أمرنا.. وفي غير ذلك من الأمور، كل ذلك نخلص فيه لله تبارك وتعالى.

    ونسأله تبارك وتعالى أن يمنَّ علينا وعليكم بالقبول، وأن يرزقنا وإياكم جزاء المخلصين في جناتٍ ونهر في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، بمنه وكرمه.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

    1.   

    الأسئلة

    .

    زكاة المال المعد للعلاج

    السؤال: شخص مريض -نسأل الله عز وجل لنا وله الشفاء- يقول في سؤاله: إنه جمع مبلغاً كبيراً من المال ليتعالج به، ثم إن هذا المال قد حال عليه الحول، فهل عليه زكاة؟

    الجواب: أولاً: نسأل الله تعالى أن يشفي هذا الأخ السائل ومن كان مسئولاً عنه، وأن يَمنَّ على الجميع بالشفاء من أمراض القلوب، ومن أمراض الأبدان، على أخينا السائل أن يعلم أن الزكاة واجبة في الأموال على حسب شروطٍ معينة معروفة عند أهل العلم، منها: تمام الحول، وملك النصاب.. ونحو ذلك من الشروط التي ذكرها أهل العلم، فما دام أن هذا المال لك وأنت ادخرته وملكته، فإنه من أموالك ولو ادخرته لأمرٍ من الأمور التي تريدها، وعليك أن تُبادر بالعلاج حتى لا يحول عليه الحول فتلزمك زكاته والله أعلم.

    نصيحة لمن يبحث عن عيوب العلماء ويطعن فيهم

    السؤال: أكثر من سائل يريدون توجيهاً إلى بعض الشباب الذين جعلوا ديدنهم البحث عن معايب بعض العلماء والطعن فيهم ؟

    الجواب: على كل حال! هذه قضية مهمة جداً، وينبغي أن يتواصى فيها طلاب العلم؛ لأن المسلم إنما يبحث في هذه الحياة عن رضا الله، وما يقربه إلى الله، وعليه أن يسأل عن الحق الذي يُقربه إلى الله تبارك وتعالى، ولا ينبغي للإنسان أن يعلم أو يعمل على ضوء أمرٍ يخالف كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وطلاب العلم هم القدوة الذين ينبغي أن يقتدي بهم الناس في ضبط أوقاتهم، وعفة ألسنتهم، وسلامة قلوبهم من بعضهم لبعض، الخطأ ينبغي أن يبين للناس كائناً من كان، فليس أحدٌ معصوماً، وكل ابن آدم خطاء، فعلينا أن نبين الخطأ لكن ليس من ضرورة بيان الخطأ أن أقول: أخطأ فلان على الملأ.

    ينبغي أن يكون بين طلبة العلم ورائدهم الإخلاص لله عز وجل في كل أعمالهم، في طلبهم للحق وفي بحثهم عنه، وفي تحريهم إياه، وفي السؤال عنه، فلا تقع في عرض مسلم لتتشهى في الوقيعة به، أو لتدمر مجلسك بالغيبة والنميمة لفلان وفلان، هؤلاء لا علينا من أعراضهم، لكن اربطوا أنفسكم -أيها الإخوة- بالمنهج، واربطوا أنفسكم بالدليل، فمن خالف الدليل ينبغي أن يُردَّ عليه، وأن يُعرف مأخذه، وإن كان في المسائل الاجتهادية فلا بأس بعذره، ولا يجعل من وسائل الخلاف الاجتهادية والوسائل التي فيها سعة وللرأي فيها مجال، لا ينبغي أن تكون مثارة خلاف، اختلف الصحابة واختلف الأئمة، ولكن كانت القلوب سليمة.

    أما المناهج الوافدة، والأحزاب المخالفة للحق، ومن يريدون أن يدعوا إلى أنفسهم، أو يدعوا إلى تكثير سوادهم، والأمة على خطر منهم، فينبغي أن تبين المناهج المخالفة، وإن لم تُسمَّ بأسمائها، وإن لم يسم أصحابها بأشخاصهم، فالأشخاص بينهم وبين الله، فالله عز وجل هو الذي يطلع على نياتهم ومقاصدهم، فنحن لا نقول: فلان يريد كذا، ولا يريد كذا، لكن عمله وعلمه وسريرته عند الله تبارك وتعالى.

    لكني أقول: إن الأسلوب -مثلاً- في مواجهة إنكار المنكر، وما يترتب عليه من ضرر أسلوبٌ خاطئ، وقد جُرِّب في كثير من البلدان فلم ينفع وإنما سبب الضرر، فالعقل والنقل والشرع والقواعد والمقاصد الشرعية كلها تدل على أنه ينبغي أن يوضع لكل مقامٍ مقال، ولا ينافي هذا أن يبين الحق للناس، لكن ليس من الضرورة أن يبين بأسلوبٍ قد يجر عليك وعلى دعوتك وعلى إخوانك المسلمين ضرر، فالبيان والبلاغ درجات ومراتب، وكلٌ يعرف المرتبة المناسبة له، فليس من الحكمة أن تتكلم مع عامة الناس فيما يحتاجه الخاصة، ولا تتكلم مع الخاصة في أمورٍ لا تناسبهم أو بأسلوبٍ لا يناسبهم، فينبغي أن يضع الداعية الحكيم لكل مقام موضوعاً، وحالة تناسبه، ولكل حالة لبوسها، ولكل مقامٍ مقال.

    ولكن أيها الإخوة! لا ينبغي أن يُؤدِّي الخلاف في وجهات النظر، أو في الآراء، أو في المسائل الاجتهادية أن ينقلب ذلك إلى عداوات شخصية، وإلى إحن وردود، ومخالفات بأساليب، يلتمس القارئ لها أن العاطفة أو الاندفاع أو عدم الأسلوب العلمي الهادئ الرزين المؤصل أنه هو المنهج الذي يسلك في هذا.

    فعلى كل حال! أوصي نفسي والحاضرين أن نُعمِّر أوقاتنا، وأن نضبط أنفسنا، وأن نحفظ الود لإخواننا في الله مهما خالفونا، هذا ينبغي أن يسير عليه الناس، فليس الناس كلهم نسخة واحدة.

    أنا أعلم أن في المجلس من يحضر، لكنه قد يكون يرى آراء معينة تخالف رأي المتحدث، لكنه لم يمنعه ذلك من الحضور والسماع، ثم لا يمنعني ذلك أن أقول: إني أحب ذلك الرجل في الله وإن خالف في هذا الرأي ما دام أن عقيدته عقيدة صحيحة، ومنهجه منهج سليم والحمد لله، فعلى ماذا الخلاف؟

    إذا كان في الأساليب ووجهات النظر، وكلٌ سيعرف مدى نجاحه في أسلوبه أو عدمه اليوم أو غداً؟

    لكننا نتواصى في المنهج الحق، والسير على منهج السلف الصالح ، والأخذ من علمائنا -وفقهم الله- فهم أعلم منا وأكثر خبرة وتجربة.

    ثم علينا أن نحرص على اجتماع الكلمة، وترك الفوضى والاضطراب الفكري، والخلل والبلبلة بين الناس وبين الدعاة، ليست أمراً محموداً لا للمجتمع ولا للبلاد ولا للعباد ولا للدعوة نفسها، فينبغي أن يربأ الناس بأنفسهم عن هذه الأمور، ويعلموا أن كل ضرر يتسبب في أحد من الناس بسبب دعوته وأسلوبه الخاطئ، ينبغي أن يتحمله وأن يراجع نفسه، وأن يستفيد الناس من الناس في الدروس، وأن يكون لهم في الأحداث عبر، ومع ذلك لا يقعون في المجالس عرضة لطلاب العلم، ولا العلماء، فهذا مجانبة للصواب، فيجلسون في المجالس وكأنهم أحمد بن حنبل وابن حجر ويحيى بن معين والذهبي ... وغيره، ليس هذا بصحيح، وهذا من قلة البضاعة وقلة الإيمان، ويخشى أن يكون ذلك من إفرازات عدم إخلاصهم، فلو أخلصوا لواجهوا، لا تدوس الناس في المجالس، ولا تطرح كرامة الناس وتدوس بكرامتهم في مجالسك الخاصة، وتربي شبابك وأبناءك وأقاربك وإخوانك ومحبيك على هذا، لكنك واجه الناس -إن كنت شجاعاً- بالأسلوب والحجة، فالحكمة ضالة المؤمن.

    وإن الذي بيني وبين بني أبي      وبين بني عمي لمختفٌ جداً

    فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم     وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً

    ولا أحمل الحقد الدفين عليهم      وليس شريف القوم من يحمل الحقدا

    بلينا بأحقاد وحزازات وحسد وبغضاء وأمور لا يعلمها إلا الله، فنسأل الله أن يتداركنا بعفوه، وأن يجمع قلوبنا على طاعته.

    إلى متى أيها الشباب؟

    وإلى متى أيها الدعاة؟

    وإلى متى نغتر بمن نعلم أنه يخالف ما عليه السلف الصالح رحمهم الله؟

    على أننا ينبغي ألا نخوض في عرض مسلم، وألا نتهم قصد أحد؛ بل نكل الأمور إلى الله، ونكل السرائر إلى الله سبحانه وتعالى، فبئست البضاعة أن تُدِّمر المجالس بالغيبة والنميمة، لا سيما إذا كانت والوقيعة في طلاب العلم وقيعة خطيرة، ولحومهم مسمومة كما قال ذلك ابن عساكر رحمه الله؛ فعليك أن تحذر من الوقوع فيهم، ويخشى على من هذه حاله أن يُعاجله الله بموت القلب، ولهذا نجد الذين هذه بضاعتهم أعياهم العلم، فلا هم مبرزون في العلم ولا هم مبرزون في الدعوة إلى الله، ولا هم حلوا الساحة ودعوا إلى الله بأسلوبٍ حسن، وإنما يجلسون -فقط- يتفكهون في أعراض الناس وبئست البضاعة!! فعليكم بتقوى الله والخوف من الله.

    أين الخوف من الله؟

    وأين الإيمان وأين الرقابة؟!

    ألا تخشى أن يسألك الله عز وجل وأنت تقع في عرض مسلم، قد يكون أتقى وأعلم وأحرص منك على الخير للأمة، وقد يعلم ويعمل وأنت لا تعلم، أتريدون من الناس أن يكشفون أوراقهم في كل مجلس؟!

    هناك جنود مجهولون ينصحون لله ولرسوله ولولاة أمر المسلمين وللعامة، وينذرون أنفسهم، وهم قد لا يكونون معلومين لدى كثيرٍ من الناس، فعلينا أن نضبط أنفسنا -أيها الإخوة- وتصرفاتنا، وأن نكف عن هذه المجالس التي يكفي أنها معمورة على كبائر الذنوب من الغيبة والحسد والبغضاء.

    أما إذا كان الأمر لقصد بيان حق أو لبيان خطأ وقع فيه إنسان أو جماعة أو فرد أو أناس؛ فينبغي أن يبين الخطأ، كمنهج ينهج، لكن ليس علينا من الأشخاص ولا من الذوات، وإنما الإنسان يبين الحق ويقصد اتباعه، ويجرد قلبه من الغل والحقد لأحدٍ من إخوانه المسلمين من كانوا.

    لعل هذا هو المنهج المعتدل الذي أعلمه من منهج سلف هذه الأمة رحمهم الله، وهو الذي عليه مشايخنا وعلماؤنا وفقهم الله، ووفق الجميع لما فيه الخير والسلام .

    المناسبة بين البلاء والعقوبة

    السؤال: هل كل ما أصاب الداعية من مصيبة دليلٌ على عدم إخلاصه، أو أن ذلك لابتلائه على قدر الإيمان؟

    الجواب: هذا سؤال مهم! وفعلاً قد يوقع لبساً عند بعض الإخوة.

    لا شك أن المؤمن يُبتلى، وأن الله -عز وجل- قد كتب الابتلاء وجعله سنة، وأشدكم بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على قدر دينه، لكن قد يبكي الإنسان أحياناً لأمرٍ وقع في نفسه، فلا تنافي بين الأمرين، وعليه إذا ابتلي أن يراجع نفسه، فدليل إخلاص الرجل أنه إذا أخطأ أن يتبين له الخطأ، وإذا حصل له ابتلاء عليه أن يلتجئ إلى الله، وأن يخلص ويفوض أمره إلى الله سبحانه: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

    فمع أنهم علموا أن الابتلاء من الله، لكنهم لم يمنعهم ذلك أن يراجعوا أنفسهم وأنهم قد يكونوا قصروا في أمر من الأمور، فعلى الإنسان أن ينظر في نفسه وينظر في تقصيره، فإن علم أنه ليس منه تقصير فذلك ابتلاء من الله، والله عز وجل سيرفعه به درجات، ويكفر عنه به سيئات، وليصبر وليحتسب أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] بلى! كل مسلم يُحب أن يغفر الله له، وأن يعافيه من الابتلاء، لكن لا يعرض الإنسان نفسه للبلاء.

    أحياناً: قد يعرض الإنسان نفسه للبلاء؛ إما من قلة علمه، أو إما لاستعجاله في أي أمرٍ من الأمور، فيقع في ابتلاء نتيجة أمرٍ في نفسه، فهذا ينبغي أن يعود إلى نفسه لعله استعجل أو لعله أخطأ في الأسلوب، ولعله .. ولعله ... من الأسباب التي يُوردها على نفسه، فأهم شيء ما بينك وبين الله، إذا أخطأت أو قد تكون استعجلت، أما وجود الغيرة لدى المسلمين؛ فهذا أمر طيب يشكرون عليه {أتعجبون من غيرة سعد ؟! لأنا أغير منه، والله أغير منّي }.

    إن الله عز وجل يغار، ويجب على المسلم أن تتحرك غريزته وفطرته وأن يتحرك إيمانه حينما يرى أن حرمات الله تنتهك، لكن عليه أن يربط نفسه بالميزان الشرعي، وعليه أن ينكر على حسب حاله واستطاعته، وأن يرجع إلى أهل العلم.

    أما أن يضيع الإنسان نفسه، ويعرضها ويجعلها في محل التهم، ويستعجل في أمر له فيه أناة، ويقول له أهل العلم: رويدك يا أخي! وقد يتهم العلماء باتهاماتٍ لا تليق، فهذا إنما أوتي من قبل نفسه، فعليه أن يعود إلى نفسه؛ فإن ذلك أدعى إلى أن يراجع نفسه، وأدعى إلى إخلاصه، وليفهم الكلام جيداً، وليفهم هذا التفريق الطيب، ولا ينبغي أن يأخذ كلام المتحدث وكلٌّ يركبه على فهمه، ويقول الشيخ يقصد فلاناً أو يريد فلاناً، كلامنا ليس عن النية، فالنية عند الله، كلامنا في الإخلاص، والإخلاص لله تبارك وتعالى.

    فنسأل الله أن يدل الجميع للحق، وأن يجعلنا وإياكم من المتحابين فيه، وأن يجعلنا وإياكم ممن ابتلوا في سبيله، فإن من ابتلي في سبيل الله عز وجل وفي دعوته وفي إنكاره المنكر فإن هذا -إن شاء الله- خيرٌ له في دينه ودنياه، وقد يكون هذا من الخير أنه يراجع الصواب في بعض المسائل التي قد يكون أخطأ فيها، فإن لم يجد من نفسه خطأ فهذا ابتلاء: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات:106]، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] ابتلاء لرفعة الدرجات، وتكفير السيئات، كما ابتلي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكما ابتلي الأئمة والعلماء والجهابذة قديماً وحديثاً في كثيرٍ من البلاد.

    ونسأل الله تعالى أن يُصلح أحوال المسلمين، وأن يمنَّ علينا وعليهم بالهداية والتوفيق، وأن يُجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ إنه جوادٌ كريم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755951874