إسلام ويب

الغفلةللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا يخفى على الناظر في حال الأمة الإسلامية اليوم ما هي فيه من انغماس في الملذات والشهوات، وغفلة عن رب الأرض والسماوات، سادرة في غيها، لاهية لاعبة، معرضة عن أوامر الله مستخفة بشرعه، وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا، وأوعدنا بالعقاب الشديد من الله، فيجب علينا الرجوع والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    الغفلة عن الآخرة والانكباب على الدنيا

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيَّاكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا الجمع الكريم المبارك على طاعته أن يجمعنا معكم مع سيد النبيين في الآخرة في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! لقاؤنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، بعنوان: (الغفلة) وسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: التهالك على الدنيا والتغافل عن الآخرة. ثانياً: الاستخفاف بأوامر الله عز وجل. ثالثاً: الغفلة عن الغاية. وأخيراً: ففروا إلى الله. فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع بين يدي شهر رمضان من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. قال الله جل وعلا: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء:1-3]. آيات تهز الغافلين هزاً، فالحساب قد اقترب والناس في غفلة!! وآيات الله تتلى، ولكنهم معرضون لا يأتمرون بأوامر الله عز وجل، ولا يقفون عند حدوده جل وعلا. إنك لو نظرت الآن إلى واقع كثير من المسلمين كاد قلبك أن ينخلع وكأن المسلم لا يعلم عن دين الله شيئاً ولا يعنيه أن يسمع قال الله، قال رسوله، فهو لا يعيش إلا لشهواته ونزواته الرخيصة، وكأنه نسي أنه سيعرض يوماً على الله جل وعلا ليسأل عن كل شيء، مصداقاً لقوله سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]. أيها المسلمون! أليس عجيباً أن يعرض المسلم عن الله؟! أليس عجيباً أن يتغافل المسلم عن لقاء مولاه وأن يقضي جل عمره في معصية الله جل وعلا؟!

    1.   

    النعمة مع الإقامة على المعصية استدراج ونقمة

    أيها الغافل! يا من شغلتك هذه الحياة! أنسيت لقاء الله عز وجل؟! أيها الأحبة! ها هو شهر رمضان قد أهل علينا بأنفاسه الخاشعة الزكية، ولا زال كثير من المسلمين في غيه وإعراضه وضنكه وشقائه وضلاله، يستمع إلى القرآن وكأن الأمر لا يعنيه.. يستمع الموعظة لكنها لا تهز قلبه.. يستمع إلى النهي من الله ومن رسول الله فلا يرعوي في الوقت الذي لو أمره فيه رئيسه في العمل لامتثل أمره ولاجتنب نهيه ولوقف عند الحدود التي رسمها له. وإن من الناس من يغتر بنعم الله عليه، فيظن أن هذه النعم إنما هي أصل لرضا الله عنه، ويقول: لولا أن الله عز وجل قد رضي عني ما أنعم علي بهذه النعم! فهو مغتر بنعم الله ونسي هذا المسكين أنه مستدرج. أيها المسلمون! تدبروا معي هذا، فالابتلاء بالنعيم أقسى من الابتلاء بالضيق والشدة؛ لأن الابتلاء بالنعيم يلهي وينسي ويطغي إلا من رحم ربك جل وعلا، فصاحبه يظن أن الله ما أنعم عليه إلا لأنه قريب من الله تبارك وتعالى!! كلا، انظر إلى أهل الكفر في الشرق والغرب فقد أنعم الله عز وجل عليهم، وفتح عليهم أبواب كل شيء، فهل هذا دليل على أن الله قد رضي عن الكفر وأهله؟! لا والله، ولكن النعم استدراج لأهل الكفر المعاصي، وتدبر حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أحمد في مسنده والبيهقي في الشُعب وحسن الحديث الحافظ العراقي وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث عقبة بن عامر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الله جل وعلا يعطي العبد ما يُحِب وهو مقيم على معصية الله فاعلم بأنه استدراج له من الله عز وجل، وقرأ النبي قول الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ* فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:44-45]). (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ)، أي: لما تغافلوا عن الأوامر والنواهي والحدود وكان المفترض أن تكون النتيجة: خسفنا بهم الأرض.. أنزلنا عليهم الريح، أو أنزلنا عليهم العذاب والخسف والصيحة، ولكن: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:44-45].

    1.   

    التحذير من الظلم

    إن من الناس الآن من هو مقيم على معصية الله، ولكن الله يستره ويحفظ عليه نعمه، فيظن المسكين أن المعصية هينة حقيرة، ولولا أنها كذلك لعجل الله له العقوبة في الدنيا، بل ربما يفتخر بأنه عصى الله بليل فيصبح ليهتك ستر الله عليه بنهار، ونسي المسكين أن حلم الله عليه استدراج له من الله جل وعلا. وتدبر معي قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]). أيها المظلوم! إياك أن تظن أن الله قد أهمل الظالم، أو أن الله عز وجل قد نسي الظالم فتعالى ربنا فلا يظل ربنا ولا ينسى، بل إن الله ليملي لأهل الظلم، والطغيان حتى إذا ما أخذهم فلن يفلتهم ربنا جل وعلا. أين الطواغيت والظالمون في كل زمان؟! أين قارون ؟! أين فرعون ؟! أين هامان ؟! أين النمرود بن كنعان ؟! أين أصحاب الأخدود؟! أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي؟! أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل فارق الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان قال ربنا: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]. يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) فمن الناس من يغتر بالنعم، ومن الناس من يغتر بحلم الله وستره عليه، ومن الناس من صرف قلبه وهمه ووقته إلى الدنيا، فأصبحت الدنيا غايته التي من أجلها يعيش ويبذل العرق والجهد والفكر والعقل، لا هم له إلا هذه الحياة، يسمع الأذان فلا يقوم.. يتعلم التوحيد فلا يتأثر.. يوعظ بالقرآن والسنة فلا يتحرك قلبه ولا يعيش إلا من أجل هذه الحياة الدنيا. والله لقد أخبرني إخواني في أمريكا عن رجل ينتسب إلى الإسلام، ولكنه قد فتح محلاً كبيراً يبيع فيه الخمر والخنزير وقد ضيع الصلاة، فلما ذهبت إلى هنالك يوماً أراد مني إخواني أن أذهب لزيارة هذا الرجل لأذكره بالله عز وجل، فذهبت إليه، ولما قمت بتذكيره بآيات القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام رد عليّ هذا الغافل اللاهي وقال: يا شيخ! والله ما أتيت إلى هذه البلاد لأصلي أو لأذهب إلى المساجد وإنما أتيت لأجمع مبلغاً من الدولارات وأعدك إن عدت إلى بلدي مرة أخرى فسأفتح مشروعاً وبعد أن أستقر فسأقضي جل عمري في بيت الله عز وجل، قلت: والله لا أضمن لك ذلك؛ لأنني ما وقعت لك ولا لنفسي صكاً مع ملك الموت أن يمهلك أو أن يمهلني حتى أرجع إلى بلدي مرة أخرى، فنظر إلي المسكين وقال: أريد أن أصارحك بشيء، قال: أبشرك! -يظنها بشارة- أنني إذا أصبت بحالة من الصداع أخرجت ورقة مائة دولار ووضعتها على رأسي فيذهب الصداع في الحال، قلت: صدق سيد الرجال إذ يقول: (تعس عبد الدرهم.. تعس عبد الدينار) فقلت له: أنت عبد الدولار أنت عبد لشهواتك.. أنت عبد لهذه الحياة الدنيا. إلى متى تعبد الكرسي الذي جلست عليه؟! إلى متى تعبد المال الذي من أجله ضيعت حقوق الله؟! إلى متى تعمل من أجل هذه الحياة الدنيا، وكأنك لن تعرض على الله جل وعلا؟ إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8]. (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)، أي: هو لا يرجو لقاء الله، بل إذا ذكّر بلقاء الله قال لك: ذكرنا بموضوع آخر وإن ذكرته بالموت قال: نريد أن نشعر بالحياة.. نريد أن ننعم بالحياة.. لماذا تريدون أيها المشايخ أن تعقدونا من هذه الحياة الدنيا. كلا، نحن لا نعقدك بل إننا نحذرك من الركون إليها، ونحذر أنفسنا، والله نسأل أن يختم لنا ولكم بخاتمة الإيمان؛ لأننا نعلم أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فهأنذا الآن أذكرك بالله جل وعلا، ولكن ورب الكعبة لا أضمن ولا تضمن ما هي الخاتمة، ولكننا نستعين بالله عز وجل، من باب قول الحافظ ابن كثير : لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.

    1.   

    الأعمال بالخواتيم

    لقد عاش شيخنا المبارك فضيلة الشيخ عبد الحميد كشك طيب الله ثراه وجمعنا به في جنات النعيم لدعوة الله ولدين الله، ما نافق ظالماً ولا طاغوتاً من طواغيت أهل الأرض، وإنما تمنى رضوان الله جل وعلا، فكانت الخاتمة أن تقبض روحه وهو في الصلاة بين يدي الله جل وعلا. إنها الخواتيم، وإنما الأعمال بالخواتيم، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة. ووالله لقد أخبرت في المنصورة في الأيام القليلة الماضية: أن رجلاً ما صلى لله جل وعلا، وما عرف الصلاة، ذُكّر بالله فكان يسخر بالمذكرين، نصح فكان يهزأ بالناصحين، أصيب بحالة إغماء ثم بعد ذلك لما أفاق قال: أريد أن أتقيأ فدخل الخلاء أعزكم الله، ووضع وجهه في هذه القاعدة التي يجلس عليها؛ ليخرج ما في جوفه وما في بطنه فغلبه القي ووضع رأسه في هذا الموطن القذر النجس! وظل يقيء حتى خرجت روحه في هذا الموطن النجس القذر ولا حول ولا قوة إلا بالله: (إنما الأعمال بالخواتيم). فإلى متى تعيش من أجل الدنيا وكأن الدنيا هي الإله الذي من أجله تركع ومن أجله تبذل الوقت والعرق والجهد؟! إلى متى هذه الغفلة؟! إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا [يونس:7]، أي: اطمأن بهذه الحياة، فهو يظلم خلق الله، وهو يعتقد أنه مخلد على الكرسي في هذه الدنيا، ونسي أنه سيعرض يوماً على الله جل وعلا ليقف إلى جوار هذا المظلوم ليقتص له ملك الملوك جل وعلا، فأبشر أيها المظلوم! إذا ما علمت أن الذي سيقتص لك من الظالم هو ملك الملوك وجبار السماوات والأرض: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ [يونس:7] يذكر بآيات الله فلا يتذكر فهو في غفلة عن القرآن، وغافل عن السنة. ما مصير هؤلاء؟ مصيرهم بنص القرآن: أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:8] مأواهم النار لا جزاء لهم إلا النار.

    1.   

    الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر

    أذكر نفسي وإياك أيها الحبيب الكريم! يا من غفلتم عن الآخرة، وتهافتم على الدنيا! أذكر نفسي وإياكم بأن الدنيا إلى زوال، وبأن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، قال الله جل وعلا: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا * وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:45-49].

    1.   

    تذكر الموت والعرض على الله

    تذكر أيها المسلم! تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً: أين المال؟! أين المنصب؟! أين الجاه؟! ذهب إلى غير رجعة: مثل وقوفك يوم العـرض عُريانا مستوحشاً قـلق الأحـشاء حـيرانا والنار تلهبُ من غيظ ومـن حنقٍ على العـصاة ورب الـعرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبد على مهلٍ فهل تـرى فيه حـرفاً غــير ما كـانا لما قرأت ولـم تنـكر قـراءته وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجـليل خذوه يا مـلائكتي وامـضوا بعبدٍ عـصى للنار عطـشانا المشركون غدا في النار يلتهبوا والمؤمنون بـدار الخـلد سكـانا تذكر: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف:49] مما في هذا الكتاب: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49] كم من معصية يا مسكين قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها! وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها! فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك!! يا حسرة قلبك وقتها على ما كنت فيه من غفلة في هذه الحياة الدنيا؟! أخي الحبيب! تدبر قول الصادق المصدوق الذي يقول في الصحيحين من حديث عمرو بن عوف الأنصاري : (والله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بُسطَت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم). قال تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2] أي: شغلتكم الدنيا.. شغلتكم الشهوات حتى زرتم المقابر انتبهتم.. عاينتم الحقائق التي أنكرتموها في هذه الحياة، إما بلسان الحال أو بلسان المقال. وانظر إلى هذا التعبير القرآني اللطيف في كلمة (زرتم) فكأن الميت في قبره ما هو إلا زائر وحتماً ستنقضي مدة الزيارة وإن طالت ليرى نفسه بعد هذه الزيارة قد وقف بين يدي الله جل وعلا ليسأل عن كل شيء قدمه في هذه الحياة.

    1.   

    التحذير من الركون إلى الدنيا

    جاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله قد استخلفكم فيها لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء). أذكر نفسي وإياك أيها الحبيب الكريم! بعدم الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها؛ لأن الله عز وجل قد حذر من ذلك. أيها الغافلون! أيها اللاهون! بل أيها الطائعون المؤمنون! قال لنا ربنا جل وعلا: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]. وأود من باب التفصيل العلمي لهذه المسألة أن نعلم أن الذم الوارد في القرآن والسنة في حق الدنيا لا يرجع إلى زمانها ومكانها وما أودعها الله من خيرات ونعم. إن الذم الوارد في الكتاب والسنة في حق الدنيا لا يرجع إلى زمان الدنيا الذي هو الليل والنهار فلقد جعل الله الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً. ولا يرجع الذم إلى مكان الدنيا الذي هو الأرض فلقد جعل الله الأرض مهداً لبني آدم ليتاجروا على ظهرها وليغرسوا فيها الأعمال التي تقربهم إلى الجنة. والذم الوارد في الدنيا لا يرجع إلى ما أودع الله في الدنيا من خيرات ونعم، فهذه نعم الله على خلقه وعلى عباده، والله عز وجل يقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32]. إذاً: فلنعلم أن الذم الوارد في حق الدنيا في القرآن والسنة إنما هو متعلق بكل ما يرتكب فيها ولا يرضي الرب جل وعلا. الذم للمعاصي.. للكفر الذي يرتكب في هذه الحياة، قال علي بن أبي طالب: (الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن فهم تزود منها، فهي مهبط وحي الله، ومصلى أنبياء الله، ومتجر أولياء الله، ربحوا فيها الرحمة واكتسبوا فيها الجنة). انظر إلى الفهم الدقيق لحقيقة هذه الحياة؛ لأننا لا نريد أن يفهم مسلم هذا الكلام فهماً خاطئاً فيهدر هذه الحياة ويهدر الوظائف والأعمال، كلا. وإنما أقول لك: إن استطعت أن تجمع ملايين الجنيهات فافعل بشرطين: أن تجمع من الحلال، وألا تنسى حق الكبير المتعال. عمّر الكون.. عمر الدنيا، لكن إياك أن تركن إلى الدنيا وأن تطمئن إليها وأن تنشغل بها عن الآخرة. يقول لي رجل من رجال الأعمال ذكرته بالله عز وجل، يقول لي: إن الدنيا قد شغلتنا وأخذتنا تماماً، ثم قال لي: والله يا شيخ! أنا لا أرى أولادي -مع أنني لست على سفر- إلا بعد فترات طويلة؛ لأنني أرجع إلى البيت وهم نائمون ويخرج الأولاد إلى المدارس وأنا نائم، فأنا لا أرى أولادي، قلت له: وكيف حالك مع الصلاة؟ قال: والله أشغل فيمر علي الأسبوع لا أصلي صلاة واحدة لله جل وعلا، ثم ذكرته بالله فقال: دعنا نجري في هذه الحياة الدنيا؛ لأننا بعد الموت سننام طويلاً، قلت له: لا والله، بل أنت الآن في نوم طويل، وأنت الآن في سبات عميق، وإنما إن استيقظت الآن للعمل للآخرة فستستريح هنالك بين يدي الله جل وعلا، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8]. أيها الحبيب الكريم! أذكر نفسي وإياك بحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، فالدنيا -كما نقول دوماً- وإن طالت فهي قصيرة، وإن عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال فلابد بعده من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد بعده من دخول القبر.

    1.   

    خطورة الاستخفاف بأوامر الله

    أيها الأحبة! وهنا أنقل لكم وهذه صورة من أبشع صور الغفلة، تأمر فتقول: قال الله، أو تنهى فتقول: نهى الله عن كذا، ونهى رسول الله عن كذا، فلا مجيب. أرى رجلاً يلبس خاتماً من الذهب فأقول له: لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس خاتم الذهب للرجال! فيرد علي ويقول: نعم أنا أعلم ذلك! أي استخفاف هذا؟! تقول له: الله عز وجل حرم كذا، فيقول: نعم أعلم ذلك، الله عز وجل نهى عن كذا، فيقول: أعلم. يعلم ولا يطبق ولو قال: سل الله عز وجل لي أن يهديني، وأن يردني إلى الحق لدعونا الله عز وجل له، ولكان ذلك أدعى للقبول، أما أن تقول: أنا أعلم! بكبر وبصوت مرتفع وكأن الأمر لا يعنيك! وأنا أتحداك أن تقول لرئيسك في العمل إن نهاك عن شيء: لا، وإن أمرك بشيء أتحداك أن تقول له: لا. بل ووالله ربما يأمرك بشيء مخالف وتمتثل أحياناً، فالله يأمر وينهى والرسول يأمر وينهى، ولكن أين السمع والطاعة؟! يا من زعمت أنك ممن أحسنوا الظن بالله، أين العمل.. أين السمع.. أين الامتثال للأمر.. أين الاجتناب للنهي.. أين الوقوف عند الحدود؟ لماذا هذا الاستخفاف بأوامر الله تعالى؟ بل تجد الرجل يرمي الشريعة الربانية المحكمة بالجمود والقصور والتخلف والرجعية، والله عز وجل يخاطب نبيه المصطفى ويقول: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الجاثية:18]. إن امتثلت أمر الله في شرعه فأنت المؤمن الذي سمع وأطاع، وإن سمعت وأعرضت فهذا هو دأب المنافقين -أسأل الله أن يحفظنا وإياكم من النفاق- قال جل وعلا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:60-61]. إن الذي يعرض ويصد عن سبيل الله هو المنافق بنص القرآن وإن أظهر للناس بلسانه وبيانه غير ذلك، فالله عز وجل هو الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. وأود أن أنبه: أن من يختزل الدين والشريعة كلها في الحدود إنسان لا يحترم عقله ولا يحترم شخصه، وأرجو من كل منصف أن لا يختزل دين الله في الحدود؛ لأننا إذا ما ذكرنا بالشريعة رد علينا: تريدون أن تقطعوا الأيدي؟! تريدون أن ترجموا الناس؟! تريدون كذا وكذا؟! أقول: إن اختزال الشريعة أو الدين في الحدود أمر لا يقول به منصف يحترم علقه ونفسه، فما الحدود إلا باب من أبواب المعاملات، وما المعاملات إلا باب من أبواب الشريعة، بل إن إقامة الحدود في دين الله وفي شريعة الله لها ضوابط وشروط، وليس الأمر هكذا على إطلاقه وعواهنه، وهذا أمر مؤصل في كتب الفقه لأئمتنا وعلمائنا. إن الاستخفاف بأوامر الله عز وجل ينافي الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً، قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:1-2]. قال الإمام ابن القيم: إذا كان مجرد رفع الصوت على النبي صلى الله عليه وسلم يحبط العمل، فكيف بمن قدم العقل على قول وفعل النبي صلى الله عليه وسلم. وأنا أقول: كيف لو عاش ابن القيم في زماننا ورأى من لا يقدم قوله وعقله وفكره على قول وفعل النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل يتهم شريعة النبي صلى الله عليه وسلم بالجمود والقصور والرجعية، وعدم قدرتها على مسايرة هذه المدنية؟! ماذا يقول؟! إن رفع الصوت فقط على النبي صلى الله عليه وسلم يحبط العمل، فكيف وقد اتهمت شريعته الربانية المحكمة؟! إن الاستخفاف بأوامر الله من أبشع صور الغفلة في هذه الأيام وفي هذا الزمان، وهذه الغفلة التي تتمثل في هذا الاستخفاف تتنافى ابتداءً مع أصل الإيمان: مع الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً. قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36]، وقال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51] هذا شعار أهل الإيمان، أن يقولوا: (سمعنا وأطعنا)، أما شعار المستخفين بأوامر الرحيم الرحمن: (سمعنا وعصينا.. أعلم أن هذا حلال.. وأعلم أن هذا حرام)، لكنه لا يفعل ولا ينتهي فالاستخفاف من أبشع صور الغفلة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    1.   

    خطورة الغفلة عن الغاية

    أيها الأحباب! إن الغاية التي من أجلها خلقنا هي عبادة الله وحده، والناس غافلون عنها الآن إلا من رحم ربك. قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. هذه هي الغاية التي من أجلها خلقت، ما خلقك الله عز وجل إلا لطاعته وعبادته، وإن أنعم الله عليك بالزوجة وبالأولاد وبالمنصب والأموال، فيجب أن تسخر هذا من أجل الغاية التي من أجلها خلقت، فلو عشت لهذه الغاية فاستعمل كل الوسائل للوصول إلى هذه الغاية، لكن إن ضيعت الغاية وعشت بلا غاية فسيضيع عمرك في غير طاعة، وكم من الناس الآن ينتسبون إلى الإسلام ولا يعيشون لهذه الغاية، بل لا يعرفون شيئاً عن هذه الغاية! ألم تسمعوا قول هذا المتسكع التائه الضائع الذي يقول: جئت لا أعلم من أيـن ولـكني أتـيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت وسأمضي في طريقي شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟! كيف أبصرت طريقي؟! لست أردي ويقطع الطريق كالسائمة.. كالبهيمة لا يعرف لحياته معنى ولا لوجوده غاية، جهل الغاية وضل طريقها، فهو يتسكع كالبهيمة، ولقد قال الله عز وجل في هذا الصنف الغافل عن الغاية: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]. فيها أيها المسلم! ويا أيتها المسلمة! لابد أن نضع الغاية نصب أعيننا فإننا نعيش من أجل هذه الغاية.. من أجل طاعة الله وعبادته وحده، ومن أجل الآخرة، فلنسخر كل وسيلة من وسائل هذه الحياة الدنيا من أجل هذه الغاية، فإن كنت صاحب منصب إن عشت للغاية فستفكر كيف تسخر منصبك وكرسيك لطاعة الله، وكيف يقودك هذا الكرسي إلى رضوان الله وجنة الله. أما إن غفلت عن الغاية وجلست على الكرسي فلن تتورع عن ظلم العباد، ولن تتورع عن أكل أموال الناس بالباطل، ولن تتورع عن نهب المال العام الذي أصبح الآن سمة من سمات هذا العصر الذي فسد فيه من كلفوا بالرعاية، ورحم الله من قال: وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الراعاة لها الذئاب ضل عن الغاية وما فكر فيها، وظن أن هذه الحياة أبدية سرمدية، فقال لنفسه: أدركي الوقت قبل فوات الأوان، أنفقت كذا وكذا في الدعاية الانتخابية، أدركي الوقت لتحصلي هذا المبلغ وأضعاف أضعافه. يقول: وجلست على هذا الكرسي وأنا لا أضمن كم سأمكث عليه، فهيا لأقتنص هذه الفرصة وأغنم ولو من الحرام! أيها الأحباب! ما قال هذا إلا لأنه لا يفكر في الغاية، وظن هذا المسكين أنه سيأخذ هذا إلى قبره، ونسي قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: ماله وولده وعمله، فيرجع اثنان: يرجع المال والأهل، ويبقى العمل) فلن ينفعك بين يدي الله إلا العمل الصالح فلا تغفل عن هذه الغاية، ولا تغفل عن طاعة الله. ويوم أن عرف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الغاية وعاشوا من أجلها، سادوا في الدنيا والآخرة، يقول ربعي بن عامر لقائد الجيوش الكسروية رستم، ليعلمه الغاية التي من أجلها وجدوا ولها خلقوا: (إننا قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة). فلتعش أخي لهذه الغاية ولا تغفل عنها لأنك لو عشت لغاية لحددت الهدف وحددت الطريق، ولو غفلت عن الغاية ستنطلق في الطريق جاثماً على وجهك لا تدري إلى أين تذهب وإلى أين ترجع، فاعمل للغاية تفز وتسعد. أسأل الله عز وجل أن يقينا ويقيكم حر جهنم، وأن يكتب لنا هذا الوقت في ميزان حسناتنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    ففروا إلى الله

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! فروا إلى الله. ها هو شهر رمضان قد أهل علينا بأنفاسه الخاشعة الزكية، وأحببت أن أذكر بهذه الفرصة نفسي وأحبابي وإخواني وأخواتي بالفرار إلى الله قبل رمضان. فالفرار نوعان: فرار السعداء وفرار الأشقياء: أما فرار السعداء فهو الفرار إلى الله، وأما فرار الأشقياء فهو الفرار من الله، ومع ذلك فلا ملجأ ولا ملاذ من الله إلا إليه. أين يذهبون؟! أين يفرون من الله عز وجل؟! أخي! بادر بالفرار إلى الله.. بادر بالتوبة إلى الله عز وجل، واعلم: (بأن الله يبسط يديه بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يديه بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)، والحديث رواه مسلم من حديث أبي موسى . سينتهي زمن التوبة يوم أن تطلع الشمس من مغربها، فإن عاد الكافر إلى الله في ذلك اليوم فلا يقبل الله منه الإيمان، وإن عاد العاصي فلا يقبل الله منه التوبة. تدبر معي هذا الحديث لتعلم أهمية التوبة ووجوبها، فقد ورد في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الشمس تغرب يوماً فقال لأصحابه: أتدرون أين تذهب هذه؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال المصطفى: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة لله جل وعلا، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي وارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها -أي: من المشرق- ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة لله جل وعلا، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي، وارجعي من حيث جئتِ ). يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فلا تزال كذلك لا يستنكر الناس منها شيئاً)، أي: تشرق من المشرق كل صباح وتغرب في المغرب، ولا يستنكر الناس منها شيئاً. قال المصطفى: (حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك، قال: أتدرون متى ذلك؟! قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذاك يوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً) فإذا طلعت الشمس من المغرب أغلق باب التوبة. فيا عبد الله! الباب مفتوح لك الآن على مصراعيه فبادر بالتوبة، قبل أن يأتي يوم يغلق فيه باب التوبة، فلا يقبل الله الإيمان من كافر ولا يقبل الله التوبة من مذنب عاصٍ. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدابة) فإذا طلعت الشمس من المغرب أغلق الله باب التوبة، فهيا عد إلى الله عز وجل أيها اللاهي!! أيها العاصي!! بل أيها المؤمن: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. أيها الحبيب! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه المـلكان حين نسيته بل أثـبـتاه وأنـت لاهٍ تلعب والروح مـنك وديعـة أودعـتها ستردها بالرغم منـك وتـسلب وغـرور دنـياك الـتي تسعى لها دار حقـيقتهـا مـتاع يذهب الـليل فـاعلم والـنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعـد وتحسـب قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]. أسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم ارزقنا جميعاً قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً. اللهم إنا قد أقبلنا إليك وطرحنا قلوبنا بذل وانكسار بين يديك، فاللهم لا تردنا اليوم خائبين يا أرحم الراحمين! اللهم ردنا اليوم جميعاً بذنب مغفور وسعي مشكور وتجارة لن تبور. اللهم إنا نقر لك الآن بين يدي رمضان بذنوبنا وأخطائنا، فاللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم اجبر كسرنا، اللهم اغفر ذنوبنا، اللهم استر عيوبنا، اللهم آمن روعاتنا، اللهم فك أسرنا، اللهم تول أمرنا، اللهم تول أمرنا وفك أسرنا، اللهم اختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها يا مولانا! أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا! اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته ولا عاصياً بيننا إلا هديته. اللهم لا تدع عاصياً بيننا إلا هديته، اللهم لا تدع عاصياً بيننا إلا هديته، اللهم لا تدع سائلاً بيننا طامعاً إلا زدته وثبته، اللهم لا تدع سائلاً بيننا طامعاً إلا زدته وثبته! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، إلهنا لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، لا إله لنا سواك فندعوه ولا رب لنا غيرك فنرجوه، لا إله لنا سواك فندعوه ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى! يا منقذ الغرقى! ويا منجي الهلكى! ويا سامع كل نجوى، ويا عظيم الإحسان! يا دائم المعروف، يا دائم المعروف أنقذنا من الهلاك والحسرة! وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755834963