وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً.
هنا ملاحظة وهي: أن بعض الدروس العلمية تصلح أن تنشر للعامة، فعلى سبيل المثال درسنا في هذه الليلة سوف يتناول موضوعاً يحتاج إليه كل مسلم، ألا وهو موضوع قراءة الفاتحة في الصلاة بالنسبة للمأموم، خاصة في الصلاة الجهرية، وهذه قضية من المعضلات، لا يوجد أو لا يكاد يوجد مسلم إلا ويحتاج إليها، وسيكون غالب الدرس حديثاً عنها، فما الذي يمنع أن ينشر هذا للعامة؛ ليستفيدوا منه, ويعرفوا حكم هذه المسألة على حسب الاجتهاد المطروح, وإن كانت المسألة كغيرها من المسائل الأخرى التي تطرح، مسألة خلافية، تكلم فيها الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، وهناك مسائل ودروس أخرى مشابهة، تصلح أن تكون عامة تنتشر وتتداول عند الناس؛ وذلك لأنه جاءتني عدد من الأسئلة مكتوبة، وبعضها مشافهة، يطلب فيها الإخوة أن أتناول مسائل علمية أو فقهية في دروس عامة.
فبعضهم مثلاً يقول: لماذا لا تتناول موضوع الصلاة في درس علمي عام؟
وبعضهم يطرح موضوع الفاتحة أيضاً بالذات في درس علمي عام؟
فأقول: لا جدوى من تناول هذا في درس علمي عام؛ لأن هذا له طابع علمي بحت، وطابع تحقيق ودراسة، فمن الممكن أن هذا الدرس أو ذاك مما يخصص لموضوع مناسب، كموضوع المساجد مثلاً، أو موضوع قراءة الفاتحة أو ما أشبهه أن يطرح للناس، فدرس عام يستفيدون منه عبر الشريط، إذا لم يكونوا ظفروا بالحضور والاستماع إلى الدرس مباشرة، ولذلك فإنني سأؤجل الاستماع إلى حفظ الإخوة في آخر الدرس إن بقي وقت، وسأبدأ بطرح الموضوع خاصة، وأن الموضوع يتعلق بأحاديث سابقة، سبق أن قرأها الإخوة، فإن الأحاديث التي قرئت في الدرس الماضي الذي انعقد قبل أكثر من شهر ثم حصل التوقف الأخير، هذه الأحاديث تتعلق كلها بقراءة الفاتحة في الصلاة.
أولها: (حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن)، يعني: بالفاتحة.
والحديث متفق عليه.
والثاني: رواية ابن حبان والدارقطني: (لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب).
والرواية الثالثة: هي رواية أحمد وأبي داود والترمذي وابن حبان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم يا رسول الله! قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب, فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها) ).
وهذا أيضاً حديث عبادة رضي الله عنه، ثم حديث أنس وما بعده.
فنبدأ على أي حال بالمسألة المطروحة, وأيضاً نعتذر عن المراجعة، اللهم سوف أجعل هناك مراجعة خفيفة جداً، عبارة عن فاصل فيما أتممناه، واتفقنا من قبل على أن يكون هناك نوع من الطرائف العلمية، تكون في وسط الدرس؛ لتزيل شيئاً من التعب الذي يكون في أذهان الإخوة.
فجوهر وأصل الخلاف في المسألة: مسألة قراءة الفاتحة في الصلاة: أن العلماء انقسموا فيها إلى ثلاثة أقسام، أذكر مذاهبهم باختصار، ثم أختم بذكر القول الراجح منها:
وهل مقصود علي رضي الله عنه في الجهرية أو في السرية؟
الظاهر أن مقصود علي رضي الله عنه في الجهرية لا في السرية؛ لوجود آثار تدل على أنه كان يقرأ في الصلاة السرية.
وكذلك نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد صحيح، أنه قال: [ وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه -يعني: فمه-تراباً ]، وما ذلك إلا أن ابن مسعود رضي الله عنه لا يرى القراءة خلف الإمام، وأيضاً نقول: الظاهر من كلام ابن مسعود أنه يقصد في الصلاة الجهرية، لكن من العلماء من حمل كلام علي وكلام ابن مسعود على أنه في الجهرية وفي السرية أيضاً، وأثر ابن مسعود رواه ابن أبي شيبة، والطحاوي وسنده صحيح.
كما أن هذا القول الذي يقول: لا تقرأ خلف الإمام، أو لا يجب عليك القراءة خلف الإمام لا في السرية ولا في الجهرية، منقول عن جماعة كبيرة من التابعين، منهم: سفيان الثوري وسفيان بن عيينة ومنهم: ابن أبي ليلى والحسن بن حي، وجماعة من التابعين في العراق، وإبراهيم النخعي، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
وداخل هذا المذهب العام مذاهب جزئية, فمنهم من يقول مثلاً: يكره للمأموم أن يقرأ خلف الإمام.
ومنهم من يقول: يحرم على المأموم أن يقرأ خلف الإمام.
ومنهم من يقول: إن قراءة المأموم خلف الإمام تبطل صلاته، وهذا قول شاذ لبعض الحنفية, وهو قول منكر لا أسوقه إلا لبيان نكارته, أن من قرأ خلف الإمام في الصلاة ولو كانت سرية بطلت صلاته, فهو قول منكر لا يدل عليه عقل ولا نقل، ولا نظر ولا أثر، وممن أنكره جماعة من المحققين من كبار الحنفية, كما فعل الإمام اللكنوي المحدث الشهير في كتابه: إتمام الكلام في القراءة خلف الإمام , فإنه تصدى لهذا القول, ورده من وجوه كثيرة، وإن كان منسوباً لبعض أصحابه من الحنفية.
على كل حال، المهم أن هذا القول الأول يقول: بأن المأموم لا يقرأ خلف الإمام لا في السرية ولا في الجهرية، ولهذا القول أدلة كثيرة جداً منها: قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، فإنهم يقولون: إن الآية فيها أمر بالاستماع وبالإنصات، فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204].
ويقول الحنفية: إن الأمر الذي ثبت بنص قطعي -يعني: آية أو حديث متواتر مثلاً- يسمى عندهم: فرضاً, فهو أرفع درجة عندهم من الواجب، وهذه الآية نص قطعي في وجوب الاستماع والإنصات لمن قرئ القرآن في حضرته، واستدلوا بذلك على وجوب الإنصات للمأموم, وأنه لا يسعه أن يقرأ إذا قرأ الإمام، وقالوا: إن المقصود بالقراءة التدبر والتفكر، وليس المقصود مجرد الاستماع، والجواب على الاستدلال بهذه الآية أن نقول: إن الآية لا شك أنها تدل على وجوب الاستماع لمن؟
يعني: لو واحد يقرأ القرآن سراً تستمع إليه؟ لا تستمع إليه، إنما تستمع إلى من يقرأ جهراً، فاعتبار أن الآية دليل على وجوب السكوت أو استحبابه، أو حتى جوازه في الجهرية والسرية ليس قوياً، على أي حال هذا من أدلتهم.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه أيضاً في قراءة الفاتحة في الصلاة، وهي رسالة مستقلة، قال: إنه قد استفاض عن السلف أن هذه الآية نزلت في الصلاة: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204]، وقال بعضهم: إنها نزلت في الخطبة، وذكر الإمام أحمد الإجماع على أنها نزلت في الصلاة، أن المصلي يجب عليه أن يستمع إلى القراءة وألا يتكلم، ونقل ابن تيمية عن الإمام أحمد إجماع أهل العلم على أنه لا تجب القراءة في الصلاة للمأموم حال الجهر، يعني: حال جهر الإمام، فيكفي قراءته، ولا يجب على المأموم أن يقرأ سورة الفاتحة.
الدليل الثاني من أدلة الحنفية على عدم القراءة للمأموم: قوله تعالى: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]، لما ذكر دعاء موسى: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:88]، قال الله تعالى: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]؛ وذلك لأن موسى دعا وهارون أمّن على دعائه، فقال الله تعالى: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]، فاعتبر أن كلاً من موسى وهارون قد دعا، مع أن هارون لم يدع، وإنما أمّن على الدعاء. فذكر ابن كثير في تفسيره: أنه ربما يستدل بهذه الآية على مذهب الأحناف: أن من أمّن على قراءة الإمام لا تجب عليه قراءة الفاتحة.
وهذا أيضاً يصلح دليلاً في حال الصلاة الجهرية؛ لأن المأموم يؤمّن فيها، أما الصلاة السرية فهل يكون فيها تأمين؟ لا تأمين فيها، وهذا أيضاً يقدح في الاستدلال بهذه الآية.
من أدلتهم أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا )، وهذا الحديث ذكره مسلم في صحيحه وصححه، قال: هو عندي حديث صحيح، وأخرجه أبو داود، وابن ماجه , وأخرجه أيضاً النسائي يعني: له شاهد عند النسائي عن أبي هريرة، وقد صححه مع مسلم كما أسلفت أحمد وابن خزيمة .. وغيرهم من أهل العلم، ( وإذا قرأ فأنصتوا )، وهذا أيضاً يصلح دليلاً على عدم القراءة في الصلاة الجهرية، لكن في السرية ما فيها قراءة للإمام حتى ينصت لها.
الدليل الرابع: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى ذات يوم، فلما انصرف قال لأصحابه: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! )، وهي صلاة قد جهر فيها في القراءة، ( فقالوا: نعم يا رسول الله! )، وهو غير حديث عبادة الذي سبق, حديث آخر حديث أبي هريرة قال: ( لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! إنا لنقرأ، قال: فإني أقول: ما لي أنازع القرآن؟! ونهى عن القراءة، قال: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة )، وهذا أيضاً دليل على عدم القراءة في الصلاة الجهرية, وليس فيه ذكر للصلاة السرية، وهذا الحديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه، رواه مالك في موطئه، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والطحاوي في شرح معاني الآثار وأحمد وابن حبان وصححه جماعة من أهل العلم، منهم: أبو حاتم الرازي الإمام الشهير، ومنهم الإمام ابن القيم، وقد حسنه الترمذي في سننه، وله شاهد عن عمر رضي الله عنه وأرضاه، رواه البيهقي في جزء القراءة، فهذا الحديث يدل أيضاً على عدم القراءة في الصلاة الجهرية، لكن لا دليل فيه على ترك القراءة في الصلاة السرية.
أقوى أدلة الحنفية، الذي هو يعتبر كاملاً في ظاهر لفظه للجهرية والسرية هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من كان له إمام فقراءته له قراءة )، وهذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة، منهم: أنس بن مالك رضي الله عنه، وابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن عمر وجابر رضي الله عنهم، وذكر جماعة من أهل العلم أنه يصح مرسلاً عن بعض التابعين، وقد صحح هذا الحديث أو حسنه أيضاً طائفة من أهل العلم، فممن صححه أو صحح بعض طرقه الإمام البوصيري صاحب مصباح الزجاجة إلى زوائد ابن ماجه، وكذلك قواه الإمام الفحل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، كما ذكر في رسالته في القراءة, وكما نقله ابن مفلح في الفروع : أن ابن تيمية قوى هذا الحديث، وممن حسنه من المعاصرين: الشيخ الألباني في إرواء الغليل وفي صحيح الجامع.
ولا شك أن المتأمل المنصف إذا اطلع على طرق هذا الحديث، وإن كانت كلها أو جلها معلولة إلا أن فيها أسانيد ليست شديدة الضعف، فهي قابلة للانجبار, ومجموع هذه الطرق والأسانيد يدل على أن للحديث أصلاً: ( من كان له إمام فقراءته له قراءة )، فهو يدل بظاهره على أن قراءة الإمام تجزئ عن قراءة المأموم، وهل نص الحديث على السرية أو الجهرية؟ ليس فيه نص على السرية ولا على الجهرية؛ ولذلك قلت: إنه من أقوى بل لعله أقوى أدلة الحنفية على ما ذهبوا إليه، من أنه لا تجب القراءة, الحنفية ومن وافقهم أو تقدمهم وسبقهم على أن القراءة لا تجب على المأموم، هذا هو القول الأول.
وخلاصته: أنه لا قراءة على المأموم في سرية ولا جهرية, لا سورة الفاتحة ولا غيرها.
طيب قولنا: كالمغرب والعشاء والفجر، التشبيه هنا له معنى، أم المسألة محصورة بالمغرب والعشاء والفجر؟
ليست محصورة، وإنما يدخل فيها مثلاً: الجمعة، العيد، التراويح، الاستسقاء، وسائر الصلوات التي يجهر فيها الإمام بالقراءة.
ما هي أدلة هؤلاء؟ هذا سؤال مطروح لكم، أدلتهم:
أولاً: هي نفس أدلة الحنفية، فمثلاً: استدلوا بقول الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204]، قالوا: لأن هذا أمر بالاستماع والإنصات لمن يقرأ القرآن، فإذا جهر الإمام في الصلاة، فواجب على المأموم أن يمتثل قول الله عز وجل، بأن يستمع إلى القرآن وينصت؛ رجاء أن تنزل عليه الرحمة، وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، وقالوا: من البعيد جداً، بل من العبث أن يأمر الله تعالى الإمام بأن يجهر بالقراءة، ويأمر المأموم بأن يتشاغل عن سماع القرآن بقراءة الفاتحة مثلاً، هذا بعيد جداً, فلذلك قالوا: إن الحكمة من الجهر في القراءة: هي أن يستمع المأمومون، وما نزل القرآن إلا ليتدبر، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، فالحكمة من الاستماع هي تأمل القرآن، وتدبر معانيه، والوقوف عند أحكامه وحلاله وحرامه، وعبره وآياته ومواعظه, وهذا لا يكون إلا بالإنصات، وما بالك بإنسان يكون خلف الإمام؟! فهو يريد أن يقرأ القرآن, ماذا يصنع؟ أليس همه أن ينهي قراءة الفاتحة بأي شكل، فهو يقرأ الفاتحة لا يتأمل فيها, فضلاً عن أن يخرج الحروف من مخارجها الطبيعية، ويقف عند آياتها وعبرها، بل هو يهذها هذاً, همه أن ينهي قراءة الفاتحة، قبل أن يبدأ الإمام بقراءة سورة مثلاً، أو في سكتة الإمام كما ظن بعضهم.. أو ما أشبه ذلك، فقالوا: إن المقصود من الجهر بالقراءة هو أن يستمع المأمومون، فحينئذ يجب على المأموم أن يستمع لقراءة إمامه وينصت, وألا يشتغل عنه في القراءة، هذا وجه استدلالهم بهذه الآية.
ومن أدلتهم أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: ( وإذا قرأ فأنصتوا )، وهذا أيضاً دليل قوي، من جهة أن فيه أمراً بالإنصات، إذا قرأ الإمام..، فهو كالآية في قوله تعالى: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204]، ومن جهة أخرى فإن قوله صلى الله عليه وسلم: ( وإذا قرأ فأنصتوا )، جاء عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، كما في صحيح مسلم .. وغيره، منهم: أبو موسى الأشعري، ومنهم: أنس بن مالك، ومنهم: عائشة رضي الله عنها، ومنهم: أبو هريرة رضي الله عنه.
وفي هذه الأحاديث كلها تفصيل لما يجب على المصلي -إماماً كان أو مأموماً- في صلاة الجماعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا )، فهنا بين واجب الإمام وواجب المأموم، إن كبر الإمام فكبر أنت، ( وإذا قرأ ) ماذا تفعل أنت؟ ( فأنصتوا )، هل قال: فاشتغلوا عنه مثلاً بالقراءة؟ لا، قال: ( فأنصتوا )، طيب: ( وإذا قال: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، فقولوا: آمين -في بعض الروايات: يجبكم الله- وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً ).. إلى آخر الحديث، وهذا آخر الحديث، ( فصلوا قعوداً أجمعين أو أجمعون )، طيب, ألم يبين الرسول عليه الصلاة والسلام ما يتفق فيه الإمام والمأموم هنا, وبين ما يخص الإمام مثل قول: سمع الله لمن حمده، وبين ما يخص المأموم أو ما يتعلق بالمأموم، مثل قوله: ربنا ولك الحمد، أو مثل متابعة الإمام.. أو ما أشبه ذلك؟ بين ذلك كله، ولم يأمر المأموم بقراءة الفاتحة وراء إمامه، لا في سكتاته، ولا في غير سكتاته، فدل هذا على أن المأموم غير مأمور بقراءة الفاتحة وراء الإمام في الصلاة الجهرية، بل هو مأمور بالاستماع والإنصات، ومأمور بالتأمين على قراءة الإمام: ( إذا قال: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، فقولوا: آمين ).
ولا شك أن الفاتحة -والله أعلم- لو كانت واجبة على المأموم بخصوص، غير سماعه لقراءة الإمام، لما كان يسع تركها، مع مثل هذا البيان الواضح، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم الأعرابي المسيء في صلاته، علمه صفة الصلاة, ماذا قال له؟ قال: ( إذا قمت إلى الصلاة فكبر ) ثم ماذا؟ ( ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن )، ومر معنا في رواية أنه أمره بفاتحة الكتاب بالذات، لماذا؟ لأنه يفترض أن يكون منفرداً، فهو يتكلم عن صلاته إذا كان منفرداً، فدل هذا على أن قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية ليست بلازمة، وإلا لبينها الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل حديث أبي موسى، وعائشة، وأبي هريرة، وأنس رضي الله عنهم.. وغيرهم، وأحاديثهم في الصحيح، وبعضها في الصحيحين، فهذا من أدلتهم أيضاً، على أنه لا تجب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية.
ومن أدلتهم أيضاً: نفس أدلة الحنفية السابقة، كقوله صلى الله عليه وسلم: ( من كان له إمام فقراءته له قراءة )، فإن هذا الحديث محمول -على الصحيح- على الصلاة الجهرية، أما الصلاة السرية، فإن المأموم مطالب فيها بالقراءة، كما يطالب فيها الإمام، لماذا يطالب المأموم بالقراءة؟ يطالب فيها لأدلة من الأدلة: حديث جابر رضي الله عنه أنه قال: ( كنا نقرأ خلف النبي صلى الله عليه وسلم، في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب )، والحديث رواه ابن ماجه وسنده صحيح، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على القراءة في الظهر والعصر بفاتحة الكتاب، وسورة في الركعتين الأوليين, وبفاتحة الكتاب فحسب في الركعتين الأخريين لماذا؟ لأن الظهر والعصر صلوات سرية.
وكذلك أن الله تعالى أمر بقراءة القرآن، وبين ما فيه من الفضل والثواب، وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام بين ما في قراءة القرآن و( أن من قرأه له بكل حرف عشر حسنات )، هل هذا خاص بغير الصلاة، أم هو عام في الصلاة وغيرها؟ هو عام في الصلاة وغيرها، فكل نص في مشروعية قراءة القرآن فهو عام، في حال الصلاة وفي غيرها.
وليس في الصلاة -كما سبق بيانه مراراً- سكوت محض، وإنما الصلاة ذكر أو قراءة أو تسبيح أو دعاء.. أو ما شابه ذلك، فدل على أن الإنسان يقرأ خلف الإمام في الصلاة السرية، وأن قوله صلى الله عليه وسلم: ( من كان له إمام فقراءته له قراءة ) إنما هو محمول على ماذا؟ على الصلاة الجهرية.
ومثله قوله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا [يونس:89]، فإن هذا محمول على من أمّن على قراءة الإمام، وهذا إنما يكون في الجهرية؛ لأنها هي التي فيها قراءة، وفيها جهر، وفيها تأمين.. إلى غير ذلك من الأدلة التي سبق ذكر شيء منها، كقوله رضي الله عنه: [ فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه بالقراءة ]، حديث أبي هريرة الذي أسلفته قبل قليل، وهذا الحديث الذي أسلفت تخريجه، قوله: [ فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه ] دليل على أن المأموم لا يقرأ في الصلاة الجهرية؛ لأنه بين أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن القراءة في الصلاة الجهرية، فانتهوا، وهل قال: إلا أم الكتاب، أو إلا فاتحة القرآن؟ لم يقل ذلك، وإنما قال: (انتهى الناس عن القراءة)، يعني: عن جميع القراءة، الفاتحة وغير الفاتحة.
لكن هنا يرد إشكال، من هو الذي يقول: (فانتهى الناس عن القراءة)؟ قطعاً ليس هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن هو؟ احتمال أن يكون أبو هريرة , وقد جاء في بعض الروايات، قال أبو هريرة، واحتمال أن يكون الإمام محمد بن شهاب الزهري، وقد ذهب إلى أن هذا اللفظ مدرج من كلام أبي هريرة أو ابن شهاب الزهري جماعة أهل العلم، ومنهم: الخطيب البغدادي، والبخاري، وأبو داود، ويعقوب بن سفيان، والذهلي، والخطابي .. وغيرهم قالوا: هو مدرج، قال بعضهم: من كلام أبي هريرة، وقال بعضهم من كلام الزهري , وقيل أيضاً: إنه مدرج من كلام معمر، والأرجح أنه من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، أو من كلام الزهري .
فأما إن كان من كلام أبي هريرة فلا إشكال, فإن أبا هريرة يتكلم عن الصحابة، وأبو هريرة واحد منهم، كان يتكلم عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكلامه دليل على أن هذا هو آخر الأمور, وأنه ناسخ لما قبله.
وأما إن كان من كلام الزهري أيضاً فهو دليل؛ لأن الزهري رحمه الله من كبار التابعين، وقد جمع من السنة ما لم يجمعه غيره، ولم يكن الزهري ليجزم بهذا الحكم, وأن الناس يعني: الصحابة انتهوا عن القراءة فيما يجهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة، إلا وعنده من ذلك خبر يقين عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وقد عزز هذا القول وقواه الإمام ابن تيمية في الرسالة المشار إليها.
وهنا مأخذ آخر في الحديث يدل على عدم القراءة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم )، طيب, أنا أسألكم سؤالاً: لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقرءوا سورة الفاتحة في الصلاة الجهرية، هل كان سيسألهم ويقول: (لعلكم تقرءون)؟ كيف يسألهم وهو قد أمرهم؟! فهو يخبر ويعلم صلى الله عليه وسلم أنهم يقرءون على وفق ما أمرهم أن يقرءوه، فلما سألهم وقال: (لعلكم)، دل على أنه صلى الله عليه وسلم كأنه لم يأمرهم بقراءة، واستغرب أنه ينازع القرآن، يعني: يوجد من يقرأ خلفه فيشوش عليه القراءة، وينازعه القراءة، ( فقالوا: نعم يا رسول الله! إننا نقرأ, فقال: لا تفعلوا، ونهاهم عن أن يقرءوا خلف إمامهم ) قال: ( فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة )، فقوله: (لعلكم تقرءون) دليل على أنه قد استغرب صلى الله عليه وسلم قراءتهم، ولو كان قد أمرهم بالقراءة, والقراءة هنا أعم من أن تكون الفاتحة .. أو غيرها، لو كان أمرهم بالقراءة لما استغربها، وما سألهم عنها، وكيف يسألهم عن أمر أمرهم به؟!
أيضاً: من أدلة أصحاب القول الثاني وهم المالكية ومن وافقهم على القراءة في الصلاة السرية وعدم القراءة في الصلاة الجهرية، أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سكت ليمكن المأمومين من قراءة الفاتحة.
وهذا في نظري من الأدلة القوية التي إذا تأملها الإنسان أحدثت عنده قوة في هذا القول, ولا شك أني الآن أعرض لكم القول، ومن الواضح لكم أنني أرجحه؛ لأنه من الصعب أني أعرض القول بتجرد كامل, المفروض أني أحاول، لكن ضيق الوقت ما يسمح بهذا، فأنا أعرض القول كما هو ظاهر لكم، وكأنني أرجحه ولا غرابة, فهذا هو ما سأرجحه في نهاية المطاف، بناءً على أني أعرض لكم المسألة بعد ما انتهيت من بحثها، بل منذ سنين وهذا الموضوع من الموضوعات المشكلة، التي يحرص الإنسان دائماً وأبداً على التحري حولها، ومعرفة القول الراجح فيها.
على كل حال، من الأدلة أيضاً: أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه آله وسلم سكت ليمكن المأمومين من قراءة الفاتحة، والحديث الذي ورد فيه سكتات هو حديث ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له سكتتان في الصلاة: سكتة إذا كبر للصلاة، وسكتة إذا فرغ من القراءة قبل أن يركع )، وهذا الحديث رواه الدارمي في سننه , وأبو عوانة في مسنده، وأبو داود وابن حبان والبغوي والترمذي , وقال الترمذي : حديث حسن، ورواه ابن أبي شيبة أيضاً، والحديث على كل حال ضعيف مضطرب؛ لأنه من رواية الحسن البصري عن سمرة، والحسن قيل: لم يسمع من سمرة , وقيل: سمع منه حديث العقيقة، وحتى مع التسليم بأن الحسن سمع من سمرة، فإن الحسن مدلس رحمه الله، وهو في هذا الحديث قد عنعن، فلم يصرح بالتحديث، فالحديث ضعيف بكل حال، فقد ضعفه جماعة من أهل العلم، ومع ذلك فإن فيه اضطراباً، فمرة قتادة يقول: (سكتتان) ومرة يقول: (ثلاث).. إلى غير ذلك، وقد اعترض عليه عمران رضي الله عنه, وقال: كذب سمرة، يعني: أخطأ سمرة .
فعلى كل حال سمرة ذكر لنا سكتتين، إن صحت الرواية عنه:
السكتة الأولى بعد تكبيرة الإحرام، وهذه السكتة ثابتة، وقد سبقت في حديث أبي هريرة المتفق عليه: ( أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي )... وغيره من الأحاديث، فهي سكتة ليقرأ فيها الإنسان دعاء الاستفتاح.
السكتة الثانية بعد الفراغ من القراءة كلها، وقبل الركوع, وهذه سكتة خفيفة بمجرد أن يتراد إلى الإنسان نَفَسُه، ثم يركع بعد ذلك، وفيما سوى ذلك لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم سكتات، فمن قال: له ثلاث سكتات أو أربع، فإنه قد أخطأ, وقال قولاً ليس عليه دليل.
وهيهات! أن يستطيع أحد أن يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسكت بعد قراءة الفاتحة، وقبل السورة، وإن صرح بعض فقهاء الشافعية بأن هذا مستحب، لكنهم لم يذكروا عليه دليلاً, اللهم إلا أن يذكروا أثراً عن بعض التابعين, أما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن البصير بهذا الشأن يدري أنه ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في السكوت عقب الفاتحة حديث قط.
وما دام لم يصح حديث, فإذا قلنا: للإمام اقرأ, وقلنا للمأموم: يجب عليك أن تقرأ الفاتحة، فمتى يقرأ المأموم؟ ما أمام المأموم إلا خياران: إما أن يقرأ في سكتات الإمام، وبعض الناس يظنون أنه في سكتات الإمام إذا قال الإمام: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، تقول أنت: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، هذا مكان القراءة؟ أو إذا شرع في السورة التي بعدها، كلما سكت تقرأ, وهذا غلط، لماذا؟ لأن السكتة هنا خفيفة بين الآيتين، ولا يستطيع الإنسان فيها أن يقرأ شيئاً، وكذلك هي مدعاة لدخول الوسوسة على الإنسان، ومدعاة للانشغال عن قراءة الإمام؛ لأنك تنتظر متى يسكت حتى تثبت أنت تقرأ، ومدعاة لانشغالك عما تقرأ؛ لأن همك أن توسع هذه القراءة الخفيفة في هذا الحيز الضيق من سكتة الإمام، ففيها من المشقة والحرج والانشغال عن الصلاة، وعن قراءة الإنسان، وعن قراءة الإمام ما لا يشك فيه إنسان، خاصة إذا لاحظت حال بعض الناس، الذين ابتلوا بالوسوسة، وربما كان الواحد منهم ينهب القراءة نهباً, ويخطفها خطفاً, ويهذها هذاً, ولا يعقل من قراءة إمامه شيئاً, ولا من قراءة نفسه شيئاً، همه أن يقرأ وأن ينتهي من سورة الفاتحة.
فبعضهم قالوا في سكتات الإمام, وظنوا هذا المقصود، وهذا خطأ، وإنما المقصود بسكتات الإمام: سكتته الأولى بعد التكبيرة، وسكتته إن سكت بعد قراءة الفاتحة، وسكتته قبل الركوع, هذا هو المشهور عند الفقهاء، وأكثرهم يقصدون بالسكتات هذه، وإن كان بعض الحنابلة أشار إلى المعنى الأول, وقد غلطهم في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
فعلى كل حال نقول: ما دام لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكن المأمومين من قراءة الفاتحة، ويسكت لهم، فإنه لا يشرع للإمام أن يسكت عقب قراءة الفاتحة، وهذا مذهب أحمد رحمه الله ومالك وأبي حنيفة : أنه لا يشرع للإمام أن يسكت بعد قراءة الفاتحة، حتى يقرأ المأموم، دل هذا على أن المأموم غير مطالب بقراءة الفاتحة، وإنه لمن البعيد جداً أن يأمر الشارع الإمام بالجهر بالقراءة في صلوات معينة، وأن يأمر في نفس الوقت المأموم بأن يتشاغل عن قراءة إمامه، بأن يقرأ الفاتحة بنفسه، هذا بعيد جداً؛ لأن الجهر هو لكم، فإذا كنتم أنتم منشغلين بقراءة الفاتحة لأنفسكم, فما معنى جهر الإمام؟ وأي فائدة تحصل من ورائه لنفسه أو لغيره.
كما أن من أدلة أصحاب هذا القول الذين يقولون: تقرأ في السرية ولا تقرأ في الجهرية, الأدلة التي استدل بها الشافعية على أن المأموم -كما سيأتي ذكرها أو ذكر شيء منها- يقرأ في الصلاة السرية والجهرية, فحملها هؤلاء على الصلاة السرية فحسب، وقالوا: الجهرية لا يقرأ بها.
إذاً: هم أخذوا من الأحناف جزءاً, وأخذوا من الشافعية جزءاً، فالأحناف يقولون: لا تقرأ في الصلاة السرية ولا في الجهرية، والشافعية يقولون: اقرأ في الجهرية وفي السرية، المالكية ومن وافقهم توسطوا، فقالوا: اقرأ في السرية ولا تقرأ في الجهرية، وقد ذكر الإمام ابن تيمية رحمه هذا القول، وقال: إنه مذهب جمهور السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم, وهو مذهب الإمام مالك , ويصح أن يكون هو مذهب الإمام الشافعي أيضاً، وهو مذهب الإمام أحمد أيضاً في رواية عنه.
هناك أدلة أخرى أيضاً، يعني الآن نذكر القول وأدلته التي ترجحه أيضاً حتى نخرج منه.
من أدلتهم قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة في أئمة الجور، قال: ( يصلون لكم، فإن أصابوا فلهم ولكم، وإن أخطئوا فعليهم ولكم )، طيب, قوله صلى الله عليه وسلم: (يصلون لكم، فإن أصابوا) يعني: في صلاتهم (فلهم ولكم) أليس دليلاً على أن الإمام يتحمل عن المأموم؟ بلى، فالإمام صلاته له فيما أصاب فيه له وللمأموم، فعلى هذا نستطيع أن نقول: جهر الإمام في القراءة هو للإمام وللمأموم أيضاً، قراءته هي له وللمأمومين من ورائه، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم).
ومثله أو قريب منه قوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء:102]، ما معنى قوله: فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء:102]؟ هل معناها: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يقيم, ويقول: الله أكبر الله أكبر قد قامت الصلاة؟ لا.
إذاً: ما معنى قوله: فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء:102]؟ معناها: صليت بهم، فهو إذا صلى بهم إماماً فقد أقام لهم الصلاة، فصلاته صلى الله عليه وسلم له ولمن وراءه، وهذا يشبه الحديث السابق: ( من كان له إمام فقراءته له قراءة ).
من الأدلة أيضاً: أن الإمام لو قرأ في الصلاة الجهرية بغير الفاتحة، يعني: لو فرضنا أن الإمام جاء وكبر في صلاة المغرب، قال: الله أكبر، ثم لما انتهى من التكبير قال: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى [البقرة:1-2]، أو قرأ سورة الإخلاص التي هي ثلث القرآن، ثم كبر وركع وركع معه المأمومون، ما حكم صلاته حينئذ؟ باطلة، وما حكم صلاة من وراءه إن تابعوه؟ باطلة, أو الركعة باطلة، فدل على أن العبرة ليست في قراءة المأموم، حتى لو قرأ المأموم الفاتحة، افرض أن المأموم قرأ الفاتحة، والإمام يقرأ ثم ركع مع الإمام، فالظاهر حينئذ أن صلاته لا تصح أيضاً؛ لمتابعته لإمامه، فدل هذا على أن العبرة بقراءة الإمام في الصلاة الجهرية، لا بقراءة المأموم.
كما أن من الأدلة العقلية: أن الإنسان إذا دخل مع الإمام وهو راكع، فإن ركعته تجزئه، ويعتد بتلك الركعة كما هو مذهب الجماهير من أهل العلم وهو الصحيح، أن الإنسان إذا جاء والإمام راكع ركع معه, واعتد بتلك الركعة, وأجزأته ركعته.
طيب, لو جاء الإنسان والإمام في آخر القراءة، بقي دقيقة على الركوع فكبر، وما استطاع المأموم الداخل الجديد أن يقرأ الفاتحة, وركع مع الإمام, ما حكم صلاته؟ صحيحة، حكم صلاته في هذه الحال صحيحة، وكذلك لو فرضنا أن الإمام يسكت، بعض الأئمة يسكتون بعد الفاتحة.
فهب أن الإمام سكت وقرأ الذين معه، لكن واحد جاء بعد ما انتهت السكتة، وبعدما شرع الإمام في قراءة جديدة, هل نقول له: تشاغل عن القرآن بقراءة الفاتحة، أو نقول له: استمع للإمام؟ لا شك أننا نقول له: استمع للإمام؛ لأنه حتى لو قلنا للإمام: اسكت ليقرأ المأمومون سكت وقرءوا، ثم جاء واحد بعدما انتهت السكتة، فيقال له: يا مأموم! يا متأخر! اسكت واستمع إلى قراءة إمامك.
فهذه أكثر الأدلة التي وقفت عليها, والتي تدل على أن المأموم لا تلزمه قراءة في الصلاة الجهرية، وهذا الكلام نقوله في حالة: وهي ما إذا كان الإمام لا يمكن المأمومين من القراءة، أما لو سكت الإمام بعد الفاتحة, وقرأ الناس, هل في هذا من حرج؟ نقول: إن شاء الله الأمر في ذلك واسع, وما دام المسألة فيها خلاف طويل عريض معروف، فلو سكت الإمام, وقرأ المأمومون كان هذا حسناً، لكن هب أن الإمام لم يسكت، أو قال: أنا أتبع السنة ولا أسكت، حيث لم يسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحينئذ لا نوقع على المأمومين حرجاً فنقول: اقرءوا وتشاغلوا عنه، بل نقول للمأمومين: اسكنوا واسكتوا في الصلاة، ( وإذا قرأ فأنصتوا )، ( وإذا قال: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فقولوا: آمين يجبكم الله )، ( وقراءة إمامكم قراءة لكم )، ولا يلزمكم أن تقرءوا الفاتحة, بل لا يسعكم أن تقرءوا الفاتحة، أي: لا يجوز لكم أن تقرءوها وتتشاغلوا عن الإمام، ولذلك قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن هذه من المسائل التي ليس فيها مجال للاحتياط. ما يوجد مجال أنك تحتاط في هذا المسألة, اللهم إلا لو سكت الإمام حتى تقرأ، هنا يكون عندك احتياط، أما لو قرأ الإمام ما عندك احتياط؛ لأنك إن قرأت سيقول لك أصحاب هذا القول: إنك أخطأت، لماذا؟ لأنك تشاغلت عن قراءة الإمام، وعن الاستماع للقراءة، فسيقولون: إنه لا يجوز لك ذلك, وإنك أخطأت.
ولو سكت ولم تقرأ، سيقول لك أصحاب القول الآخر الذي سيأتي, والذين يوجبون قراءة الفاتحة مطلقاً: إنك أخطأت؛ لأنك لم تقرأ الفاتحة, فلا مجال للاحتياط، إن سلمت من هؤلاء لم تسلم من هؤلاء، وإن كنا نقول كما قال عبد الله بن المبارك وغيره: إن الأمر في ذلك واسع، والمسائل الخلافية التي فيها خلاف قديم، لا ينكر فيها أحد على أحد، إذا كانت الأدلة فيها متقاربة، ومن اجتهد فأخذ بهذا القول فلا إثم عليه, ومن اجتهد فأخذ بذاك القول فلا إثم عليه، ولسنا نقول: إن من قرأ باجتهاده آثم، كلا، ولا نقول: إن من سكت باجتهاده آثم، كلا، وإن كنت أرى -والله تعالى أعلم، وأستغفر الله- أن المأموم لا يقرأ الفاتحة في الصلاة الجهرية, اللهم إلا إذا كان الإمام يسكت؛ ليمكنك من القراءة، أما إن كان يشرع في القراءة عقب التأمين مباشرة، فإنني لا أرى أن المأموم يقرأ، لكن لو أن إنساناً قرأ باجتهاده أخذاً بالقول الآخر, فإنه يسعه ذلك, ولا نقول: إنه آثم بهذه القراءة.
منهم من يقول: إنها ركن في الصلاة للإمام والمأموم والمنفرد.
ومنهم من يقول: إنها ركن في حق الإمام والمنفرد, وواجب في حق المأموم، لا ندخل في تفاصيل الأقوال، المهم أصل القول الثالث: أن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمأموم والمنفرد، وأن الإنسان يقرأ الفاتحة في الصلاة بكل حال, سواء كانت الصلاة جهرية، أو كانت الصلاة سرية، فإن كانت سرية قرأ معها سورة، كما هو معروف في الركعة الأولى والثانية، وإن كانت الصلاة جهرية، فإنه يكتفي بقراءة الفاتحة فقط.
فالقراءة عندهم حينئذٍ واجبة في السرية والجهرية, وهذا قول الشافعي , المشهور الذي صار إليه الإمام، وعليه أكثر أصحابه من الشافعية, وهو أيضاً قول الأوزاعي إمام أهل الشام، والليث بن سعد، وبه قال أبو ثور , وقد ذهب إليه جماعة من الصحابة, منهم: عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وابن عباس، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه, وهو قول: عروة بن الزبير وسعيد بن جبير ومكحول والحسن البصري من التابعين.
هذا القول له أدلة أيضاً, من أدلتهم: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وقد سبق: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن)، والحديث متفق عليه، ودلالته على هذا القول واضحة، لأنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم نفى صلاة من لم يقرأ بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وهذا عام للإمام والمأموم والمنفرد، فمن لم يقرأ بالفاتحة فلا صلاة له أياً كان.
ولا شك أن الجواب على هذا الحديث بالذات ممكن؛ لأننا نقول: قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن )، يحمل على السرية، ويحمل على المنفرد، ويحمل على الإمام، جمعاً بينه وبين غيره من الأحاديث الأخرى، كما أنه يمكن أن يقال: إن تأمين المأموم يقوم مقام قراءته كما سبق، و( إن قراءة الإمام قراءة لمن وراءه )، فيجمع بينه وبين هذه الأحاديث، ولا إشكال في هذا الحديث.
وهناك دليل آخر هو أقوى أدلتهم: وهو الذي جعل طائفة من علمائنا الكبار الأفاضل يميلون لهذا القول، فلعلي نسيت أن أذكر أن هذا القول مما يقويه ويعززه ويرفع من شأنه، ويجعله مشهوراً عندنا أنه قد ذهب إليه جماعة من كبار فقهائنا، كسماحة الشيخ الوالد عبد العزيز بن عبد الله بن باز، والشيخ: عبد الله بن حميد رحمه الله، والشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله, فإنهم جميعاً يذهبون إلى وجوب قراءة الفاتحة على الإمام والمأموم والمنفرد، يعني: أن المأموم يجب عليه أن يقرأ الفاتحة حتى في الصلاة الجهرية، حتى إني سمعت بعض هؤلاء الأئمة الفضلاء يقول: لولا هذا الحديث الذي سوف أذكره الآن ما قلت بهذا القول، ما هذا الحديث؟
هذا الحديث حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه, وهو يشبه حديث أبي هريرة , بل هو حديث ذكره المصنف في الدرس الماضي، عن عبادة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة الفجر، فقال لأصحابه: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! إنا لنقرأ خلف إمامنا, قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها )، ودلالة الحديث هذا على هذا القول واضحة كالشمس.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: ( لا تفعلوا )، يعني: لا تقرءوا خلف إمامكم في الصلاة الجهرية ( إلا بفاتحة الكتاب, فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها )، فهو يدل دلالة ظاهرة على أن قراءة الفاتحة واجبة على المأموم، حتى في الصلاة الجهرية، وهذا هو عمدة أصحاب هذا القول.
وحديث عبادة هذا رضي الله عنه سبق تخريجه، ومما ذكرت في تخريجه آنذاك أن الترمذي رواه وقال: حديث حسن، وكذلك رواه أبو داود وأحمد والبخاري في جزء القراءة , وصححه جماعة من أهل العلم أو حسنه، منهم: أبو داود والترمذي كما ذكرت، ومنهم الدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي.
وهذا الحديث جاء من طريق محمد بن إسحاق كما ذكرت ذلك كله في الدرس الماضي، جاء من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وقد تابع محمد بن إسحاق جماعة، تذكرون منهم أحداً, ممن تابعوا محمد بن إسحاق على هذا الحديث؟ هذه اعتبروها مراجعة، نحن راجعنا الطرائف العلمية على يدي أبي سهيل سهل الله أمره، ونراجع الآن الحديث، من تابع محمد بن إسحاق؟
تابعه سعيد بن عبد العزيز وزيد بن واقد، هؤلاء تابعوا محمد بن إسحاق في رواية الحديث عن مكحول، قال: حدثني محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وقد صحح الحديث أيضاً الإمام الخطابي .
إذاً: الحديث صحيح على حسب ما يذهب إليه هؤلاء، فكيف نجيب عنه؟
صراحة أجيب عن الحديث بعشرات الأجوبة، لكن كثير من هذه الأجوبة مما لا يرتضى، ولكني أذكر ما أعتبر أنه معقول من الأجوبة:
من الأجوبة: أن منهم من ضعف هذا الحديث، ضعفوه لوجود محمد بن إسحاق وهو صدوق مدلس، ولكن محمد بن إسحاق قد صرح بالتحديث في هذا الحديث، فهذا الإسناد حسن، قالوا: وإن كان الإسناد حسناً، إلا أننا لا نقبله في مثل هذه المسألة العظيمة الجليلة الكبيرة الخطيرة, فمثله لا يقبل تفرده، فنقول لهم: لم يتفرد به، بل تابعه زيد بن واقد وسعيد بن عبد العزيز .
هنا أيضاً قالوا: ضعيف، وممن ضعفه أيضاً بالمناسبة الإمام أحمد .. وغيره، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ومن أعجب ما ذكر في ضعفه، أن ابن تيمية رحمه الله قال: الصواب أن هذا الحديث موقوف على عبادة بن الصامت , وكان إماماً بـبيت المقدس، فغلط عليه بعض الشاميين، ونسبوا ما قاله هو إلى ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأن ابن تيمية رحمه الله يقول: إن عبادة كان إماماً بـبيت المقدس , فقال لمن وراءه: (لعلكم تقرءون، قالوا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب, فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها), فغلط بعض الشاميين, ورفعوا هذا الحديث الموقوف على عبادة، رفعوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحقيقة أنه يوجد في النفس شيء من هذا الحديث؛ لأن الحديث معروف من رواية محمود بن الربيع عن عبادة كما في الصحيحين وغيرهما، وليس فيه هذه القصة، وليس فيه: ( فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب )، وإنما هو باللفظ الآخر المعروف، الذي اتفق على إخراجه البخاري ومسلم , وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن )، وليس في ذكر القصة ولا قوله: ( فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب ).
ومما يشكل على الحديث أيضاً: أنه جاء المعنى نفسه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى، وقال: لعلكم تقرءون )، جاء من طريق صحابي آخر، وهو أبو هريرة كما ذكرناه قبل قليل، وهل في حديث أبي هريرة -وهو حديث صحيح لا مطعن فيه- أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب ) ؟ لا، وإنما قال: ( فإني أقول: مالي أنازع القرآن ) وقال في آخره أبو هريرة : ( فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة )، فهذا يشكل على حديث عبادة , والله أعلم أن القصة واحدة؛ لأنه جاء في رواية أن حديث عبادة كان في صلاة الفجر، وجاء في حديث أبي هريرة أنه كان في صلاة الفجر، فكأن القصة حينئذ واحدة، فهذا يؤكد على حديث عبادة رضي الله عنه.
الجواب الثاني على حديث عبادة : أنه منسوخ، وهذا مال إليه الشيخ الألباني تاج المحدثين في هذا العصر، في عدد من كتبه منها: صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم , فإنه عقد فصلاً لبيان أن وجوب القراءة في حال الجهر منسوخ، وذهب إلى أن حديث عبادة منسوخ بحديث أبي هريرة .. وغيره، في انتهاء الناس عن القراءة فيما يجهر فيه بالقراءة، وهذا القول بالنسخ وإن ضعفه اللكنوي وغيره، إلا أنني أرى أن فيه قوة ووجاهة.
الجواب الثالث: وبعض الأجوبة اقتبستها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة المفردة وفي مواضع في الفتاوى , أن بعضهم حمل هذا الحديث على الإمام الذي تكون له سكتات، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها، يعني: إن سكت إمامه, كأنهم قدروا قولهم: إن سكت إمامه.
وبعضهم قال: الحديث دليل على عدم الوجوب أصلاً كما أسلفت، فإنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم أوجب عليهم قراءة الفاتحة لما سألهم وقال: ( لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ ).
وبعضهم قال: العلة واحدة في الفاتحة.. وغيرها، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ينازع القرآن، فإنه ينازع سواء كان المأمومون يقرءون وراءه سورة الفاتحة.. أو غيرها، فالمنازعة تتحقق بكل حال، والعلة واحدة، وإذا كانت العلة دعت إلى ترك غير الفاتحة، فإنها تدعو أيضاً إلى ترك قراءة الفاتحة.
ومنهم من مال إلى ترجيح حديث أبي هريرة السابق، وهو قوله: ( فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة ).
ومما يشكل على حديث عبادة أن الترمذي روى عن عبادة رضي الله عنه: ( أنه سئل عن قراءة الفاتحة وراء الإمام في الصلاة الجهرية, فاستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، ولو كان عبادة عنده هذا الحديث الذي هو نص في المسألة لاستدل به، ولعل هذا مما يرجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام، من أن هذا موقوف على عبادة، وأن بعض الرواة وهم, فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ لو كان عند عبادة نص في وجوب القراءة على المأموم في الصلاة الجهرية، كهذا النص، لما احتاج معه إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ).
قول بالقراءة مطلقاً، وهو مذهب الشافعي ومن وافقه.
وقول بترك القراءة مطلقاً وهو مذهب أبي حنيفة ومن وافقه.
وقول ثالث بالتوسط وهو مذهب مالك ومن وافقه, فيقول: تقرأ في الصلاة السرية، ولا تقرأ في الصلاة الجهرية, وهذا مذهب أحمد أيضاً، وجمهور الصحابة والتابعين والسلف والأئمة المتبوعين, ومال إليه كثير من أهل العلم وأهل التحقيق، وهو الذي تميل إليه النفس بعد هذا البحث الذي قدمت لكم طائفة منه، ولم يتسع الوقت لتقديم بقيته.
عندنا بطبيعة الحال في هذه الليلة عدة أحاديث، فكأن الوقت قد امتد بنا، ولا يسمح في عرضها، فنسأل الله تعالى أن يعيننا على عرضها في الأسبوع القادم.
هذا وأسأل الله تعالى أن يمن علي وعليكم بالتوبة النصوح، ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وأن يصلح نياتنا وذرياتنا وأقوالنا وأعمالنا، إنه على كل شيء قدير.
وأسأله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يرحمنا بترك المعاصي، وأن يلهمنا رشدنا، ويقينا شح أنفسنا, وأن يعزنا بطاعته, ولا يذلنا بمعصيته، وأن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمالنا أواخرها، واجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
اللهم توفنا وأنت راض عنا غير غضبان.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
والحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر