السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الأحبة.. هذا الدرس السابع والخمسون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين الخامس والعشرين من شهر شوال من سنة (1412هـ) وعنوان هذا الدرس -كما سبق وأن أعلنا بالأمس - (الإسلام والحزبية) ولكنني سوف أقتطع من وقت هذا الدرس دقائق لـأفغانستان نظراً للأحداث الجديدة التي وقعت فيها.
هناك خطاب بالفاكس من بيشاور عنوانه: (الله أكبر سقطت كابول) ويتكلم عن سقوط هذه المدينة، ودخول المجاهدين لها فاتحين، وأنهم بقيادة المهندس حكمتيار قد سيطروا على معظم أنحاء المدينة، فسيطروا على وزارة الداخلية والخارجية، ثم مشوا إلى القصر الجمهوري، وسيطروا على عدد من مساكن الجنود، ومواقع العسكر، وأن أهل المدينة خرجوا مهللين مكبرين بهذا النصر المبين، ولم يبق إلا مقاومة حول مطار كابول كانت بالأمس، وأرجو أن تكون قد انتهت بالفعل -إن شاء الله تعالى -.
ومما وصلني -أيضاً- في هذا أن رئيس الحزب الإسلامي، رفض ما عرضته الأمم المتحدة، أو شاركت فيه من اتفاق وقال: إننا لن نأخذ كابول إلا بالسيف، ولن نعطي الدنية في ديننا وكان الهجوم على كابول، وتقدمت الدبابات إلى داخل المدينة، وبعد صلاة الظهر أعلن عن شدة المعركة مع المليشيات الملحدة، ثم أعلن بعد قليل أنه حرر وسيطر على المواقع التي أسلفت، وفي العصر أعلن عن احتلال القصر الجمهوري، وأنه يحاصر الفيلق المركزي، وقد نقلت منه رسالة مسموعة وهو يوجه أحد قادته الميدانيين بأن يهدد هذا الفيلق، إما أن يستسلم، أو يهاجمه المجاهدون، وفي تمام الساعة السابعة والنصف من أمس صرح للصحافة عبر جهاز اللاسلكي عن تحرير كابول من الشيوعية، وقال: الآن وصل الجهاد إلى نتيجته المنطقية، ولن نرضى بالحلول السلمية، ولا الدنية، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
هناك مقاومة من بعض المليشيات في المطار وحول المطار في حدود ثلاثة كيلو مترات، وقد حاصرهم المجاهدون، وطلبوا منهم الاستسلام، وإلا فالدبابات ستـتقدم باتجاههم، وستصبح دماؤهم هدراً، وهناك مظاهرات شديدة في كابول تطالب المسلمين المجاهدين بطرد المليشيات من كابول؛ لأنهم استحلوا البلد بالسرقة والنهب، هذا من جانب، وبذلك تكون أفغانستان كلها في قبضة المسلمين المجاهدين: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40] وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:5-6] فنصر الله أولئك المؤمنين المستضعفين العزل من السلاح، ومكن لهم في الأرض.
أولاً: حسب المعلومات التي وصلتني وهي كثيرة، فحتى الآن بحمد الله لم ترق قطرة دم واحدة بين المجاهدين، وهذا يبشر بخير كثير، وأما ما تذيعه الإذاعات كإذاعة لندن، أو تنشره الصحف كـصوت الكويت، بل وبعض الصحف السعودية مع الأسف، فهو لا يعدو أن يكون تهويشاً، أو توقعاً، أو احتمالاً، أو على أحسن الأحوال خطأ من بعض المراسلين، فينبغي أن نتفطن لذلك، وقد وصلت أخبار أن الفرحة عمت في جميع أفغانستان، بل وفي بيشاور حيث تسمع أصوات الطلقات، وأصوات التهليل والتكبير من المجاهدين، ومن المتعاطفين معهم الذين طال ظمؤهم واشتياقهم إلى نصر الله تعالى للمؤمنين.
ثانياً: تم الاتفاق المبدئي على عدد من القضايا بين المجاهدين كلهم.
ومن القضايا التي تم الاتفاق عليها:
أنهم اتفقوا على تشكيل مجلس يكون هو أعلى سلطة في البلاد، ويكون برآسة البرفيسور برهان الدين رباني، وقد وافق قادة المجاهدين المجتمعون في بيشاور على هذا التشكيل، وأرسلوا به إلى حكمتيار فوافق، وقد جاءتني رسالة من الحزب الإسلامي تدل على موافقتهم أيضاً على ذلك.
ثالثاً: وافق المجاهدون -أيضاً- على رئاسة الحكومة (رئاسة الوزراء) وأنها تكون للحزب الإسلامي الذي يقوده المهندس حكمتيار، ثم هناك تحديد الوزارات، وبعض المجالس، لم يتم الاتفاق عليها.
أما فيما يتعلق بالمجلس الذي سمي مجلس شورى، وكلف بنقل السلطة مؤقتاً من الشيوعيين، إلى المجاهدين، فقد أعلن حكمتيار أنه لم يعد لهذا المجلس مكان، حيث تم استلام السلطة في كابول، وعادت وآلت إلى المجاهدين، وكانوا أحق بها وأهلها، وهذا يدل على أنه لا يزال هناك اختلاف حول بعض التشكيلات التي لابد منها، ولابد من الإسراع فيها حتى لا يوجد فراغ دستوري في البلاد، قد يستغله بعض ضعفاء النفوس، وقد ينجم عنه بعض المشاكل، وبعض الاختلافات، ونسأل الله تعالى أن لا يكون ذلك.
لازلنا نتربص وننتظر أن يعلن المجاهدون وحدتهم، وأن يعلنوا حكومة مشتركة من المجاهدين الصادقين من أهل السنة والجماعة، تقوم بحفظ وإدارة تلك البلاد، ونرجو ونسأل الله تعالى أن يتم ذلك عن قريب.
وصلتني عدد من القصائد التي تشارك في هذه المناسبة العظيمة الكبيرة، تزيد على السبع قصائد، وحقاً كل القصائد التي وصلتني جميلة، وكنت أتمنى أن أشرك إخواني فيها أو في بعضها، لكن أكتفي بقصيدة واحدة بناء على طلب من أبي عبد الرحمن جزاه الله خيراً، وهي للأستاذ سليمان الأحمد بعنوان (كابول النصر) يقول فيها:
الله أكبر تعلو كل مغتصب وراية الحق أفنت راية النصب |
هل يستوي في عيون الناس منـزلة سيف من التبر أم سيف من الخشب |
حييت يا كابل الإسلام مشرقة قد ذقت في الأسر ألواناً من النصب |
قد صال فيها أسود الحق فانقشعت عن وجهها غمة الإلحاد والعطب |
واليوم أنت لبست حلية صبغت بآية النصر بعد الكد والتعب |
نصر من الله من بعد الجهاد أتى وهكذا النصر لا بالذل والطرب |
كم طفلة حجبت عن عطف والدها قد مسها الضر أتباعاً من الحقب |
وَرُبَ طفلٍ له من أمه سبب قام الطغاة بقطع الأم والسبب |
وزوجة قادها من سام كافلها تبدي البكاء على أولادها النُجُب |
ورب محصنة قد عذبت علناً حتى تخلت عن الأخلاق والأدب |
حتى البهائم نالت حظها سقماً وهكذا الظلم يكوي الناس باللهب |
لما تواصلت الأحزان واحتكمت تفرجت أمة محمودة النسب |
جنى الجهاد ثمار النصر في زمن كاد القنوط يحيي كل مرتقب |
يا أمة الحق إن العز مرتبط مع الجهاد وذل الناس في الخطب |
ففي حمى كابل ظل العدو بها حيناً من الدهر بين العرض والطلب |
أتت عليها المساعي كي تخلصها فحمّلتها من الضوضاء والشغب |
حتى تولى رجال الحق نصرتها فحاصروها ونادوا كل محتسب |
فعمها العدل في أسمى مظاهره وعانق الحق فيها شاهق السحب |
وإذا جد شيء جديد في هذا الموضوع فأرجو أن تكون الأبواب والفرص مفتوحة، لمواصلتكم به بإذن الله تعالى لأن هذه القضية هي قضية المسلمين جميعاً.
أولاً: لأن الموضوع أُجل مرة، فلا أريد أن يؤجل مرة أخرى.
وثانياً: لأننا نريد أن نتدرب على أن لا نستغرق كثيراً في متابعة الأحداث، ونغفل أو ننشغل عن تأصيل بعض القضايا التي يحتاجها المسلمون، فللأحداث ميدان ومجال، وينبغي أن نكون على صلة بها أولاً بأول، وأن نعرض فيها تصورات إسلامية سليمة ناضجة، ولكن هذا لا ينبغي أن يشغلنا عن بعض الموضوعات العلمية، أو الدعوية، أو العملية، التي يحتاجها المسلمون من قبل، والتي تحتاج إلى نظر وإلى تأصيل.
إذن من أسباب اجتماع الكلمة بين المسلمين، وتقارب قلوبهم، وزوال الخلاف فيما بينهم: العدل في الأقوال والأحكام.
ومن أسباب التشتت، والتفرق، وتنافر القلوب، وتزكية نيران البغضاء، والحقد والضغينة:
الجور والظلم في الأقوال والأعمال والأحكام قال الله عز وجل: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنـزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53] أي: من أعظم وسائل الشيطان في النـزغ:
القول: فإذا كان القول ليس من القول الحسن؛ بل هو من القول غير الحسن، كان ذريعة إلى تسلل الشيطان إلى القلوب، والنـزغ بينها، وإيجاد ألوان من العداوة، والبغضاء بين المؤمنين، بل ربما بين خاصة المؤمنين: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنـزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53].
الله تعالى ينصر ويحفظ من يقول الحق والعدل لوجه الله تعالى، فلا يقول الظلم والجور والباطل، ولا يكون قوله، أو عمله رياءً أو سمعة، بل يقول الحق، وبنية خالصة، وقصد حسن، فإن الله تعالى ينصره، ويحميه، ويبلغه ما يريد، إذا لم يقصد بذلك علواً في الأرض ولا فسادا، ولا محاباة لأحد، لا لرغبة ولا لرهبة، ولا لقرب ولا لبعد، ولا لصداقة ولا لعداوة، وإنني أرجو الله تعالى أن نكون جميعاً من المجتهدين في البحث عن الحق الذي يحبه الله تعالى ورسوله، وأن نكون من المجتهدين في القول به والدعوة إليه.
وإن كان الإنسان قد يخطئ في اجتهاده بسبب قلة علمه، أو قصور فهمه، أو بسبب ظلمة قلبه، وما يقع في القلب بسبب المعاصي والذنوب، ويحول بينها وبين إدراك مقصود الشارع، لكن المهم ألا يقول الإنسان الباطل، وأن يكون قوله للحق، أو لما يعتقد أنه هو الحق لوجه الله تعالى، لا يحابي في ذلك أحداً، ولا يخاف من أحد، من قوله ولا من فعله، فإن هذا من أسباب الوحدة بين المسلمين.
أن يلتزم الإنسان بالأخلاق الإسلامية العظيمة في مواطن الجدل، وفي مواطن الافتراق، والكلام في هذا الخلق أمر يطول، لكن أقتصر على نموذج واحد مما يحدد الميزان لذلك، وهو ما جاء في صحيح مسلم في كتاب الأمارة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: { كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فمنا من ينتظر، ومن هو في جشرة، ومن يصلح خباءه، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فقام النبي صلى الله عليه وسلم وخطبهم، وقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يأمر أمته بخير ما يعلمه لهم، ويحذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمة جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تكرهونها، فمن أراد أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليهم..إلخ} الشاهد قوله { وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه } فمن منا يحب أن يسب، ومن منا يحب أن يشتم، أو يكذب عليه في قول أو فعل، ومن منا يحب أن ينسب إليه السوء؟! قطعاً لا أحد.
وبالمقابل من منا لا يحب أن يُحفظ في عرضه، أو يُحسن إليه، أو يُثنى عليه بما فيه، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذررضي الله عنه: { أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل يا رسول الله: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، فيحمده الناس عليه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: تلك عاجل بشرى المؤمن} من منا الذي لا يريد البشرى؟ أن يبشر بالخير، ما دام أن ثناء الناس عليك بما فيك هو من عاجل البشرى.
إذاً ينبغي على الإنسان أن يأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليهم، فيعدل في قوله، وفي فعله، وفيما يأتي إليهم، ويضع نفسه في مكان أحدهم، وأيضاً ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز أبداً أن يكون المقصود بالكلام عن شخص معين، أو طائفة معينة، أو موضوع معين، ألا يكون المقصود هو إسقاط فلان أو علان، أو إسقاط هذه الجهة أو تلك، أو هذه الهيئة أو تلك، كلا. بل المقصود: هو الوصول إلى الحق، وأنت ترى كثيراً ممن يكتبون الردود اليوم على العلماء وغيرهم، أنهم يردون في مسألة علمية، فيرد في تصحيح حديث -مثلاً- أو تضعيفه، أو تحسينه، وهذا مقبول، فلا مانع أن يرد إنسان على آخر في تصحيح حديث، ويستدرك عليه في هذا، لكن لا داعي أن يستغل أي زلة للتقليل من شأن هذا العالم، أو إثبات جهله، أو سوء نيته، أو غير ذلك، إن هذه الأمور غير سائغة، بل ينبغي أن تقول: هذا العالم اجتهد، لكن في المسألة الفلانية قد يكون أخطأ، أو أخطأ فعلاً، والدليل هو ما يأتي، وهذا ما أدى إليه اجتهاده، أما الكلام الزائد في أن هذا الإنسان يتبع الهوى، وأن هذا الإنسان فيه وفيه، وأنه جاهل، وأنه لا يعرف، إلى غير ذلك، فهذا يدل على أنه لم يكن المقصود هو الرد العلمي، ولا المناقشة الهادئة، وإنما كان المقصود: هو إسقاط فلان، أو هذه الجهة أو تلك، والله تعالى لا يصلح عمل المفسدين.
إذاً ليس من الصواب أن أحارب هذا العالم أو ذاك، وكأنني أقدم نفسي للناس بديلاً عنه، لا. بل الميدان يسع الجميع، ويحتاج إلى مزيد من جهود المخلصين، وإذا كان عندك نوع من العلم، فقد يكون عند خصمك أنواع من العلوم وكما قيل:
جاء شقيق عارضاً رمحه إن بني عمك فيهم رماح |
فحلف بالله تعالى على صدقه ونصيحته، وهذا يجرئني أن أقول لمن يستمع إلى هذه الكلمة، ورب هذا البيت إني لناصح في هذه الكلمة، وإنني لا أقصد من ورائها إلا الحق، وإلا الوصول إلى الحق، لا أعلم من نفسي -إن شاء الله تعالى- إلا هذا، فما كان فيها من صواب فمن الله تعالى وله الحمد والمن والفضل، وما كان فيها من خطأ فمني ومن الشيطان، والله تعالى ورسوله منه بريئان، وإني أستغفر الله تعالى من كل خطأ أو زلل أو تقصير.
وجاء رجل لـهارون الرشيد فقال: إني سوف أنصحك وأغلظ لك في القول، فقال: لا. لا أقبل نصيحتك، قال: ولِمَ؟ قال: لأن الله تعالى قد بعث من هو خير منك، إلى من هو شر مني فقال: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].
ومن أدلة النصيحة -أيضاً-: حفظ الحسنات للمنصوح وعدم تجاهلها أو نسيانها، لأنه أسلم إلى القبول، فإنك إذا تذرعت إلى إنسان في النصيحة بذكر بعض ما فيه من الخير، وبعض ما له من الحسنات، وأثنيت عليه بذلك، ثم نبهته إلى ما قد يكون حصل منه من زلل، أو تقصير، فكأنك تقول له: أنت رجل فاضل، ولكن أكمِلْ خيرك وإحسانك السابق، بهذا الخير والإحسان اللاحق الذي آمرك وأنصحك به وأعرضه عليك.
ومن باب الأولى، حين يكون المنصوح مجموعة من الناس، فإن المجموعة أو الطائفة - سواء كانوا أهل بلد، أو طلاب شيخ، أو قوماً مجتمعين على أمر من الأمور- يكون بينهم رابطة تعطيهم قوة على ما هم فيه، ليست للفرد بذاته، وربما ينصر بعضهم بعضا، ويقوي بعضهم بعضا على ما هو فيه وعلى ما هو عليه، ويلتمس له من الحجج، ومن الذرائع، ومن المسوغات، ومن الأسباب، فيحتاجون إلى التلطف في النصيحة بما يبين لهم أن المقصود هو: تحصيل الكمال، وليس المقصود الحط من شأنهم، ولا التشنيع عليهم، ومع ذلك فإنه لا يعني هذا أن تكتفي بذكر المحاسن، والثناء المطلق، لما في ذلك من تخدير النفوس عن طلب الكمال، وإغرائها بالبقاء على ما هي عليه من ما قد يكون فيه بعض النقص.
حزب الله، وبالنسبة لعدد المنتسبين لهذا الحزب، فإن نظرنا إلى المسجلين رسمياً في عضويته فإنهم يقاربون ألف مليون عضو وهم المسلمون، وإن نظرنا إلى من حققوا الانتساب إلى هذا الحزب في أنفسهم، وأموالهم، فإن هذا الرقم ينقص كثيراً، ولكن ليس هناك إحصائية لا دقيقة ولا غير دقيقة، عن عدد الأعضاء الحقيقيين لهذا الحزب ولكن: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195].
والانتساب لهذا الحزب الذي هو حزب الله، ليس انتساباً بالدعوى، كما نجد أن عدداً من الأحزاب اليوم تسمي نفسها حزب الله، كما نجد في بعض الأحزاب الشيعية، وحتى غير الشيعية، فإن الانتساب ليس بالدعوى، أن يقول الواحد: أنا من حزب الله، أو نحن المجموعة الفلانية حزب الله، لا. القضية ليست دعوى، ولا باللون، ولا بالوطن أو عرق معين، كما يدعي فئة من الناس -مثلاً-، ادّعوا أنهم شعب الله المختار، ولا بأي أمر، إن الانتساب يكون بأمر واحد هو سعي الإنسان، سواء كان سعيه بعمل القلب، أو بعمل الجوارح، إما العقيدة الباطنة أو السلوك الظاهر هو المقياس الذي يثبت إن كان هذا الإنسان من حزب الله فعلاً، أو ليس من حزب الله، فمن التزم بعقائد وسلوكيات هذا الحزب فهو منهم، أياً كان ماضيه! وأياً كان تاريخه! وأياً كان لونه! وأياً كان عرقه! وأياً كان جنسه!
ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً [المائدة:69] بهذا الشرط مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة:69] إذن المقصود: هو الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات هذا هو الحزب الأول.
فهم حزب الشيطان، وهم كل من سوى هؤلاء، فليس هناك وسط ومرحلة وسط، لا يصلح إنسان وسط بين الجنة والنار، إما أن يكون من حزب الله، وإما أن يكون من حزب الشيطان، لهذا ذكر الله عز وجل- الكافرين والمنافقين وقال: أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19] ثم ذكر أولياء الله تعالى المؤمنين وقال: أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]
فيتفطن الإنسان إلى أن هذه الحزبية: هي رسم مرسوم على عنق كل إنسان لا مخلص له منها، إما من هذا، وإما من ذاك، إما من حزب الله المفلحين، وإما من حزب الشيطان الخاسرين.
فمثلاً: المجموعة الأولى من الآيات القرآنية يقول الله تعالى فيها: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] ويقول سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] ويقول عز وجل: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:55] ويقول: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:56] فهذه المجموعة من الآيات تثبت أن الحزب المؤمن -حزب الله- يتناصرون فيما بينهم، بالولاية الإسلامية، والإخوة الإيمانية، فهم بعضهم أولياء بعض، وهم إخوة، وهم أولياء لله ورسوله، فهذه ترسم أخوة المؤمنين، وترسخها، وتعمقها.
المجموعة الثانية من الآيات: مثل قول الله عز وجل: والْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التوبة:67] ومثل قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51] يعني بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض، وكذلك اليهود أولياء للنصارى، والنصارى أولياء لليهود، خاصة إذا كانوا ضد المسلمين، فهذه المجموعة من الآيات تثبت الولاء والنصرة بين أولياء الشيطان، بين حزب الشيطان، وأن بعضهم ينصر بعضاً، ويؤاخي بعضاً، فجمهور المشركين متحالفون متناصرون فيما بينهم.
المجموعة الثالثة من الآيات: وهي التي تبين أن العلاقة بين هذا الحزب وذاك، علاقة حرب لا يهدأ لها أوار في مثل قوله تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة:4]لاحظ البراءة، ثم قال: كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4] لم يجعل الله تعالى بين هذين الحزبين إلا علاقة العداوة، والبغضاء، والحرب أبداً، حتى يؤمنوا بالله تعالى وحده، ومثله قوله تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ [البقرة:217] إذن هذه العداوة والبغضاء ليست من طرف واحد كما يتصور بعض الناس، لا من طرف المؤمنين ضد الكافرين، بل حتى الكافرون عندهم العداوة والبغضاء للمؤمنين في غالبهم، قد يوجد أفراد يخرجون عن هذه القاعدة، لكن القاعدة العامة، أن الكفار يبغضون المؤمنين، كما قال عز وجل: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] هذا قرآن وكما قال عز وجل: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] فلو جلست مع اليهود على طاولة المفاوضات، ولو ذهبت معهم إلى مدريد، وإلى موسكو، وواشنطن، ولو آخيتهم، ولو فتحت لهم بلادك، ولو سخرت لهم اقتصادك، لن يرضوا عنك، وكذلك الحال بالنسبة للنصارى، لو أعطيتهم كل ما تملك، وأطعتهم في كل ما يريدون، لن يرضوا عنك حتى تتبع ملتهم كما قال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] في كل شيء: مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:9] وقال تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
إذاً، الكفار يعادون المؤمنين، والمؤمنون يعادون الكفار، وهذه القاعدة الكبرى يجب ترسيخها، وتقريرها، ودعمها بالأقوال، والأعمال، والكلام عنها والإفادة من كل حدث ومناسبة، في تعميقها في نفوس المؤمنين، وأيضاً يجب دفع ورفع كل ما يعارضها، فقوة الولاء بين المؤمنين -مثلاً- تكون بقوة الإيمان، فكلما زاد إيمان الإنسان كان أولى بالموالاة، وأولى بالمؤاخاة، وكلما نقص إيمانه نقص ولاؤه، حتى إن المسلم العاصي يُحَب بقدر ما فيه من الإسلام، ويُبغَض بقدر ما فيه من المعصية، يُحَب بقدر ما فيه من الخير، ويُبغَض بقدر ما فيه من الشر، فيجتمع في حقه ولاء وبراء، وحب وبغض، بخلاف المؤمن المتقي فإنه يكون له محض الولاء، ومحض الإخاء.
فعقد الموالاة قائم على أساس الدين، والإيمان، والتقوى، لا على أساس المسميات الخاصة، أو الانتسابات الخاصة، من بلد أو قبيلة، أو لون، أو طائفة، أو عرق، أو جماعة، أو مذهب، أو حزب، أو غير ذلك، فكل قوة في الولاء بغير الدين فهي ضعف، وكل زيادة في الولاء بغير الدين فهي نقص، ولهذا وضع الله تعالى تلك القاعدة بقوله:يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
إذاً لا يكون ولاؤكم في الشعب، أو في القبيلة، فإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ولا في النسب، فإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ولا في المذهب، فإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ولا في الجماعة، أو الحزب، أو الطائفة، فإن أكرمكم عند الله أتقاكم.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: من أكرم الناس؟ فقال:{أكرم الناس أتقاهم قال: ليس عن هذا نسألك .... } إلى آخر الحديث، المهم الكرم: هو بالتقوى، والميزان: هو ميزان التقوى، ولا يجوز أبداً أن تحول الأسماء، والرايات، والمذاهب، دون هذه الأخوة، ودون هذا العقد الإلهي الرباني الذي أبرمه الله تعالى بين المؤمنين، لا يجوز أن يكون الولاء في الفئة هو فيما بينها دون بقية المؤمنين، وعلى سبيل المثال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان الأنصار هم أهل المدينة، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الحشر:9] وكان المهاجرون كما قال تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحشر:8] هم فئتان من المؤمنين، لكل فئة اسم يميزها، وقد يكون بينهم من الاتصال أحياناً في التزاوج أو غيره ما ليس بينهم وبين غيرهم، ولكن هذا الانتساب هل كان يجعل المهاجري يحب المهاجري أكثر من الأنصاري، ولو كان الأنصاري أكثر إيماناً وأكثر تقوى؟ كلا.
بل كان هذا الانتساب يتضمن اتفاقاً على أن الرابطة هي رابطة الدين، ورابطة الإخاء، وعلى أن الولاء هو الولاء الإيماني، الذي لا تحول بينه هذه المسميات، ولهذا لما قال رجل من المهاجرين: يا للمهاجرين،. وقال رجل من الأنصار: يا للأنصار. غضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال: {أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟} أي تدعون وتتنادون وتتناصرون وأنا بين أظهركم، مع أن الاسم اسم إسلامي، فالمهاجرون سماهم الله تعالى مهاجرين، وكذلك الأنصار اسمهم في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى في الأنصار: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ [التوبة:117] وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: {آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق} إلى غير ذلك من النصوص، فهو اسم إسلامي شرعي، ومع ذلك لما حصل التناصر والتنادي والتوالي به دون الاسم الشرعي الذي هو الإسلام، غضب النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر ذلك أيما إنكار.
إن كل قوم مجتمعين على أمر من الأمور كاجتماع على دعوة، أو على طلب علم، أو على خير، أو على جهاد، أو ما شابه ذلك، ولو كان أصل الاجتماع محموداً، فإن هؤلاء القوم ربما يسري بينهم بحكم كثرة رؤية بعضهم لبعض، ومحادثة بعضهم لبعض، ومناقشة بعضهم لبعض، ومعرفة بعضهم لأحوال بعض، وما هم عليه من الخير والمحاسن والفضائل، وتشاكي بعضهم إلى بعض، قد يحصل بينهم نوع من الولاء الخاص الذي قد يتحول ويتطور إلى تناصر وتحالف وتحزب على غير الحق، فيحتاج إلى تيقض دائم وانتباه لا يفتر، وحذر لا يهدأ، والمعصوم من عصمه الله عز وجل.
فأقول بإجمال: هذه الاختلافات القائمة بين المسلمين يمكن أن تقسم إلى قسمين:
وهذا التفرق لا شك أنه من التفرق المذموم، الذي نهى الله تعالى ورسوله عنه، كما قال تعالى: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32].
فذكر أن هذا من شأن المشركين التفرق في الدين وقال سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] إلى غير ذلك من النصوص، وإذا كان هذا المذهب الباطل من اشتراكية، أو علمانية، أو شيوعية، أو بدعة باطلة، أو غير ذلك، إذا كان هذا المذهب محرماً في ذاته، أي أن اعتقاد الشخص الواحد له كان حراماً، أو انتسابه إليه، فما بالك إذا اجتمع قوم على هذا الحرام، فلا شك أن ذلك الأمر أعظم إثماً، بل هو محادة لله تعالى ولرسوله، فمن البديهيات أن الإسلام حق، وكل ما يخالفه فهو باطل، ولهذا قال الله تعالى: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس:32] هذا هو النوع الأول وهو اختلاف التضاد وهذا هو الذي فرق المسلمين، وشتتهم، ومزقهم شر ممزق، وأهدر جهودهم وطاقاتهم، وأشغلهم بأنفسهم عن عدوهم، وهو مما ينبغي أن يتنادى المخلصون، والغيورون، والدعاة، والمصلحون، إلى حربه، ومحاولة تخليص المسلمين من شره وعواقبه وبراثنه.
وهذا يتلاءم مع اختلاف طبائع الناس، واهتماماتهم، فإن منهم العالم الذي اعتاد الجلوس للتدريس، والتحقيق، والقراءة، والتأليف والتعليم، فلا يبرز إلا في ذلك، ومنهم التاجر، ومنهم المربي، ومنهم الخبير بمسالك السياسة ودروبها، ومنهم الماهر في الجدل، والرد على الخصوم وإفحامهم، ولكلٍ وجهة هو موليها، فينبغي أن يراعى هذا.
فإنني أعتقد أن فيها خليطاً من هذا وذاك حسب التفصيل: فأما أصل الاجتماع على الطاعة، وعلى الدعوة، وعلى طلب العلم، فهو محمود، قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2] وقال -سبحانه- بسم الله الرحمن الرحيم: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].
فلو اقتصر المجتمعون على القدر المشروع، وتعاونوا عليه، ولم يؤاخذوا غيرهم إلا بما يؤاخذ به الشرع، ولم يجعلوا الولاء والبراء والنصرة والمؤاخاة في هذه الأشياء التي انتسبوا إليها، كان هذا الأمر محموداً، أما إن أضيف إلى ذلك ما يخالف الشرع من بدعة في الدين، أو زيادة، أو ولاء وبراء في غير الله تعالى ورسوله، أو دعوة إلى غير الله تعالى ورسوله، فهذا محرم بلا شك.
أما الكلام في البيعة التي توجد عند بعض الجماعات الإسلامية، فقد رأيت فيها كلاماً لـشيخ الإسلام لعلني أجد وقتاً لقراءة شيء منه، لكن أقرب ما يقال: أن أقل أحوالها أن تكون مكروهة، لما فيها من التشبه أو مشابهة النذر، فإنها تشبه النذر حيث فيها إلزام المكلف نفسه بشيء لم يلزمه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم به، وقد يعجز عن حمل ذلك، وفي كلام بعض أهل العلم المتقدمين ما يومئ إلى شيء من ذلك.
فالذي أراه: أن أقل أحوالها أن تكون مكروهةً، كراهة تنـزيه قياساً على النذر، ولأنه لم يرد في الكتاب والسنة البيعة إلا للإمامة العامة، أومن يفوضه الإمام، فالبيعة في السنن للرسول صلى الله عليه وسلم -مثلاً- أو لأمير الجيش، أو لأمير الناحية، أو نحو ذلك، هذا ما يظهر لي والله تعالى أعلم.
فمن أسبابه: كثرة المجالسة والمؤالفة والمعاملة، على سبيل المثال: تلميذ في مقتبل العمر عند شيخه، يسمع منه فيرى في هذا الشيخ الفضل، والنبل، والعلم، والوقوف عند الكتاب وعند السنة، والعمل بهما، والدعوة إليهما، وأنه لا يتكلم إلا بالحجة، وإلا بالدليل، فيترتب على ذلك ثقة مطلقة، فإذا سمع منه قولاً أو سمع عنه قولاً، لم يحمله إلا على أحسن محمل، وهذا حق لاشك في ذلك، ولكن قد يترتب على ذلك، أن يوالي فيه ويعادي، وينصر فيه، وقد رأيت أن بعضهم قد يتعصب حتى لمشايخ ماتوا، فمثلاً: الذي يقرأ لـابن حزم -رحمه الله- يجد ما فيه من القوة، ومن الشدة، ومن البراعة في الأسلوب ومن الأدلة، فتجد أنه يعجب بهذا الإمام، ويتقمص شخصيته، ويتأثر به فلا يقبل فيه صرفاً ولا عدلاً، وقد تجد أن إنساناً يلقي باللائمة على آخرين، رأيت وسمعت تلاميذ لأحد المشايخ يلقون باللائمة على تلاميذ الشيخ الآخر، أنهم متعصبون لشيخهم، وينسون أنهم قد يكونون واقعين في ما لاموا فيه الآخرين، من حيث لا يدرون، ولا يشعرون، وقد لا يكون ذلك كله من التعصب أحياناً فقد يكون من الحق، -كما ذكرت- حسن الظن، وحمل الكلام على أحسن المحامل، ومحبته هذا كله من الحق، ولا يلامون فيه، وقد يكون في ذلك نسبة تقل أو تكثر من التعصب ينبغي الحذر منها، والتحذير منها، وأول من ينبغي عليهم التحذير من ذلك، هم الشيوخ والزعماء والمتبوعون أنفسهم، فينبغي أن يحذروا أتباعهم، وتلاميذهم، ومن يلوذ بهم، يحذرونهم بكرة وعشياً وفي كل وقت من التعصب بغير الحق، ومن المبالغة في الولاء والبراء، والحب والبغض، في فلان أو علان من الناس، بل أن يربوهم ويربطوهم بالكتاب والسنة لا غير.
وقد رأيت وسمعت -أيضاً- أن عدداً -حتى من الأخيار المرموقين- يكون لديهم نوع من الولاء، ونوع من التعصب للعرق، والجنس واللون والقبيلة، والله تعالى يقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13] والنبي صلى الله عليه وسلم: (سئل عن أكرم الناس؟ قال: أتقاهم) فلا ينبغي أن يكون هذا سبباً في التعصب، لا بجنسية، ولا بقبيلة، ولا بغير ذلك كما قال الشاعر:
ما بيننا عرب ولا عجم مهلاً يد التقوى هي العليا |
خلوا خيوط العنكبوت لمن هم كالذباب تطايروا عميا |
وطني عظيم لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا |
في إندونيسيا في إيران في الهند في روسيا |
وتركيا آسيا ستصهل فوقها خيلي وسأحطم القيد الحديديا |
الأمر الآخر: أن المدح والذم يجب أن يكون بالألفاظ الشرعية، فمثلاً: إذا أردت أن تمدح إنساناً فتمدحه بما فيه من الإيمان، أو البر، والتقوى، والصدق، والإحسان، والصبر، والشكر، والخوف، والرجاء، واليقين، والمحبة في الله، والطاعة لله ورسوله، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والوفاء بالعهد والعقد، وغير ذلك من الألفاظ الشرعية التي مدح الله بها ورسوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:4] وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249] وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] إلى غير ذلك من النصوص، وكذلك الذم يكون بما ذم الله تعالى به ورسوله، كالكفر، والفسوق، والعصيان، والنفاق، والكذب، والإثم، والبغي والعدوان، والظلم، والهلع، والشرك، والبخل، والجبن، وقسوة القلب، والغدر، وقطيعة الرحم، إلى غير ذلك مما ذم الله تعالى به ورسوله فالله تعالى يقول: لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:32] وقال: لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:57] وقال: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145] وقال: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61] وقال: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18] إلى غير ذلك من النصوص، فيكون الذم أيضاً مما ذم الله تعالى به ورسوله، ومن شؤم تبديل الألفاظ الشرعية: أن ينسى الناس هذه الألفاظ، ويصبح التمادح والتذام بينهم بألفاظ محدثة ليست واردة في الكتاب ولا في السنة، وقد يتغير معناها من وقت لآخر، وقد يدخلها ما يدخلها مما يكون شراً، إن كان اللفظ لفظ مدح، أو يكون فيه بعض الخير إن كان اللفظ لفظ ذم، فهذا هو الميزان الذي يجب أن يعاد الناس إليه، وهو أقرب إلى إصابة الحق، ورد المخطئ إليه.
فنقول: أصل الإسلام الذي اجتمعوا عليه محمود، لأنهم فارقوا قومهم من القبيلة نفسها ممن لم يؤمنوا ولم يسلموا، فارقوهم وتركوهم وباعدوهم، وربما يحاربونهم -أيضاً- ولكن تعصبهم لهذا الأمر الذي تميزوا به وهو القبيلة، هو من الأمور المذمومة التي ينبغي أن يذموا عليها وينهوا عنها، مثله: المذاهب الفقهية، فأصل كون الإنسان منتسب إلى مذهب فقهي مجرد انتساب، هذا -إن شاء الله- لا يضر، ما دام الإنسان متى بان له الحق بدليله اتبعه، سواء أكان في مذهبه أم في غير مذهبه، ونحن نعلم أن كثيراً من الأئمة العظام منذ القديم وإلى اليوم، لا يرون حرجاً في مجرد الانتساب، فنحن نجد -مثلا- شيخ الإسلام ابن تيمية قد يقال له: الحنبلي، ومثله تلميذه ابن القيم في جماعة ممن هم في الحقيقة من المتبعين للحديث والسنة والقرآن، لا يعدلون بهما شيئاً، ولا يمكن أن يرجحوا قولاً لأنه قول المذهب، وإنما يرجحون ما دل الدليل على ترجيحه، كما نجد ذلك في جماعة من علمائنا المعاصرين، على رأسهم سماحة الوالد الإمام ابن باز، فإنني قد سمعته يقول: إن مجرد الانتساب أمره هين أو كلاماً نحو هذا، يعني: كونه يقال عنه الحنبلي، لكن المهم في الحقيقة هو لا يمكن مثلاً أن يرجح قولاً من الأقوال لمجرد أنه قول الحنابلة، ومثل -أيضاً- ما نراه في فتاوى ودروس فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -حفظه الله- وغيرهم من العلماء -أيضاً- فأنت لا تجد تعصباً للمذهب، ولا ميلاً إلى قول لمجرد أنه قول الأصحاب، ولكن تجد التزاماً بالدليل من الكتاب أو السنة، فهذا القدر ليس فيه إشكال كوني حنبلي، ونشأت في بيئة حنبلية، وأنت شافعي، هذا لا يضر ولا يشكل ما دام أن الإنسان متى بان له الحق بدليله من الكتاب والسنة أخذه وترك ما سواه، لكن وجد في بعض أتباع المذاهب من الغلو والتعصب والاستدلال للمذهب شيء عظيم، حتى قال بعضهم: كل نص خالف مذهبنا فهو إما منسوخ أو مؤول فجعل المذهب أصلاً، وجعل النصوص تبعاً.
هناك ألوان كثيرة من التعصب لا يمكن أن نميز بها مذهباً عن غيره، وإن كانت المذاهب متفاوتة، لكن في كل اتباع مذهب ألوان من التعصب خاصة في الماضي، وكان من جراء ذلك فساد عريض، حتى إنه ربما أدى الأمر بينهم إلى التطاحن، والتضارب، وربما سالت الدماء في بعض الأمصار، وفي بعض الأعصار، وهذا كله أصبح اليوم -ولله الحمد- إلى حد بعيد في عداد أحداث التاريخ، فتجد كثيراً من الناس خاصة من الشباب قد أقبلوا على الكتاب والسنة، ينهلون من معينهما، ويبحثون عن الدليل أياً كان، ولا يضرهم أن يكون الحق مع فلان أو فلان.
إذاً: لا بد من التفريق في أصل ما اجتمعوا عليه، فكون الإنسان يقول: أنا حنبلي، أو شافعي، أو حنفي، لأنه نشأ في هذه البيئة، أو درس العلم على هذا المذهب هذا لا يضر، لكن ما طرأ زيادة على ذلك من تعصب فهو مذموم.
افترض أن هناك عالماً له أتباع مثل التلاميذ الذين يتلقون العلم عليه، وحصل عندهم تقصير، أو ظلم للنفس، أو تعصب، أو هوى، لا تقل أتباع الشيخ الفلاني الله يهديهم... هذا الشيخ بذل وسعه، فهذا خطأ الأتباع -أو بالأصح بعض الأتباع- فلا يصح أن تنقلها وتجعلها من باب الحط من قدر هذا الشيخ، أو التنقيص من قدره، أو ظلمه، أو ما أشبه ذلك، فالأتباع يقع منهم مثل ذلك، والسبيل في ذلك هو النصيحة، وهناك جزء من ذلك قد يقول الإنسان: إنه لا بد منه، ولا حيلة فيه، فالخطأ موجود، والظلم موجود، وحتى أتباع إمام الأئمة، محمد صلى الله عليه وسلم اعترى بعضهم ما اعترى من الإفراط والتفريط، وقد ينسبون ما حصل منهم من إفراط أو تفريط إلى هذا الدين بلا دليل.
إذاً، من العدل ألا تحمل المتبوع وزر التابع، ولا تحمل الجميع وزر الواحد، ومن العدل -أيضاً-: ذكر الخطأ والصواب جنباً إلى جنب، وعدم جحد الحق، أو إغفاله، فمثلاً: حين تتكلم عن بعض إيجابيات ما يعرف بالجماعات، أو التجمعات، أو الجمعيات الإسلامية، من الطبيعي أن تذكر بعض الإيجابيات، بل الأولى أن تبدأ بها حتى يتبين أنك مخلص، ناصح، صادق، عادل.
ثانياً: إشهار أمر الإسلام، وإعلانه في كثير من المجتمعات، وقيام أنشطة مختلفة، علمية، وإعلامية، ودعوية، بجهود كثير من هؤلاء الدعاة المنتسبين إلى بعض هذه الجمعيات، فضلاً عن الجهود الاجتماعية، ومقاومة الأعداء، والرد على الخصوم، وتفنيد باطلهم، ومقاومة العلمانية، إلى غير ذلك.
ثالثاً: حفظ المغتربين في البلاد غير الإسلامية، فإن كثيراً من المراكز والتجمعات الإسلامية، حفظ الله تعالى بها شباب الإسلام الذين ذهبوا إلى هناك من فتن الشبهات، والشهوات، فصاروا من رواد المساجد، ومن الفضلاء، ومن الأخيار، ورجعوا إلى بلادهم دعاة إلى الله عز وجل.
رابعاً: ربط السياسة بالدين في أذهان الناس، وذلك لمواجهة النعرة العلمانية التي طال الضرب على وترها، وصار كثير من الناس يجهلون أن السياسة جزء من الدين، وأن الدين جاء ليحكم حياة الناس في كل أمورهم، وفي كل مجالات حياتهم، وصار هناك فصل بين الدين والسياسة، وسرى هذا الأمر وهذه العدوى إلى قلوب كثير من الناس، بل كثير من المنتسبين إلى الخير، فكان من فضل كثير من هؤلاء المنتسبين ربط السياسة بالدين، وتذكير الناس دائماً بذلك، فضلاً عن المشاركة في أعمال الخير من العلم، والدعوة، والجهاد، في بلاد كثيرة.
على أي حال ليس المجال مجال تقويم كما هو واضح، ولكن المقصود أن من العدل ذكر الإنسان لهذه الإيجابيات قبل أن ينتقل إلى ذكر السلبيات.
ومن السلبيات -أيضاً- والمآخذ: نشوء بعض المخاوف، والأوهام، بسبب طبيعة التربية التي يتلقاها الفرد، فطبيعة التربية الخاصة التي ينشأ فيها قد توجد عنده نوعاً من الخوف والإحجام، وعدم الإقدام، بحجة مراعاة المصلحة، أو الخوف على الدعوة، أو ما سوى ذلك.
ومن السلبيات: التناصر بغير الحق، والذب عن الآخرين بالباطل، وهذا من أبرز وأهم القضايا التي ينبغي مقاومتها، ومجاهدتها، والعمل على دفعها، وإزالتها بقدر المستطاع.
ومن السلبيات: التقليد في كثير من الأحيان في المسائل العلمية، وفي المسائل العملية، فيتربى الفرد على التلقي عن الآخرين، وتضعف لديه الاستقلالية التي تجعله يبحث بنفسه عن المسألة، وعن أدلتها وعن النتيجة التي يمكن أن يتوصل إليها، إضافة إلى أن كثيراً من النفوس لا تألف تلك الأجواء المقننة بالرسوم، والالتزامات، وتحب الانطلاق إلى أفق أوسع وأرحب وأبعد.
إذاً: المطلوب هو العدل، فيذكر الإنسان السلبيات، ويذكر إلى جوارها الإيجابيات، ليعلم الجميع أنه لا يقصد إلا الحق، فليس القصد إسقاط فلان، أو الطائفة الفلانية، إنما قصده الوصول إلى الحق، ونصرة دين الله عز وجل بكل سبيل وبكل وسيلة.
فيا ليت أننا نتبنى ونحرص على جمع كلمة المسلمين، وتقريب وجهات النظر فيما بينهم في مثل هذه الأمور التي ليست خلافات في العقائد، ولا خلافات في الأصول، وإنما هي خلافات في قضايا ليس فيها نص قاطع يمكن الرجوع إليه، وليس فيها إجماع يحرم مخالفته.
إنني أرى أن من أسباب الجمع - جمع الكلمة- وإزالة أسباب الفرقة، ونفع المسلمين: أن الأولى بالعلماء المرموقين والدعاة المشهورين والرجال الذين عرفوا على مستوى الأمة ألا يقصروا هممهم على فئة بعينها، وألا يحصروا أنفسهم في مجال واحد، أو ينحازوا إلى فئة، بل أن يكونوا لجميع المسلمين، ولجميع الفئات، ولجميع الأعمال؛ لأنهم بذلك يجعلون فتواهم، وكلمتهم، وبحثهم، وتقريرهم، مقبولاً لدى جميع الأطراف بدون حواجز، ويشعر الجميع أنهم أهل عدل، وأهل إنصاف، لا ينطلقون من عصبية لفئة على فئة، ولا لقبيلة على قبيلة، أو أمة على أمة، أو دولة على دولة، أو جماعة على جماعة، أو طائفة على طائفة، بل ينطلقون من منطلق النصح للجميع، ومحبة الخير للجميع، والفرح لكل خير يصيب الجميع، والحزن لكل شر يصيب الجميع، ويكونون دعاة إلى توحيد المسلمين على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال: وكل ما كان من الشروط التي بين القبائل، والملوك، والشيوخ، والأحلاف وغير ذلك، فإنها على هذا الحكم باتفاق علماء المسلمين، وما كان من الأمر المشروط الذي قد أمر الله به ورسوله، فإنه يؤمر به كما أمر الله به ورسوله، وإن كان مما نهى الله عنه ورسوله فإنه ينهى عنه.
قال: وكذلك ما يعقده المرء على نفسه، -وهذا الذي جعلني أقول فيما سبق أنها كعقد النذر- قال: وكذلك ما يعقده المرء على نفسه كعقد النذر، أو يعقده الاثنان كعقد البيع، والإجارة، والهبة، أو ما يكون تارة من واحد وتارة من اثنين كعقد الوقف، والوصية، فإنه في جميع هذه العقود متى اشترط العاقد شيئاً مما نهى الله عنه ورسوله كان باطلاً، وفي الصحيح: {من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه} والعقود المخالفة لما أمر الله به ورسوله هي من جنس دين الجاهلية، وهي شعبة من دين المشركين، وأهل الكتاب الذين عقدوا عقوداً أمروا فيها بما نهى الله عنه ورسوله، ونهوا فيها عما أمر الله به ورسوله، فهذا أصل عظيم يجب على كل مسلم أن يتجنبه.
قال -رحمه الله-: وقد ذكر ألفاظاً كالفتوة وغيرها قال: وأمثال هذه الكلمات التي توصف بها الفتوة بصفات محمودة، سواء سميت فتوة، أم لم تسمّ وهي لم تستحق المدح في الكتاب والسنة إلا لدخولها فيما حمده الله ورسوله من الأسماء، كالإحسان، والرحمة، والعفو، والصفح، والحلم، وكظم الغيظ، والبر، والصدقة، ونحو ذلك من الأسماء الحسنة، فكل اسم علق الله به المدح والثواب في الكتاب والسنة كان أهله ممدوحين، وكل اسم علق الله به الذم والعقاب في الكتاب والسنة كان أهله مذمومين، كلفظ الكذب، والخيانة، والفجور، والظلم، والفاحشة، ونحو ذلك.
قال: وأما لفظ الزعيم فإنه مثل لفظ الكفيل، والقبيل، والضمين، فإن كان قد تكفل بخير كان محموداً على ذلك، وإن كان شراً كان مذموما، قال: وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب -أي تصير حزباً- فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان، فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عن من لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق أم الباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالاجتماع، بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرق والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان.
ثم قال: ومن أمكنه الهدى من غير انتساب إلى شيخ معين فلا حاجة به إلى ذلك، ولا يستحب له ذلك -يعني الانتساب-، بل يكره، ثم قال -رحمه الله-: وأما إن كان لا يمكنه أن يعبد الله بما أمر إلا بذلك، مثل أن يكون في مكان يضعف فيه الهدى والعلم، والإيمان والدين، يعلمونه ويؤدبونه لا يبذلون له ذلك إلا بانتساب إلى شيخهم، أو يكون انتسابه إلى شيخ يزيده في دينه وعلمه فإنه يفعل الأصلح لدينه، وهذا لا يكون في الغالب إلا لتفريطه، وإلا فلو طلب الهدى على وجهه لوجده، ثم قال: فأما الانتساب الذي يفرق بين المسلمين، وفيه خروج عن الجماعة والائتلاف إلى الفرقة، وسلوك طريق الابتداع، ومفارقة السنة والاتباع، فهذا مما ينهى عنه، ويأثم فاعله ويخرج بذلك عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فأجاب: الحمد لله هذا الفعل على هذا الوجه المذكور ليس مشروعاً باتفاق المسلمين، وإنما كان أصل الإخوة أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، وحالف بينهم في دار أنس بن مالك، قال: وأما ما يذكر بعض المصنفين من أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين علي وأبي بكر إلى آخره، فهذا باطل -ثم قال- وتنازع العلماء في مثل هذه المحالفة والمؤاخاة- يعني التي حصلت بين المهاجرين والأنصار- هل يورث بها عند عدم الورثة من الأقارب والموالي على قولين: أحدهما يورث بها وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى روايتين، في قوله تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33].
والثاني: لا يورث بها بحال، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في الرواية المشهورة عنه، وكذلك تنازع الناس: هل يشرع في الإسلام أن يتآخى اثنان، ويتحالفا كما تحالف المهاجرون والأنصار؟
فقيل: إن ذلك منسوخ، في حديث مسلم عن جابر {لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ولأن الله جعل المؤمنين إخوة بنص القرآن، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم {المسلم أخو المسلم... } الحديث.
فمن كان قائماً بواجب الإيمان كان أخاً لكل مؤمن، ووجب على كل مؤمن أن يقوم بحقوقه وإن لم يجر بينهما عقد خاص، ومن لم يكن خارجاً عن حقوق الإيمان وجب أن يعامل بموجب ذلك، فيحمد على حسناته ويوالى عليها، وينهى عن سيئاته ويجانب عليها بحسب الإمكان -ثم قال- لكن لا نـزاع بين المسلمين أن أحدهما لا يصير ولده للآخر، وكذلك مال كل واحد لا يكون مالاً للآخر، يورث عنه ماله، وأما شرب كل واحد منهم من دم الآخر، فهذا لا يجوز بحال، وأقل ما في ذلك مع النجاسة التشبه بالذين يتآخون وأنهم يتعاونون على الإثم والعدوان إما على فاحشة أو محبة شيطانية كمحبة المردان ونحوهم.
قال: وإنما النـزاع -رجع إلى الخلاف- في مؤاخاة يكون مقصودهما فيها التعاون على البر والتقوى، بحيث تجمعهما طاعة الله، وتفرق بينهما معصية الله، كما يقولون تجمعنا السنة وتفرقنا البدعة، فهذه التي فيها نـزاع: فأكثر العلماء لا يرونها استغناء بالمؤاخاة الإيمانية التي عقدها الله ورسوله، فإن تلك كافية محصلة لكل خير، فينبغي أن يجتهد في تحقيق أداء واجباتها، إذ قد أوجب الله للمؤمن على المؤمن من الحقوق ما هو مطلوب في النفوس، ومنهم من سوغها على الوجه المشروع إذا لم تشتمل على شيء من مخالفة الشريعة.
وبالجملة فجميع ما يقع بين الناس من الشروط والعقود والمحالفات في الإخوة وغيرها، ترد إلى الكتاب والسنة، فكل شرط يوافق الكتاب والسنة يوفى به، ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق، فمتى كان الشرط يخالف شرط الله ورسوله كان باطلاً، مثل أن يشترط أن يكون ولد غيره ابنه، أو عتيق غيره مولاه، أو أن ابنه أو قريبه لا يرثه، أو أنه يعاونه على كل ما يريد وينصره على كل من عاداه، سواء كان بحق أم بباطل، أو يطيعه في كل ما يأمره به، أو أنه يدخله الجنة، أو يمنعه من النار، ونحو ذلك من الشروط، وإذا وقعت هذه الشروط وُفيَّ منها بما أمر الله به ورسوله، ولم يوف منها بما نهى الله عنه ورسوله، وهذا متفق عليه بين المسلمين، وفي المباحات نـزاع وتفصيل ليس هذا موضعه.
والكلام هذا جزل كبير ومتين، ومن أعظم ما يدل عليه ما عند شيخ الإسلام -رحمه الله- من العدل والإنصاف، والتواضع، والبحث عن الحق، ومعرفة الحق بدليله، وعدم الشدة والقسوة على المخالفين في مسائل الاجتهاد.
الجواب: لقد تكلمت خلال الدرس كثيراً عن هذه القضية، وأنه يجب أن يكون الولاء هو في الله ورسوله، وأن نخرج من قلوبنا أي صورة من صور الولاء في غير الله تعالى ورسوله، حتى لو عملت مع شخص في مجال معين، فكما أنك تعمل مع إنسان في عملك الوظيفي -وقد يكون إنساناً فاضلاً- وتتعاون معه، أو تتعاون معه -مثلاً- في أي مجال من مجالات الدعوة إلى الله تعالى، ومع ذلك إذا رأيت عليه خطأً نصحته، وأمرته، ونهيته، وتحبه بقدر ما فيه من الإيمان، وإن رأيت فيه تقصيراً؛ فإنك تعاتبه عليه، ولو رأيت من هو خير منه ديناً وإيماناً وتقوى أعطيته من الولاء أكثر مما أعطيت ذاك الشخص الذي قد تكون تعرفه منذ زمن، وتتعاون معه في مجال من المجالات.
الجواب: أقول تعليقاً على ذلك أولاً: سبق أن طرحت سؤالاً، لماذا نخاف من النقد؟ لندع الناس خاصةً المخلصين، يمارسون النقد الهادف البناء، لأنفسهم ولغيرهم ولجميع الجهود، فإن الجهود التي يقوم بها الدعاة إلى الله تعالى والعلماء، ليست جهوداً شخصيه يملكونها هم، وإنما تملكها الأمة، فهي ملك للأمة، فمن حق الأمة أن تنقدها وتقومها، فتبين ما فيها من الخير، وتذكر ما فيها من الخطأ وتدعو إلى تلافيه وإلى استدراكه، وأنت لا تستطيع أن تكمم أفواه الناس ولو سكت القريب لم يسكت البعيد، ولو سكت هذا لم يسكت ذاك، وأنت تعلم أنه منذ زمن جاء أحد الأشخاص وكتب مجموعة كتب عن الدعاة، خصصها بأسمائهم، ونال منهم، وتكلم عنهم، واستطاع أن ينشر من خلال الكتاب والشريط مئات الألوف من هذه الكتب، فأنت لا تستطيع أن تسكته، بل المنابر ووسائل الإعلام مشرعة، لمثل هؤلاء أكثر من غيرهم.
ثانياً: ماذا يضرك إذا كنت تسير على طريق صحيح، وعلى صواب، وتتمسك بدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وتعلم في قرارة نفسك أنك لا تدعو إلى باطل، وأنك لا تدعو إلا إلى الكتاب والسنة لا غير، ولم يسمع منك الناس ولا عرفوا منك غير هذا؟ فما يضيرك أن يقال فيك ما يقال، إن كان حقاً يجب أن تأخذه، وإن كان باطلاً فلا يضيرك ما دمت تعلم أنه ليس واقعاً، ولا موجوداً فيك.
أنا أوافقك أن النقد يجب أن يكون متسماً بالإخلاص، والصدق، والموضوعية، والعدل، وعدم تبادل التهم، وعدم السباب، إلى آخر ما يمكن أن تقول في رسالتك من المواصفات والشروط التي نوافقك عليها جميعاً، لكن تقييم هذا العمل أو ذاك، أنه عمل موضوعي أو غير موضوعي، ملتزم بآداب النقد أو غير ملتزم، مما لا أستطيع أنا أن أقوله، يستطيع غيري من الناس أن يقولوه، لكن لا أستطيع أنا أن أقول هذا الشيء أمر آخر من هو الذي يستطيع أن يقول إن النيل مني يضر بالدين!! هذا استكبار، أنا وأنت والمجاهد الفلاني، والداعية الفلاني، والزعيم الفلاني، ما نحن إلا أناس على هذا الطريق الطويل الذي قيض الله له من يخدمونه ألوفاً في الماضي والحاضر والمستقبل، وربما يعرف الإنسان في نفسه من الضعف، والعجز الشيء الكثير الذي يجعله لا يمكن أن يستكبر، فيقول إن النيل مني -مثلاً- نيل من الدين, لا أبداً، الأشخاص يذهبون ويأتون، فالمهم الدين والإسلام والدعوة إلى الله عز وجل فإذا كان هذا ينال من الدين أو من الدعوة، هذا أمر، أما أن تقول: ينال من فلان أو من علان، أو يضر به، هذا لا يضير شيئاً يا أخي، لماذا تكون نظرتي ونظرتك قاصرة؟ لماذا لا تكون نظرتنا بالدرجة الأولى أخروية؟ إن المقياس عند الله تعالى إذا كان شأنك عند الله عظيماً وكان الله تعالى راضياً عنك فما يضيرك أن يطبق الناس على غير ذلك، حتى المقياس الدنيوي ينبغي أن تدرك أن الأمور لا تقاس بفترة، أو بلحظة، وكثير من الأمور قد تثور وتتحرك، ويتكلم الناس عنها، ويتداولونها، ثم بعد ذلك تموت؛ لأنه لا يوجد ما يدعمها، فهي قضايا لا تعني الناس، أو تهمهم في دينهم، أو دنياهم، بل هي قضايا قد تكون مفتعلة، ولذلك لا بقاء لها، ولا خلود لها أقول: هذا قد يكون أحياناً.
وعلى كل حال أنا أعجب لماذا يوجد في قلوب ونفوس كثير من الشباب حساسية من النقد؟! صحيح أن النقد غير البناء ربما أثر، لكن ينبغي أن نتعود على النقد، وإذا خيرنا بين أمرين: إما أن يوجد نقد غير بناء، بل هو نقد قد يحمل فيه شيء من الاعتداء، والظلم والبغي، وبين ألا يوجد نقد بالكلية، فنحن نفضل أن يوجد النقد غير البناء، على ألا يوجد نقد بالكلية، وأفضل من هذا وذاك أن يوجد نقد ملتزم بضوابط الكتاب والسنة، لا بغي ولا عدوان ولا ظلم ولا سوء ظن ولا اتهام، بل قول الحق والنصيحة التي يقبلها الجميع، وتجتمع عليها القلوب، وتشرئب إليها النفوس، وتكون سببا في وحدة الصف واجتماع الكلمة.
أسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين ويذل الشرك والمشركين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر