أما بعــد:
أيها الإخوة: في مثل هذا الجو المناسب يطيب الحديث حيث يجتمع الإنسان بإخوانٍ له في الله يتحدث إليهم عن قضية مهمة من قضايا بناء الشخصية الإسلامية.
أيها الإخوة: إن الموضوع كما سمعتم يتعلق بالحديث عن التوازن في حياة المسلم؛ والمقصود بالتوازن هو: أن تتكون شخصية الإنسان المسلم تكوناً معتدلاً سليماً، بحيث لا يطغى فيها جانب على حساب جانب آخر، ولا يغفل فيها جانب بسبب الاهتمام الزائد بجوانب أخرى غيره، هذا هو التوازن في حياة وشخصية الفرد.
ومثله التوازن في بناء المجتمع؛ بحيث يتكون المجتمع المسلم من مجموعة من الأفراد المتوازنين الذين يلبون جميع الاحتياجات التي يحتاج إليها المجتمع المسلم.
وأنت إذا تأملت واقع الناس وشخصياتهم في القديم والحديث، وجدت أن هناك حقيقة يكاد أن يتفق عليها الناس كلهم، وهي حقيقة تكلم عنها العلماء المسلمون في القديم وفي الحديث، وتكلم عنها علماء النفس، والتربية، والطب وغيرهم.
لكن أن تجد شخصين متماثلين متفقين فهذا نادر أو غير موجود، وهذا الأمر هو لحكمة أرادها الله تبارك وتعالى، فإن المجتمع -أي مجتمع سواء المجتمع المسلم، أو المجتمعات الكافرة- لكي يقوم هو بحاجة إلى مجموعة من الكفاءات المتفاوته، كما أن أي مجتمع بحاجة إلى القادة والزعماء، هو أيضاً بحاجة إلى الأطباء، وبحاجة إلى العلماء، وبحاجة إلى المهندسين، وبحاجة إلى الخبراء في كافة مجالات الحياة، بل وبحاجة إلى الخدم وإلى غيرهم من أصحاب الحرف والمهن العادية، بل والوضيعة في نظر الناس، والتي لا بد للناس منها.
فكل حرفة يحتاجها الناس تجد من يرغب فيها ويميل إليها، وبمجموع هذه الأشياء يتكون المجتمع، ولا يمكن أن نقول: إن مجتمعاً ما مكون من مجموعة من الشعراء أو الأدباء؛ فإن الشعراء والأدباء يحسنون صناعة الكلام وتنميقه وضبط الأوزان والقوافي، ويحسنون الحديث عن المشاهد الجميلة والمشاعر الرقيقة, لكنهم لا يحسنون الصناعات مثلاً، ولا يتقنون الفنون العسكرية ولا غيرها، وهكذا سائر التخصصات، أو الميول الأخرى في الحياة.
وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا، ونحن نتحدث عن التوازن في حياة الفرد المسلم وفي حياة المجتمع المسلم، وإذا كانت هذه الحقيقة بدهية ومُسَلَّمة، فإننا نطل إطلالة سريعة على ذلك المجتمع الإسلامي الفريد الذي تربى على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، مجتمع الصحابة رضي الله عنهم؛ المجتمع الذي أراد الله عز وجل أن يكون منارة سامقة مرتفعة على التاريخ يتطلع إليها الناس في كل زمان وفي كل مكان.
الضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء |
فأنت بالمقايسة تستطيع أن تعرف الخطأ من الصواب، بل وتستطيع أن تعرف مقدار الخطأ، وأضرب لهذه القضية المهمة مثلاً أرى أنه من الأهمية بمكان:
قد يظن بعض المسلمين في يوم من الأيام أنهم حققوا لأنفسهم مستوىً من الإيمان عظيماً وكبيراً من خلال حياتهم الاجتماعية؛ فمثلاً يقول بعض المسلمين عن مجتمعات، أو تجمعات تقام في أماكن مختلفة من العالم، يقولون: إن هذه التجمعات التي يلتقي فيها أحياناً ملايين البشر، ومع ذلك لا يقع بينهم شيء من الخصومة، ولا شيء من المشاجرة، ولا شيء من الاختلاف، ولا تسمع اثنين يتلاحيان في أية قضية من القضايا؛ لا في قضية علمية، ولا عملية، ولا حول أمر من الأمور، فهل هذه الصورة التي يتحدث عنها البعض هل هي صورة مثالية وصحيحة أم لا؟
الذي أعتقده أن هذه الصورة وإن كانت بادي الرأي صورةً محببةً إلى النفس إلا أن عليها مآخذ عديدة، لماذا؟ لأنك حين تقرأ في سيرة الجيل الأول؛ الذي اتفق على أنه هو المثل الأعلى لكل مجتمع وتجمع ينشأ بعد ذلك، تجد أنه حصل بين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم شجار وخصومة في أشياء كثيرة، وتجد أنه حصل بينهم تنافس في أشياء عديدة سواء في أمور الدين والعبادة، أو حتى في بعض الأمور الدنيوية، وتجد أنهم قد يزدحمون في أمور معينة، وقد يتشاحون فيها، وقد ترتفع أصواتهم، بل وقد ترتفع الأصوات في المسجد أحياناً، وهذا كله ثابت في أحاديث صحاح، بل إن هذا الوضع وضع متواتر، ولو قرأت في أي كتاب من كتب السنة كـالبخاري أو مسلم مثلاً، أو غيرهما، أو في سير الصحابة لوجدت أن هذا الوضع يتكرر باستمرار.
فالصحابة يختلفون في قضية من القضايا، ويغضب بعضهم على بعض، ويعاتب بعضهم بعضاً، وترتفع أصواتهم، وهذا كله وضع طبعيٌ جبليٌ ليس بالغريب.
فأنت حين تجد وضعاً آخر في يوم من الأيام ليست فيه هذه الظاهرة، بل هو وضع لا يختلف فيه اثنان: لا يتلاحيان، لا يختصمان، لا يتشاجران، لا يغضب فيه واحد على الآخر إطلاقاً، تجد أن هذا الوضع في حاجة إلى مراجعة، لأننا قد نأخذ من الإسلام، أو نستبعد من الإسلام قضايا أساسية؛ لأنها مصدر خصومة بين الناس، أو بين المنتسبين إلى الإسلام، فإذا استبعدنا هذه القضايا أفلحنا فعلاً في جمع كلمة الناس، لكن ليس على الصورة الكاملة للإسلام، وإنما على صورة ناقصة قد تعجب الإنسان من حيث جودتها، لكن البصير يدرك أنها صورة ناقصة.
المقصود من هذا المثال هو: تقرير القاعدة السابقة، وهي: أن المجتمع الأول؛ مجتمع الصحابة رضي الله عنهم هو الصورة المثلى والقدوة العليا التي يجب أن نقيس عليها كل وضع، وتجمع، ومجتمع، فنعرف مدى استقامته أو انحرافه، ونعرف مقدار هذا الانحراف بهذا القياس، وهذه القضية المهمة نطبقها في الموضوع الذي نتحدث عنه الآن، وهو موضوع التوازن في حياة الفرد وفي حياة المجتمع.
وما من الصحابة أحد إلا وتجده حريصاً على تعلم ما يحتاج إليه من العلوم التي تحقق شيئاً من الأشياء التي يمارسها في حياته؛ فإن كان تاجراً وجدته خبيراً بأحكام البيع والشراء وأحكام الزكاة ونحوها، وإن كان مزارعاً وجدته خبيراً بأحكام الزراعة والمزارعة وسواها، وإن كان مشتغلاً بالجهاد وجدته خبيراً بأحكام الجهاد والقتال والاسترقاق وغير ذلك.. وهكذا.
ثم تجد كل فرد منهم محققاً قدراً من العمل سواء بالعبادة أو بالدعوة أو بغير ذلك.
فلا تجد أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يغمص أو ينتقص بشيء من الإخلال بالواجبات الشرعية، أو التقصير فيها إلا ما لا بد من وقوعه من البشر من حوادث فردية معينة.
فإذا انتقلت إلى جانب العقيدة وجدت أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم -بلا استثناء- قد التزموا بعقيدة واحدة صحيحة ناصعة نقية لم يأخذوها بالوراثة؛ لأنهم إنما ورثوا عن المجتمع الجاهلي ما رباهم الإسلام على التخلي عنه والحذر منه، حتى إنهم كانوا يستوحشون من كل شيء وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم حتى يأتي القرآن، أو يأتي الحديث ليبين لهم أنه لا جناح عليهم ولا حرج عليهم في ذلك، كما تحرجوا مثلاً: من الطواف بين الصفا والمروة؛ لأنهم كانوا يفعلونه في الجاهلية حتى نـزل القرآن بذلك.
ولا تجد أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بقي على معتقد موروث من مورثات الجاهلية، بل تحرروا منها بالكلية، وخلعوها على عتبة الإسلام، وتلقوا العقيدة الصحيحة نقيةً صافيةً من فم محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يحصل أن وقع أحد منهم ببدعة اعتقادية على الإطلاق، ولا ببدعة عملية أيضاً.
والحديث ورد عند ابن سعد عن محمد بن كعب، والحسن البصري مرسلاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وورد عند ابن سعد وابن عساكر موقوفاً على عمر بن الخطاب من قوله، وورد عند الحاكم موقوفاً على أنس بن مالك؛ وهو صحيح بمجموع طرقه.
ومثل معاذ رضي الله عنه عبد الله بن مسعود، فقد قال فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [[إن
والمقصود أن عمر عبر عن ابن مسعود بأنه: [[كنيف ملء علماً]] وهذه الرواية رواها الإمام أحمد في فضائل الصحابة، والطبراني في الكبير، وأبو نعيم وغيرهم.
فهذا معاذ، وهذا ابن مسعود ومعهم غيرهم من الصحابة تميزوا بالعناية بالعلم والاهتمام بالتفقه في الدين.
لكنك حين تنتقل مثلاً: إلى خالد بن الوليد، تجد خالداً رضي الله عنه لم يشتهر في حمل العلم والفقه بمثل ما اشتهر به معاذ، أو ابن مسعود، أو غيرهما من فقهاء الصحابة.
وإنما اشتهر خالد رضي الله عنه بإتقان فنون الحرب والفروسية والكر والفر، حتى أصبح هذا هو ديدنه، وأصبح يجد لذته وسعادته وقرة عينه في معاناة هذا اللون من الجهاد الذي يشق على كثير من النفوس، ولذلك كان رضي الله عنه وأرضاه يقول: [[ما ليلة تهدى إلىَّ فيها عروسٌ أنا لها محب، أو أبشر فيها بغلام، بأحب إلىَّ من ليلة شديدة الجليد أصبح فيها العدو في سرية من المهاجرين ]] الله أكبر! يجد من اللذة في هذا الجو البارد شديد البرودة، والمخيف، في سرية من المهاجرين يصبحون العدو، وقد أصابهم من الخوف والبرد ما أصابهم، يجد من اللذة في معاناة ومقاساة هذا العمل الصعب على النفوس بحكم الجبلة والطبيعة ما لا يجده في ليلة تهدى إليه فيها عروس، أو يبشر فيها بغلام.
وهذه الكلمة من أبي سليمان رضي الله عنه رواها عنه أيضاً الإمام أحمد في كتاب فضائل الصحابة"، وأبو يعلى، وابن حبان، وابن عساكر وغيرهم، وإسنادها صحيح.
وحينما تنتقل إلى أنموذج ثالث، تجد مثلاً: أبا ذر الغفاري رضي الله عنه؛ وأبو ذر لم يعرف عنه مزيد عناية بالعلم أكثر من غيره، ولا مزيد اهتمام بشأن الجهاد أكثر من غيره من بقية الصحابة، إنما الناحية التي برز فيها وعرف بها هي قضية الزهد والورع، والحث على التقلل من الدنيا والتزود للآخرة، وله في هذه القضية مذهب خاص معروف، ولا حاجة إلى الإطالة بذكره.
وتجد من الصحابة غير هؤلاء من لهم اهتمامات أخرى غير ما سبق، وهذه المزايا التي تميز بها الصحابة رضي الله عنهم، أو مجموعات من الصحابة تميزوا بها، وتميزت كل طائفة منهم بما لا يتميز به غيرهم هي راجعة إلى خصائص موجودة في أصل التركيب، وأصل الفطرة عند هؤلاء القوم، فـخالد رضي الله عنه جبل على الشجاعة. وابن مسعود رضي الله عنه منح من قوة الذاكرة، وقوة الاستنباط، والتجلد في طلب العلم ما ليس لغيره.. وهكذا.
فإذاً من مجموع هذه الخصائص يتكون المجتمع المسلم، وهذا أمر لا بد من مراعاته.
وهذه الصورة المثالية الموجودة في مجتمع الصحابة، يجب أن نعمل على أن نتمثلها في واقعنا اليوم، ونحن نسعى إلى تكوين المجتمع المسلم الصحيح الذي يتأسى بمجتمع الصحابة رضي الله عنهم، فندرك أنه لا بد أولاً: أن يلتزم كل فرد منا بقدر معين من الخصائص والصفات، يكون هذا القدر مشتركاً بين جميع الأفراد، فكل فرد لا بد أن يتعلم من العلم الشرعي ما يحتاج إليه في حياته العملية، وكل فرد لا بد أن يعرف العقيدة الصحيحة، ليس عن طريق التقليد والوراثة، بل عن طريق التلقي ومعرفة الدليل، وكل فرد لا بد أن يلتزم بقدر من العمل، والعبادة، والقيام بما لا بد له منه في ذلك.
وثالثاً: يشعر أنه يمكن أن يحقق في مجال تعلم الهندسة ما لا يحقق في غيره.
ورابعاً: يجد أنه يمكن أن يحقق في مجال تعلم صناعة من الصناعات، أو حرفة من الحرف، أو مهنة من المهن التي لا تحصر ما لا يحقق في غير هذا المجال.
فعلى الإنسان أن ينظر في المجال الذي يحس أن نفسه إليه أميل، وطبعه به ألصق؛ فيعمل على التوجه إلى هذا المجال لينجح فيه ويخدم نفسه، ويخدم المسلمين من خلاله ما لم يكن هذا المجال مجالاً غير مشروع.
وهذه القضية وإن كان علماء التربية اليوم يتحدثون عنها إلا أننا لسنا بحاجة لأن ننقل كلامهم، كيف ونحن نجد من نصوص علمائنا السابقين ما يغنينا عن ذلك؟!
فهذا الإمام ابن القيم رحمه الله يقول: في كتابه أحكام المولود وهو يتحدث عن الأطفال وتعليمهم، يقول رحمه الله: ومما ينبغي أن يعتمد حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال، ومهيء له منها مما كان مأذوناً فيه شرعاً، فيعلم أنه مخلوق له، فلا يحمله على غيره؛ أي: أن المربي يجب أن يتأمل حال المربِّى، وما هو مهيء له بأصل الخلقة والجبلة والطبيعة، فيوجهه إلى ذلك، ولا يحمله على غيره.
يقول: فإنه إن حمل على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه، وفاته ما هو مهيء له، فإذا رآه حسن الفهم، صحيح الإدراك، جيد الحفظ واعياً؛ فهذه من علامات قبوله وتهيئه للعلم، وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب والرمي واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذ له في العلم، ولم يخلق له، مكنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين، وإن رآه بخلاف ذلك، وأنه لم يخلق له ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع، ورآه مستعداً لها، قابلاً لها، وهى صناعة مباحة نافعة للناس، فليمكنه منها، وهذا كله بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه.
فـابن القيم رحمه الله أشار إلى القدر الذي لا بد منه لكل إنسان؛ وهو تعليمه ما يحتاج إليه في دينه؛ ثم أشار بعد ذلك إلى أن الأولى بالإنسان أن ينظر سواء في نفسه، أو في من يربي، فيما هو مستعد له فطرة وخلقة، فيوجهه إلى ذلك، فإنه إن وجهه إلى غيره، لم يفلح فيما وجه إليه، وخسر الشيء الذي كان مستعداً إليه أصلاً، لأنه لم يشتغل به.
وهذا ملمح مهم جداً في قضية التوازن.
فإذا نظرت إلى جانب آخر: وجدت أن علم العقائد، علم أصول، وأن أي علم قبل هذا العلم لا يكفي، وأن الإنسان إذا فسدت عقيدته لم ينفعه بعد ذلك ما حصل من العلوم.
وهكذا كل علم يدلي بحجته تجد أنك تحكم له، وتقول: هذا العلم أولى من غيره، ولذلك تجد أن بعض الطلبة يتنقل بين هذه العلوم بطريقة مترددة غير مطردة ولا مستقرة، فهو اليوم متجه إلى تعلم التفسير، ثم تلقاه بعد شهر أو شهرين قد ترك الكتب التي بدأها والبرنامج الذي ألزم نفسه فيه بتعلم التفسير، واتجه إلى حفظ السنة، فتلقاه بعد سنة وقد قطع هذا العمل على نفسه، وقال: لا بد أن أتعلم العقيدة فهي أساس كل شيء، فلا يكاد أن يبدأ بتعلم العقيدة حتى ينتقل منها إلى الفقه، وهو يقول: إن الفقه علم عملي والناس محتاجون إليه في كل حركة وفي كل سكنة، ولا بد من تعلم هذا العلم لسد حاجة الناس.
بل أعجب من ذلك أنك تجد بعض الشباب يتجه إلى طلب علم من العلوم، فيلقاه بعض من حوله فيسأله سؤالاً يتعلق بعلم آخر، فيجد نفسه حائراً أمام السؤال الذي وجه إليه لا يستطيع الإجابة عليه، فهذا السؤال وهذه الحيرة أملت عليه الاتجاه إلى العلم الذي يتعلق بهذا السؤال؛ فإذا كان السؤال فقهياً مثلاً، اتجه إلى الفقه لأنه شعر من خلال عجزه عن الإجابة عن هذا السؤال؛ بضرورة تعلم الأحكام التفصيلية بأدلتها.
فإذا بدأ وُجه إليه سؤال آخر وثالث وهكذا، فيكون الإنسان متردداً لا يكاد يستقر على حال، بسبب ضعف انتباه الإنسان لنفسه، وضعف ضبطه للطريقة الصحيحة التي يجب أن يتعلم بها، وبسبب عدم وجود المربي أو الموجه الذي ينتفع الإنسان بخبرته ومعرفته في هذا المجال.
ولذلك قال علماؤنا السابقون: إن الإنسان إذا وجد في نفسه ميلاً إلى علم من العلوم ينبغي له أن يركز على هذا العلم الذي شعر بأنه يميل إليه، ولو كان هذا العلم مفضولاً، فمثلاً: لو افترض أنك تجد في نفسك ميلاً إلى علم التاريخ، وأنك تبدع فيه أكثر من غيره، فإنك حينئذٍ ينبغي بعد أن تتعلم من علوم الشرع ما لا بد لك منه أن تركز على تعلم علم التاريخ، وأن تخدم الإسلام من خلال هذا العلم.
فتبين مثلاً: المرويات الباطلة التي دسها الرافضة وغيرهم من أعداء الإسلام في كتب التاريخ، وشوهوا بها سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل شوهوا بها التأريخ الإسلامي، وخاصة القرون المفضلة، وجعلوا من هذه المرويات المدسوسة مطية للمستشرقين وغيرهم من أعداء في الإسلام الذين طعنوا الإسلام، ورموه من خلال هذه الكتب التي جمعت الغث والسمين، ومن خلال هذه الروايات التي دسها الرافضة وغيرهم من الزنادقة.
فأنت مؤرخ تخدم الإسلام من خلال تمحيص التاريخ الإسلامي، وأنت تخدم الإسلام من خلال دراستك للتاريخ دراسة صحيحة، وبيانك للصور المشرقة التي رسمها المسلمون الأولون، حتى ينسج المسلمون على منوالها، فيعرفوا التصرف الصحيح فيمتثلوه، ويعرفوا التجربة التي تبين عدم صحتها فيجتنبوها.
ولذلك قال الشاعر:
ومن وعى التاريخ في صدره أضاف أعماراً إلى عمره |
وما يمكن أن يقال في التاريخ يمكن أن يقال في أي علم آخر.
ولذلك قال الإمام ابن حزم رحمه الله في كتابه الذي سماه الأخلاق والسير في مداواة النفوس : من مال بطبعه إلى علم ما ولو كان أدنى من غيره، فلا يشغلها بسواه، فيكون كغارس النارجيل في الأندلس، وكغارس الزيتون في الهند، وهذا كله لا ينجب.
فحين تغرس نوعاً من الشجر في بلد لا تصلح تربته، أو لا يصلح جوُّه لهذا النبات، أو لهذه الشجرة فإنه يموت، فتخسر الشجرة، وتخسر الجهد الذي بذلته والوقت والأرض.
وهكذا من وجه نفسه إلى علم لا يحسنه يتعب كثيراً، ولا يحصل فيه إلا القليل، بل إنني أقول: إن الأمر يتعدى ذلك.
فإن كثيراً ممن يسيئون إلى العلم الشرعي، ويخطئون من حيث أرادوا الصواب، ويسيئون من حيث أرادوا الإحسان: هم من أقحموا أنفسهم في هذه المجالات، وهم لا يملكون أداتها ولا آلتها، ولم يخلق لها، فجاءوا من الآراء والنظرات والأقوال بالشيء الغريب الذي لم يسبقوا إليه.
وتجد كثيراً من الشباب خاصة في بداية الطلب وفي غمرة الحماس قد يأتون بآراء وأقوال في منتهى الغرابة، وقد يصدر منهم أيضاً من التصرفات والمواقف الشيء الكثير، ولا حاجة لضرب الأمثلة لذلك، فهي معروفة لدى كثير منكم.
أيها الإخوة: إننا حين ندرك المواهب التي وهبنا الله عز وجل إياها، والأشياء التي نستطيع أن نفلح فيها أكثر من غيرها، فإننا بذلك نوفر على أنفسنا جهداً وعناءً كبيراً، ونقدم للدين الذي نحبه ونحب أن نضحي في سبيله شيئاً كثيراً، وفي نفس الوقت نكون قد تناوبنا القيام بفروض الكفايات التي أوجبها الله علينا.
فإن تعلم هذه العلوم فيما عدا العلم الذي يخص الشخص هو من باب فروض الكفايات، حتى علوم الصناعات التي يحتاجها المسلمون في حياتهم العملية هي فرض كفاية.
وكذلك تعلم العلوم الزائدة التي يحتاجها الناس، فإذا قام كل واحد منا بالتعرف على العلم الذي يحسنه، ووجه همه إليه، أو التعرف على الشيء الذي يناسبه ولو لم يكن علماً، ووجه همه إليه، فإننا سنجد في النهاية أننا بمجموعنا أفلحنا في تكوين مجتمع إسلامي متكامل، يتناوب أفراده القيام بفروض الكفاية، ولا يوجد فرد في غير محله، فكل فرد في موقعه الطبيعي.
وهذا فعلاً لا يتحقق في كثير من الأحيان إلا بنوع من الانتباه والتجربة.
ففي بعض الأحيان تجد مواهب الإنسان بارزة وأنها متجهة إلى شيء معين، وهذا لا إشكال فيه، لكن في أحيان أخرى تكون هذه المواهب خفية تحتاج إلى صقل وإلى تجربة واستشارة، ومع التجربة والانتباه والاستشارة أيضاً يصل الإنسان إلى الموقع الطبيعي المناسب.
ويجب علينا أن ندرك أن الله عز وجل حين قسم بيننا هذه المواهب وهذه الملكات، أراد منا أن نستثمرها في طاعته وفيما يرضيه؛ ولذلك حين نهدرها أو نضيعها، نكون قد ظلمنا أنفسنا، وتعرضنا لسخط الله عز وجل وعقابه.
وانظر إلى قول الله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165].. وتأمل هذه الآية:
أولاً: جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام:165] فنحن مستخلفون في هذه الأرض ومطالبون بعمارتها، كما قال: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود:61] فنحن مطالبون بعمارتها بشرع الله ومنهجه، ومطالبون بإقامة دين الله عز وجل فيها بكل جوانبه، ودين الله لا يقوم به إلا من أحاطه من جميع جوانبه، فنحن مطالبون بجميع ذلك: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام:165] ثم قال سبحانه: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الأنعام:165].
إذاً: فالناس درجات متفاوتة، منهم من جمع من الفضل والخير أنواعاً كثيرة، ومنهم دون ذلك، ومنهم الفاضل في مجال، ومنهم الفاضل في مجال آخر، منهم العالم، ومنهم العابد، ومنهم المجاهد، وهذه درجات متفاوتة وأنواع من الفضل وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [الأنعام:165].
إذاً: هذا الفضل سواء كان فضلاً موهوباً، أو فضلاً مكتسباً، هو ابتلاء واختبار لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [الأنعام:165] من هو الذي ينجح في هذا الابتلاء، فيقوم بما أوجب الله عليه بتوجيه المواهب الفطرية توجيهاً صحيحاً يخدم الإسلام، وبالاستفادة مما اكتسبه في طاعة الله تعالى ومرضاته؟
ومن هو الذي يخفق في هذا الامتحان، فيوجه مواهبه توجيهاً غير صحيح، أو يوجه ما اكتسبه في معصية الله أو في الإثم، أو في أشياء لا فائدة منها؟
ثم ختم الآية بالإشارة إلى العقاب، وإلى مغفرة الله تعالى ورحمته، وهذا دليل جلي واضح على أنه ينبغي للشاب المسلم أن يستثمر طاقاته ومواهبه في خدمة الإسلام، ويدرك أن كل طاقة عنده مهما تكن بسيطة، ينبغي أن توجه توجيهاً صحيحاً.
أيها الإخوة: إن من الخطأ أن يكون الشاب في بناء شخصيته متذبذباً، منتقلاً من طرف إلى طرف، بل ينبغي له أن يرسم لنفسه منهجاً متوازناً معتدلاً، يجمع بين العلم والعبادة والعمل، ثم يحرص على البروز أكثر وأكثر في المجال الذي يحسن فيه.
هذا ما أردت أن أتحدث إليكم فيه في هذه الساعة القصيرة.
وفي الختام أتوجه إلى الله تعالى وأسأله أن يوفقني وإياكم للاستفادة مما وهبنا في طاعته، وأن يجعلني وإياكم ممن صرفوا جميع إمكانياتهم في سبيل الله تعالى، وألا يجعل حظنا هو الكلام أو الاستماع.
وأصلي وأسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الجواب: ذكرت أن الإنسان قد يقف حائراً في حالات كثيرة لا يستطيع أن يحدد بالضبط المجال الذي يمكن أن ينفع فيه أكثر، ولذلك فإن الإنسان ينبغي له أن يحرص على أن يأخذ أصول العلوم في البداية ويتأملها، حتى يكون لنفسه خلفية علمية جيدة؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يجيد في فن -خاصة الشريعة- وهو يجهل بقية الفنون جهلاً تاماً، ولا يمكن أن يستطيع الاستفادة من دليل واحد، وهو يجهل أدلة كثيرة في نفس الباب.
وهذه القضية المهمة أشار إليها الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه العظيم الرسالة في أصول الفقه، ففهم الإنسان للصورة العامة للشرع ضروري.
ولذلك ينبغي أن يحرص على أن يلم بأصول العلوم الشرعية ما دام متجهاً لطلب العلم الشرعي، ومن خلال هذا الإلمام أيضاً يمكن أن يعرف المجال أو العلم الذي تميل إليه نفسه أكثر، ومع ذلك فقد يتجه الإنسان إلى كلية من الكليات، ويجد فيها أكثر من علم، فليست الكلية محصورة في علم واحد، فأنت لو درست مثلاً في كلية الشريعة ستجد دراسة التوحيد والعقيدة، إلى جوار أصول الفقه، والفقه، والفرائض، والتفسير.. وهكذا.
ولو درست في كلية أصول الدين لوجدت العلوم نفسها، أو قريباً منها وهكذا.
ولكن بعد أن يتخرج الإنسان من هذه الكلية، عليه أن يركز جهده في العلم الذي أحس بميل إليه أكثر من غيره.
الجواب: لا أعتقد أن ما تفضلت به في السؤال ورد في المحاضرة بنفس الدرجة من الوضوح، فإن الشيء الذي ذكرته هو أن كل إنسان يختلف عن الآخر، وهذا أمر لا شك في ثبوته، والواقع المحسوس يشهد به.
أما أن يكون لكل فرد نوع من التميز فهذا أمر غالب، وأغلبي وموجود.
ولكن قد تجد من الأفراد من ليس لديهم بروز واضح، بل بروزهم يسير، وقد لا يمكن التنبه له.
وقد تجد هذا الفرد لم يحرص على تنمية هذا الشيء الفطري المركوز فيه، فضمر هذا الأمر واختفى، ويحتمل أن يوجد أفراد يهتمون بعدد من الأشياء بصفة متساوية، وليس في هذا استحالة أو استبعاد.
الجواب: أحبك الله الذي أحببتني فيه! وبمناسبة ذكر الأخ لهذه الكلمة فلي رأي أو وجهة نظر في هذا الموضوع، أرجو أن يتحملها الأخ لأن المقصود فيها الفائدة.
كثيراً ما نسمع عن بعض المحاضرين، أو طلاب العلم، أو المشايخ من يذكر لهم أنه يحبهم لله، وهذا لا شك بشير خير لمن أحب هؤلاء، ولست منهم، لكنني أرى أن الأولى والأفضل أن يصارح الإنسان من يحبه في الله مواجهةً، كفاحاً بينه وبينه.
لأنك حين تتأمل الأحاديث الواردة في موضوع الحب في الله وهي صحيحة، تجد أن فيها ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال: إني أحب فلاناً، بأن يعلمه، قال: {اذهب فأعلمه} كما في أبي داود وغيره، وكونه عليه الصلاة والسلام أمر هذا الرجل أن يذهب ويعلم أخاه بأنه يحبه، لو تساءلنا عن الفائدة من ذلك والغرض والحكمة منه لوجدناها ظاهرة؛ لأن هذا مما يعمق الروابط بين المسلمين، وهو يتحقق بصفة أقوى إذا كان المتحابان متعارفين. فأنا مثلاً: إذا أحببتك في الله آتيك وجهاً لوجه، وأشعرك بذلك، لأن هذا سوف يجعلك تبادلني نفس الشعور.
وحينما يقول لك شخص: إني أحبك في الله، تشعر بأن قلبك يحبه؛ لأن الأرواح كما في الصحيح: {جنود مجندة} والعوام يقولون: (القلوب شواهد) وقولهم صحيح.
فما من شخص تشعر نحوه بعاطفة حب صحيحة مستقرة ثابتة إلا وتجد عنده مثل ذلك، أو يوجد عنده مثل ذلك ولو بعدك، فإذا صارحت الإنسان بأنك تحبه في الله كان هذا أبلغ في تعميق الروابط بين المسلمين.
أما السؤال: فلا أفهم ما يقصد الأخ بالفرق بين النفس وبين الضمير، ولكنني أقول: إن الإنسان ينبغي أن يحكم عقله في الأشياء التي تحتاج إلى نظر وتأمل وتفكر وتتدبر.
ويجب أن يتأمل الأشياء التي ترتاح إليها نفسه.
الجواب: لي عدة تعليقات على هذا السؤال:
أولاً: حين يوجد الفرد ذو العقلية الممتازة الجبارة الذي يمكن بالمتابعة والتحصيل أن يكون موسوعة كما عبر الأخ، فألف حبذا!
ولا يزال المسلمون يتطلعون منذ قرون إلى شخصية كشخصية شيخ الإسلام ابن تيمية، فهو ليس موسوعة في مجال العلم فقط، بل حين تنتقل إلى المجالات العملية تجد أن الرجل لم يقصر نفسه على تعلم العلم الشرعي بأنواعه وفنونه، بل تعدى ذلك إلى الجهاد ومحاربة أهل البدع، وقتالهم، ومناصحة السلاطين، والقيام بالحسبة عليهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك من جوانب شخصيته الفذة رحمه الله.
ومثل هذه الشخصيات شخصيات نادرة لا يوجد منها أحياناً في أكثر من قرن إلا عدد قليل، أما كون الإنسان لديه إلمام طيب بمجموعة من العلوم الشرعية، فهذا ممكن في حالات كثيرة، ولا بأس به، بل هو مطلوب، وأشرت إلى أن الإنسان لا يمكن أن يكون مبرزاً في علم شرعي وهو يجهل بقية العلوم.
فالقضية أن وجود هذه العقليات التي أشار إليها الأخ هو أمر قليل، فهذا جانب.
ثانياً: أن موضوع التخصص لا بد منه خاصة في هذا الوقت. فمثلاً: لو نظرت إلى جانب معرفة الأحكام الشرعية؛ لوجدت أن المسلمين يعانون مشكلات عويصة وصعبة مما يسمى بالنوازل، تحتاج إلى مجتهدين من الطراز الأول حتى يتكلموا فيها ويبينوا للناس شأنها، سواء في المجال الطبي، أو في مجال المال والمصارف، أو في غيرها من أمور الحياة التي استجدت، وهي تفني أعمار مجموعة من العلماء وليس واحداً.
ففي نظري مع أنه لا بد للإنسان أن يحيط بمجموعة من العلوم الشرعية، ويفهم فيها بشكل جيد إلا أن التخصص لا بد منه.
الجواب: أقول: إن مما يجب أن نفقهه -أيها الإخوة- أن الاختلاف بين المسلمين أمر لا مفر منه، ومنذ أن كسر الباب، انفتح باب الفتنة على المسلمين ودب الخلاف بينهم.
وإنك حين تستعين بالقاعدة التي ذكرتها في أول الحديث، وهي قاعدة: عرض الأشياء على مجتمع الصحابة، تجد أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في العديد من الأمور، وعلى سبيل المثال: اختلفوا في مسائل فقهية كثيرة: في المواريث، وفي التيمم، وفي الطهارة، وفي الصلاة، وفي الزكاة، وفي الصيام، وفي الحج، وفي سائر أبواب العلم، بل واختلفوا في أشياء عملية اجتهادية اختلافاً بيناً، فاختلفوا في مواقفهم، وحين تنظر في موقف الصحابة من الفتنة التي حصلت، تجد أنهم اختلفوا في ذلك، فمنهم من كان في صف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومنهم من كان في صفوف أهل الشام مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومنهم من رأى أن الموقف الأجدر به هو العزلة، فاعتزل كما فعل سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وأهبان بن صيفي، ومحمد بن مسلمة وغيرهم كثير.
إذاً: فالاختلاف بين المسلمين سواء في الأشياء الشرعية، أو في المواقف العملية الاجتهادية، أمر طبعي.
لكن أنبه في هذا الباب إلى عدة ملاحظات مهمة:
الملاحظة الأولى: أننا يجب أن نتفق جميعاً ولا نختلف على أن يكون مَردّ كل اختلاف يشجر بيننا إلى كتاب الله تعالى، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59] وهذه قضية أساسية ومهمة.
الملاحظة الأخرى: أن المخالفين أو المبتعدين عن المنهج الصحيح أنواع:
فمنهم من يخالف ما ترى أنت أنه المنهج الصحيح لاجتهاد قام عنده ووجد لديه دليله، وهو أهل لأن يسلك هذا المسلك، ويجتهد هذا الاجتهاد، وتعرف منه الصدق والإخلاص فيما يسلك، ومثل هذا ينبغي التلطف معه، ومناصحته بالأسلوب الحسن الطيب، فإن بقي على ما هو عليه ولم يقتنع بما لديك، فعليك أن تقوم بحقوق وواجبات الأخوة نحوه.
وهناك نوع آخر ممن انحرفوا عن المنهج الصحيح لغرض، كهوى قام في نفوسهم، أو لجهل أو لأي سبب من الأسباب التي لا تسوغ لهم هذا الأمر أو هذا الموقف، ومثل هؤلاء -أيضاً- يجب مناصحتهم، وحثهم على التخلي عما وقعوا فيه من خطأ أو انحراف، ودعوتهم إلى المنهج الصحيح، فإن أصر على ما هو عليه كان الواجب على الإنسان أن يظهر مخالفته له وتميزه عنه بمنهجه، حتى يكون الآخرون على بينة من الأمر، ولا تختلط الأمور والمواقف عليهم.
أما انتساب الإنسان إلى مجموعة من الدعاة، تعينه على الخير وترشده إليه، ويتعاون معهم على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وينسق معهم، أو يصرف من خلالهم جهده وطاقته -إن كان هذا هو المقصود- وكان هؤلاء القوم أهل سنة واتباع، وإنما اجتمعوا على كتاب الله وسنة رسوله، لا على ما تهواه نفوسهم، ولا على الاتباع لشخص، أو شيخ، أو مذهب غير صحيح، فلا أرى في هذا حرجاً والله أعلم.
الجواب: المشكلة -أيها الإخوة- أن كثيراً منَّ الشباب الذين من الله عليهم بالاستقامة لديهم منطق معين، يقول: العمر ثمين، والأيام محدودة، ولا يوجد وقت لغير طلب علوم الشريعة، حتى إن الواحد منهم لو اهتدى وهو في عرض الطريق -في السنة الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة أحياناً- في إحدى الكليات غير الشرعية -إن صح هذا التعبير- لوجدته يقطع دراسته، ويبدأ من جديد في دراسة شرعية.
ولذلك ترتب على هذا الأمر أن كثيراً من الكليات التي لا تدرس العلوم الشرعية، تكاد تخلو من العنصر الطيب، مع أن بعض هذه الكليات تدرس علوماً مهمة جداً، والمتخصصون في هذه العلوم إن كانوا منحرفين، فإنهم يهددون المجتمع المسلم.
فما رأيك مثلاً: في من يدرسون علم الاجتماع، أو علم التربية؛ أن هؤلاء سوف يكون لهم دور كبير جداً في توجيه التعليم، ومناهج التعليم، وترتيب العملية التربوية في البلاد الإسلامية، فإذا كانوا تربوا على أفكار الغربيين، وتشبعوا بها، وليس لديهم لا سلوك إسلامي، ولا علم شرعي؛ فحينئذٍ سوف يكون دورهم دوراً خطيراً.
ولذلك فإن الشباب الذين يتخرجون من المدارس الثانوية -مثلاً- بحاجة إلى القدوة، بحاجة إلى من يعطيهم قدوة حسنة، فيكون وهو -مثلاً- في كلية علمية أو في كلية نظرية تدرس علوماً ليست من العلوم الشرعية؛ في كلية التاريخ، أو الاجتماع، أو التربية، أو غيرها، ويكون مع ذلك لديه علم شرعي طيب، ولديه سلوك إسلامي، ولديه غيرة على الدين، حتى يضرب لهم المثل والقدوة الحسنة في ذلك، ويزيل هذه النظرة التي تحدث عنها السائل.
الجواب: بالنسبة للشرب قائماً، ورد النهي عنه في أحاديث صحيحة في مسلم وغيره، بل ورد الأمر لمن شرب قائماً أن يقيء، وفي حديث صحيح أنه قال: {هل تحب أن يشرب معك الهر؟ قال: لا، قال: فقد شرب معك من هو شر منه، الشيطان} لكن حمل العلماء هذا النهي على كراهة التنـزيه، لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب واقفاً في حالاتٍ عديدة.
أما الاضطجاع على البطن: فهي ضجعة يبغضها الله عز وجل، وهي مكروهة.
الجواب: صفة قراءة هذه السور -كما في الصحيح- أن الإنسان يأوي إلى فراشه، ويجمع كفيه، كما يفعل في حال الدعاء، ثم يقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين، ثم ينفث في يديه، ثم يمسح بهما جسده، يبدأ بهما من رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل هذا ثلاث مرات.
أما طرد الوسواس من الصلاة: فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: {أن الشيطان إذا ثوب بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يحول بين الإنسان وبين صلاته، يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، فإذا حال بينه وبين صلاته، فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم} وعلى الإنسان أن يحرص على استحضار قلبه في الصلاة، وتأمل معنى ما يقرأ من الأدعية والأذكار.
وعليه أن ينوع في هذه الأدعية، كما ينوع في صفات الصلاة الواردة حتى لا يعتاد على قراءة سور معلومة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر